في شاعرية أديب كمال الدين

قراءة في المجلد الخامس من الأعمال الشعرية الكاملة

أ‌.      د. نجاح هادي كبة / بغداد

 

 

 

 

يقع المجلد الخامس من الأعمال الشعرية الكاملة  للشاعر أديب كمال الدين في (364) صفحة من القطع المتوسط، ويضمّ (112) قصيدة تتصف بالطول، صادر عن دار ضفاف – بيروت العام 2019 م  ط1.

 يتخذ الشاعر الحروف العربية مركزا لنسيج إبداعه محاولا استنطاقها على الرغم من قول النحاة إن الحروف لا معنى لها لكن الشاعر من خلال الانزياح استطاع أن يجعل لها معاني، وأن يتبرعم المعنى الشعري وهو في ذلك استطاع أن يبتعد عن أساليب البلاغة المتوارثة، ما جعل المتلقي يتناص مع شعره الذي أبدعه بإسلوب رمزي شفيف لا يعسر وبمضامين هادفة ومكثفة بمقاطع قصيرة وتراكيب موجزة تأخذ خيال المتلقي بعيدا من خلال المخيال الشعري، وتوفر الفرصة له للتأويل، وهذا ماجعل شعره عالما فسيحا من الفكر يسبح في الخيال.

 بالاضافة إلى أن عنوانات قصائده دالة لمدلول، فالعنوان كما قال امبرتو ايكو: (ثريا النص)، و(هو قبل النص وبعد النص) على رأي مفكر آخر، فجاءت عنواناته متسقة مع مضامين شعره بإسلوب رمزي شفيف أيضا، مثل: رقصة الحرف الأخيرة، قاف القضبان، سين العظام والحطام، لون لا حرف له، البحث عن نقطة الصفر، الطفل في المرآة ........ ما يجعل المتلقي مشدودا لفكّ شفراتها وعلاقتها بالنص.

 والشاعر دأب على توظيف الحروف في تجربته الشعرية في أكثر شعره إلا أن القارئ يشعر بتجدد أسلوبه وعدم وقوعه في فخ التكرار من خلال الانزياحات والتناص ووصف الواقع المعيش، فشعره مرآة صافية تعكس الواقع وتجعله يمشي على قدميه بعد ما كان يمشي على رأسه، فمضامينه طافحة بالفكر لكنها بعيدة عن الخطابية والشعارية، تنمّ عن قدرة الشاعر على رصد الواقع وتحاول تعديله، قال في قصيدة ( كاف السؤال):

ما دمتَ قد أنفقتَ عمرَك

وأنتَ تضعُ قدميكَ الحافيتين

في راء الفرات

ليلَ نهار،

فكيفَ ستركبُ غيمةً

تُحلّقُ بكَ بعيداً بعيداً؟

إن الكثير من الشعراء القدامى والمحدثين قد عرضوا الحكمة بإسلوب خطابي حاد النبرة في حين تأتي عند الشاعر إنسيابية رمزية شفيفة لكنها تحمل طاقة من المعاني تحتاج من المتلقي أن يفجرها وهو ما تفرّد به الشاعر عن غيره، فالمقطع السابق فيه تناص غير متطابق مع قول الاعشى في معلقته :

كناطح صخرة يوما ليوهنها     فلما يضرها وأوهى قرنه الوعل

وكقول بشار :

اذا كنت في كل الأمور معاتبا    صديقك لم تلقَ الذي لا تعاتبه

وجاء في المقطع الثالث :

ما دمتَ قد ضعتَ كثيراً

في شينِ الشّوق،

فكيفَ ستأمن

ألّا تحاصر نقاطُ الشّين

قصيدتَكَ وهي ترقصُ حدّ الجنون؟

نجد فيه تناصا غير متطابق أيضا مع قول الاعز ابن قلاقش :

سافر إذا ماشئت قدرا     سار الهلال فصار بدرا

الماء يكسب ما جرى      طيبا ويخبث ما استقرا

أما المقطع الرابع :

ما دمتَ قد بكيتَ طويلاً

على حاء الحرمان،

فكيفَ سترسمُ للمبتهجين

لوحةَ حاءِ الحُرّيّة راقصةً

حدّ اللعنة؟

فنجد فيه تناصا غير مطابق أيضا مع شعر دريد بن الصمة :

إذا لم تسطعْ شيئاً فدعه            وجاوزه إلى ما تستطيعُ

وصله بالزماعِ فكل أمرٍ        سما لك أو سموتَ له ولوعُ

وشتان بين حكم خطابية وأخرى رمزية شاعرية شفيفة صاغها الشاعر أديب كمال الدين بأساليب حداثوية، يقول رولان بارث: (النص ليس مجموع أدلة مغلقة ذا معنى ينبغي الامساك به ولكنه كتلة آثار متحولة) (عن الانترنيت). وكانت الآثار المتحولة عند الشاعر بأدوات حداثوية رمزية شفيفة تخضع للتأويل يقول في قصيدة (توريث) (3) :

حينَ ماتَ شارلي شابلن

أورثني ضحكتَه السّاخرة

وقبّعتَه وعصاه.

لم أستفدْ مِن ضحكته السّاخرة

لأنّي لا أجيدُ فنَّ التمثيلِ على الإطلاق.

ولم أستفدْ مِن قبّعتِه

فحينَ وضعتُها على رأسي بكيتُ.

ولم أستفدْ مِن عصاه

فحينَ توكّأتُ عليها

تدحرجتُ على الأرضِ طويلاً

طويلاً.

فالحكمة لدى الشاعر تمتد من الاجتماعي إلى السياسي على وفق التأويل (الهيرمونطقيا)، فالممثل شارلي شابلن الوجه الآخر للحاكم الذي يرث الحكم وهو ليس أهلا له فكل المؤهلات التي يتمتع بها الحاكم السابق يفقدها الحاكم اللاحق، مثلما لم يستفد الممثل من أخذ دور شارلي شابلن بصفاته الطبيعية كضحكته الساخرة او أدواته كقبعته وعصاه حينما مات وكان مصيره السقوط اذ تدحرج على الارض، هذا التحليل قد يختلط فيه الحكمة الاجتماعية بالسياسية لأن النص عند الشاعر غابة فسيحة ومخياله مطلق غير مقيد.

 ويتمدد الشاعر من خلال عنوان القصيدة (توريث) إلى سلسلة من الاعلام مثل: تَد هيوز، سيلفيا بلاث، دانتي، ديك الجن ..... ويوظفها مثلما وظف في المقطع السابق  شخصية شارلي شابلن، ولكن بأدوات شاعرية مختلفة وبصورممتعة وملذة، وليكون العنوان  (توريث) دالا على النص ومتسقا معه ويتماثل الاجتماعي مع السياسي. فيوظف الشاعر أسلوبه الشاعري المبدع للواقع المعيش قال في قصيدة (قاف القضبان) :

جلسَ البريءُ خلفَ القضبان

فرأى القضاةَ والمحامين والجمهور

يتبادلون النكاتِ عِن الزحامِ وأحوالِ الطقس،

ويعلكون الكلماتِ الفضفاضةِ عن العدالة،

ويضحكون مِن حظّه الأسْوَد حدّ اللعنة.

ويمتدد الشاعر ايضا في قصيدة القضبان طبولوجيا ليوظف إبداعه عن السجان/ البلبل/ الأسد/ التفاحة بمقاطع شعرية ممتعة، وليعكس الآلام والكوميديا السوداء بإسلوب القناع ، قال:

جلست التفّاحةُ خلفَ القضبان،

فذهلتْ وهي ترى عشرات السّكاكين

تحاولُ أن تنهشَ جسدَها.

وفي قصيدة (راء المطر) يفاجئ الشاعر المتلقي بإسلوب السرد القصصي ما يجعل المتلقي في محطات جديدة فيشغفه بالتعلق بشعره والتناص معه، اذ يستمر الشاعر بسرد الكوميديا السوداء التي أصابت شعبه جاعلا من عنوان القصيدة (راء المطر) متسقا مع النص الشعري ويوظف الشاعر فيها عناصر درامية كالديالوج والمنولوج والمشهد لتكون القصيدة كقصة قصيرة تبدأ بتمهيد لتخلق الحبكة السردية وتصل إلى الذروة الدرامية فالحل بإسلوب شاعري أراه نسيج وحده، قال :

حتّى قطرات المطر،

وهي تهبطُ على الأرضِ سلاماً وَمَحبّة،

صارتْ تُبكيني.

*

ما اسمهُ المطر؟

*

ما اسمهُ المطر؟

لأوّلِ مَرّةٍ سألتُ نَفْسي.

وإذ لم تُجبْ،

سألتُ الغيمةَ الواقفةَ بلا مُبالاةٍ

فوقَ رأسي:

ما اسمهُ المطر؟

*

لم تُجب الغيمةُ أيضاً.

ظلّتْ مُستمتعةً بلا مُبالاتها

غيرَ أنّها رشقتني

برشقاتٍ قويّةٍ مِن المطر

بلّلتْ ذاكرتي وروحي وثيابي.

ويستمر الشاعر بتصعيد الاحداث بإسلوب الراوي العليم، وكأنه يسرد قصة:     

صحتُ: ما اسمهُ المطر؟

قالت الغيمةُ فجأةً: أيّ مطر؟

قلتُ لها: مطر بغداد،

مطر الفرات،

مطر الحرمان،

مطر السّفارةِ الثلجيّة،

مطر السّجن،

مطر البلدِ البعيد.

ومن الملفت في هذه القصيدة وغيرها أن الشاعر يضغط بالتكرار والاستفهام، ويأتي التكرار كما في تكرار كلمة مطر انسيابيا بل يلذ المتلقي ويمتعه ويستمر الشاعر بتصعيد الاحداث عن طريق الصراع ، قال: 

رشقتني الغيمةُ مُجدّداً

بالمزيدِ مِن المطر

وبالمزيدِ مِن الضياع.

المزيد مِن المطر

على رأسي الذي شيّبتهُ الحروب،

والمزيد مِن المطر

على قلبي الذي أحاطتْ

به الحروفُ مِن كلّ جانب.

*

مطرُ بغداد،

قالت الغيمة،

اسمهُ: اللعنة.

 

ويعرض الشاعر الكوميديا السوداء لبلده العراق من خلال تصعيد نبرة الحزن والتشاؤم ليصل إلى نهاية السرد:  

مطرُ الفرات،

قالت الغيمة،

اسمهُ: الدمعة.

*

مطرُ الحرمان،

ولم يزل الكلامُ للغيمة،

اسمهُ: المرأة.

*

مطرُ السّفارةِ الثلجيّة

اسمهُ: الخيبة.

*

مطرُ السّجن

اسمهُ: الطعنة.

*

مطرُ البلدِ البعيد

اسمهُ: الضحكُ الأسْوَد.

*

هكذا قالت الغيمة.

*

إذن، شكراً بغداد.

وصلتْ لعنتُك

وترجمتُها إلى سبعين لغة حيّة ومُنقرضة.

إن أديب كمال الدين في اهتماماته الشعرية هذه يوظف تقنيات أسلوبية متنوعة يطبع في كل قصيدة بصمة متفرّدة من إبداعه فيها.                                        

^^^^^^^^^^^^^^^^^^

الأعمال الشعرية الكاملة: المجلد الخامس، أديب كمال الدين، بيروت، لبنان 2019

 نُشرت في مجلة العشرة كراسي ، العراق، بابل، العدد التاسع ، شتاء 2020

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home