بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

 

الأعمال الشِّعريّة الكاملة

 

 


أديب كمال الدين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الأعمال الشِّعريّة الكاملة

 

أديب كمال الدين

The Complete Poems of

 

Adeeb Kamal Ad-Deen

 

 

المجلّد الخامس

 

 

منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2019

 

 

 

 

أديب كمال الدين

 Adeeb Kamal Ad-Deen

 

أديب كمال الدين (1953 - بابل) شاعر ومترجم وصحفي من العراق مقيم حالياً في أستراليا. تخرّج من كلية الإدارة والاقتصاد- جامعة بغداد 1976. كما حصل على بكالوريوس أدب انكليزي من كلية اللغات- جامعة بغداد 1999، وعلى دبلوم الترجمة الفوريّة من المعهد التقني لولاية جنوب أستراليا 2005.

أصدر 19 مجموعة شعريّة بالعربيّة والإنكليزيّة، كما أصدر المجلّدات الخمسة من أعماله الشّعريّة الكاملة. تُرجمتْ أعماله إلى العديد من اللغات كالإيطاليّة والإنكليزيّة والأورديّة والإسبانيّة والفرنسيّة والفارسيّة والكرديّة. نال جائزة الشّعر الكبرى عام 1999 في العراق. واخْتِيرَتْ قصائده ضمن أفضل القصائد الأستراليّة المكتوبة بالإنكليزيّة عاميّ 2007 و 2012 على التوالي.

صدر أحد عشر كتاباً نقديّاً عن تجربته الشّعريّة، مع عدد كبير من الدراسات النقديّة والمقالات، كما نُوقشت الكثير من رسائل الماجستير والدكتوراه التي تناولت أعماله الشّعريّة وأسلوبيته الحروفيّة الصّوفيّة في العراق والجزائر وإيران وتونس.

موقعه الشخصي       www.adeebk.com  

 

 

 

 

المحتويات

 

رقصة الحرف الأخيرة              11

**************

- كاف السّؤال       13

- توريث             19

- قاف القضبان     29

- راء المطر       35

- حاء الحلم          40

- البحر والمرآة    45

- الكلُّ يرقص      51

- البحر صديقي    55

- ميم المشهد       59

- الموتى يرقصون عند الباب  66

- القصيدة الأنويّة     71

- قاب قوسين        76 

- قصيدة السيرك      80

- سينُ العظام والحُطام      87

- تناقضات              92  

- قصيدة اللقلق          95

- صلاة صوفيّة      99

- رقصة ملعونة      102

- تكرار      107

 

في مرآة الحرف                          113

************

- أغنية إلى الإنسان      115

- نهر سحريّ             117

- قال الذئب: أنا هو البحر!     121

- أحلمُ أن تكون النُّقطة بحراً       131

- الآخَر                    133

- لا ولا ولا             135     

- ليل نهار      137

- تسع وصايا لكتابة القصيدة     140

- بعد أن ...       143

- تعريف        148

- إذا             150

- الغريق الأبديّ     158

- فجر أعمى       160

- طائر الحُرّيّة      162  

- حوار مع نجاة الصغيرة   165  

- حروف مُلوّنة كالشمس   167 

- تمثال نجميّ           170

- مرآة حروفيّة        171   

- بالطبع، لم يكن كابوساً!    173      

- هوايات ما بعد الحرب     176

- جراحة أسطوريّة       179      

- ما قاله الحرفُ للشاعر        181

- ثلاث صور للبحر     184

- المرأة ذات الشّعر الطويل      187 

- ذاكرة سعيدة         189

- قطرات الدم         191

- جرعة زائدة من الألم      193

- خروج على النَّصّ        195

- الحرف يدمدم شيئاً        197

- تبادل أدوار                200     

- القصيدة لم تنتهِ بعد        202  

- أرجوك لا تفتح الباب    204      

- قلب الطفل ويقين الطائر    206

- إيلان في الجنَّة            208

- تناص مع النُّون       209

- حرفُ الطاغية    210

- صُراخ           212

- صورة مَن؟       214

- اتصال هاتفيّ     216

- حروف وأبناء         218

- حين وضعتُ البحر في قلبي   219

- لون لا حرف له       220

- نهايات                 221    

- هُراء                    223

- البحث عن نقطة الصفر   226

- تسلية                   228   

- حين غلبتْ نقطتي حرفي     229

- تحيّة                   230    

- تشبّث                  233   

- أين أنتَ أيّها الحرف؟    235

  

حرف من ماء               239

*********

- ذات اليمين وذات الشمال          241

- يا حرفي           246

- حرف بأربعة أجنحة   248

- أيّ خطأ هذا؟       252

- تلك هي قصيدة الفجر     254

- ذكرى               258

- لم أسألْ عن كلمةِ سرّكِ   261

- حرف محذوف           266

- شَظيّة مرآة               270

- حينَ أحببتُكِ فقدتُ نصفَ ذاكرتي   273

- حوار مع الفرات     275

- ماركيز يضحك      279  

- ورقة القصيدة     283

- نعم، لا، ربّما     286

- شبح قصيدتكِ الأخيرة   292

- هذيان                    294

- سكرت الكأسُ فصحوتُ شاعراً   297

- في حبّكِ حرف        301

- كنتَ وَهْماً فأصبحتَ حرفاً   303

- الدرج الطويل      306

- الوهم المجنون   308

- بئر الفراق    310

- هدايا الشِّعْر   312

- السّؤال الأعظم   314

- بحثاً عن مقْبضِ الباب 315

- الشّبح المُتلصِّص       317

- تلك هي روحي        320

- رفرفة جناح الطائر   323

- المطر يُغرقُ سريري الموحش  326

- قصيدتي تسبح وتضحك   329

- أُغْرِقُ ذاكرتي في الماء 333  

- الطفل في المرآة        336

- غداً حينَ يطلعُ الفجر   338

- قصيدة لا تنتهي      340

- قفزة خاطئة          345

- إذا أفاق البحر من نومه   349

- تيتانيك                352

- قطعة ذهب               353

- دائماً أسألُ أصابعَ يدي  355

- المقطع الأخير       359

 

 

 

 

  

 

 

رقصة الحرف الأخيرة

 

منشورات ضفاف، بيروت، لبنان، ط 1 ،  2015

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى *  وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا)

سورة النّجم. الآيتان 43 و44

 

 

 

 

كاف السّؤال

 

 

1.

ما دمتَ قد أنفقتَ عمرَك

تتأمّلُ في ميمِ المرآة،

فكيفَ سترى

ميمَ الذي كانَ مِن العرش

قابَ قوسين أو أدنى؟

2.

ما دمتَ قد أنفقتَ عمرَك

وأنتَ تضعُ قدميكَ الحافيتين

في راء الفرات

ليلَ نهار،

فكيفَ ستركبُ غيمةً

تُحلّقُ بكَ بعيداً بعيداً؟

3.

ما دمتَ قد ضعتَ كثيراً

في شينِ الشّوق،

فكيفَ ستأمن

ألّا تحاصر نقاطُ الشّين

قصيدتَكَ وهي ترقصُ حدّ الجنون؟

4.

ما دمتَ قد بكيتَ طويلاً

على حاء الحرمان،

فكيفَ سترسمُ للمبتهجين

لوحةَ حاءِ الحُرّيّة راقصةً

حدّ اللعنة؟

5.

ما دمتَ قد قضّيتَ العمرَ كلّه

تتحسّرُ على أوفيليا الغريقة

كوردةِ حُبٍّ كبيرة،

فكيفَ طردتَ هاملت

حينَ جاءكَ مَذهولاً باكياً

وتركتَه يذرع الشّوارع

والمنافي والبحار

تائهاً إلى أبد الآبدين؟

6.

ما دمتَ قد رسمتَ لوحةَ الوجود

بألوان الدمِ والثلجِ والسّرير،

فكيفَ ستنجو لوحتُكَ الكبرى

مِن غَلَبةِ الأحمر النّاريّ

والأبيض المُتوحّش

والرماديّ الممسُوس؟

7.

ما دمتَ قد قرّرتَ أن تنجو مِن الفخّ،

فكيفَ أخذتَ معك

حُطامَ ذاكرتك

وأقفالَها الصدئة؟

8.

ما دمتَ قد قرّرتَ أن تلهو قليلاً

منتصفَ الليل

بأن تكتب الشّعر،

فلماذا لم تبدأ اللعبة

بإطلاقِ النّارِ على رأسِك؟

9.

ما دمتَ قد سجنتَ روحَك

في سجنِ الأرقام،

فأينَ هي آياتكَ التسع؟

10.

ما دمتَ قد قرّرتَ أن تنجو

ممّا أنتَ فيه،

فلماذا أطفأتَ الضوءَ في مفتتحِ القصيدة

فبكت الحروف

وملأت النقاطُ صالةَ العرضِ بالصراخ؟

11.

ما دمتَ قد انقسمتَ،

لسوء الحظّ،

إلى حلمين،

فكيفَ ستمشي

دونَ أن يتصارعَ الظلامُ والنور

في روحِكَ حدّ الهذيان؟

12.

ما دمتَ قد بدأتَ الصّلاة،

فكيفَ السبيل إلى وقفِ دموعِ القلب

بعد أن عجزتَ عن وقفِ دموعِ العين؟

13.

ما دمتَ قد وُلِدتَ في ساعةِ نحس،

فلماذا تتحدّثُ عن الأفلاكِ والطوالع

لمَن لا يعرفُ الأفلاكَ إلّا عبر الثقوب

ولمَن لا يعرفُ الطوالع

إلّا عبر رنين الذهب؟

14.

ما دمتَ تبحثُ عن مأوى،

فكيفَ تركتَ كأس الخمر

تقودُكَ إلى الجحيم؟

15.

ما دمتَ لا تعرف

ما تفعلهُ هذي اللحظة،

فلماذا لا تجرّب إطلاقَ النّار

على المرأةِ العارية

في المرآةِ العارية؟

16.

ما دامَ القَدَرُ قد أحاطَ بكَ

مِن كلّ جانب،

فكيفَ غادرتكَ حيطتُك

لتختارَ حائطَ الكتابة

بدلاً مِن حائطِ الصمت؟

17.

ما دمتَ تسيرُ في الدنيا بلا بوصلة،

فلماذا لا تُجرّب

أن تكونَ بحّاراً في بحرِ النُّقطة

حدّ أن تطفو جُثّتُك

فَتُريحَ وتستريح؟

18.

ما دمتَ، وسط الزلزلة الكبرى،

قد نسيتَ اسمَكَ إلى الأبد،

فَعَلامَ تحاولُ أن تتذكّر

حيث لا تنفع الذكرى؟

19.

ما دمتَ قد متَّ منذ زمنٍ طويل

واسترحتَ في موتِكَ الأسطوريّ،

فلماذا تحاولُ أن تخرجَ أصابعكَ

مِن القبر

كلّما مَطَرَت السّماء؟

 

 

 

توريث

 

1.

حينَ ماتَ تَد هيوز

أورثني غرابَه مَحبوساً في قفص.

ولأنَّ غرابه لا يجيدُ سوى الهرطقة والتجديف

لذا أطلقتُ سراحَه فوراً.

لكنَّ الغراب لم يُحلّقْ بعيداً

كما توقّعتُ

بل حطَّ على عمودِ الكهرباءِ المُجاورِ لشرفتي

لينظرَ إليَّ بعينين حاقدتين

وقلبٍ أسْوَد.

2.

حينَ انتحرتْ سيلفيا بلاث

أورثتني مرآتَها الصغيرةَ الحمراء.

ولأنّي لا أحبُّ مرايا النِّساء

فقد رميتُها في النّهرِ المُجاور.

لكنَّ المرآة لم تغرقْ سريعاً

كما توقّعتُ

بل صارتْ تنتقلُ مِن نهرٍ إلى نهر

حتّى وصلتْ إلى البحر

فتحوّلتْ إلى مركبٍ عظيمٍ مِن المرايا.

3.

حينَ ماتَ شارلي شابلن

أورثني ضحكتَه السّاخرة

وقبّعتَه وعصاه.

لم أستفدْ مِن ضحكته السّاخرة

لأنّي لا أجيدُ فنَّ التمثيلِ على الإطلاق.

ولم أستفدْ مِن قبّعتِه

فحينَ وضعتُها على رأسي بكيتُ.

ولم أستفدْ مِن عصاه

فحينَ توكّأتُ عليها

تدحرجتُ على الأرضِ طويلاً

طويلاً.

4.

حينَ ماتَ دانتي

أورثني كتابَه: الجحيم.

ولأنّي أعيشُ في الجحيم حقّاً وصدقاً

فلم أجد الكتابَ مُمتعاً

رغمَ لغته الهائلة

وصوره السّحريّة.

ولذا تبرّعتُ بهِ إلى جمعيةِ الشّعراءِ المَلاحدة

فقبلوه مِنّي على مَضَض.

5.

حينَ ماتَ ديكُ الجنّ

أورثني ديوانَ مراثيه الخطيرة

لحبيبته التي قتلَها في لحظةِ شكٍّ وجنون.

ولأنّي أكرهُ المراثي كلّها

فقد أهديتُه

إلى أمينِ مكتبةِ المدينة،

فتصوّرهُ كتاباً عن الجنّ،

فرماهُ بوجهي وهو يصرخ:

خذْ كتابَكَ واخرجْ أيّها المجنون!

6.

حينَ ماتَ طاغور

أورثني لحيتَه البيضاءَ الطويلة.

ولأنّي لا أستطيع

أن أرتدي لحيتَه العظيمةَ أبداً

ولا أستطيع بيعَها إلى أحدٍ أبداً،

لذا أعطيتُها

إلى صاحبِ محلٍّ لبيعِ الإكسسوارات

فأخذها منّي بوقارٍ شديد

ورماها، أمامي، في سَلّةِ المُهملات!

7.

حينَ قُتِلَ لوركا

أورثني الرصاصاتِ التي قتلته.

فاحترتُ ماذا أفعلُ بها.

ثُمَّ خطرَ ببالي

أن أهديها إلى مديرِ متحفِ الشّعراءِ في العالم،

فذهلَ بالرصاصات

وازدادَ ذهولاً حينَ رأى دمَ لوركا عليها

لكنّه بقي صامتاً كصمتِ القبور.

هكذا غادرتُ مكتبَه الزجاجيّ الأنيق

وتركتُه مَذهولاً بعينيه الحجريتين

وقلبه الأخرس.

8.

حينَ ماتَ السندباد

أورثني كتابَ حكاياته السَّاحرة

عن الذهبِ والفضّةِ والنِّساء.

فقرّرتُ أن أركبَ البحر

إلى حيث أبحر السندباد.

لكنني لم أجد الذهبَ والفضّةَ والنِّساء

بل وجدتُ كتاباً عَتيقاً

كتبهُ مؤرّخُ أهلِ البلادِ يقول:

هنا وصلَ السندباد.

ولكثرةِ أكاذيبه وخزعبلاته ونزواته

أقمنا له حفلةً وشويناه.

9.

حينَ ماتَ بيكيت

أورثني مسرحيتَه العُظمى

ومُهرّجيه المَساكين وهذيانهم المُركّز.

فاحترتُ ماذا أفعلُ بكلِّ ذلك.

لكنني ذات حياةٍ

كتبتُ مسرحيةً حُروفيّةً كبرى

عن الانتظارِ العبثيّ،

مسرحية لم يشاهدها أحد

لأنّه لم يمثّلها أحد.

10.

حينَ انتحرَ همنغواي

أورثني البندقيةَ التي انتحرَ بها.

فاحترتُ ماذا أفعلُ بها.

ثُمَّ خطرَ ببالي أن أجرّبَ إطلاقَ النّار

على رأسي

كما فعلَ همنغواي قَبْلي.

لكنني حزنتُ

بل بكيتُ بُكاءً مُرّاً

حين وجدتُ البندقيةَ خاليةً مِن الطلقات.

11.

حينَ ماتَ جان دمّو غريباً

في بلادِ الكنغر

أورثني قنّينةَ الخمرِ الفارغة.

فتبرّعتُ بها على الفور

إلى جمعيةِ الكحوليين في العالم

ففرحوا بها ورقصوا بصخبٍ هائل

وهم يتبادلون الشتائم والسِّباب.

12.

حينَ قُتِلَ محمود البريكان

أورثني قصيدتَه: "حارس الفنار".

فاحترتُ ماذا أفعلُ بها.

لكنّه زارني، وهو الميّت،

في لحظتي الشّعريّة

وأمسكَ بيدي

لأكتبَ عنه قصيدتي:

"حارس الفنار قتيلاً".

13.

حينَ ماتَ التوحيديّ

أورثني بقايا كتبه المُحترقة.

فلم أدرِ ما أفعلُ بها.

جلستُ قبالتها

وكتبتُ بعينين دامعتين

قصيدةً عن الدخانِ المُتصاعدِ منها.

وكلّما مرَّ قومٌ سخروا منّي

وقالوا: مجنونٌ أحرقَ كتبَه

وآخر يبكي عليها.

14.

حينَ صُلِبَ الحَلّاجُ وأُحرِقَ

أورثني رمادَ جُثّته.

فاحترتُ بأمرِ هذا الرماد.

لكنني ذات غروبٍ

وضعتُهُ في أكياسٍ صغيرة

وذررتُهُ  في دجلة.

ذررتُ  كلّ سنةٍ كيساً

ولم أزلْ على هذا الحال:

لا أنا أموت

ولا الأكياس تنتهي.

15.

حينَ ماتَ كلكامش

أورثني خيبتَه

وبحثَه العبثيّ عن سرِّ الخلود.

لم أستطعْ أن أفعلَ شيئاً لخيبته

لأنّها كانتْ أسطوريّة القلبِ والشفتين،

ولم أفكّر يوماً بسرِّ الخلود.

ففي زمنِ العَولَمَة،

الخلودُ ، فقط ، للدجّالين

والمُهرّجين والسفَلَة.

16.

حينَ ماتَ أبي

لم يورثني شيئاً سوى دمعته.

فاحترتُ بها

لكنني ذات فجرٍ

وضعتُ الدمعةَ في كفّي

ومددتُ كفّي إلى الله،

إلى ما شاءَ الله.

فعادتْ إليَّ بعشراتِ الحروف

ومئاتِ القصائد.

17.

حينَ ماتَ الألفُ أورثني همزتَه.

فاحترتُ بأمرِها.

وحين وجدتُ جَسَدَي

جُثّةً مُلقاةً في الشّارع،

تعمَّمَتُ بالهمزة بعد جهدٍ جهيد.

فأفقتُ مِن مَوتي،

وبدأتُ أكتبُ نَفْسي بنَفْسي

وأغنّي نَفْسي لنَفْسي.

18.

حينَ ماتت الحاء

أورثتني مَوتاً مُضافاً إلى مَوتي.

ولأنني قد اعتدتُ على مشهدِ الموت

منذ الطفولة،

لذا لم أحترْ كثيراً

وقرّرتُ أن أجمّده في ثلّاجةِ الذاكرة

بدلاً مِن ثلّاجةِ الموتى.

19.

وأخيراً حينَ ماتت النُّقطة

أورثتني سرَّها الخطير،

فاحترتُ ماذا أفعلُ به.

ثُمَّ قرّرتُ أن أتبرعَ به إلى روحي.

لكنني لم أجدْ روحي

لأنّها، كما أخبرتني الملائكة،

ماتتْ منذ زمنٍ طويل

وتحوّلتْ إلى حرفٍ مِن تُراب.

*****

قاف القضبان

 

1.

جلسَ الشَّاعرُ خلفَ القضبان

فأخذَ يدمدمُ على الفور

بحروفِ قصيدته الموشومةِ بالأسى والأنين.

2.

جلسَ الطفلُ خلفَ القضبان

فأخذَ ينظرُ بعينين دامعتين

إلى الأطفالِ في ساحةِ الحلم

وهم يتقافزون

ضاحكين حولَ الكُرة.

3.

جلسَ الشّحّاذُ خلفَ القضبان

وهو يحلمُ برغيفِ خُبز.

ظلَّ يحلمُ ويحلمُ

حتّى باغته النوم

فتكوّمَ على الأرض

هو وملابسه الرثّة.

4.

جلست العانسُ خلفَ القضبان

طويلاً

حتّى ملّتْ مِن القضبان

وملّت القضبانُ مِنها،

فكتبتْ حلمَها المخذول

أغنيةَ جناحٍ مكسور.

5.

جلسَ البريءُ خلفَ القضبان

فرأى القضاةَ والمحامين والجمهور

يتبادلون النكاتِ عِن الزحامِ وأحوالِ الطقس،

ويعلكون الكلماتِ الفضفاضةِ عن العدالة،

ويضحكون مِن حظّه الأسْوَد حدّ اللعنة.

6.

جلسَ الزمنُ خلفَ القضبان

وهو يرى السّاعات

تفرُّ مِن بين يديه الضعيفتين

مثل طيورٍ فُتِحَ لها،

فجأةً،

باب القفص.

7.

جلست الجيمُ خلفَ القضبان

فرأت الحاء ترقصُ

وهي تشيرُ إلى الحُبّ،

وتضحكُ

وهي تشيرُ إلى الحرّيّة.

فيما كانت الجيمُ مُثقلةً

بنقطتِها التي صيّرتْها جُثّةً

تنزفُ ليلَ نهار

دماً وكوابيس.

8.

جلسَ السّجّانُ خلفَ القضبان

فتلمّسَ فرحاً قسوتَها ووحشيّتها

ثمَّ ارتجفَ هلعاً

حينَ تذكّر أنّه الآن السّجين

لا السّجّان!

9.

جلسَ البلبلُ خلفَ القضبان حزيناً.

فلأوّل مَرّة

نسي أغنيتَه التي أنشدَها

مِن قبل ألفَ مَرّة.

10.

جلست المرآةُ خلفَ القضبان

سوداءَ القلب

لأنّها كانتْ تنيرُ صورةَ القضبان.

11.

جلسَ الليلُ خلفَ القضبان

مُرتبكاً

لا يعرفُ ماذا يفعل،

لا يعرفُ كيفَ يخبرُ الفجرَ

بمأساته العجيبة.

12.

جلسَ الأسدُ خلفَ القضبان.

كانَ زئيره مُرعِباً

تتناثرُ مِنه جلودُ الحيوانات

والأفاعي وريشُ الطيور.

13.

جلسَ المنحوسُ خلفَ القضبان.

كانتْ ذاكرته تشبهُ سفينةً

تتقاذفُها الأمواج.

14.

جلست العاشقةُ خلفَ القضبان.

حاولتْ أن تتكلّم

فخذلَها قلبُها

وخذلَها لسانُها

وخذلتها الكلمات.

15.

جلست النُّونُ خلفَ القضبان.

بحثتْ عن نقطتِها،

لم تجدها

فارتبكتْ

مثل أمٍّ ضيّعتْ وحيدَها في السّوق.

16.

جلسَ المنفيُّ خلفَ القضبان

فرأى صفوفاً مِن القضبان

لا تنتهي

أبداً.

17.

جلست التفّاحةُ خلفَ القضبان،

فذهلتْ وهي ترى عشرات السّكاكين

تحاولُ أن تنهشَ جسدَها.

18.

جلست الموسيقى خلفَ القضبان.

حاولتْ أن تتكلّم

فتحوّلَ كلامُها إلى أنين،

وحاولتْ أن تقوم

فرفسَها الشّرطيّ

وأسقطَها على الأرض.

19.

جلسَ الصّوفيُّ خلفَ القضبان،

جلسَ بقلبٍ مُطمئن

لأنَّ القضبان

لم تستطعْ منعَ قلبِه

مِن ترديدِ أسماءِ الله،

ولا البكاء

ما بين يديها المُقدّستين الطيّبتين.

 

 

 

 

 

راء المطر

 

1.

حتّى قطرات المطر،

وهي تهبطُ على الأرضِ سلاماً وَمَحبّة،

صارتْ تُبكيني.

2.

ما اسمهُ المطر؟

3.

ما اسمهُ المطر؟

لأوّلِ مَرّةٍ سألتُ نَفْسي.

وإذ لم تُجبْ،

سألتُ الغيمةَ الواقفةَ بلا مُبالاةٍ

فوقَ رأسي:

ما اسمهُ المطر؟

4.

لم تُجب الغيمةُ أيضاً.

ظلّتْ مُستمتعةً بلا مُبالاتها

غيرَ أنّها رشقتني

برشقاتٍ قويّةٍ مِن المطر

بلّلتْ ذاكرتي وروحي وثيابي.

5.

صحتُ: ما اسمهُ المطر؟

قالت الغيمةُ فجأةً: أيّ مطر؟

قلتُ لها: مطر بغداد،

مطر الفرات،

مطر الحرمان،

مطر السّفارةِ الثلجيّة،

مطر السّجن،

مطر البلدِ البعيد.

6.

رشقتني الغيمةُ مُجدّداً

بالمزيدِ مِن المطر

وبالمزيدِ مِن الضياع.

المزيد مِن المطر

على رأسي الذي شيّبتهُ الحروب،

والمزيد مِن المطر

على قلبي الذي أحاطتْ

به الحروفُ مِن كلّ جانب.

7.

مطرُ بغداد،

قالت الغيمة،

اسمهُ: اللعنة.

8.

مطرُ الفرات،

قالت الغيمة،

اسمهُ: الدمعة.

9.

مطرُ الحرمان،

ولم يزل الكلامُ للغيمة،

اسمهُ: المرأة.

10.

مطرُ السّفارةِ الثلجيّة

اسمهُ: الخيبة.

11.

مطرُ السّجن

اسمهُ: الطعنة.

12.

مطرُ البلدِ البعيد

اسمهُ: الضحكُ الأسْوَد.

13.

هكذا قالت الغيمة.

14.

إذن، شكراً بغداد.

وصلتْ لعنتُك

وترجمتُها إلى سبعين لغة حيّة ومُنقرضة.

15.

شكراً للفرات.

وصلتْ دمعتُك

فحاولَ أن يسرقها مِنّي الشَّاعرُ المُرائي.

وحينَ رفعتُ يديَّ إلى السّماء

عادتْ إليَّ دمعتي

بعشراتِ القصائد الباكية.

16.

شكراً للحرمان.

وصلتْ نقطةُ حرفِك

امرأةً طلسمتْ كلَّ جمالِ الأرض

وكلَّ عذابه

وكلَّ أمطاره.

17.

شكراً للسفارةِ الثلجيّة.

لكنّي لم أجدْ ترجمةً مُناسِبة

لكلمةِ: "الخيبة" في كتابِ الأمطار.

18.

شكراً للسجن.

وصلتْ طعنتُكَ فأحرقتْ

ما تبقّى مِن كبدي.

19.

شكراً للبلدِ البعيد.

وصلتْ ضحكتُكَ السّوداء

أبجديّةً لا تنتهي مِن الدموع،

أبجديّةً لا تنتهي مِن المطر.

 

 

حاء الحلم

 

 

1.

فتّشتُ بعينين دامعتين عن حاء الحلم،

فتّشتُ أوراقَ قصائدي القديمة،

لم أجدْ إلّا حاء نوح

وحاء الحرمان

وحاء الحرب

وحاء الحنين.

2.

بسرعةٍ أطلقتُ النّارَ على حاء الحنين

فأصبتُ مِنها مَقْتَلاً،

لأنني لا أملكُ ما أحنُّ إليه:

الفرات وقد تجاهلني،

ودجلة لم تتعرّفْ عليّ،

وكلكامش لم أجده في المتحف

كما كانَ الوعد.

3.

آ...

كلكامش الذي ماتَ بالنوبةِ القلبيّة

بعدما أُصيبَ عرشه العظيم

بصاروخٍ عظيم،

كما قالَ لي الصحفيون.

كلكامش الذي أُصيبَ بداء الداء،

بعد أن سرقت الأفعى مِنه سرَّ الخلود

كما قالَ لي المؤرّخون.

كلكامش الذي تعبَ مِن وقوفه العبثيّ

ببابِ المتحفِ العراقيّ

ينظرُ إلى آلافِ الدراهم الممسوحة

وهي تصرخُ وتهرّجُ ليلَ نهار،

كما قالَ لي الحشّاشون.

4.

ثُمَّ انتبهتُ إلى حاء الحرب،

كانتْ مُدمّاة مِن السّرّةِ حتّى العنق

في حروبِ الطاغيةِ التي طاردتني

بنجاحٍ عظيم

مِن يومٍ إلى آخر،

ومِن سنةٍ إلى أخرى،

ومِن دهرٍ إلى آخر.

ولم تتركني إلّا خشبة طافية

يتلاعبُ بها الموجُ على شاطئ المُحيط.

5.

ما أكثر حروبكَ يا حرفي!

6.

ثُمَّ خرجتُ أبحثُ عن حاء نوح،

عن أكثر الحاءاتِ سِرّاً:

نوح الجسدِ وهو السّفينة،

نوح القلبِ وهو نوح نَفْسه.

7.

ما مِن غصنِ زيتون

لارتباكِ سفينةِ الجسد

وهي تمشي في موجٍ كالجبال.

ولذا فإنّ القلبَ لا يكفُّ عن البكاءِ أبداً،

لا يكفُّ عن البكاءِ والدمدمةِ أبداً.

8.

أيُّ قلبٍ لا يكفُّ عن البكاءِ والدمدمة:

قلبكَ أم قلب نوح؟

9.

قلبكَ أم قلب غرابِ نوح؟

10.

قلبكَ أم قلب حمامةِ نوح؟

11.

قلبكَ أم قلب سفينةِ نوح؟

12.

قلبكَ أم قلب بحرِ نوح؟

13.

في بحثي المجنونِ عن حاء نوح

وحاء الحرمان

وحاء الحرب

وحاء الحنين،

نسيتُ أن أبحثَ عن حاء الحُبّ.

14.

حاءُ الحُبّ أكثرُ الحاءاتِ شَعْوذةً،

هكذا قالَ لي الصحفيون.

15.

حاءُ الحُبّ أكثرُ الحاءاتِ التباساً

وغموضاً وهرطقةً،

هكذا قالَ لي المؤرّخون.

16.

حاءُ الحُبّ أكثرُ الحاءاتِ مَبْعثاً

للضحكِ والفكاهةِ والسّخرية،

هكذا قالَ لي الحشّاشون.

17.

لكنّ قلبي قال:

حاء الحُبّ أكثر الحاءاتِ مَبْعثاً للجنون.

18.

ولذا جمعتُ قصاصات قصيدتي،

وصنعتُ منها وسادةً صغيرة،

وضعتُها تحتَ رأسي،

ونمتُ.

19.

نمتُ سعيداً،

وأنا أحلمُ بحاء الحلم،

أحلمُ كأيّ طفلٍ ينتظرُ صباحَ العيد،

العيد الذي سحقتْ رأسَه حاءُ الحرب،

وحاءُ الحرمان،

وحاءُ الجحيم!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  

 

 

البحر والمرآة

 

 

1.

سبحت المرأةُ في البحر

فسبحَ البحرُ في المرآة.

انكسرت المرآةُ لسببٍ مجهول

فضاعت المرأة

وضاعَ البحرُ بالطبع.

2.

جلست المرأةُ على شجرتي

وبادلتْ غصني ببيضِ الطائر.

أردتُ أن أصوّرَ المشهد

فظهرت الصورةُ ساذجةً

يتطايرُ منها الريش،

وظهرت المرأةُ عاريةً

يتطايرُ منها الغيم.

3.

الحياةُ أغنيةٌ تعبتْ من ترديدِ كلماتِها

أعشاشُ البحر

وجسورُ البحر

وطيورُ البحر.

4.

أردتُ أن أكتبَ عنكِ

فلم أستطعْ

لأنَّ الحرف لا يستطيع الجلوسَ على الورقة.

كانَ يطيرُ حيناً

ويبكي حيناً آخر

ويبدّلُ أقنعتَه باستمرار

ويحاولُ الانتحارَ ليلَ نهار.

5.

أنتِ سفينةٌ تبحثُ عن ميناء.

رحلتُكِ لن تتوقف أبداً

لأنّ بحركِ لا يكفُّ

عن الهذيان والطوفان.

6.

كلّما ارتبكتُ هرعتُ إلى القصيدة

وطرقتُ بابَها كالمجنون.

7.

في السيركِ العظيم،

كلّما تعلّمتُ لعبةً مُرعبة

طلبوا منّي أن أتعلّمَ لعبةً جديدة:

لعبة أكثر رعُباً.

8.

في حديقةِ الحيوانات،

تأمّلتُ في النمرِ طويلاً

حتّى كلّمني فقال:

إنَّ حزنكَ يشبهني

لكنَّ أنيابه أكبر مِن أنيابي.

9.

استسلمتْ أحلامي البحريّةُ كلّها

للرماديّ المُوَسْوِس.

لم يبقَ منها إلّا القليل من الأحلامِ المُثمِرة،

فصرتُ أرقصُ معها في المرآة

رقصةَ البرابرة.

10.

في آخر مَرّةٍ راجعتُ ذاكرتي

قلتُ لها:

أريدُ أن أستبدلَ حياتي بشيء آخر.

فضحكتْ وقالتْ :

للأسف، أنا لا أتعاملُ مع السّفن الأثرية.

11.

حينَ رآني البحرُ مُنهاراً

قرّرَ أن يحكي لي عدداً من النكات.

كانت النكاتُ مُضحكةً حقّاً:

كنتُ كلّما أزددتُ  ضحكاً

أزددتُ غرقاً.

12.

كانتْ حروفي أكثر شجاعة منّي.

ففي المشهدِ الأخير

جرّبتْ كلّها كأسَ السّمّ

واستمتعتْ بمذاقِ الموت

قطرةً

قطرة.

13.

بعد أن انكسرت المرآة

اندلقَ البحرُ منها

ودخلت أسرارُهُ بهدوءٍ شديدٍ تارةً

وبغضبٍ عارمٍ تارةً أخرى

إلى شقّتي الصغيرةِ من تحتِ الباب

حتّى غرقتْ شقّتي تماماً.

حينها بكيتُ على نفْسي

لأنني لا أعرفُ السّباحة

ولم أجرّبْ، من قبل، فنَّ العوم.

14.

لماذا كُتِبَ على صاحبِ المرآة

أن يحدّقَ كالمذهول

في جسدِ المرأةِ عارياً

ويبكي؟

15.

بعد أن انكسرت المرآة

خرجت المرأةُ عاريةً من الباب.

ودخلتْ إلى البحرِ

من ثقبِ ذاكرتي الراقصةِ فوقَ الجمر.

16.

لكنّ البحر لم يعد الليلةَ للبيت

إذ بِيعَ بعدَ مُزايدةٍ صوريّة.

وكُتِبَ على النّاس

أن يتكلّموا بصوتٍ خفيضٍ عند الشاطئ

أو أن يستبدلوا كلماتهم بالإشارات،

وأن يتعرّوا ليلَ نهار

لأنّ العُري مُباحٌ وصحيٌّ ومَجانيّ

كما تقولُ نشرةُ أخبارِ البحرِ اليوميّة.

17.

حينَ انكسرت المرآة،

سألني قائدُ السّرب:

لماذا تحاولُ الطيرانَ بشكلٍ منخفضٍ

حتّى أنّ طائرتكَ

تكاد تُلامس أسطحَ البيوت؟

لحظتها، تذكّرتُ أنني في طفولتي

كنتُ أصطادُ العقارب

في باحةِ البيتِ الخلفيّة.

فيما كانَ صديقُ طفولتي السّعيد

يجمعُ الطوابعَ التي رُسِمَتْ عليها الفراشات.

18.

خرجت المرأةُ من المرآة

أو دخلتْ فيها.

لا يهمّ.

فالحياة تتكرّرُ كلّ يوم.

19.

لكثرةِ ما تأمّلتُ في المرآة

وفي البحرِ الذي اندلقَ منها

حاملاً شظايا الروح،

صرتُ أكتبُ قصائدي

بريشةٍ سقطتْ مِن غُرابِ نوح.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الكلُّ يرقص

 

 

1.

حينَ حملوا رأسَكَ على الرمح،

رقصَ الجندُ طرباً لذهبِ الخليفة.

ورقصت الملائكةُ ألماً

وهي تشاهدُ مِن عَلٍ

مشهدَ الرأسِ يخرجُ مِن المدنِ الخائنة.

2.

رقصَ الملك

وهو يرى رأسَ عدوّه يتدحرجُ على الأرض.

رقصَ ثُمَّ نثرَ دنانيرَ الذهب

فجمعَها النّاسُ مدهوشين.

3.

رقصَ البحر

وهو يستقبلُ سفينةً ملأى بجُثثِ الغرقى.

4.

رقصت الرصاصةُ وهي تصيبُ هدفَها المُستحيل.

5.

رقصَ اللصّ

وهو يعدُّ ما سرقَ مِن دراهم الغريبِ المسكين.

6.

رقصَ الفجر

بعدَ أن دفعَ بابَ الليلِ قليلاً

إلى النور.

7.

رقصَ الدود

حينَ سقطتْ عليهم فجأةً

بيضةُ الطائرِ مِن العِشّ.

8.

رقصَ ذيلُ الكلب،

حينَ رأى الكلبُ سيّدَه

بعد غياب سنين.

9.

حينَ صفعَها الموجُ الغاضبُ دونَ مناسبة،

رقصت السّفينة

وتمايلتْ ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمال.

10

رقصت الأرض

واهتزّتْ لحبّاتِ المطر

بعدَ طول جفاف.

11.

رقصتْ كفُّ الشّحّاذِ الأعمى

وهي تتلمّسُ رغيفَ الخبزِ الحار.

12.

رقصَ الطفلُ ودمعتْ عيناه

حينَ رأى حذاءَ العيدِ الجديد.

13.

رقصت المرأةُ عاريةً أمامَ المرآة

فرقصت المرآةُ عاريةً معها.

14.

رقصَ الأسرى وهم يدخلون وطنَهم مِن جديد

وتلمّسوا بألمٍ

سلاسلَ أرقامهم المُعلّقة

على صدورِهم النحيلة.

15.

رقصت الأرقامُ في لعبةِ الحظّ

وكانَ الرقمُ الأخيرُ أكثرها رقصاً.

16.

حينَ حدثَ الانفجارُ المُرعِب،

رقصت الجُثث

وتساقطت الواحدة فوقَ الأخرى.

17.

رقصت المدينةُ السّرّيّة

حينَ وصلَها الزائرُ المجهول.

18.

رقصَ الخونةُ الليلَ كلّه

وهم يتبادلون نخبَ الخيانة.

19.

حينَ وقعَ الزلزالُ في المقبرة،

رقصَ الموتى قليلاً

ثُمَّ عادوا إلى رقْدتِهم الأبديّةِ واجمين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

البحر صديقي

 

1.

اليومَ سأذهبُ إلى البحر.

2.

سأذهبُ إلى ساحله

وأمضي إلى نهايةِ الجسرِ المُمتدّ

في خاصرته السّحريّة.

3.

سأجلسُ وحيداً بالطبع

منتظراً أن يقومَ مِن غفوته الأسطوريّة.

4.

سأصافحُه بشوقٍ ومَحبّة

وسألتقطُ معه صورةً تذكاريّة.

5.

سيكون معي واقفاً بملابسه المُدهِشة

وربّما سيرتدي البكّيني

على سبيلِ الضحكِ والقهقهة!

6.

سأحاولُ أثناء التصوير

أن أتلمّسَ لحيتَه البيضاءَ الطويلة

رغمَ أنّها مُبلّلة بالتأكيد.

7.

سأحاولُ أن أحدّثه

عن آلامِ الحُروفيّ الذي هو أنا.

8.

سأحاول،

فأنا متأكّدٌ أنّه لن يفهمَ هذه الآلام.

فهو لا يفهم في الحروبِ والدمِ والحصار،

لا يفهم في القتلِ والكراهيةِ والخيانة.

9.

البحرُ رجلٌ طيّبٌ ومُسالم.

10.

البحرُ رجلٌ طيّبٌ ومُسالمٌ حَدّ اللعنة.

11.

لكنّه يفهمُ في الغرقى.

12.

يفهمُ في جُثثِ الغرقى التي تنتشر

على جسدِه الهائل

حينَ تتحطّمُ مراكبُ اللاجئين الصدئة.

13.

يفهمُ آلامَهم،

وكثيراً ما يشاركهم الصراخَ الطويل،

والبكاءَ الأسْوَد،

والرعبَ الكونيّ.

14.

وأحياناً كانَ يحاولُ إنقاذَهم

فيرميهم

أو يرمي جُثثهم إلى ساحلِه الهائل

دونَ جدوى.

15.

سأحدّثُه عَن المطرِ الذي يحيطُ به أو بي،

عَن هلْوَسَاتِ الوحشةِ وصيحاتِ الدموع.

16.

سأحدّثُه عَن الزلازلِ التي تصيبنا معاً

كلّ سنةٍ مَرّةً أو مَرّتين

دونَ أن نموت

ودونَ أن ننجو.

17.

سأحدّثُه

عَن النِّساءِ العارياتِ اللواتي يفترشن

ساحلَه الكبير.

18.

سأحدّثُه، أيضاً،

عَن عشراتِ القصائد التي كتبتُها عنه.

وسأخبرهُ أنني وصفتُه

مَرّةً بالأبِ القاسي،

ومَرّةً بالمرأةِ المُطلّقة،

ومَرّةً بالشمسِ التي تغوص،

ومَرّةً بالجسدِ المَسحور،

ومَرّةً بالغريق،

ومَرّةً بالغريب،

ومَرّةً بالمجنون.

19.

سأحدّثُه طويلاً طويلاً

وسيصغي إليَّ بصبرٍ وهدوء.

نعم، فالبحرُ صديقي،

بل صديقي الوحيد.

 

 

 

 

 

 

 

ميم المشهد

 

1.

الشَّاعرُ كائنٌ تطيرُ السّاعات

مِن بين يديه كالعصافير

في المشهدِ المسرحيّ العجيب.

ومعَ ذلك،

فهو يصرُّ على أنَّ السّاعات

هي حروف كاذبة لشدّةِ جمالها،

وأنَّ العصافيرَ ترفرفُ

مهما كانَ الجوّ مُمطراً

أو مُرعِباً

أو مَليئاً بالدخان.

2.

لماذا تطلبُ مِن السّين

أن تعطيكَ جواباً

وهي التي خُلِقَتْ كسؤالٍ أبديّ؟

ولماذا تطلبُ مِن الباء

أن تغادرَ نقطتَها الصاخبة

وتطرقَ بابَ قلبِكَ المثقوب؟

هذا هو سؤال المشهدِ المُكَرّر أبداً.

3.

كانَ المشهدُ عَصيّاً على التصديق:

أن تكونَ ملِكاً

وتحمل على رأسِكَ في حفلِ التتويج

تاجاً مِن الشّوكِ بدلاً مِن الذهب،

وتمسك صولجانَ الحروف

بدلاً مِن صولجان الكبرياء،

وتمشي على سجّادةٍ حمراء

مُلِئتْ بالجمر

مِن المهدِ إلى اللحد.

4.

كانَ المشهدُ سِحريّاً

فقد كانتْ حاشيتُك عجيبة:

الأمراءُ كانوا أشباحاً

والأميراتُ دونَ وجوه،

والضيوفُ كانوا أجساداً

ينمو منها الدخان.

5.

كانَ المشهدُ غريباً،

فكيفَ يُنَصَّبُ مَلِكٌ

كلّ ثروته صرّة ملابس مُمزَّقة

وكتاب حروفٍ مُطَلسَم

لا يفهمهُ أحدٌ سواه.

6.

كانَ المشهدُ مُمَسْرَحاً تماماً،

إذ كانَ على الملِكِ أن يغنّي

بدلاً مِن أن يصدرَ الأوامرَ الملكيّة،

ويدمدم بدلاً مِن أن يتكلّمَ بكلامٍ فصيح،

وأن يقرأ خطابَ العرش

لضيوفٍ مُصابين بالصممِ الأبديّ.

7.

الأغرب مِن ذلك،

أنّ خطابَ العرشِ لم يكنْ مكتوباً

فتوجّبَ على الملِكِ أن يرتجله فوراً

مُتحدّثاً :

عن المطرِ أم الحرب؟

عن المرأةِ أم الوهم؟

عن الذهبِ أم الرغيف؟

8.

لحُسنِ الحظّ،

تعلّمَ الملِكُ مِن صرّةِ ملابسه المُمزَّقة

أن يكونَ طيّباً مع الشّحّاذين والمُشرَّدين،

وتعلّمَ مِن حاء حرمانه

أن يفهمَ لغةَ الطير،

وتعلّمَ مِن جيمِ جنونه

معنى الجريمةِ والجُثثِ والجحيم.

9.

لسوءِ الحظّ،

فإنَّ مخرجَ العرضِ المسرحيّ

اختفى بين الجمهور

وتركَ الملِكَ أو مَن يؤدّي دورَ الملِك

يمثّلُ على خشبةِ المسرح

إلى أن يموت.

نعم، اختفى.

لكنّهُ كانَ، أحياناً،

يقولُ: "نعم".

مُطلِقاً في الصالة

طائراً أبيضَ يخلبُ لبَّ الجمهور.

أو يقول : "لا".

مُرسِلاً سهماً ناريّاً

يصيبُ المُمثّل

بمزيدٍ مِن الألمِ والدموعِ والحريق.

10.

قالَ لي الملِك

أو مَن يمثّلُ دورَ الملِك:

كلّ شيء كانَ مسرحاً عابثاً.

لم أعدْ أتذكّر منه شيئاً

سوى نزولي مِن الدرج

مُشتعلاً بالرغبةِ والهلع.

11.

قالَ لي:

كانت المرأةُ مُسْتَعدّةً للرقصةِ الكبرى،

لكنّي لم أجسرْ أن أطلبَ منها

حتّى قُبْلة واحدة

لتخفّفَ من ألمِ حرماني الخرافيّ.

12.

هل كانت المرأةُ هي المَلِكة؟

أم السَّاحرة؟

أم علامة النحسِ والممنوع؟

أم الطلسم؟

أم الذاكرة المليئة بالثقوب؟

13.

هل كانت المرأةُ هي اللعنة؟

14.

الدرجُ طويل

والنزولُ مستمر

والتمسّكُ بالهدوء المُزيّف

أكثر مِن ضروري هنا.

15.

هل كانَ المشهدُ في قاعةِ العرش؟

أم في قاعةِ الرغبة؟

أم في قاعةِ العبث؟

أم في قاعةِ الموت؟

16.

لكنَّ الأرض زُلزِلَتْ

فركضَ الجميع

ومعهم الملِك أو مَن أدّى دورَ الملِك.

وبعد أن كادَ يموت مِن الرعب،

انتبهَ إلى أنَّ نهاية الزلزال

كانتْ سعيدة جدّاً!

17.

إذ امتلأت الأرضُ بأوراقٍ كُتِبَ عليها:

مَنفيٌّ،

مَقتولٌ،

مُعذَّبٌ،

مَجنون.

18.

التقطتُ ورقةً بسرعةِ البرق

لأعرفَ قَدَري

هل كنتُ المنفيّ،

أم المقتول،

أم المُعذَّب،

أم المَجنون؟

19.

أفنيتُ عمري،

في المشهدِ المسرحيّ العجيب،

وأنا أقرأُ ورقتي دونَ جدوى.

لأنَّ حروف الورقةِ كانتْ تشتعل

كلّما قرأتُها

فتفيضُ عيناي بالدمِ والدخان،

ويفيضُ قلبي بالدموع.

 

 

الموتى يرقصون عند الباب

 

 

1.

طرقَ الموتى بابي

عندَ الفجرِ عُراةً،

وبدوا كما لو كانوا أحياء.

2.

رفعَ أحدُهم يدَه اليمنى إلى الأعلى،

إلى الأعلى.

(ولا أعرفُ لماذا).

ثُمَّ رفعَ يدَه اليسرى إلى الأعلى،

إلى الأعلى.

(ولا أعرفُ لماذا).

كانَ عارياً تماماً

بوجهٍ غَطّاه التُراب.

3.

أخذَ يصالبُ ذراعيه مَرّةً،

مَرّتين،

ثلاثاً.

ويرفعُ قدميه الواحدة تلو الأخرى

بتناسقٍ وانسجام.

ثُمَّ مدَّ ذراعيه إلى الجانبين

كأنّه يريد الطيران.

4.

كتمتُ ضحكةً مُرعبةً في أعماقي.

5.

أصبحَ الراقصون ثلاثة.

لكنّ الأوّل رسمَ دائرةً فوقَ الأرض

ومنعَ الراقِصَين مِن الدخول

فصارا يقلّدان حركاته عَن بُعد.

6.

صارَ الراقصون خمسة.

كانوا رجالاً

ولم تكنْ معهم امرأةٌ أبداً،

فتنفّستُ الصُعداء.

7.

تنفّستُ الصُعداء.

فأنا أخافُ مِن رقصةِ النِّساءِ عندَ الفجر،

النِّساء القادمات مِن القبرِ عندَ الفجر.

8.

سأسمّي الراقصَ الأولَ بمَلِكِ الموتى.

9.

لم يزلْ مَلِكُ الموتى

يرقصُ رقصتَه الكبرى.

يداه العاريتان تتحرّكان إلى الأعلى والأسفل،

وقدماه ترتفعان وتنخفضان.

لكنّه أخذَ يستبدلُ كلّ دقيقة قناعاً:

مَرّةً يرتدي قناعَ هاملت

ومَرّةً قناعَ ماكبث

ومَرّةً قناعَ المَلِكِ الضِلّيل

ومَرّةً قناعَ ديكِ الجِنّ.

10.

سألتُ نفْسي:

أهم بشرٌ أم جِنّ؟

11.

فجأةً

ظهرَ أحدُ الموتى يحملُ طبلاً

وأخذَ يقرعُ عليه بقوّة.

كانَ الطبلُ كبيراً جدّاً

فصارَ الرقصُ أكثر رعباً.

12.

صارَ الرقصُ أكثر رعباً وَدَويّاً.

13.

احمرّتْ دائرةُ المَلِكِ الراقص

وتدفّقتْ مِنها قطراتُ الدم

لتشكّلَ ساقيةً حمراء.

14.

بكى الراقصون العُراة.

فتنهّدَ مَلِكُ الموتى بقوّة

وبكى معهم.

15.

فجأةً،

توقّفَ الكلُّ عن البكاء

وصفّقوا للمَلِكِ الراقص.

16.

هل كانوا مُعجبين برقصته؟

أم بشبابه؟

أم بجماله؟

17.

انحنى المَلِكُ الراقصُ لهم بوقار

وصفّقَ لحظات معهم.

18.

وصلَ الدمُ إلى بابي

فأغلقتُ البابَ بقوّة.

19.

لكنَّ الدم مرَّ إليَّ مِن تحتِ الباب.

ودوّي الطبلِ بَقي يتردّدُ في أذني

ليلَ نهار.

 

 

 

 

 

 

 

 

القصيدة الأنويّة

 

1.

صرخَ الطاغيةُ الأرعن

مُحَاطاً بحاشيته وجلّاديه وكلابه:

أنا

أنا

أنا.

فالتهبت الأيدي بالتصفيق،

واغرورقت العيونُ بالدموع،

وامتلأت الحناجرُ بالهتاف.

2.

صرخَ المطربُ المشهور

مُحَاطاً بالأضواء البرّاقة

وبفرقته الموسيقيّةِ العملاقة:

أنا.

فملأتْ معجباتُه المراهقاتُ القاعة

بالصفيرِ والصراخِ وصيحاتِ الإعجاب.

3.

صرخَ المجنونُ: أنا.

وَصَمت.

فضحكَ النّاسُ طويلاً.

تركَ المجنونُ أناه تسقطُ فوقَ الأرض،

وبكى.

4.

قالَ الماضي:

أنا أسكنُ في الماضي أبداً

فكيفَ لي أن أعرفَ: مَن أنا؟

5.

قالَ الحاضر:

أنا ساعاتٌ

تتناثرُ هذي اللحظة في الريح.

مَن يجمعها لي كي أعرفني.

6.

قالَ المستقبلُ: أنا لا أنا لي.

لأنّي لم أزلْ

في كهفِ الغيب.

7.

قالت الزهرةُ: أنا.

فضحكتْ مِنها النحلة.

8.

قالت الكأس:

أنا الخمرةُ أو السّمّ،

أيّهما أقرب مِن شفتي.

9.

قالَ الحرفُ: أناي النُّقطة،

فهل سألت النُّقطةُ: مَن أنا؟

10.

قالَ السّرُّ: أنا السّين

لكنْ ما مِن راءٍ لي.

11.

في خاتمةِ رسالةِ حُبٍّ

طارتْ في الريح،

خاطبَ العاشقُ معشوقتَه:

يا أنا...................ي.

12.

قالت الريح:

أناي لا اسم لها ولا عنوان

ولا حتّى ذكرى.

13.

قالَ غرابُ نوح: أنا.

وتركَ السّفينةَ في موجٍ مُتلاطم

والنّاسَ في هَلَعٍ مُتلاطم.

ضحكَ قليلاً،

وصفّقَ بجناحيه طويلاً،

وحلّقَ فوقَ الطوفان.

14.

قالتْ حمامةُ نوح: أنا

حلمٌ يمتدُّ إلى ما شاءَ الله.

وعادتْ بغصنِ أنا الزيتون،

أي عادتْ بغصنِ أنا الماء.

15.

قالَ إخوةُ يوسف: إنّا نحن، إنّا أنا.

وألقوا يوسفَ في البئر،

ومضوا لأبيهم بدمٍ كَذِبٍ.

فبكى يعقوبُ أناه

حتّى ابيضّتْ عيناه.

16.

بعد رحلته الكبرى،

قالَ كلكامش

وهو يمسكُ عشبةَ الخلودِ: أنا.

نعسَ فنام.

فاقتنصت الأفعى الفرصة

وسرقتْ مِنه أناه.

17.

قالَ الحلّاج: أنا هو وهو أنا.

ومحبّتُه سرّي الممتدّ

مِن أقصى الكونِ إلى أقصاه.

18.

قالَ الدهرُ: أنا.

لم يسمعه أحدٌ أبداً.

لكنَّ صدى صوته

ظلّ يتردّدُ في كلّ مكان

إلى ما شاءَ الله.

19.

قالَ الموتُ: أنا.

فامتلأت الأرضُ بجُثثِ النّاس.

 

 

 

 

 

 

قاب قوسين

 

 

1.

يا لسعدك

وأنتَ مِنهُ قابَ قوسين أو أدنى.

2.

يا لسعدك

وأنتَ عند مَن يقولُ للشيء: كنْ فيكون.

3.

يا لسعدك

وأنتَ عند مَن أضحكَ وأبكى،

وأماتَ وأحيا،

وخلقَ الزوجين: الذكرَ والأنثى.

4.

يا لبُشراك

وأنتَ في السّماواتِ العُلى

عند سدرةِ المُنتهى.

5.

يا لبُشراك

وأنتَ ترى الكافَ سرّاً فَسرّاً.

6.

يا لبُشراك

وأنتَ ترى النُّونَ حَمْداً فحَمْداً.

7.

يا لمجدك

إذ مُنحْتَ خمس نجماتٍ مِن الطمأنينة،

خمس صاداتٍ مِن الصّلوات.

8.

يا لمجدك

إذ صارتْ ميمُكَ شفاءً لما في القلوب.

9.

صارتْ ميمُكَ لغةً لدمعِ المُحبّين.

10.

صارتْ ميمُكَ رداءً لصرخةِ المظلومين.

11.

صارتْ ميمُكَ وطناً للعاشقين.

12.

ميمُكَ لم تكنْ وهماً.

13.

ميمُكَ جَنّةُ الرحمن.

14.

ميمُكَ جَنّةُ المأوى.

15.

وحاؤكَ صارتْ وحياً يوحى.

16.

يا لسعدك

والملائكةُ تحفُّ به وبك.

17.

يا للطفك

وأنتَ تحيّي إبراهيمَ وإدريس

وموسى وعيسى

منتقلاً مِن سماء إلى أخرى.

18.

يا للطفك

وأنتَ تنزلُ مِن سدرةِ المُنتهى

رحمةً للعالمين.

19.

يا لمجدك

وأنتَ تنطقُ الكاف

ليكونَ الكاف قلبك،

وأنتَ تنطقُ النُّون

فتكون النُّون نبضة قلبك.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قصيدة السيرك

 

 

1.

سيحلفون لكَ جميعاً أنَّ اسمها الحياة

وما هي إلّا حفلة مُهرّجين،

ما هي إلّا سيرك عظيم.

2.

سيقسمُ لكَ الملكُ الدونجوان

بتاجه وعرشه وصولجانه

أنَّ اسمها الحياة،

وهو يخونُ كلَّ ليلةٍ ملِكتَه الجميلة

ويسرقُ قوتَ شعبِه النائم في العسل.

3.

وسيصرُّ على أنَّ اسمها الحياة،

الطاغيةُ الأرعن.

وهو يدري أو لا يدري

أنَّ الحياةَ عنده الكُرسيّ،

الكُرسيّ المُحاط بالقتَلَةِ والجَلّادين والكلاب،

الكُرسيّ الذي تقومُ أرجلُه

على مربعِ السّجنِ والرعبِ والموتِ والظلام.

4.

وسيقسمُ لكَ شاعرُ الأكاذيبِ أنَّ اسمها الحياة.

الشَّاعرُ الذي امتلأتْ جيوبه

بقصائد المديحِ والترّهات

وَرُزَمِ الدولارات.

سيقسمُ لكَ وهو يبكي بحُرقةٍ

كي تصدّقَ ما يقول.

5.

سيقسمُ لك، أيضاً، الشَّاعرُ الكُحوليّ،

الشَّاعرُ الذي يدعوكَ بكَرَمٍ حاتميّ

لتشاركه كأسَ الخمرةِ في كأسِ القصيدة.

وستتقطّعُ ألماً حينَ تراه

ذاتَ صباح

جُثّةً مَرميّةً على الرصيف

ملأى بالدمِ والكحول.

6.

آ...

لقد قرأَ لكَ ذاتَ ليلة

قصيدةً هائلةً عن النّجمة

وأخرى عن جمرةِ المَحبّة.

7.

لا النّجمة زارته في غيبوبةِ الخمر،

ولا المحبّة طرقتْ عليه الباب

- ولو عن طريقِ الخطأ-

في وحشته الأزليّة.

8.

وسيصرُّ على أنَّ اسمها الحياة،

الناقدُ الذي يقيسُ كلَّ شيء بالمسطرة

وهو لا يدري أنَّ مسطرته،

في عالمنِا السّحريّ،

تقصرُ أو تطولُ كلّ يوم.

9.

وسيَصرُّ كذلك،

الناقدُ الذي مسخه فرويد أو ماركس

ثمَّ أطلقَ دوستويفسكي عليه النّار

في إحدى رواياته الخطيرة

أو اضطرَ إلى إخلاء سبيله معه

بعد عفو القيصر المُفاجئ.

10.

وستصرُّ على أنَّ اسمها الحياة،

العروسُ الصغيرةُ التي امتلأَ قلبها بالحُبّ

ولم تنتظرْ لتزيح السّتارَ قليلاً

كي ترى ما يُخفي لها الدهر

مِن زلازل وكوابيس.

11.

وستصرُّ على أنَّ اسمها الحياة،

الصبيّةُ المُراهقة

وهي ثملة بجسدِها البضّ.

لكنّها ما أن تكتشفَ الحقيقة

حتّى تسارع لتمارسَ دورَها المُخيف

في السيركِ دونَ احتجاج.

12.

وسيصرُّ على أنَّ اسمها الحياة،

الصبيُّ المحروم

وهو يحملُ صرّةَ ملابسه

هارباً باتجاهِ مدينة الأحلام

ليضيعَ مرّةً، مرّتين، ثلاثاً

حتّى يملّ مِن الضياع

ويملّ الضياعُ مِنه.

13.

ولذا سيجلسُ ذاتَ مساء

ليتركَ قدميه تغرقان في الفرات

وجسده يغرقُ في دجلة

وقلبه يغرقُ في البحرِ العظيم.

14.

وسيصرُّ على أنَّ اسمها الحياة،

العجوزُ المنفيّ.

لكنّه سيرتبكُ كلَّ ليلة

وهو يرى حاء الحياة

تتخاذلُ أمامَ نون النفي،

فيهرعُ إلى كأسِ الخمرة

أو كأسِ الدموع

أو كأسِ الهذيان.

15.

وسيصرُّ على أنَّ اسمها الحياة،

السَّاحرُ المُشَعْوِذ.

لكنّه سيرتعبُ حينَ يحيط به الجِنّ

على حين غرّةٍ

ليجعلوا دورَه في السيرك

دورَ المجنونِ الأزليّ.

16.

وسيصرُّ على أنَّ اسمها الحياة،

المغامرُ البهلوان.

لكنّه سيبكي دماً

حينَ تتلقّفه قضبانُ السّجون،

وتعدّ له، مِن ثمَّ،

دوراً ممتعاً في السيرك

مع القرَدَة والكلاب.

17.

وسيصرُّ على أنَّ اسمها الحياة،

الصّوفيّ الذي يقولُ:

أنا هو وهو أنا.

لكنّه سيصرخُ صرخةَ الكون

حينَ يرى جسده يُحْرَقُ

ورماده يُذرُّ في الريح.

18.

وسيصرُّ على أنَّ اسمها الحياة،

شاعرُ الحرف.

لكنّه سرعانَ ما يكتشفُ المأساة

حينَ تتركه حاءُ الحُبّ

جسداً طافياً ليلَ نهار

فوقَ بحرِ الظلمات،

وتنزلُ إليه الباءُ مِن سُلّمِ القَدَر

عاريةً وهي تخفي ابتسامتَها السّاخرة.

19.

حينها سيكتبُ قصيدةَ السيرك

بعينين دامعتين،

وقلبٍ يتطلّعُ عبثاً

إلى نافذةِ الحياة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينُ العظامِ والحُطام

 

 

1.

رأيتُكِ، فجأةً، في أعلى الشّجرة.

ما كنتِ حمامة ولا بيضة ولا زهرة،

بل كنتِ امرأة.

فدهشتُ لجمالِكِ المُطَلسَم،

ونزلتُ أجرُّ خطاي بوقارٍ رماديّ

على الدرجِ المرسومِ على الشّجرة.

2.

اسمُكِ السّين

وهو السّرّ،

وهو الموتُ السّرّيّ،

وهو سينُ مَن لا سين له

إلّا الجنون.

3.

يتكرّرُ اللحنُ القديم

في صوتِ امرأةٍ لا تصلحُ للغناء

لكنّها تغنّي أبداً،

في غدرِ امرأةٍ سفحتْ دمي ودمَ الفرات،

في طفولةِ امرأةٍ غرقتْ بلغةِ الماء،

في طعنةِ امرأةٍ أبدلت السّينَ بالشين،

في قَدَرِ امرأةٍ زُلزِلَتْ حتّى رأت الله.

4.

تشبهين الحمامةَ أنتِ.

(كلُّ امرأةٍ تشبهُ الحمامة).

تشبهين البيضةَ أنتِ.

(كلُّ امرأةٍ تشبهُ البيضة).

وتشبهين المرأةَ أنتِ.

(أنتِ امرأةٌ فكيفَ لا تشبهين نفْسك؟)

5.

وأينَ هي نَفْسك؟

6.

نفْسُكِ ضاعتْ ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمال.

ضاعتْ في بلْبَلَةِ بابل

وزلزلةِ بغداد

وثلجِ أمستردام

ووحشةِ برلين

وليلِ سدني الطويل.

7.

وحينَ أعطيتُكِ شيئاً مِن السّين،

أشرتِ عليَّ بأن أزرعها في أرضٍ قاحلة

أو أرضٍ ذات عظام

أو أرضٍ ذات حُطام.

8.

لم أكنْ شجاعاً بما يكفي

لأنفّذَ إشارتَكِ الكبرى.

9.

خفتُ مِن دخولِ أرضِ العظام،

وخفتُ مِن دخولِ أرضِ الحُطام،

فآثرتُ سهولَ النّسيان.

10.

كيفَ يدخلُ إلى أرضِ الحُطام

مَن كانَ حُطاماً؟

11.

وكيفَ يدخلُ إلى أرضِ العظام

مَن يرى الموتَ في كلّ حين وآن؟

12.

وكيفَ لا أختارُ سينَ النّسيان

بعد أن شربتُ سينَ السّمِّ كأساً

عاماً فعاماً؟

13.

أينَ هو الحلّ يا سين العظامِ والحُطام؟

14.

أستعيدُ المشهدَ الآن،

أكرّرهُ دائماً،

وأضيفُ إليه نقاطاً جديدة

حتّى يصبح شديدَ الوضوح،

شديدَ البهجة.

15.

الاستعادةُ تتمُّ تسعة عشر حرفاً.
16.

هي ذي تتمُّ ببطء،

وتُضافُ إليها عبارات الحُبّ

وكلمات السّرير

ووشم السّحر

وراء الخرير.

17.

قد أضيفُ إلى المشهد

مُمثّلين ثانويين ومُهرّجين

وأرسمُ في أعلى الشّجرة

نساء مثلكِ على هيئةِ طيور.

18.

أكرّرُ المشهدَ حتّى أتحرّر مِن سجني

وأكتبه حتّى أحطّم قضبانَه التي حطّمتني.

19.

أكرّرُ المشهدَ وأضيفُ إليه ما أشاء.

ثمَّ أُهَلْوِسهُ في آخر الأمرِ حرفاً

حتّى يصبحَ ومضةً لا تسرّ سواي.

 

 

 

تناقضات

 

 

1.

استعانَ المشنوقُ بحبلِ المشنقة

خوفاً مِن الجَلّاد.

2.

استعانَ الغرقى بأسماكِ القرش

خوفاً مِن البحر.

3.

استعانَ الطاغيةُ بشبيهه

خوفاً مِن نفْسه.

4.

استعانَ القبرُ بجُثّةِ الميّت

خوفاً مِن الزلزال.

5.

استعانَ النّهرُ بالسدّ

خوفاً مِن الأسماكِ الغريبة.

6.

استعانَ الليلُ بالفجر

لينجو مِن الفضيحة.

7.

استعانَ شاعرُ الملكِ بحذاءِ الملك

ليأخذَ لنفْسه صورةً شخصيّة.

8.

استعانَ البخيلُ بأكاذيبه

ليصدّقَ نفْسه.

9.

استعانت المرآةُ بالمرأة

لتقضي على وحْدتِها.

10.

استعانَ الأَرَقُ بالقلق

لينام.

11.

استعانَ الأميرُ بالمُهرّج

ليبني له مَجْداً.

12.

استعانت الذاكرةُ بالهلْوَسَات

لتنسجمَ مع خرابها الهائل.

13.

استعانَ السَّاحرُ بعظامِ الموتى

ليُحيي السّريرَ البارد.

14.

استعانتْ شوارعُ الليلِ بخُطى المُشرّدين

لتحافظَ على ذاكرتِها.

15.

استعانَ الشَّاعرُ صاحبُ الأقنعة

بوجهه الحقيقيّ

وهو يواجهُ عزرائيل.

16.

استعانَ القردُ بالحمار

خوفاً مِن الضياعِ في الغابة.

17.

استعانت الخيانةُ بالتُرّهات

خوفاً مِن الحقيقة.

18.

استعانَ الدمُ بالسمّ

خوفاً مِن النزيف.

19.

استعانَ القتيلُ بقاتله

خوفاً مِن الخوف.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قصيدة اللقلق

 

 

1.

أردتُ أن أكتبَ قافاً

فكتبتُ- بما يشبه الخطأ- لقلقاً.

ضحكتُ، ونمتُ

طفلاً سعيداً يحلمُ باللقالق.

2.

في الصباح

قرأتُ ما قد كتبتُ

لصديقي السّاخر، فقال:

أيّةُ لقالق؟

ما مِن لقالق هنا!

3.

قلتُ لنفسي: نعم، أيّةُ لقالق؟

ما مِن لقالق في المدينة.

هذه المدينة مدينة الغربانِ بامتياز!

4.

آ...

كيفَ حلمتُ باللقلق؟

وكيفَ قادني القافُ إلى اللقلق

أنا الراكضُ أبد الدهر وراءَ خيط الشّمس؟

5.

أنا الراكضُ وراءَ خيط الشّمس

منذ صباي أُسْجَنُ في حلمِ اللقلق.

ربّما لأنني كثير الجلوس إلى النافذة.

6.

ماذا في النافذة؟

7.

صِبيان يلعبون الكرة.

8.

ربّما هناك عيد!

ألا ترى الصِبيان يرتدون جميلَ الملابس

ويتقافزون في الشّارعِ مُبتهجين؟

9.

إذن، فهو العيد أيّها اللقلق!

إنّها الشّمس أيّها اللقلق اللغز!

10.

حملتُ صرّةَ ملابسي

وركضتُ نحو الشّمس.

وكانتْ ركضتي هذه

بداية جنوني الذي عجزَ عن شفائه كلُّ شيء!

11.

ركضتُ،

كانَ قلبي يرقصُ وأنا في الباصِ الخشبيّ.

فالشمسُ تنزلُ ذهبيةً مِن نافذةِ الباص

لتملأني

وتملأ الدنيا كلّها

بسينِ السّرور.

12.

ها هي شمسُكَ العظمى يا إلهي!

13.

لا تفرحْ كثيراً أيّها الباحثُ عن اللقالق!

14.

أولئكَ الذين هربتَ إليهم،

هربتَ مِن أجلِ محبّتهم،

سيلقون بكَ عَمّا قليل في النّهر.

15.

أعني سيلقون بجُثّتِكَ عَمّا قليل في النّهر!

16.

يا لها مِن مفاجأةٍ رائعة!

17.

أينَ صرّة مَلابسكَ أيّها الصبيُّ الغريب؟

18.

لكنّكَ اكتهلتَ ولم تعدْ صبيّاً ولا شابّاً،

فخذْ ملابسَكَ ثانيةً وثالثةً ورابعة.

واذهبْ إلى جحيمكَ المُفدّى!

اذهبْ إلى جحيمكَ الباذخ!

اذهبْ إلى جحيمكَ العظيم!

19.

ينبغي أن أتوقّفَ حالاً عَن هذا الهذيان

لأنَّ لقالق الوهمِ غادرتني

الواحد تلو الآخر،

وتركتْ لي شيئاً مِن الريش

سأريه لمَن ينكر عليَّ وجود اللقالق

في مدينتي:

مدينة الغربان بامتياز!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

صلاة صوفيّة

 

 

1.

قلتُ: أعطني خوفاً مِن دونِ رجاء.

فوضعَ في يدي حرفاً مِن دونِ نقطة.

2.

ثُمَّ خلقَ لي نهراً مِن دونِ ماء.

3.

ثُمَّ رسمَ لي شمساً مِن دونِ ضياء.

4.

ثُمَّ صوّرَ لي قلباً مِن دونِ دم.

5.

ثُمَّ أعطاني وجهاً مِن دونِ عينين.

6.

ثُمَّ منحني وطناً مِن دونِ هواء.

7.

ثُمَّ قرأَ عليَّ كتاباً

لم يُذكَر اسمهُ عليه.

8.

فبكيتُ.

9.

قلتُ: أعطني رجاءً مِن دونِ خوف.

10.

فأراني صلاةً مِن دونِ دمع.

11.

وكتبَ لي لوحاً مِن دونِ بدايةٍ ولا نهاية.

12.

ومَنحَني كُرسيّاً مِن دونِ قوائم.

13.

وسقاني كأساً مِن دونِ خمرة.

14.

وأعطاني ذهباً مِن دونِ بريق.

15.

وأنزلَني بيتاً مِن دونِ شُبّاك.

16.

وَسَتَرني مِن النّاسِ ولم يسترني مِن نفْسي.

17.

فارتبكتُ حتّى...................      

18.

متُّ.

19.

ثُمَّ هتفَ بي

فنطقَ قلبي بِاسمه.

 

 

 

 

 

رقصة ملعونة

 

 

1.

حينَ يبدأُ التعرّي

يصرخُ الجميع

في طلبِ المزيد.

2.

كانَ جسدُها شمس شهوةٍ ساطعة.

3.

كانَ جسدُها حاء مِن النّار

والباء تلاحقُها لتلامسَها دونَ جدوى.

4.

كلُّ الحروفِ كانتْ تلاحقُ الجسدَ العاري

وهو يمارسُ رقصتَه الهائلة.

كانت الحاءُ ترقصُ إذن!

فاقتربَ مِنها الحرفُ الذي خرجَ مِنها،

والحرفُ الذي ذهلَ بها،

والحرفُ الذي جُنَّ بها.

لم تكن الحاءُ لتأبه.

كانتْ تمارسُ رقصتَها الكبرى

والحروفُ مِن حولِها تشتعل.

5.

صفّق الجمهورُ الأبلهُ للعرضِ طويلاً

وكتمَ رغباته الوحشيّة

في هدوء مُزيّف.

6.

العُري قرينُ الموتِ الأكيد،

لكنّه حينَ يبدأ يشتعل بالحياة

وتشتعل الحياة معه.

7.

يا له مِن فخّ!

كلّنا نُجنُّ بهِ وبلعنته الأبديّة.

8.

احتجَّ أحدُهم على مشهدِ التعرّي.

فردَّ عليه صاحبُ المسرحِ بهدوء:

إنّكَ تنظرُ إلى الجسد

دونَ أن تنتبه إلى الرقصة!

9.

لا معنى لأيّ شيء

فالعُري مَوتٌ مكتوبٌ بحرفِ الحياة.

10.

لا معنى للرقصة،

فالراقصة ألهبت المسرح

وأشعلتْ أجسادَ الجمهورِ ووساوسهم المُرّة.

11.

كيفَ سيقضون ليلتهم

بعد هذا العرض الجنونيّ؟

12.

اشتدَّ تصفيقُ الجمهورِ للتعرّي

وهو يزدادُ أكثر فأكثر.

13.

كانَ نفاقُ الجمهورِ المُتحضّرِ مُلوّناً

بألوان قوس قزح!

14.

سأعودُ إلى الشُبّاكِ : شُبّاك القلب

لا لأفتحه

بل لأغلقه بالمسامير والخشب.

وماذا عن الذاكرة؟

أظنُّ أنَّ رمي الرصاص

سينقذها مِن الكارثة!

15.

هل سأفتحُ الباب؟

لا!

عَن أيّ بابٍ تتكلّم؟

الباب الذي يخرجُ مِنه الجسد

عارياً تماماً.

16.

توقّفَ كلُّ شيء

وامتلأَ جسدُ الراقصةِ ووجهُها

بحبّاتِ العرقِ والزهوِ والخيلاء.

17.

كيفَ ستنامُ الراقصةُ الليلة

بعد أن أشعلتْ هذا الحريق الأسطوريّ؟

18.

أظنّها ستنامُ بهدوء

فقد أجهدَ جسدَها الرقصُ والتعرّي.

بعدَ أن أشعلت الغابةَ بالنّار

وسمعتْ صوتَ الأشجار

وهي تتهاوى

الواحدة تلو الأخرى.

لكنّها لم تكنْ تعرف،

بالضبطِ، ما قد حدث.

لأنّها لم تحترقْ

كما احترقت الأشجارُ وتهاوتْ إلى الأرض.

19.

آ...

هي لا تعرفُ معنى الحريق!

هي لا تعرفُ معناه أبداً!

هي لا تعرفُ معنى العُري أبداً!

هي لا تعرف...

هي................... اللعنة!

 

 

                                               تكرار

 

 

1.

أردتُ أن أحتمي بكهفكِ الأسْوَد

فاكتشفتُ أنّه قطعة قماشٍ بلهاء

تطيرُ في مَهبِّ الريح.

2.

أردتُ أن أغنّي أغنيتَكِ:

أغنية البراءةِ الأولى،

فاكتشفتُ أنَّ الأغنيةَ قصيرةٌ جدّاً

ولا تصلحُ لأيّ مقامٍ كان.

3.

أردتُ أن أتكلّمَ معكِ عَن أرجوحةِ العيد

فسقطتْ مِن يدي

دراهمُ العيدِ السّبعة،

وبقيتُ في العاصمةِ الكلكامشية

طفلاً ضائعاً أتلفّتُ أبدَ الدهر.

4.

أردتُ أن ألعبَ معكِ لعبةَ الماء

فاكتشفتُ أنَّ جسدكِ قابلٌ للغرق

عند أوّل خطأ.

5.

أردتُ أن أقودَ غيمتيكِ العجيبتين

فاكتشفتُ أنّ المطرَ محبوسٌ بينهما

وأنّ صَلاته هي الدمع لا الشِّعْر.

6.

أردتُ أن أهنّئكِ

على رسومِكِ العاريةِ التي مَلأتْ ذاكرتي

فاكتشفتُ هشاشتَكِ الروحيّة

وعبثَكِ الأعظم.

7.

أردتُ أن أقبّلَ شفتيكِ ذاتَ حلم

فأطلقتِ عليَّ ثعالبكِ وذئابكِ وكلابك

كي تنهشَ حرفي ونقطتي دونَ رحمة.

8.

أردتُ أن أحيّي بستانَ جسدِكِ الملآن

بالتُفّاحِ والعنبِ والرُمّان

فأخبرتِني أنَّ الثمارَ مسمومة

وأنَّ أرضكِ على وشكِ الزلزال.

9.

أردتُ أن أمدحَ نونَكِ ذاتَ جنون

فقلتِ لي بهدوءِ السّحَرَةِ وشعْوَذَتِهم:

إنَّ النُّونَ لا نقطة فيها.

10.

أردتُ أن أكتشفَكِ على التلّ

فاكتشفتُ أنّك تحبيّن الوادي وثعابينه فقط.

11.

أردتُ أن أمشي معكِ على شاطئ البحر،

فرميتِ البحرَ بحصاة،

فردَّ عليَّ البحر

بموجةٍ عظيمةٍ مِن الكراهية.

12.

أردتُ أن أحيّيكِ وأنتِ في أوّل الفجر

فلم تَردّي تحيّتي،

وكادتْ نافذةُ اليومِ كلّه

تسقط على رأسي.

13.

أردتُ أن أقبّلكِ ذاتَ حياة

فالتفتِ بلا مبالاةٍ إلى حائطِ الموتى.

14.

أردتُ أن أدعوكِ إلى المائدة

فأشرتِ بغرورٍ إلى كُرسيّكِ الفارغ

وكأسكِ الفارغة

وفراغكِ الفارغ.

15.

أردتُ أن أنتقدَ قسوتَكِ المُدهشة

ففتحتِ لي بابَ السّجن

وناديتِ على السّجّان.

16.

أردتُ أن أتلمّسَ خصلات شَعْرِكِ المُثيرة

فأشرتِ إلى عذابِ آياتكِ التسع.

17.

أردتُ أن اشربَ مِن كأسكِ المُذهلة

فأشرتِ إلى الصّحراء،

ومِن خلف الصّحراء

أشرتِ إلى النّار.

18.

أردتُ أن أرقصَ تحتَ شمسكِ الهائلة

كآخر أمنيّةٍ لي قبلَ أن أموت،

فقلتِ: إنَّ الرقصَ مُحَرّمٌ حتّى على الصّوفيّ.

19.

أردتُ أن أحدّثَكِ ذاتَ حياة

عن مركبِ نوح

فاكتشفتُ أنّكِ قد طرتِ مع الغُراب

ولم ترجعي أبداً.

 

 

في مرآة الحرف

 

 

منشورات ضفاف، بيروت، لبنان، ط   2016

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

(قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)

سورة يوسف. الآية 86

 

 

 

 

 

 

 

 

أغنية إلى الإنسان

 

1.

هذه أغنية أعددتُها لكَ،

أغنية بسيطة جدّاً

وقصيرة جدّاً.

أغنية تتحدّثُ

بشوقٍ كبيرٍ عن الحاءِ والباء،

وتُحاولُ

بإصرارٍ كبير

أن ترسمَ لها جَناحين

وعشّاً في آخر المطاف،

عشّاً يكفي لبيضةِ طائرٍ مَنفيّ

لا اسمَ له ولا عنوان.

2.

أفترضُ أنّكَ ستساعدني

على الاستماعِ لها

أو ترديدِ كلماتِها البسيطةِ مَعي.

ربّما ستضعُ لها ما يُشبهُ الإيقاع

إن كانَ قلبُكَ ينبضُ بشيء مِن اللطف

وليسَ مَخلوقاً مِن الخشبِ أو الحجر.

وربّما ستقومُ فترقصُ على إيقاعِها

إن كانَ قلبُكَ قد عَرَفَ الحرمان

واكتوى بنارِ الهجران.

3.

لكنْ لا ترقصْ رقصةَ القرَدَة

ولا رقصةَ الذئاب

فذلكَ يُفسدُ النّصَّ حتماً.

ارقصْ مثلي رقصةَ المُتصوّفة

أو رقصةَ الأيتامِ في الملجأ يومَ العيد

أو ارقصْ رقصةَ الغرقى

إن كنتَ بساقٍ واحدة.

أمّا إذا كنتَ تكرهُ

كلَّ شيء حتّى نَفْسك

فَلا ترقصْ على الإطلاق،

اكتفِ بوحشيّتِكَ المُستترة

ولا تحاولْ نَشْرَها على الحبال

حتّى لو استطعتَ أن ترقصَ

رقصةَ المحكومِ عليهِ بالإعدام!

 

 

 

 

 

 

نهر سحريّ

 

1.

كنتُ أسيرُ على شاطئه حَذِراً

كي لا أغرق.

في الحقيقة،

أنا غرقتُ فيه أكثر مِن مَرّة.

فانتَشَلَني حبّي السّحريّ لمنظرِ السّمك

وهو يلبطُ في ماءِ النّهرِ الشفّاف،

كما انتَشَلَتني بقايا مخلوقاتٍ آدميّة.

لابدَّ أن أعترفَ:

كانَ هناك بعض المخلوقاتِ الآدميّة

قربَ هذا النّهر السّحريّ

لكنَّ هذه المخلوقات قد تبخّرتْ

أو انتحرتْ أو احترقتْ

في الحروبِ التي حاصرت النّهر،

في الحرائقِ الهائلةِ التي أعقبتْ هذه الحروب،

في أعمالِ السلبِ والنهبِ المُذهلة

التي أعقبت الحرائق

وشاركَ فيها الجميعُ بسعادةٍ لا تُوصَف.

2.

كنتُ أسيرُ على شاطئه حَذِراً

فقد قيلَ إنَّ هذا النّهر يفيض.

لكنّني لم أره يفيض أبداً

بل رأيتُ أضواءَ الحانات

تعكسُ مراراتها على مائه الليليّ

ورأيتُ الكثيرَ مِمّن يشربُ الخَمْرةَ الرخيصة

يجلسُ على شاطئه كي يهذي أو يبكي

أو يغفو شبهَ ميّت.

كما رأيتُ الجسر

يتركُ مكانَه فوقَ النّهر

أكثر من مرّة

ليضيع.

هذه ليستْ نُكْتة أبداً

فالجسرُ خشبيّاً كان،

وكانَ يشعرُ بالحزنِ وبالملل

وبالرغبةِ العارمةِ في الانتحار

فيتركُ قدميه اللتين أكلهما الماء

ليسبحَ بعيداً بعيداً.

ولأنّه لا يعرفُ الغوص

لذا يُعادُ إلى موضعه بعدَ حينٍ

من الضحكِ الجُنونيّ.

3.

ورغمَ هذا الضحك الجُنونيّ،

بقيتُ أسيرُ على شاطئه حَذِراً

فقد كانَ النّهرُ يمرُّ قربَ المحكمة

وقربَ السّجن،

وقربَ بيتِ قائد الجيش،

ومدير الشّرطة،

ورئيس نقابة المُشعوذين واللصوصِ والمُهرّجين،

ورئيس جمعية الشّعراء الطبّالين والمُتكسّبين،

ورئيس نادي كمال الأجسامِ والأحلامِ والأوهام،

ورئيس نقابة أصحابِ الفنادقِ الرثّة

والسّينماتِ التي تفوحُ منها رائحةُ المراحيض

على الجمهورِ الضاحكِ السّعيد.

4.

الآن

بعدَ نصف قرنٍ مِن الوهم

لم أزلْ أتذكّر النّهر،

النّهر الذي وردَ اسمُه في كتبِ الخرائطِ الوهميّة

والاتفاقيّاتِ الوهميّة

وقصصِ الملوكِ القتلى الواحد بعد الآخر.

أتذكّرُ جيّداً

أنّني كنتُ أمرُّ عليه صباحاً ومساء

لكنَّني لا أتذكّر أينَ كنتُ أقف

مُتأمّلاً هذا المشهد المُضحك حدّ البكاء

والمُبكي حدّ الضحك.

بعضهم يحاولُ عَبَثاً

أن يذكّرني بالمكانِ أو بالزمان

لكنَّني لا أستطيعُ بالطبعِ أن أثقَ به،

لا أستطيع أن أثقَ به على الإطلاق،

ذلك أنّني قد غرقتُ في ذلك النّهر،

غرقتُ منذ زمنٍ طويل،

غرقتُ وشبعتُ غرقاً

رغم أنّني كنتُ أسيرُ على شاطئه

بمنتهى الحَذَر،

ومنتهى الانتباه.

 

 

 

 

 

 

قال الذئب: أنا هو البحر!

 

1.

كانَ الذئبُ يمشي على شاطئ البحر

حينَ استغاثَ به الغريق.

ضحكَ الذئبُ ممّا يرى.

لكنَّ الغريق صرخ:

أنقذني من البحر!

ضحكَ الذئبُ ثانيةً وقال:

أنا هو البحر!

2.

أن تُطلقَ النّارَ على رأسِك

أهون مِن أن تكتبَ القصيدةَ ذاتها

ألفَ مَرّة

بحرفٍ واحد

ونقطةٍ واحدة.

3.

الحريقُ يتكرّر.

النّارُ تبزغُ هذي المرّة

من النافذةِ أو من الجدار.

لكنّها ليست النّار التي عرفتُها،

فالنّار لبستْ ثياباً تنكّريّة

لا يخرجُ منها اللهبُ أو الدخان

لكنَّ لسعتها، بالطبع،

أشدّ ضراوة ووحشيّة.

4.

ماتَ كاتبُ الشيزوفرينيا

بعد أن بلغَ من العمرِ عِتيّا.

كانَ يتحدّثُ عن الحُبِّ ويمارسُ الكراهية،

كانَ يترجمُ للعُشّاقِ ويرقصُ مع الجلّادين،

كانَ يبكي أمامَ الله

ليرفع نخبَه عالياً للطاغية.

5.

في شبابي

حزمتُ حقائبي

لأسافرَ إلى بلدِ غوته وشيلر.

لكنَّ المعريّ ذكّرني بعماه وعماي،

وديك الجنّ قرأَ عليَّ سرّاً

مرثيتَه المُرعبة،

والسيّاب أربكني بجوعه وإفلاسه،

فهجاني الحُطيئة،

بعدَ أن نسيتُ أمرَ السّفرِ إلى الأبد،

هجاني كما يقتضي الحال.

6.

عن مرآتِكِ الكبيرة

كتبتُ الكثير

لأنّها علّمتني الكثير.

لكنني أحاول أن أنساها

وأنسى شظاياها المُتناثرةَ هنا وهناك:

في الفراشِ

وفوقَ الطاولة

وفي جوازِ السّفر

وفي كتابِ أعمالي الشّعريّةِ الكاملة.

7.

طاردتني كلابُ الدهرِ طويلاً في الصّحراء،

لكنَّ مشهد القمرِ بازغاً سَحَرني

فوقعتْ قصيدتي فريسةً للمُطاردةِ الوحشيّة

والتأمّل الفضّيّ.

8.

أن تكونَ من دونِ قدمين

ويُطلَبُ منكَ كلّ يوم

أن تمشي على حبلِ السيركِ الشاهق

وتحتكَ النّار والطبول والجمهور:

تلك هي القصيدة.

9.

لا تضعْ لقصائدكَ أرقاماً ولا عناوين

لأنّ حروف قصائدك

مُتشابهة حدّ اللعنة

مثلما قطرات دمِكَ مُتشابهة هي الأخرى

حدّ اللعنة.

10.

أتذكّرُكِ:

كنتِ هنا تمشين،

وأحياناً تكتبين كلماتِ الأغنية

وأحياناً تتعرّين

وأحياناً تحاولين الإصغاءَ إليّ

وأحياناً تنامين بجانبي كقطّةٍ مُتعَبة.

أتذكّرُكِ جيّداً

بأسمائكِ التي لا تنتهي

وبوجوهكِ التي لا حصر لها،

أتذكّركِ حدّ النّسيان.

11.

يحاولُ الشِّعْرُ أن ينقذني ممّا أنا فيه.

أشكرُهُ كثيراً

وأحاولُ أن أصافحه فأمدّ يدي

فأنتبه إلى أنَّ أصابعه

أصابع مُتشرّدٍ

ينامُ في الشّارعِ عارياً،

عارياً تماماً.

12.

الموتُ لا يشبهُ الذئبَ ولا الأفعى،

الموتُ يشبهُ نَفْسه فقط.

ذلك هو بيتُ القصيد.

13.

صور الموتِ التي يعرضُها التلفزيونُ كثيرة:

الموتى في كلِّ مكان،

في الشّوارعِ والمقابرِ والشققِ السكنيّة،

في وفي وفي...

حتّى بدأتُ أشكُّ بأنَّ هذه الصور

هي إعلان تجاريّ لشركةِ عزرائيل الكبرى.

14.

لم يبقَ منكِ شيء

سوى شظايا حلم.

أجمعُها فوقَ سريري كلّ صباح

بلطفٍ شديدٍ

لأنّها عبارة عن رمادٍ خالص.

15.

طوالَ حياتي لم أفعلْ شيئاً

سوى أنني تركتُ جسدي الجريح

ينزفُ وهو يغرقُ في الفرات،

يغرقُ أمامَ عيني

كطائرٍ ميّت.

16.

في زمننا المُعَولَم

توقّف الشَّاعرُ عن الحلم،

فتوقّفت القصيدة

عند إشارة المرور الحمراء طويلاً

حتّى قيلَ إنّها أخذتْ تتسوّلُ من العابرين.

17.

حينَ استلمتُ مجموعتي الجديدة

اكتشفتُ أنَّ الناشرَ قد وضعَ اسمي

كعنوان للقصيدة،

ووضعَ القصيدةَ كعنوان للحرف،

ووضعَ الحرفَ كعنوان للنقطة،

ووضعَ النُّقطةَ كعنوان لي.

18.

كيفَ لي إن أكفكفَ دموعَكِ

وأنا الأخرسُ الذي خُلِقَ من دونِ يدين

ولا قدمين؟

19.

كلُّ حرفٍ هو أبجديّةٌ من الألم.

20.

كلُّ حرفٍ هو أبجديّةٌ من الشّمس.

21.

كلُّ حرفٍ

لا يتبسملُ بمحبّةِ الذي يقول

للشيء كنْ فيكون،

ليسَ بحرف.

هذا ما قاله الشَّاعرُ الذي أقاموا له

تمثالاً كبيراً من الحسدِ والكراهية.

22.

حينَ امتلأَ قلبي بالجمر

فاحتْ رائحةُ القصيدةِ بالشوق.

23.

حينَ أُلقِيتُ على بابكِ مَجنوناً

ضربني العابرون بالحجارة

حتّى سال منّي الدم

ثُمَّ نصبوا لي صليباً مِن الهذيان.

24.

أرادَ صديقي الناقدُ أن يكتبَ عن قصائدي

فاكتشفَ أنَّ الكتابةَ عنها

تشبهُ السيرَ على حبلِ السيركِ الشاهق

فوقَ النّارِ والطبولِ والجمهور.

فارتبكَ

وهو لم يزلْ على بابِ السيرك

وبيده بطاقة الدخول.

25.

كيف تستطيعُ أن تصفَ الغابة

دونَ أن تذكرَ فيها أسماءَ الشجرِ والزهور

ودونَ أن ترسمَ ريشَ الغرابِ والحمامة؟

كيف؟

26.

في الغربة

انتهتْ أحلامي كلّها،

فاضطررتُ إلى أن أرتّقَ أحلامي العتيقة

واحداً واحداً.

وكلّما رتّقتُ حلماً قبّلتُه

كما يقبّلُ العاشقُ معشوقتَه

ثُمَّ ألقيتُه بهدوءٍ في البحر. 

27.

حينَ قرّرَ مُعدُّ الأنطولوجيا

أن يختارَ لي قصيدةً،

اختارَ لي قصيدةً قديمة،

قديمةً جدّاً.

لا أعرفُ لماذا اختارها:

ألِأنّها كانتْ موشومة بدمِ أنكيدو

ودموعِ كلكامش؟

28.

بعدَ خراب البصرة

وخراب بغداد

وخراب روما

وخراب سدني،

جلستُ بهدوءٍ أرتّبُ حياتي.

29.

قالتْ لي القارئةُ العاشقة:

قصائدُكَ ذات صورٍ لا تُنسى

وبحرُها غامضٌ ومُخيف،

لكنّها لا تصلح للحُبّ.

لأنّ قصائدَ الحُبّ

ينبغي أن تكونَ بسيطةً حدّ السذاجة

وعاريةً حدّ الهذيان.

30.

لكثرةِ ما أرى الغربانَ في أحلامي

قرّرتُ أن أصبغَ ليلي

باللونِ الأبيض!

 

 

 

 

أحلمُ أن تكون النُّقطة بحراً

 

1.

أحلمُ أن تكونَ النُّقطةُ بحراً

والحرفُ سفينة

لأبحرَ في البحرِ الذي لا رجعة فيه.

2.

أحلمُ أن تكونَ النُّقطةُ وطناً

والحرفُ سماء

لأعيشَ سعيداً

من دونِ غربان

تنعقُ برأسي أبدَ الدهر.

3.

أحلمُ أن تكونَ النُّقطةُ سلاماً

والحرفُ حمامة

لأستقبلَ الصباحَ بالورود

بدلاً من أخبارِ السّفنِ الغرقى في البحر.

4.

أحلمُ أن تكونَ النُّقطةُ دمعةً

والحرفُ عَيناً

لأبكي مثل يعقوب ليلَ نهار،

لعلَّ الله يكتبُ في قلبي

قصيدةَ يوسف

وقد عادَ بحمامةِ نوح.

 

 

 

 

 

 

 

الآخَر

 

1.

هل كانَ قلبي بيتاً

خلعت الريحُ بابَه

أم كانَ بيتاً

قفزَ اللصوصُ فوقَ حائطه

وهم يحملون السّكاكين

أم كانَ ملجأ أيتامٍ

التهمته النّارُ بسرعةِ البرق

أم كانَ مخزنَ حكاياتٍ خُرافيّة

تكتبُها كلّ يوم

أبجديّةُ الحروفِ المريرة؟

2.

لم أستطعْ، بالطبع،

أن أجيبَ على هذا السّؤال الذي يتسع

كلّ يوم

ويكبرُ في كلِّ ساعة.

كانَ السّؤالُ طويلاً طويلاً،

مَليئاً بالهذيانِ والدخانِ والشظايا

ونقاطِ التفتيشِ والارتباكِ والممنوع.

وكانَ الآخَرُ يطلبُ منّي

أن أقدّمَ الدليلَ تلو الدليل

على صحّةِ ما أقول

أنا الذي لم يكنْ لديَّ، أصلاً، ما أقول!

3.

كنتُ أحاولُ أن أقنعه

بأنني، مثله، بحاجةٍ إلى إجابةٍ مُقنِعَة.

لم يكنْ يصدّق، بالطبعِ، ما أقول.

ولذا كانَ يبتسمُ لي

ابتسامةً صفراء حيناً

أو يهزُّ لي يدَه استهزاء حيناً آخر.

وربّما حينَ أغيبُ عن ناظريه

يسارعُ ليكتبَ شتيمةً مُهذَّبة!

 

 

 

لا ولا ولا

 

1.

لا تقتربْ من النّار

فأنوارها خادعة كجسدِ المرأة.

ولا تذهبْ إلى مدنِ الجسورِ واللذّةِ والبواخر

فالجسورُ مُحدَّبة

واللذّةُ لغمٌ يطفو فوقَ الماء

والقبطانُ لا يكفُّ عن شُربِ الكحول

وشتمِ العابرين ليلَ نهار.

لا تلبسْ،

ولو على سبيلِ المزاح،

جناحَ الطائر

فالفجرُ قتيلٌ على عتبةِ الدار.

ولا تشاهدْ فلمَ الدموعِ والحرمانِ والمرايا السُّود

فقد شاهدتَه ألفَ مَرّةٍ  ومَرّة

ولم تفهمْ منه

أو مِن دموعه الثقالِ شيئاً.

2.

يا مَن أنفقَ العمرَ مُتأمّلاً

في الآفاق

وفي نَفْسه الضائعة،

لا تكلّم البحرَ بعدَ اليوم

فهو لا يحبُّ الحديثَ مع الغرباء،

رغمَ أنّه غريب هو الآخر.

ولا تثقْ بالأسطورة

فهي أكذوبة التاريخ،

ولا بالرواية

فهي مَهووسة بمَن لا أسماء لهم

وهم يتساقطون مِن حائطِ الذاكرة

أو مِن شُبّاكِ الفندق.

لا تثقْ باللوحة

فهي خَرْبَشة ألم

ولا بالتمثال

فهو عابد جَسَد.

وأخيراً

لا تمتدح القصيدة

فهي ستنتهي بعدَ سطرٍ مِن الآن،

دونَ مغزى أو معنى،

وهي تكرّرُ: لا ولا ولا!

 

 

 

 

ليل نهار

 

1.

أظنُّ أنّكِ مَن منحني هذه العين؟

لا

لأنّها تفيضُ بالدمعِ ليلَ نهار.

إذن، فهو الفرات

أو ذلك القارب الذي حملنا وسطَ الفرات

ووسطَ شمسِه اللامعة

وأسماكِه التي تراها العين

وتكادُ تُمْسكها الأصابع؟

2.

أظنُّ أنّكِ مَن منحني هذه الأصابع؟

لا

لأنّها لا تكفُّ عن تذكّرِ جسدِكِ البَضّ

ولا تكفُّ عن الدعاء ليلَ نهار

وأنتِ لا تعرفين الدعاء.

إذن فهو القَدَر

أو تلكَ الليلة التي وجدتُكِ فيها

تبيعين، بثمنٍ بَخْسٍ، أسرارَكِ للسحَرَة

وثيابَكِ للنار؟

3.

أظنُّ أنّكِ مَن منحني هذه النّار؟

لا

لأنّ ناركِ ذات لهبٍ ودخان

وهذه النّار

نار تنكّريّة لا دخانَ فيها ولا لهب،

لكنّها تُهاجمني ليلَ نهار

بإبرةِ العقرب

وطعنةِ السّكّين

وسيفِ الضياع.

4.

أظنُّ أنّكِ مَن منحني هذا الضياع؟

نعم

أنتِ

ولذا صرتُ أكتبُ عبثاً

للنارِ وللسحَرَة،

للقَدَرِ ولشمسِه اللامعة،

للفراتِ ولأسماكِ الفرات

حاءَ الحرمان

وباءَ البُعد

ليلَ نهار.

 

 

تسع وصايا لكتابة القصيدة

 

1.

القصيدة الطويلة مُملّة.

لا تكتبْها

إلّا إذا أردتَ أن تكتبَ عن الرحلةِ كلّها:

رحلة كلكامش مثلاً.

والقصيدة القصيرة تشبهُ عودَ الثقاب

فقرّبْ سيجارتَكَ منها

قبلَ أن تُشعلَ عودَ الثقاب.

2.

القصائد السيّئة كالأصدقاء الحمقى.

حاولْ أن تلغيها مِن الذاكرة

قبلَ أن تُسطّرها على الورقة.

3.

إذا كتبتَ قصيدةً عن المطر

فاحذرْ أن تكتبها

ما لم تكنْ روحُكَ -

قبلَ جسدكَ -

قد تبلّلتْ بالمطر.

4.

لكلِّ قصيدةٍ شمسٌ.

(هل تعرفُ ذلك؟)

ولكلِّ قصيدةٍ منفى.

(هل تُصدّقُ ما أقول؟)

لذا دمدمْ قصيدةَ المنفى

وأنتَ في الوطن.

ودمدمْ قصيدةَ الوطن

وأنتَ في قطارِ الجنّةِ الذاهبِ إلى جَهنّم.

5.

وبمناسبةِ ذكْرِ جَهنّم

فاكتبْ ما استطعتَ عن جَهنّم الأرض

لأنّها اتسعت الآن

وكادتْ تلتصقُ بجَهنّم السّماء.

6.

إذا كنتَ تحبّ البحر

وتريد أن تكتبَ عنه،

فلا تأخذْ صورةً معه

وأنتَ ترتدي الملابسَ الرسميّة

كما يفعل المُغفّلون

بل اذهبْ إليه عارياً

تماماً كهابيل وقابيل.

7.

الشّعراءُ المُؤدلَجون مُضحكون

لأنّهم يكتبون طوالَ العمرِ قصيدةً واحدة،

قصيدة تستعينُ بكلِّ الكناياتِ والاستعارات

لتثبتَ أنَّ الطغاة،

رغمَ كلّ أنهار الدمِ التي فَجّروها،

كانوا مُجرّد حمامات سلام.

8.

إذا كنتَ شاعراً فكنْ عاشقاً

حتّى تكتمل عندكَ قصيدةُ الجنون.

9.

المرآةُ تشبهُ المرأة

لكنَّ المرأة لا تشبهُ المرآة

إلّا إذا قبّلتَها.

هكذا هي القصيدة.

 

 

 

 

 

 

 

 

بعد أن...

 

1.

بعدَ أن ماتَ غرابُ نوح

تركَ لي سِرّاً ريشَه الأسْوَد

وصراخَه المُخيفَ في كيسٍ أسْوَد.

وقال:

لا تعبثْ بالريش

فتسودّ أيامُك

ولا تسمع الصراخ

فتُصاب بالصمم.

لكنّني فتحتُ الكيس

ونثرتُ الريشَ في البحر

فاسودَّ البحر

ثُمَّ نثرتُ الصراخَ في الهواء،

فبكتْ حروفي طويلاً من الألم

ولم تزلْ.

2.

بعدَ أن مشيتُ ألفَ عامٍ على الشاطئ

وجدتُ ذاتَ فجرٍ عجيب

بقايا سفينة نوح.

فدخلتُها بعينين دامعتين

وقلبٍ يرفرفُ كحمامةِ نوح.

صلّيتُ فيها ألفَ عام

وبكيتُ ألفَ عام

ونمتُ على خشبِها العاري العتيق

ألفَ عام

وتأمّلتُ الشّمسَ والقمرَ فيها

ألفَ عام.

لكنّني،

وا أسفاه،

لم ألتقِ أحداً مِن الناجين.

3.

بعدَ أن غرقَ عباس بن فرناس

تركَ لي جناحيه الكبيرين

وأوصاني أن أكملَ المشوار.

لبستُهما،

وبسرعةِ البرقِ، سقطتُ

مثل عباس بن فرناس في البحر.

لكنَّ البحرَ كان بي رحيماً

إذ تركني جُثّةً طافية

على مائه أبد الدهر،

جُثّة سعيدة تنطقُ بأسرارِ الحروف

وتفكُّ مغاليقَ الكلام.

4.

بعدَ أن ماتَ هرمان هيسّه

تركَ لي مخطوطتَه الكبرى: سدهارتا.

فقرأتُها بجنونٍ ليلَ نهار،

وقرأتُها بجنونٍ بلُغاتٍ شتّى

حتّى أدركتُ أنَّ المرأةَ إناءٌ من ذهبٍ

وأنَّ الذهبَ إناءُ المرأة

وأنَّ اللذّةَ إناءٌ من هواء

وأنَّ الهواءَ إناءُ اللذّة.

5.

بعدَ أن رقصتُ طويلاً في شبابي

مع زوربا،

تعبتْ قدماي حدّ الإعياء.

فجلستُ طويلاً على رملِ الشاطئ،

وربّما نمتُ

فرأيتُ حُروباً شتّى

ومراكبَ تغرق

وجُثثاً تطفو

وعواصفَ تترى.

فلمّا أفقتُ

وجدتُ زوربا أكذوبةً جميلة

ورقصتَه وهمي الأعظم.

6.

بعدَ أن ماتَ الفرات

تركَ لي وصيّتَه على الشاطئ،

قالَ فيها:

اذهبْ إلى دجلة

وقلْ لها بما جرى،

فإن حدّثتكَ فهو المُراد.

وإن لم تحدّثكَ

فخذْ حروفَ اسمي الأربعة

واحرقْها واحترقْ بها:

في الفاءِ سترى فوضى لا حدّ لها،

وفي الراءِ سترى رُعباً بحجمِ الجبال،

وفي الألِفِ سترى شاعراً تائهاً،

وفي التاءِ سترى مركباً يغرق.

اركب المركبَ وتعال

فلا جدوى مِن كلِّ هذا المقال.

7.

بعدَ أن ماتَ جلالُ الدين الروميّ

تركَ لي سرّاً وصيّتَه الهائلة،

قال: أيّها الحُروفيّ،

صلِّ صلاةَ الحُبّ،

صلِّ صلاةَ الحاءِ والباء:

في الفجرِ نقطتين،

في الظهرِ نقطتين،

في المغربِ ثلاثَ نقاط.

وفي الليلِ قُمْ فارقصْ

حتّى مطلعِ الفجر

رقصةَ الطائرِ الذبيح.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تعريف

 

1.

حينَ سألتني حبيبتي السّاحرة

عن تعريفٍ للشِعْر،

تعريفٍ حُروفيّ بالطبع،

قلتُ لها:

الشِّعْرُ نون

لكنَّ نقطةَ النُّونِ ليستْ في المُنتصف،

للأسف!

2.

قالتْ: لم أفهم الجواب.

ألا تعرّف الشِّعْرَ لي

بلُغَتي: لُغَةِ السّحَرَة؟

قلتُ لها:

الشِّعْرُ عندَ السّحَرَة

مثلّثٌ غيرُ مُكتمل،

مثلّثٌ بضلعين فقط.

الضلع الثالث الأهمّ

ينبغي خلْقه من الهذيانِ والبُخورِ والهلْوَسَة،

مِن بقايا عظمِ هُدهُدٍ

غابَ عن سُليمان

ولم يعدْ إليه حتّى الآن!

 

 

 

 

إذا

 

1.

إذا كانت النُّقطةُ هي الرصاصة،

فَمَن يكون الحرف:

أهو القنّاص

أم القلب الذي استقرّتْ فيه الرصاصة

إلى الأبد؟

2.

إذا كانت النُّقطةُ هي الأسطورة،

فَمَن يكون الحرف:

أهو كلكامش

أم أنكيدو

أم الأفعى التي سرقتْ عُشبةَ الخلود؟

3.

إذا كانت النُّقطةُ هي الموت،

فَمَن يكون الحرف:

أهو التابوت

أم القبر

أم الميّت الذي أُهيلَ عليه التراب؟

4.

إذا كانت النُّقطةُ هي الحرب:

فَمَن يكون الحرف:

أهو السّيف

أم القُنبلة

أم ذاك المُلثّم القادم مِن بعيد؟

5.

إذا كانت النُّقطةُ هي القاعة

فَمَن يكون الحرف:

أهو المُعلّم

أم المُهرّج

أم الطبّال؟

6.

إذا كانت النُّقطةُ هي الحقيقة

فَمَن يكون الحرف:

أهو حامل الحقيقة

أم ناشر الأكاذيب الذليل؟

7.

إذا كانت النُّقطةُ هي المَحبّة

فَمَن يكون الحرف:

أهو الكره

أم الحقد

أم السّمّ في العسل؟

8.

إذا كانت النُّقطةُ هي حلمي

فَمَن يكون الحرف:

أهو عَبَثي

أم حائط عَبَثي

أعني قصيدتي العارية؟

9.

إذا كانت النُّقطةُ هي طيبتي

فَمَن يكون الحرف:

أهو تردّدي

أم ارتباكي

أم سَذاجتي؟

10.

إذا كانت النُّقطةُ هي القلم السّرّيّ

فَمَن يكون الحرف:

أهو كتاب الموتى الذين يذهبون فلا يرجعون

أم كتاب السَّحَرة الملآن بالضحكِ والتُرَّهات؟

11.

إذا كانت النُّقطةُ هي الفراغ

فَمَن يكون الحرف:

أهو ثقب الفراغ

أم فراغ الثقب؟

12.

إذا كانت النُّقطةُ هي الجريمة

فَمَن يكون الحرف:

أهو القاتل

أم الذهب

أم الدم؟

13.

إذا كانت النُّقطةُ هي الوردة

فَمَن يكون الحرف:

أهو العاشق الذي قبّلها بلطفٍ عميق

أم العابر الذي قَطَفها لاهياً؟

14.

إذا كانت النُّقطةُ هي ليلة العيد

فَمَن يكون الحرف:

أهو حذاء العيد

أم دراهم العيد

أم فجره السّعيد؟

15.

إذا كانت النُّقطةُ هي الملكة

فَمَن يكون الحرف:

أهو المَلِك

أم العرش

أم التاج والصولجان؟

16.

إذا كانت النُّقطةُ هي الزَّلزَلَة

فَمَن يكون الحرف:

أهو المُخلّص

أم المُشَعْوذ

أم الدجّال؟

17.

إذا كانت النُّقطةُ هي العُري

فَمَن يكون الحرف:

أهو التعرّي

أم الفضيحة

أم مقصّ الرقيب؟

18.

إذا كانت النُّقطةُ هي الأرق

فَمَن يكون الحرف:

أهو الهذيان

أم التعب

أم الفجر الذي ضيّعَ العنوان؟

19.

إذا كانت النُّقطةُ هي المرأة

فَمَن يكون الحرف:

أهو الجسد العاري

أم تفّاحاته الأربع

أم المُشاهد المَذهول؟

20.

إذا كانت النُّقطةُ هي أنتِ

فَمَن يكون الحرف:

أهو قلبي الغاطس في دمه

أم رأسي المحمول على الرماح؟

21.

إذا كانت النُّقطةُ هي السّؤال

فَمَن يكون الحرف:

أهو الذي قال:

بلى ولكنْ ليطمئنَّ قلبي،

أم الذي قال:

إن هيَ إلّا فِتنَتُك؟

22.

إذا كانت النُّقطةُ هي زليخة

فَمَن يكون الحرف:

أهو يوسف

أم قميص يوسف

أم البرهان الذي رآه يوسف؟

23.

إذا كانت النُّقطةُ هي النخلة

فَمَن يكون الحرف:

أهو السّلام

أم حلم السّلام

أم المُتكلّم في المهدِ صبيّاً؟

24.

إذا كانت النُّقطةُ هي البحر

فَمَن يكون الحرف:

أهو نوح

أم سفينة نوح

أم غراب نوح وحمامته؟

25.

إذا كانت النُّقطةُ هي التُفّاحة

فَمَن يكون الحرف:

أهو آدم

أم حوّاء

أم الذي وسوسَ لهما

آناءَ الليلِ وأطرافَ النهار؟

26.

إذا كانت النُّقطةُ هي اللعنة

فَمَن يكون الحرف:

أهو الوطن الذي يعدُّ عليكَ أنفاسَك

أم المنفى الذي يعدُّها

ويسجّلُها أوّلاً بأوّل؟

27.

إذا كانت النُّقطةُ هي النُّقطة

فَمَن يكون الحرف:

أهو الباء

أم الجيم

أم النُّون

أم الجنون؟

 

 

 

 

 

الغريق الأبديّ

 

1.

أحياناً أذهبُ إلى البحر

لأكتبَ قصيدتي عَن البحر.

وأحياناً يذهبُ البحرُ إلى نَفْسه

ليكتبَ قصيدتي.

2.

لا البحر يفهمُ حُروفي

ولا أنا أفهمُ أمواجَه.

هو يتظاهرُ بأنّه يفهم كلَّ شيء

وأنا أتظاهرُ بالأكذوبةِ ذاتها.

في آخرِ مَرّة

اقترحتُ عليه

أن يأتي إليَّ ليكتبني.

فَفَعل!

وكانت النتيجةُ كارثةً كُبرى

بكلِّ المقاييس،

كارثة لا يفهمها أحدٌ،

حتّى أنا:

أنا الغريقُ الأبديّ.

 

فجر أعمى

 

1.

طوالَ حياتي

كنتُ أنتظرُ الفجرَ لأهرب.

لكنّني انتظرتُ الهروبَ طويلاً

لأنَّ الفجرَ كانَ يقضي معي

حُكماً بالسجنِ المؤبّد.

2.

كنّا نعيشُ في زنزانةٍ واحدة.

هو يرتدي الملابسَ البِيض

وأنا أتجوّلُ في الزنزانة

عارياً تماماً.

3.

كنتُ أراه

وأتلمّسُ ثيابَه البِيض

مُعجباً بنعومةِ ثيابه البِيض.

في حين كانَ الفجرُ لا يراني

لأنّه، باختصارٍ شديد،

كانَ أعمى.

4.

أعمى

ومحكومٌ عليهِ بالسجنِ المُؤبّد.

يا لهُ مِن فجرٍ رائعٍ وعظيم!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

طائر الحُرّيّة

 

1.

الحُرّيّةُ طائر

ينبغي تعليمه الطيران.

2.

طائرُ الحُرّيّةِ ليسَ كباقي الطيور.

فهو، للأسفِ، كثير النّسيان.

3.

في القفصِ، مثلاً، ينسى نَفْسه.

أي ينسى كيفَ يطير

فيقعُ مَغشيّاً عليه.

4.

قد يبكي فهو رقيقٌ،

وجميلٌ،

وبريء.

5.

قد تأخذُه الأحلامُ إلى دائرةِ الأوهام.

قد ينزفُ طفولتَه المُرّة

قطرةً

قطرة.

6.

قد يقتلُه العطش.

قد يقتلُه الليل.

قد توجعُه القُضبان.

7.

لا يعرفُ كيفَ يستوعبُ الكارثة.

فهو لم يدخلْ مدرسةَ محو الأميّة الخاصّة

بالكوارثِ والزلازلِ والفيضانِ أبداً.

8.

آهٍ عليكَ أيّها الرقيق كنسمةِ صَيف،

الجميل كفجرِ العيد،

العذب كقُبْلة.

9.

ماذا تنفعُ الآه

يا طائرَ الحُرّيّة؟

لا بدّ أن تأخذَ حظَّكَ مِن القُضبان

لتعرفَ معنى حاء الحلم

وحاء الحُبّ

وحاء الحنين

وحاء الحقد

وحاء الحرمان.

لا بدَّ أن تأخذَ حظَّكَ مِن القُضبان

لتعرفَ معنى اسمك.

لا بدَّ أن تأخذَ حظَّكَ مِن القُضبان

لتعرفَ معنى الله.

 

 

حوار مع نجاة الصغيرة

 

لا تغنّي يا نجاة

فعيونُ القلبِ سَهرانةٌ

منذ أن خلقَ اللهُ إنسانَه مِن الطين.

ولا تبثّي بقلبي الحنين،

فقلبي مِن الحجرِ قد صِيغ

لكنَّ هذا الحجر أنَّ

وأنَّ

وأنَّ

حتّى تفجرَّ نهراً مِن الماء

أي نهراً مِن الشِّعْر،

ونهراً مِن الشِّعْر

أي نهراً مِن الشَّوق

ونهراً مِن الشَّوق

أي نهراً مِن الحاءِ والباء.

إذنْ، لا تغنّي يا نجاة

ولا تبثّي بقلبي الأنين،

فعيونُ القلبِ سَهرانةٌ

منذ أن خلقَ اللهُ الحاءَ في مَطلعِ الفجر

ثُمَّ سارعَ فخلقَ الباء

عندَ شروقِ الصباح.

 

حروف مُلوّنة كالشمس

 

 

1. حينَ بدأتَ حياتَكَ بصرخة

******************

في الليلِ ثَمَّة دمعة.

وفي الفجرِ

ثَمَّة نخيل يرقصُ في الريح

وكلاب تعوي.

وفي الظهرِ

ثَمَّة شُبّاك وأطفال يلعبونَ الكرة.

 

2. لماذا لم تخرجْ لتلعبَ معهم؟

********************

في صباكَ حلمتَ أن تكونَ طيّاراً.

لكنَّ القَدَرَ فجأةً

ودونَ سابق إنذار

استبدلَ كلمةَ الطيّارِ بكلمةِ الطائر

ثُمَّ استبدلَ الشبّاكَ الخلفيَّ بالمشهدِ الحقيقيّ

ثُمَّ استبدلَ المرآةَ العاريةَ بالمرأةِ العارية.

 

3.  هكذا بدأت القنابل

*************

هكذا بدأت القنابلُ

تَسَّاقَطُ على رأسِك.

يا لها من حياة!

القنابلُ أعادت المشهدَ مُجَدّداً

فالحربُ تتناسلُ بلذّةٍ واشتهاء.

والطاغيةُ يبتسمُ بأسنان بِيض،

يبتسمُ كالكلبِ في التلفزيون.

 

4. هذي المرّة

*********

هذي المرّة

غيّرت الحربُ وجهتَها

مِن الشّرقِ إلى الجنوب

ثُمَّ مِن الجنوبِ إلى الجنون.

وأنتَ استعنتَ بالحرفِ على الحروب

وبالنُّقطةِ على مشاهدِ الهذيانِ والهَلْوَسَة.

لكنَّ مشهدَ الزجاجِ المتناثر كلّ يومٍ

من الشبّاك

أحرقَ أصابعكَ جميعاً

وملأَ رأسَكَ بالشظايا.

فحاولتَ الطيرانَ من جديد

وأنتَ تفتحُ البابَ الخلفيَّ للمهزلة.

 

5. أنتَ الآن

**********

أنتَ الآنَ طائرٌ حقيقيّ

تكتبُ القصائدَ كلّ ليلة

لجمهورٍ امتلأَ رأسُهُ بالشظايا

فَيُصفّقُ لها

وربّما يرقص معها.

ما مِن هدايا نلتَها

سوى قطراتٍ من دمٍ تنزفُ

مِن عينيكَ كلّ ليلة

فتكتب بها قصيدتَكَ عندَ الفجر

بقلبٍ سعيدٍ

وحروفٍ مُلوّنةٍ كالشمس.

 

 

 

تمثال نجميّ

 

الحرف الذي اخترتُه نجماً مُضيئاً لكِ

ولصقتُه بالسّماء

سقطتْ نقطتُه أمامَ عيني

وتشظّتْ مئات المرّات.

فكانَ عليَّ أن أجمعَ هذه الشظايا

كلّ يومٍ بصبرٍ عجيب

لأصنعَ منها تمثالاً لكِ،

تمثالاً أحبَّهُ الأطفال

دونَ أن يعرفوا السبب.

واتَّخَذه المَنفيّون

دَليلاً لأحلامِ السّنين

وبقايا الحنين.

وأُعجِبَ به المُطَلسِمون

لغموضِه الباذخِ ووضوحِه الغريب.

أمّا العُشّاق

فقد أحبَّوهُ حُبّاً جَمّاً

لأنّهم كانوا يعرفون

أسرارَ لغةِ النجوم.

 

 

مرآة حُروفيّة

 

1.

أن تعيشَ مِن دونِ نقطة

يعني أنّكَ تعيش مِن دونِ حرف.

وأن تعيشَ مِن دونِ حرف

يعني أنّكَ تعيش مِن دونِ مرآة.

2.

يمكنكَ، ببساطةٍ، أن تصنعَ المرآة.

خذْ شَظيّةً كبيرة

مِن زجاجِ نافذتِكَ المُحطَّمة

واغسلْها جيّداً مِن ذكرياتِكَ المريرة.

اغسلْها بالماءِ أو بالدموع.

وضعْ على وجهِها الثاني

قطراتٍ مِن دمِك.

دعها تجفّ تحتَ ضوءِ الشّمس.

وانظر الآن: ماذا ترى؟

قلْ لي بهدوءٍ شديدٍ: ماذا ترى؟

أرجوك لا تصرخْ

لا تستغِثْ

لا تذرف الدموع

لا تُدمدمْ

لا تَسخرْ

لا تضحكْ ولا حتّى تبتسمْ.

فقط، قلْ لي : ماذا ترى؟

وسأقسمُ لك

أنّني سأحتفظُ بسرِّكَ إلى أبدِ الآبدين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بالطبع، لم يكن كابوساً!

 

1.

حينَ فتحتُ النافذة

ونظرتُ إلى الأعلى

وجدتُ السّماءَ في مكانِها.

حمدتُ الله

ورجعتُ إلى النوم.

بالطبعِ، لم يكنْ كابوساً!

2.

المرأةُ التي كانتْ ما بين الأشجار

لعبتْ قليلاً وتعرّتْ كثيراً

ثُمَّ تعرّتْ قليلاً ولعبتْ كثيراً.

كنتُ مُشاهداً مُرتبكاً كالعادة،

كنتُ مُشاهداً ينتظرهُ القتلُ السّرّيّ

أو الموتُ المَجانيّ

أو الزَّلزَلَةُ بمعنى الواقعة

إن شاركَ في اللعبة،

اللعبة التي أُعدّتْ له خصّيصاً

بالطبع.

3.

كيفَ السبيل إليكِ يا نورَ عيني؟

كانَ المطربُ الحزينُ يبكي

بدموعٍ ثقال

قريباً منّي،

مِن نبضةِ قلبي،

وعلى مسافةِ ألفِ عامٍ مِن العبثِ الأسْوَد.

4.

كثرت القصائدُ التي كتبتُها،

كثرتْ وتكاثرتْ

فأحاطتْ بي مِن كلِّ جانب

وكادتْ تسدّ عليَّ الطريق.

5.

جميلٌ أن يكتبَ الشَّاعرُ لنفْسه فقط،

أعني لحرفه فقط،

أعني لنقطته فقط.

جميلٌ أن يكتبَ الشَّاعرُ فقط.

6.

كثيرٌ من الشّعراءِ يجيدُ مهنةَ التسوّل:

بعضُهم يتسوّلُ الدولارات

أو النِّساء

أو الشهرة

أو المجد

أو الهذيان

أو النوم.

أنا، بالطبعِ، من النوعِ الأخير.

7.

كيفَ أنهي قصيدةً

بدأتُها بسؤالٍ عن مكانِ السّماء؟

هذا بالطبعِ مُجرّد سؤال.

ولم يكنْ كابوساً

أبداً!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

هوايات ما بعد الحرب

 

1.

البارحة عُدنا مِن الحرب،

الحرب التي أعلنَها طاغيتنا المهووس

بالقصورِ والخيولِ والسّيوف،

طاغيتنا السّعيدُ العنيد.

عُدنا أكثر سعادةً مِن طاغيتنا:

فهوَ قد انتصرَ في الحربِ سَهواً

وركبَ الحصانَ الأبيضَ سَهواً

ونحن عُدنا نضحكُ بجيوبٍ خاوية

وأصابع مُرتجفة

ووجوهٍ كالحة

وأيامٍ ترقصُ كالجُثث.

2.

في الحربِ التي أشعلها

طاغيتنا السّعيدُ العنيد،

كنّا مُبتهجين حدّ اللعنة

ومسرورين حدّ القَرَف

وفرحين حدّ الجُنون

نرقصُ، كالأطفالِ تحتَ المطر،

تحتَ قنابلِ المدفعيةِ المُدهشة

وصواريخِ الطائراتِ التي كانتْ

تسَّاقَطُ علينا ليلَ نهار

كقطعِ الحلوى.

3.

ولكي نبدّدَ هذا الكمَّ الأسطوريَّ مِن السعادة

فقد تركنا أيدينا وأرجلنا

تجلسُ في الخطوطِ الخلفيّةِ للجبهة

لتحلَّ الفوازيرَ وتطلقَ النكات

وتسمعَ أغنياتِ الغرام

فيما كانتْ رؤوسنا

تراقبُ بهلعٍ نافورةَ الدم.

وعندما لا تستطيعُ أن تسيطرَ على انفعالاتِها

كانتْ رؤوسنا

تتدحرجُ على الخطوطِ الأماميّة

كالكُراتِ الصغيرة.

4.

ولذا، حينَ انتهت الحرب،

ظهرتْ لدينا هواياتٌ جديدة

مثل هواية جمع الرؤوس التي نسيها

أصحابُها

لسببٍ أو لآخر

أو هواية جمع سلاسل أرقام الجنود القتلى.

وصارَ بعضُنا مُزوّراً بارعاً

لجميعِ وثائق الحربِ والدمِ والندم.

مثلما صارَ بعضُنا

يتحدّثُ عن الوطنِ بعشقٍ جُنونيّ

ليلَ نهار

دونَ أن يستطيع

تذكّرَ اسم الوطن!

 

 

 

جراحة أسطوريّة

 

1.

كانَ لي قلبان.

ماتَ أحدهما

لأنَّ كلبَ الدهرِ قد عَضّه مُبكّراً

أو لأنّه سقطَ مِن درجِ الطفولةِ البريء

أو لأنَّ قطارَ الحرمانِ سحقهُ دونَ رحمة.

والثاني كانَ مُتورّماً

بالحزنِ الأسْوَد

والقلقِ الأزرق

والعبثِ الأصفر.

2.

في صالةِ العمليات

نجحَ الأطبّاءُ في إزالةِ الأورامِ وهم يضحكون

مِن غرابةِ الألوان:

أسْوَد، أزرق، أصفر.

وحينَ انتهوا مِن ضحكهم الأبيض،

فرحتُ

لأنني للمرّةِ الأولى

صرتُ أضعُ يدي على صدري،

صرتُ أضعُ يدي

على موضعِ القلبِ في صدري

دونَ أن أبكي.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ما قاله الحرفُ للشاعر

 

قالَ الحرفُ لشاعرهِ:

أعرفُ أنّكَ خلقتَ النُّقطة

كي تنقذني مِن سَأَمي، وحشةِ ساعاتي

ومِن موتي اليوميّ.

وأعرفُ أنّكَ خلقتَ النُّقطة

مِن ضلعي:

مِن طينِ الحُبّ

وعَسَلِ القُبلَة

ووميضِ العَين

ودمعِ الغيمة

ودِفءِ الشّمس

وعُري المرآة

وريشِ الأحلام.

لكنَّ النُّقطة تُقْلِقُني دَوْماً،

ترقصُ لي، تُفرحني حيناً،

لكنْ ما أن تصعد أعلى حلمي

أو تهبط أسفل فجري

حتّى يتغيّر معناي.

وإذ تصبح، بقدرةِ قادر،

أكثرَ مِن نقطة

أصبح حرفاً مُختلفاً جدّاً.

وحينَ تخفي صورتَها السّحريّةَ في الأثناء

أصبحُ غريباً من دونِ طريق

ومُهرّجاً من دونِ قِناع

وطفلاً ضَيّعَ حقيبتَه المدرسيّة.

قالَ الشَّاعر:

أعرفُ ذلكَ يا حرفي، أعرف.

أضافَ الحرف:

النُّقطةُ تُربكني

وتُهَلْوِسني وتُدمدمني.

فإذا تركتْني ضعتُ

كما يضيعُ الخاتمُ في البحر.

وإذا حَضَرَتْ أصبحتُ المسجُون

يجرُّ سلاسلَه وسطَ صُراخِ الحُرّاس

وضحكِ النّاس.

أجابَ الشَّاعرُ وهو يغالبُ دمعتَه:

قَدَركَ النُّقطةُ يا حرفي.

ارسمْها غُصنَ زيتونٍ

فإذا النُّقطةُ أضحتْ

حَمامتكَ البيضاء

أو ارسمْها جمرةَ نار

فإذا هي غُرابكَ ليلَ نهار.

 

ثلاث صور للبحر

 

1.

على صفحةِ البحرِ الهادئةِ حدّ الموت

رسمَ القمرُ صورتَه البيضاء

كاملةَ العُري.

ذهلتُ وأنا أقفُ على الشاطئ

إذ رأيتُ حرفي مَرسوماً على صورةِ القمر

بكاملِ البهجةِ والعُنفوان.

فسارعتُ إلى دخولِ البحر

لأقبّلَ حرفي المُقمر،

لكنني،

وا أسفاه،

غرقتُ في الخطوةِ الأولى.

2.

في اليومِ الثاني،

ذهبتُ إلى البحر

فرأيتُ الشّمسَ بكاملِ أنوثتِها

وهي تسكبُ لونَ حرفي الأحمر

على زرقةِ البحر.

لوّحتُ للشمسِ بيديّ

ثُمَّ صرختُ مُهَلِّلاً بها

ثُمَّ بدأتُ أرقصُ رقصتي الصّوفيّة.

ضحكَ النّاسُ وهم يرتدون المايوهات

مِن تلويحتي وصرختي ورقصتي.

واقتربتْ منّي إحداهنّ،

قالتْ: لمَن تُلوّحُ وتصرخُ وترقص؟

قلتُ لها: للبحرِ، أعني للشمس.

ضحكتْ وقالت:

الشّمسُ لا تفهمُ هذا

بل تفهمُ هذا:

وأخذتْ تنزعُ مايوه السّباحة!

فانحنيتُ للشمسِ

وقد امتزجَ دمُها بالبحرِ تماماً،

انحنيتُ بتحيّةِ الوداعِ ثلاثاً

ثُمَّ التفتُ لأجدَ المرأة

قد تعرّتْ تماماً.

فالتفتُ مرّةً أخرى

وأنا أبحثُ بعينين دامعتين عن الطريق.

هل كانَ طريقُ النجاةِ أم كانَ طريقُ الغريق؟

3.

في اليومِ الثالث،

ذهبتُ إلى البحر.

لم أجد القمر،

لم أجد الشّمس،

ولم أجد المرأة.

بل وجدتُ البحرَ كما هو

دونَ زيادةٍ أو نقصان!

هل كانَ أسْوَد؟

نعم.

هل كانَ أحمر؟

نعم.

هل كانَ أزرق؟

نعم، نعم، نعم.

ثُمَّ التفتُ فوجدتُ البحرَ قد أحاطَ بي

وهو يحاولُ أن ينتزعَ حرفي مِن يديّ،

أعني قصيدتي مِن يديّ

وأنا أجلسُ وحيداً فوقَ سريري الضيّق،

في غرفتي الضيّقة،

أجلسُ مَذهولاً كإلهٍ غريق.

 

 

 

 

 

 

 

المرأة ذات الشّعر الطويل

 

1.

اختفى الحرفُ في الرمال

وربّما في البحر

وربّما في اللامكان.

لكنّهُ تركَ لي نقطةً غريبة،

نقطة تنظرُ إليَّ بعينين مليئتين بالألم.

2.

بعدَ أن أصبحَ مُعلّمي فيلسوفاً للأدباء

وأديباً للفلاسفة

صارَ يطلبُ منّي أن أهيّئ الجواب

قبلَ السّؤال.

ولمّا سألتُه عن السببِ، قال:

ما مِن جوابٍ عندي لأيّ سؤال!

3.

المرأةُ ذات المرآة

طارتْ فوقَ الغيمات.

والمرأةُ ذات السّرير

سقطتْ في المُستنقع.

والمرأةُ ذات النُّون

تاهتْ في الممرّاتِ الطويلة.

والمرأةُ ذات النّار

ضاعتْ في جمرِ الهذيان.

أمّا المرأةُ ذات الشّعرِ الطويل

فقد حملتْني بشعرِها الطويل

حتّى باب الحرف

ثُمَّ ألقتني في بئرِ النّسيان.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ذاكرة سعيدة

 

1.

بعد سبعين عاماً

مِن تسلّقِ جبلِ النفي والمنفى

والوعدِ والوعيد،

مِن تسلّقِ جبلِ الحرمانِ والدخان،

مِن تسلّقِ جبلِ العبثِ الأكبر،

تتدحرجُ جمجمةُ الألِف

أي همزته اليتيمة،

تتدحرجُ على شكلِ كُرةِ الثلج.

وكلّما تدحرجتْ كبرتْ

وامتلأتْ قصائدَ وعذابات،

وامتلأتْ دموعاً مُتحجّرةً بالطبع.

حتّى إذا وصلتْ إلى البحر

استسلمتْ إليه بشجاعةٍ هائلة

واستقرّتْ في قلبه العظيم.

2.

هل تراها؟

إنّها هناكَ وسطَ البحر.

إنّها هناكَ وسطَ الضياعِ والعَدَم.

انظرْ: تلكَ هي جُمجمتي،

تلكَ هي ذاكرتي السّعيدة!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قطرات الدم

 

1.

جالساً كنتُ عندَ الشاطئ وقتَ الفجر

حينَ مرَّ أمامي

ثلاثةٌ مِن حروفي الغرقى.

قالَ الأوّل: مَرحباً أيّها الحروفيّ.

وقالَ الثاني: سلاماً أيّها الغريب.

وابتسمَ الثالثُ لي

وأشارَ بأصابع مُرتبكة

بتحيّةٍ مُرتبكة.

فيما كانتْ قطراتُ الدم

تَسَّاقَطُ مِن قدميه المُتعبتين الحافيتين.

2.

في الظهرِ كتبتُ قصيدةَ: الحروفيّ.

وفي العصرِ أتممتُ كتابَ: الغريب.

وعند الغروب

جمعتُ قطراتِ الدم

قطرةً قطرة

ورسمتُ بهنَّ دائرةً

جلستُ في وسطِها

صامتاً كالحجر.

 

جرعة زائدة من الألم

 

1.

ربعُ أغنية،

نصفُ رقصة،

ثلاثةُ أرباع جسد؛

ذلكَ هو سرّي الذي أضاعَ الطريقَ إلى الأبد.

2.

ربعُ امرأةٍ أو طفل،

نصفُ رجل،

ثلاثةُ أرباع قارب؛

تلكَ أسرةٌ سعيدة

غرقتْ توّاً في بحرِ الظلمات.

3.

ربعُ فرات،

نصفُ إله،

ثلاثةُ أرباع أسطورة؛

تلكَ بابل التي بلبلت التاريخ

وهي تبحثُ عن أبنائها مُثيري القلاقل والفِتَن.

4.

ربعُ عاشقة،

نصفُ مجنون،

ثلاثةُ أرباع سرير؛

تلكَ قصّة حُبّ كاملة

يتداولها زوّارُ مواقعِ الإنترنيتِ بالملايين

على أنّها قصّة آدم وحوّاء.

5.

ربعُ حرف،

نصفُ نقطة،

ثلاثةُ أرباع صرخة؛

تلكَ قصيدةٌ حروفيّة

انتحرَ شاعرُها البارحة

بعد أن تناولَ جُرْعَةً زائدةً مِن الألم.

 

 

خروج على النَّصّ

 

1.

كانوا يحذرونني في كلِّ يوم،

بل في كلِّ ساعة:

لا تخرجْ على النَّصّ!

قلتُ: وأينَ هو النَّصّ حتّى أخرج عليه؟

لم يكنْ هناكَ نَصٌّ على الإطلاق!

وكانتْ تحذيراتهم مُجرّد هَلْوَسَات،

هَلْوَسَات مِن العِيَارِ الثقيل!

2.

قلتُ لنفْسي :

لِمَ لا أكتبُ نَصّاً وأخرجُ عليه؟

3.

كانَ الحرفُ نَصّي الوحيد

وقد خرجتُ عليه فقلتُ: النُّقطة.

ثُمَّ خرجتُ على النُّقطةِ فقلتُ: الحاء

ثُمَّ خرجتُ على الحاءِ فقلتُ: الباء

ثُمَّ أحرقتُ الحاءَ والباء

ونثرتُ رمادهما في دمي.

4.

هذا هو خروجي على النَّصّ،

خروجي العَتِيد.

خروجي الذي أمارسُه في كلِّ يومٍ،

بل في كلِّ ساعة،

كلّما شعرتُ أنَّ السّكّينَ صارتْ

أقرب إلى حبلِ الوريد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الحرفُ يدمدمُ شيئاً

 

1.

قالَ العاشقُ السكران:

أنا مَصْدومٌ، مَخْذولٌ حدّ اللعنة

وأريدُ أن أنتحر الآن.

هل سيكونُ الموتُ غَرَقاً

موتاً سهلاً وسريعاً؟

فأجابَ النّهر:

ادخلْ رأسَكَ في مَوجي

كي تصحو مِن خمرتِكَ السّوداء.

الموتُ سرٌّ أعظم.

ولأنّكَ في مُقتبلِ العمرِ

فلا طاقةَ لكَ

بتحمّلِ سرِّ الموت الآن.

2.

قالت الشَّاعرةُ الشّابّةُ للشاعرِ الكهل:

ستموتُ قريباً

وسأسرقُ قصائدَكَ ورموزَكَ وحروفَك

وسأسرقُ ثيابَكَ أيضاً.

قالَ الشَّاعرُ الكهل:

حروفي لا تُسْرَق.

فالقاصي والداني يعرفُها بِاسمي.

وثيابي ثيابُ عابرِ سبيل

حيكَتْ من صوفِ الحرمان

لا مِن ذهبِ الدنيا أو ذهبِ السلطان.

3.

قال الجسدُ للروح:

سأقتصُّ منكِ،

سأعذّبكِ بنارِ الشهوات

وأنينِ الحسرات.

وستنهارين.

فاللذّةُ أكبرُ في زمنِ العُري الأكبر

والعبثِ الأكبر.

ضحكت الروح

وقالتْ للجسدِ المُتفاخرِ كالطاووس:

أنا أقوى منكَ

فأنتَ تهرمُ في كلِّ يوم

وأنا أتجدّدُ أبداً كالضوء.

4.

قالت النُّقطةُ للحرف:

تعبتُ من هذي الرحلة حدّ الإعياء.

كنتُ أريدُ الموتَ لأنجو

لكنّي لم أنل الموتَ كما خطّطتُ لنفْسي.

وكنتُ أريدُ المجدَ سريعاً

فأنكرني شِعْري عندَ صياح الديك.

وكنتُ أريدُ أن أقهركِ أيّتها الروح

لكنَّ ملاككِ كانَ صغيراً وضئيلاً وقويّاً

أقوى مِن شيطاني.

لم يجب الحرفُ كما فعلَ النّهر

أو الشَّاعرُ الكهل

أو الروح

بل دمدمَ شيئاً في سرّه،

شيئاً يشبه: الكلُّ فناء

أو الكلُّ هباء!

 

 

 

 

تبادل أدوار

 

1.

وقت الفجر

تطلُّ غرفتي على البحر،

تطلُّ على شمسٍ إلهيّةٍ وأمواجٍ زرق.

لكنْ حينَ تقولُ الشّمسُ وداعاً

يتبدّلُ الحالُ تماماً،

إذ يهبطُ البحرُ إلى غرفتي

ويدفعني بهدوء غريب

لأقفَ في مكانِه البعيد،

ويبدأ بالضحكِ منّي.

أحاولُ أن أضحكَ مثله فلا أستطيع.

وبسرعةِ البرق

تتحوّلُ قهقهاتي المُزيَّفة

إلى دموعٍ سُود.

2.

تحوّل العشُّ إلى بيضة

وتحوّلت البيضةُ إلى جناحين

وتحوّل الجناحان إلى طائر

وتحوّل الطائرُ إلى نقطة

وتحوّلت النُّقطةُ إلى حرف

وتحوّل الحرفُ إلى قصيدة.

والقصيدةُ كتبتني في دفترِها السّرّيّ

بيضةً للمحبّة

وجناحين للغربة

وطائراً للحلم

ونقطةً للألم

وحرفاً للعَدَمِ السّعيد.

3.

الآنَ وقد تمَّ تبادل الأدوارِ بنجاحٍ ساحق

ينبغي أن أقولَ شكراً لكلِّ شيء،

وبخاصّةٍ للبحرِ الذي يضحكُ منيّ

كلّ ليلة

وللقصيدةِ السّعيدةِ بدموعِها السُّود.

 

 

 

 

 

 

 

 

القصيدة لم تنتهِ بعد

 

1.

حينَ زلزلت الأرضُ زلزالَها

وابيضَّ قلبي مِن الرعب

وتناثرتْ قطراتُ دمِه

على بوّابةِ الموتِ الحديديّة،

سارعتُ مَذهولاً

لأكتبَ بهذه القطرات

قصيدتي الحُروفيّة.

2.

في بيتِ السَّاحر

كانتْ عظامُ الموتى تصرخُ مِن الجوع.

فيما كانَ العظمُ الكبيرُ يقرأُ

قصيدةَ الكراهية.

هل كانَ عظم جلّادٍ

أم شاعر زنديق؟

3.

كانَ حلمُ البارحةِ مُثيراً جدّاً:

بدأَ بمشهدِ الموتى وهم يقفزون

مِن نافذةِ القطار

وانتهى بمشهدِ اللصوص

وهم يهشّمون تمثالَ كلكامش الكبير.

3.

القصيدةُ لم تنتهِ بعد:

فالعظمُ الكبيرُ لم يزلْ

يقرأ قصيدةَ الكراهية.

والموتى أعادوا فرحين

مشهدَ القفزِ مِن النافذة

أكثرَ مِن مَرّة.

واللصوصُ انتقلوا

ليهشّموا تمثالَ أنكيدو.

فيما ملأتْ قطراتُ دمي

بنجاحٍ منقطعِ النظير

ورقةَ قصيدتي الحُروفيّة.

 

 

 

 

أرجوك لا تفتح الباب

 

1.

الوردةُ الحمراءُ ما بين ثديي الفتاة العارية.

السّيفُ العتيقُ مُعلّقٌ بسماءِ الغرفة.

الثلّاجةُ الكبيرةُ التي جمّدَ فيها المنفيّ

قلبَه وكبدَه وعينيه.

البابُ الملآنُ بالعناكبِ الصغيرة،

والشبّاكُ الملآنُ بالتُراب.

وسطَ هذا الخراب

كانَ هناك حرفٌ ينتفضُ مَذبوحاً

كالطائرِ تماماً.

2.

في الليلِ وفي النهار

تتحرّكُ الوردةُ الحمراء

ما بين ثديي الفتاةِ كالطائرِ تماماً

جيئةً وذهاباً.

يومضُ أو يتمايلُ السّيفُ المُعلّق

ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمال.

وتنفتحُ الثلّاجةُ الكبيرة

فتظهرُ الأعضاءُ المُجمّدة:

القلب،

الكبد،

العينان.

3.

أرجوكَ لا تفتح الباب

ولا تنظرْ عبرَ الشبّاكِ الملآن بالتُراب.

 

 

قلب الطفل ويقين الطائر

 

1.

مُنبهراً كنتُ ومَدْهوشاً

بما كتبَ صديقي الشَّاعر

عن نبي الطوفان.

لكنّي صُعِقتُ

بل زُلزِلتُ

حينَ عرفتُ بأنَّ صديقي الشَّاعر

قد سرقَ العنوان

ونبضَ الحرفِ الهائم

من كتابِ الصّوفيّ جلال الدين.

2.

في جوفِ الليل

وفي الجهةِ الأخرى من العالم،

طرقتُ بابَ الصّوفيّ جلال الدين،

قلتُ له:

إنَّ صديقي الشَّاعر

قد سرقَ منكَ العنوان

ونبضَ الحرفِ الهائم.

فربّتَ على كتفي وقال:

لو أنّه

عرفَ كيفَ يصل إلى قلبِه،

أعني إلى قلبِ الله،

لما اضطَرَّ إلى سرقةِ العنوان

ولكانَ مِن الناجين

معَ نبي الطوفان.

قلتُ: يا هذا العارف بالله

أوَ كانَ صديقي مُضطَرّاً؟

قال: نعم!

إذ كيفَ له أن يتكلّم

عن نبي الطوفان

وهو الذي لم يطرقْ أبداً بابَ الله

بقلبِ الطفلِ ويقينِ الطائر؟

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

إيلان في الجنَّة

 

البارحة

كنتُ في الجنَّة

ورأيتُكَ تمشي ضاحكاً يا إيلان

مُرتدياً حذاءَكَ الذي غرقتَ وأنتَ ترتديه.

فرحتُ حينَ علمتُ أنَّ الملائكة

قد احترموا رغبتَكَ الهائلة

بأنَّ تلبس حذاءكَ القديم

ولا تستبدله بحذاءٍ من اللؤلؤِ والياقوت

قد أحضروه لك.

وأزددتُ فرحاً

حينَ علمتُ أنَّ الرحمن

سمّى جَنّةَ الأطفالِ الغرقى والقتلى والأيتام

بِاسمِك،

بِاسمِ طفولتِك البريئة التي بكاها العالَم

مِن أقصى العالَمِ حتّى أقصاه.

 

 

 

 

 

تناص مع النُّون

 

لا تسألوا عن النُّونِ أو نقطةِ النُّون

فقد باحتْ قصيدتي الحروفيّةُ التي هي كلّ حياتي

بكلِّ حياتي،

قالت : النُّونُ سرٌّ عظيم

قَسَمَ به خالقُ الكافِ والنُّون

فكانَ فرحاً لمَنْ لا يفارقُ الدمعُ عينيه،

وكانَ وطناً لمَنْ لبسَ الريشَ ذاتَ فجر

وطارَ فوقَ البحر.

طارَ عالياً

عالياً

عالياً

حتّى كانَ قابَ قوسين أو أدنى

من غيمةِ الذين يذهبون فلا يرجعون.

 

 

 

 

 

 

 

حرفُ الطاغية

 

حرفُ الطاغيةِ حرفٌ مَلعون،

حرفٌ لم تستطعْ موسيقى بيتهوفن ولا موزارت

ولا روايات فيكتور هوجو

ولا مَلاحم تولستوي ودستويفسكي

ولا مَحبّة طاغور

ولا دواوين غوته

ولا أناشيد شيلر

ولا أفلام شابلن

ولا قصائد لوركا

ولا مُذكّرات كازنتزاكي

ولا غزليّات الشّريف الرضيّ

ولا دموع الحلّاج

ولا مواقف النفّريّ

مِن تخفيفِ نقطتِه الأنويّة

وجنونِها المُستترِ المَفضوح.

فهو يعربدُ الآن،

بطلاقةٍ مُدهشةٍ مُذهِلةٍ كونيّة،

بأربعين لغة

وخمسين قناةً تلفزيونيّة

وستّين شاشةً إنترنيتيّة

وسبعين نوعاً مِن الأكاذيب والتُرَّهات!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

صُراخ

 

1.

حينَ طلبتِ مِنّي الطيران،

قلتُ لكِ: أنا لستُ بطائر.

ليسَ لديَّ ريش.

لا أملكُ جناحين.

لا أعرفُ الطيران.

لا أستطيعُ أن أرى في الليل.

ليسَ مِن هواء هنا كي أطير.

2.

لم تعجبكِ كلُّ هذه الأجوبة بالطبع.

وكانَ مَشهداً سحريّاً

حينَ أطلقتِ عَليَّ النّار

بقلبٍ مذهول

وعينين باكيتين

وصوتٍ مَبحوح.

لكنّي،

لحسنِ الحظِّ أو لسوء الحظّ،

لم أمتْ

بل بقيتُ حيّاً

لأرى الشّرطيَّ

والصحفيَّ

والناقدَ

والجَرّاحَ

والسَّاحرَ

والمجنون

يتجمهرون حَولَ جُثّتي

ليتَعرّفوا عليها.

3.

كانَ مشهداً مُضحكاً جدّاً

ومُبكياً جدّاً

لأنّهم كلّهم لم يتعرّفوا عليّ

حتّى أنتِ!

وكنتُ أمامَهم أصرخُ بِاسمي،

أصرخُ بصوتٍ مُدوٍّ ليلَ نهار.

لكنْ يبدو أنَّ صُراخَ الموتى

لا يمكنُ سماعه مِن قبلِ الأحياء

أو مِن قبلِ مَن يمكن

تسميتهم بالأحياء.

 

 

 

 

صورة مَن؟

 

مِن أينَ لكَ

بكلَّ هذه القصائد التي تنزلُ كالمطر،

بحنينِ المطر

واشتياقِ المطر

وغموضِ المطر؟

- قالَ لي الشَّاعرُ-

هكذا يسألُ النّاسُ دوماً.

فتعالَ معي لأريكَ سرّي الجميل.

فأنزلني إلى سردابِ السّنين

ثُمَّ فتحَ باباً عَتيقاً

ثُمَّ فتحَ دُرْجاً عَتيقاً

ثُمَّ أخرجَ كتاباً عَتيقاً،

كتاباً مُلِئتْ سطوره بحروفِ العُشّاق،

وحروفِ القتلى والغرقى والمنفيين

وحروفِ الزاهدين والمحرومين.

وفي آخر الكتاب

رأيتُ صورةً مُغطّاةً

بالتُرابِ والعشبِ والدم،

صورةً يَنِزُّ منها الدم.

صرختُ: صورة مَنْ؟

لم يجب الشَّاعر

- رغمَ أنّي كرّرتُ السّؤالَ ثلاثاً -

بل قالَ بما يُشبهُ التمتمة:

هذا هو السّرّ!

ثُمَّ حملَ كتابَه العتيق

ولم يرجعه إلى الدُّرْج

بل أدخله إلى موضعِ القلب.

ومضى مثلما الحلم

دونَ أن يقولَ وداعاً.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اتصال هاتفيّ

 

1.

حينَ اتصلتِ بي البارحة

تبادلنا نصفَ قرنٍ من الألم.

أنا أعطيتُكِ الكلماتِ الشّاحبة

وأنتِ أعطيتِني الدموعَ المُستعارة.

2.

كانتْ كلماتي الشّاحبة

تبحثُ عنكِ

أنتِ يا مَن رسمتْكِ ذاكرتي

سريراً طائراً في سماءِ الغياب.

مثلما كانتْ دموعُكِ المُستعارة

تبحثُ عنّي

يا مَن رسمتني ذاكرتُكِ

سكّيناً لامعاً في الظلام.

3.

انتهى الاتصال

بعدَ دقيقةٍ أو دقيقتين مِن الدمْدَمة.

انتهى وقد اختفتْ كلماتي الشّاحبة

فوقَ سريرِكِ الطائر

دونَ أن تتركَ أيَّ حرفٍ حيّ.

مثلما اختفتْ دموعُكِ المُستعارة

فوقَ سكّيني اللامع

دونَ أن تتركَ أيَّ معنى يُذكر.

 

 

 

 

حروف وأبناء

 

حينَ ماتَ مختارُ القريّة

خلّفَ ولدين جميلين.

الأوّلُ سين

ممتلئاً كانَ بحروفِ الخير،

زرعَ بُستاناً للفقراءِ وثلاثةَ أبناء.

أضافَ الابْنُ الأوّلُ للبستانِ نهراً،

وأضافَ الثاني بيتاً للغُرباء،

والثالثُ أغنيةً وقصائد.

هذا عن سين،

ماذا عن صاد؟

ممتلئاً كانَ بحروفِ الحقد،

زرعَ مأدبةً للحربِ وثلاثةَ أبناء.

كانَ الابْنُ الأوّلُ مجنوناً كغُرابٍ ملعون،

والثاني مخموراً ليلَ نهار،

والثالثُ يصرخُ ألماً في رأسه

حينَ يقرأُ حرفَ الحاءِ أو الباء.

 

 

 

 

حين وضعتُ البحرَ في قلبي

 

حينَ وضعتُ البحرَ في قصيدتي،

بكتْ قصيدتي

لأنَّ البحرَ لا يكفُّ عن الصخبِ

والتعرّي والهذيان.

وحينَ وضعتُه في حقيبتي،

بكتْ حقيبتي

لأنّه كُتِبَ عليَّ الرحيل:

رحلة الليلِ ورحلة النهار،

رحلة المجنونِ ورحلة الفيلسوف،

رحلة المنفيّ ورحلة المَلْهوف،

رحلة كلكامش ورحلة أنكيدو،

رحلة الحرفِ ورحلة النُّقطة.

لكنْ،

حينَ وضعتُ البحرَ في قلبي،

ارتبكَ قلبي

لأنَّه كُتِبَ عليَّ الرحيل إلى الجنَّة

بسفينةِ الغرقى والمفقودين.

 

 

 

 

لون لا حرف له

 

يتغيّرُ النّاسُ باستمرار.

أغلبهم، بمرورِ السّنين،

يختارُ الأسْوَدَ أو الأزرقَ أو الرمادي.

السّعداءُ منهم يختارون،

بعدَ أن يشبعوا من كأسِ الغربةِ والألم،

اللونَ الأبيض.

والأولياء،

بعدَ أن يتعبوا من قطعِ صحراءِ الزهْدِ الكبرى

جيئةً وذهاباً،

يختارون الأخضر.

أمّا الأنبياء

فإنّهم بعدَ أن يشبعوا

مِن النّارِ والرجمِ والصلبِ والتيه،

يختارون لونَ الحقيقة.

ذلك اللون الذي لن يعرفهُ أحد

ولن يسمع به - سواهم - أحد.

 

 

 

نهايات

1.

قالت النُّقطة:

الموعدُ، الدَّرَجُ، القُبْلَة،

الثدي، النّارُ، العشق،

المحكمةُ، الأغنيةُ، الموت

الدمعُ، الجفنُ، الحاكم.

قالَ الحرف:

المفاجأةُ، السّريرُ، الثدي،

القُبْلَةُ، الشفةُ، اللسان،

الحلمُ، الفرحُ، الرضاب

الليلُ، الموتُ، الخديعة.

2.

افترقَ الحرفُ عن النُّقطة

في ليلٍ أسْوَد كالسكّين.

3.

وجدت النُّقطةُ حُروفاً كثيرة.

رسمتْ معها بنجاحٍ أسطوريّ

مواعيد وقصائد حبٍّ لا تُحصى.

أما الحرفُ فارتبكَ كثيراً.

لم يستطعْ نسيانَ القُبْلَةِ الأولى،

أي النُّقطة الأولى.

وهكذا ضاعتْ أربعون عاماً

هباءً منثوراً.

4.

ثُمَّ ثُمَّ ثُمَّ

نسيت النُّقطةُ اسمَ الحرفِ تماماً.

أما الحرفُ فلم ينسَ النُّقطةَ أبداً.

5.

النهاياتُ لا تعني شيئاً

حلوة كانتْ أو مُرّة،

أعني: نهايات الحرفِ أو النُّقطة!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

هُراء

 

1.

للتمتّعِ بأجسادِ النُّونات

القصيراتِ والطويلات،

العارياتِ والكاسيات،

ينبغي للألِفِ أن يكتبَ قصيدةً

عن نقطةِ السّحرِ السّوداء،

قصيدة لا ينبغي لأحدٍ

أن يفهمها سواه.

2.

لكنَّ الألِف

بقي ساهماً جالساً في هدوء عجيب

مثل بوذا

سبعين عاماً

دونَ أن يكتبَ مثل هذي القصيدة.

3.

لماذا لم يكتب الألِفُ هذي القصيدة

وهو العارفُ بكلِّ شيء،

الراغبُ حدّ الجنون بكلِّ شيء؟

ألأنّه لم يحرق السّرَّ مثلما ينبغي؟

(هُراء،

فلقد أحرقَ السّرَّ منذ الصبا

وصارَ رماداً تذروهُ الرياح).

ألأنّه لم يرَ الهدهد؟

(هُراء،

فلقد رآهُ مِراراً

بل كانَ الهدهدُ معه

في كلِّ حين وآن).

ألأنّه لا يملكُ عظامَ قبرٍ مَهجور؟

(هُراء،

فقد كانَ ينطقُ بسرِّ العظام

عظماً فعظماً).

4.

إذن، لماذا؟

5.

سؤالٌ أربكَ الألِفَ طوالَ العمر

وعذّبه

وشتّته

ومزّقه

وأبكاه.

بل دروَشَه

وهَلْوَسَه

وجنّنه.

وما مِن جوابٍ سوى كلمة واحدة:

هُراء!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

البحث عن نقطة الصفر

 

حينَ مشيتُ في الغابة

اخترتُ الشّرقَ، دونَ قصدٍ، وجهةً لي

فالتقيتُ بشبابٍ حالمين

يثرثرون كثيراً بكلماتٍ جُوف

ويرسمون للناس

ثياباً من ريشِ الطيور.

فاتجهتُ غرباً

فوجدتُ رجالاً ونساء يدخّنون بشراهة

ويشربون الكحولَ حدّ الثمالة.

يشتمون كلَّ شيء يرونه في الطريق

ويفحصون باستمرارٍ مدافعهم وبنادقهم.

ثُمَّ اتجهتُ شمالاً

فوجدتُ أُنَاساً يرتدون السراويل الفضفاضة

ظننتُهم،

ولم أكنْ مُخطئاً،

قنّاصي فُرَصٍ ورؤوس.

فرجعتُ إلى الجنوب

فالتقيتُ بجمعٍ مِن الطيّبين حدّ السذاجة

لكنّهم لا يعرفون أيَّ لغةٍ كانتْ

سوى لغة الإشارة.

هنا آثرتُ أن أرجعَ إلى نقطةِ الصفر.

قلتُ بهذا إلى صاحبي

 -وهو عليم بقَصِّ الأَثَرِ كما يدّعي -

فضحكَ منّي

وقال: الصفرُ أكذوبةُ الشّرقِ والغرب

والشّمالِ والجنوب.

واستمرَّ يضحكُ مِن حيرتي

حتّى اختفى.

قلتُ لنفْسي: ما العمل؟

إلى أينَ المسير يا نورَ عيني

والصفرُ لا وجود له في الخارطة؟

 

 

 

 

 

تسلية

 

1.

قصيدتي تصرخُ كلّ صباح:

النُّقطةُ امرأةٌ غريبةُ الأطوار

والحرفُ مُمثلٌ مَسكين

يريدُ أن يمثّلَ دورَ الشَّاعر

على خشبةِ المسرحِ الكبير.

لكنَّ الجمهور اللاهي حدّ اللعنة

لا يسمحُ له إلّا بدورِ المُهرّجِ السّعيد

أو العاشقِ الولهان.

2.

لذا قرّرَ الحرفُ

أن يمثّلَ دورَ الشَّاعرِ وراءَ الكواليس

على الأقل.

على الأقل من أجلِ التسلية،

التسلية التي استمرتْ حياةً بأكملها!

 

 

 

 

 

 

حين غلبتْ نقطتي حرفي

 

سألني الغرباءُ ذات حياة:

ما تقولُ في نَفْسك؟

قلتُ لهم: لقد غلبتْ نقطتي حرفي.

فبكى مَن بكى

ودمدمَ مَن دمدم

وادّعى مَن ادّعى

وضحكَ مَن ضحك

وذهل مَن ذهل

وارتبكَ مَن ارتبك.

وماتَ مَن مات.

 

 

 

  

 

تحيّة

 

بعد أربعين عاماً مِن النفيّ المُنظّم،

ستختارُ دمعتي أن تردَّ على تحيّتِكِ

في شارعٍ مِن تُراب.

نعم،

فقد ضاعَ في حياةٍ اسمها العاصفة

ما تبقّى مِن قميصِك،

ومِن حرفِك،

ومِن نقطتِك.

سرقتْ جمرةُ الدهرِ كلَّ شيء لديّ،

وأنا مِن جمرةٍ جئتُ

وإلى جمرةٍ سأعود.

تحيّتك

إذ حاصرها الشّوقُ

صارتْ بقيّةَ روحِك،

خرجتْ إليّ

وكانتْ من الطيبِ والشّمسِ والقمر،

وكانتْ بقيّةُ نقطتِك.

سرقوها؟

نعم! سرقوها!

وكيفَ لي أن أعرف

وأنا الحرفُ الذي ترتيبُه الصفر،

وعنوانُه الصفر،

ونبضتُه بعدَ كلّ هذا السيرك المُنظّم

هو الصفر؟

كيفَ لي أن أعرف

وأنا الذي مضغة قلبه من الطيبِ صِيغَتْ

وبالشمسِ أضاءتْ

وبالقمرِ البعيدِ حلمتْ،

كيفَ لي؟

سرقوا نقطتَك؟

نعم!

وحتّى حينَ ستغيّرين اسمَك

فسيسرقكِ أصحابُ البئرِ من جديد.

فلا تحزني كثيراً

لأنَّ الموتَ صديقي الوحيد،

صديقي الذي لا يكفُّ

عن إرسالِ أزهاره السُّود لي كلّ يوم،

هو مَن سيلقاني بوجهٍ مِن وجومٍ خفيف

حينَ أخرجُ إلى شارعٍ مِن تُراب

لأردَّ على تحيّتِكِ التي هي مِن تُراب،

لأردَّ على تحيّتِكِ في المنفى المُنظّم.

وسألقاه حتماً

ولنْ أتذمّر منه

ولن أشتكي منه.

سأقولُ له في هدوء ولطف:

لا بأسَ أيّها الموت،

ربّما كانتْ تحيّتكَ لي مِن سلام

بعد أربعين عاماً مِن جحيمٍ مُنظّم!

 

 

 

 

تشبّث

 

إنّها ليستْ مِرآتي

ولكنّي بالخطأ

أو بما يُشبهُ الخطأ

رأيتُ وجهي فيها.

إنّها ليستْ قصيدتي

ولكنَّ حرفي كتبَها

أو دَمدَمَها على الأدقّ،

وأنا أرتّبُ على عَجَلٍ حقيبتي

لأهربَ إلى سقفٍ آخر

لا ينهارُ على رأسي

أو إلى زمنٍ آخر

لا يُلقي بي

أو بما تبقّى مِن جسدي

إلى الشّارع.

إنّها ليستْ حياتي،

لكنْ حدثَ أن مُتُّ،

متُّ منذ زمنٍ طويل،

فلمّا أفقتُ وجدتُ روحي

قد تشبّثتْ بهذه الحياة الغريبة

كما يتشبّث المَشنوق

بحبلِ المشنقة!

 

 

 

أين أنتَ أيّها الحرف؟

 

1.

سأتعلّقُ بالحرف،

أيّ حرفٍ كان.

فقط لأخفي ارتباكي،

فقط لأكفكفَ دمعي،

فقط لأقضي ساعاتِ يومي بهدوء

دونَ أن أسقطَ من النافذةِ إلى البحر.

2.

احتجَّ شاعرٌ ما على الحرف.

قال: ما لكَ والحرف؟

فأريته قلبي مَرميّاً على قارعةِ الطريق.

بكى واستدار

ونسي أن يقولَ: وداعاً.

3.

الطبولُ كثيرة.

فَعَلى أيّ طبلٍ سترقص؟

على طبلِ الملائكة

أم على طبولِ الشّياطين؟

أم على طبلِ الملائكةِ نهاراً

وعلى طبولِ الشّياطين ليلاً؟

4.

ما أنتِ إلّا كارثة

أخطأ اللغويّون فسمّوها: المرأة،

وأخطأ الشّعراءُ فسمّوها: المرآة،

وأخطأ الحُروفيّون فسمّوها: النُّقطة!

5.

لا طاغور نفعني ولا إليوت،

لا ديك الجنّ ولا المعريّ،

لا الشّريف الرضيّ ولا المُتنبيّ،

لا السيّاب ولا البريكان.

كلّهم خرجوا مِن الحفلة،

مِن بابِها الخلفيّ،

وهم يَجُرّون خيباتِهم الثقيلة.

6.

علامَ، إذنْ، تتمسّك بالشِعْر:

هل ستخلقُ حرفاً جديداً

أم ستضيفُ هذياناً جديداً إلى السابقين؟

7.

الطبولُ كثيرة

والدموعُ كثيرة

والخيبةُ تتكرّرُ كلّ يومٍ بنجاحٍ عظيم.

8.

أينَ أنتَ، إذن، أيّها الحرف

تعال وأنقذْني مِن دوّي الطبول!

 

 

 

 

 

حرف من ماء

 

قصيدة حُبّ طويلة

 

 

منشورات ضفاف، بيروت، لبنان، ط 1، 2017

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

(وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا)

سورة الكهف. الآية 68

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ذات اليمين وذات الشمال

 

 

لكثرةِ ما أحلمُ بلقائكِ

ليلَ نهار،

نبتَ لي جناحان من ريشِ الرغبة

ونقاطِ الحروف.

*

لكثرةِ ما أفكّرُ بكِ

صارَ الحرفُ يغارُ منكِ

ويتّهمني بنسيانه

ونسيانِ نقطته الوحيدة.

*

لم أتركْ شيئاً عنكِ

إلّا كتبتُ عنه قصيدةً أو أغنيةً أو صرخة.

كتبتُ عن سريركِ الأبيضِ والأسْوَد،

وأغنياتكِ السّاذجة،

ودموعكِ التي امتزجتْ بالكحل،

ومواعيدكِ التي كانَ الحلم

يتعلّمُ منها فنونَ القُبْلَةِ كلّ ليلة،

وأزمنتكِ التي ذابتْ في الماضي والمستقبل

كما يذوبُ النّهرُ في البحر،

واشعلت النّارَ في مطلعِ القصيدة

حتّى تحوّلَ إلى رماد.

*

أتصوّركِ، مَرّةً، غيمةً، تاهتْ

فعبرت البحرَ معي

لكنّها تلاشتْ في ذاكرتي السِّحْريّة

أو ربّما أتصوّركِ لعنةً

كانتْ لي هدية الشِّعْرِ الوحيدة.

*

لكثرةِ ما كتبتُ عنكِ

بالأبيضِ الثلجيّ

والأحمرِ النّاريّ

والأزرقِ الخفيفِ أو المُوَسوِس

والأسْوَدِ الغُرابيّ

والأصفرِ الملآن بالآهاتِ والقُبُلات

والرماديّ الذي لا يكفُّ عن ملاحقةِ حروفي

ومحاصرةِ عناوين قصائدي،

ارتبكَ القُرّاء

وصاروا يقرأون قصيدتي

ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمال.

*

عجيبٌ أمر هذي القصيدة

تتحدّثُ عن قصّةِ حُبّ

تبخّرتْ أو احترقتْ أو ذابتْ قبلَ نصفِ قرن.

كيفَ ستطرقُ هذه القصيدةُ الباب؟

وكيفَ ستنظرُ من الشبّاك؟

وكيفَ ستقولُ الذي عجزَ نصفُ قرنٍ عن قوله

دونَ أن تتبخّرَ أو تحترقَ أو تذوبَ مَرّةً أخرى؟

هل سترسمُ حرفَها غيمةً

أو طائرةً تسقطُ في مثلثِ الرعب

أو جبلَ ثلجٍ يذوبُ دونَ سابق إنذار؟

*

الحُبُّ نافذةٌ

لا يمكنُ أن ترى أيَّ شيء

خلفَ زجاجِها المُظلم.

هذا ما ما قالهُ

غرابُ طوفانِ نوح.

لكنَّ الحمامةَ قالت:

الحُبُّ غصنُ زيتون

ودمعةُ أملٍ للناجين من الهَول.

*

الحُبُّ أكذوبةٌ جميلة،

يتعلّمُ منها الكونُ سرَّه الوحيد.

هذا ما قالتهُ الحاء.

لكنّ الباء قالتْ:

أنا سرُّ الحاء

ولوعتها الكبرى

وبي يكتملُ لحن الوجودِ المُظلمِ المُضيء.

*

الحُبُّ ومضةُ القلب

من دونها لا ترقصُ الروح

ولا يشرقُ الفجر.

هذا ما قالهُ الصّوفيّ .

*

وقالَ الحروفيّ: الحُبُّ أبجديّة

مِن دونها ليسَ هنالك شمال أو جنوب

وليسَ هنالك شرق أو غرب

وليستْ هنالك أيّام أو سنوات

وليسَ هنالك مطر أو زلزلة أو طوفان.

*

لكنّ الشَّاعِر قال: الحُبُّ ماء

مَن لم يذقه لا يعرف القُبْلَة

ومَن لا يعرف القُبْلَةَ لا يعرف المرأة

ومَن لا يعرف المرأةَ لا يعرف المرآة

ومن لا يعرف المرآةَ لا يعرف الشِّعْر

ومن لا يعرف الشِّعْرَ لا يعرف الشَّوق

ومن لا يعرف الشَّوقَ لا يعرف الماء.

ثُمَّ بكى الشَّاعِرُ وقال:

كلّ شيء ما عدا الحُبّ فناء.

 

 

 

 

يا حرفي

 

 

يا حرفي

لا تتأمّلْ طويلاً في البحر.

كنْ أنتَ البحر.

*

كلُّ نقطةٍ هي حرف،

وكلُّ حرفٍ هو قصيدة،

وكلُّ قصيدةٍ هي وطن.

*

رسمتُ روحي طائرةً ورقيّة

لكنّ الحروب والزلازل والكوارث

سرقت الطائرةَ الورقيّة

ولم تتركْ في يدي سوى خيطها الطويل.

*

وا أسفاه

لم يتبقّ الكثيرُ من الحكاية.

فالشاعرُ ماتَ أو قُتِلَ أو ضاعَ في مدينةِ اللاأين. 

*

ثمّةَ شعراء يكتبون قصائدهم بدمائهم،

وآخرون يكتبونها بالدموع،

وآخرون يكتبونها بالخمرة.

أنا كتبتُ قصائدي بدمي

لأنّني لم أستطعْ أن أكتبها بشيء آخر.

*

يا حرفي

كلّما رأيتُكَ رأيتُ نَفْسي فأضحك.

مَن علّمكَ أن تقومَ بدورِ المرآة؟

*

هل كنتُ محظوظاً بكَ يا حرفي

أنتَ المسافر الذي لا يكفُّ عن السَّفَرِ إلى النُّقطة

ولا يتعبُ من تمزيقِ بطاقاتِ السَّفَرِ إلى النُّقطة؟

*

يا حرفي

هل سمعتَ صوتَ الناي؟

إنّه يشبهكَ في العذوبة

وأنتَ تشبههُ في الألم.

 

 

 

 

 

 

حرف بأربعة أجنحة

 

 

لأنّي لا أجيدُ شيئاً سوى الإقامة في الخيال،

لذا يُخيّلُ لي أنّي أحببتُكِ،

أحببتُكِ حدّ الجنون.

وقبلَ هذا وبعده،

يُخيّلُ لي أنّي قد رميتُ قصّةَ حُبّنا

من نافذةِ القصيدة،

أعني من نافذةِ الجنون.

*

حُبّنا أغنيةٌ هائلة

ماتَ شاعرُها المسكين

قبلَ أن يستمعَ إلى لحنِها المُذهل

وهو ينتقلُ من غيمةٍ إلى غيمة

ومن نهرٍ إلى نهر

ومن شَفةٍ إلى شَفة.

*

حُبّنا أغنيةٌ لا معنى لها

لأنّها وُلِدَتْ في زمنِ الشظايا

فتحدّثتْ كثيراً عن العواصفِ والزلازلِ والدخان

ونسيتْ أن تتحدّث عن القُبْلَة،

أعني القُبْلَة تحتَ المطر

حيث تكونُ شفتاكِ العالم

مِن أقصاه إلى أقصاه.

*

حُبّنا خرافة اخترعتُها

حتّى لا تنتحر حروفي

ولا تلقي نقاطي نَفْسها

من جبلِ المجهول.

*

سأتذكّركِ كأيّ مجنونٍ

نسي اسمَه وعنوانَ بيته

لكنّه لم ينسَ طفولتَه التي غرقتْ أمامه

في الفراتِ الغريب

ولا شبابَه الذي ذُرَّ رمادُه سرّاً

في دجلة الأعاجيب.

*

تعرّفتُ بعدكِ إلى الكثيرِ من النِّساء.

كنَّ بخفّتِكِ نَفْسها:

خفّة لاعبِ السيركِ الذي يمشي فوقَ حبلٍ من النّار،

ورعونتِكِ نَفْسها:

رعونة الطاغيةِ الذي يَهْوَى إشعالَ الحروب

وتبادلَ الأسرى

لكنْ لم يملكن، بالطبعِ، كرمَكِ الأسطوريّ،

كرمكِ الذي فتحَ عليَّ بابَ جَهنّم على مِصْراعيها.

*

حُبّنا يشبهُ فجراً

أُلْقِي عليه القبض بتهمةِ التسوّل

مع أنّ جيوبه كانتْ ملأى بليراتِ الذهب.

*

حُبّنا طائرٌ بأربعةِ أجنحة:

جناحٌ أحمر للرغبة

وجناحٌ أصفر للشوق

وجناحٌ أسْوَد للموت.

وهناكَ جناحٌ رابع

لا أتذكّرُ لونَه أو معناه.

ربّما هو  أزرق

وربّما هو للنسيان.

*

البارحة

طرقتُ بابَ الماضي

فخرجَ لي رجلٌ يشبهني تماماً

ويرتدي ملابس تشبهُ ملابسي تماماً

وقالَ لي بلَبَاقَةٍ عالية:

العنوانُ خطأ.

وحينما استدار

وجدتُ اسمي وعنواني ورقمَ هاتفي

مكتوباً على ظهره

إنّما بحروفٍ عَصيّةٍ على القراءة.

أتراها حروف الماضي؟

 

 

 

 

أيّ خطأ هذا؟

  

 

بدمعةِ طفلٍ يتيمٍ أكتبُ قصيدتي

وأقرأها لقارئ فاقدِ الذاكرة.

*

الحرفُ مبنيٌّ على المجهول

والنُّقطةُ مبنيّةٌ على الذهول.

كيفَ تستقيمُ القصيدةُ إذن؟

*

كيفَ يمكنُ لذاكرةٍ مُحترقة

أن تكشفَ سرَّ النور

وهي لا تحلمُ إلّا بما يُطفئ نارها؟

*

الرجلُ هشٌّ

والمرأةُ أكثرُ هشاشة

لكنّه يبحثُ عنها طوال العمر

ليكملَ كتابةَ قصيدةِ هشاشته الكبرى.

*

قصيدتي شمسٌ لا تشرقُ إلّا في الليل.

أيّ خطأ هذا؟

*

القصيدةُ أنتِ.

أنتِ التي سقطتْ نونُها في بحرِ الظلمات.

*

وقفتْ غيمةٌ رماديّةٌ كبيرةٌ أمامَ نافذتي

وأخذتْ تمطرُ وترعدُ الليل كلّه.

ففتحتُ نافذتي ضاحكاً وقلتُ للغيمة:

أعرفُكِ، أنتِ واحدةٌ من قصائدي القديمة.

*

مثل الذي يرمي قطعَ الخبزِ

للبطِّ السّابحِ في البحيرة

أرمي حروفي مذهولاً على بياضِ الورقة.

وأسألُ بعدَ أن كتبتُ ألفَ قصيدة:

أهكذا تُكْتَبُ القصائد؟

 

 

 

تلك هي قصيدة الفجر

 

 

القصيدةُ كأسٌ

قيلَ إنّها لا تسرُّ الناظرين.

وا حسرتاه.

وهي قُبْلَة

قيل إنّ نبيذَها مُحرّمٌ أو ممنوع.

وا خيبتاه.

وهي حرفٌ

قيلَ إنّه عاجز أن يفصحَ عن نَفْسه.

فكيفَ يفصحُ عن نقطتي التي امتلأَتْ بالأنين؟

وا................. أسفاه.

*

كلّما كتبتُ قصيدةً جديدة

طلبتُ من قلبي أن يتوقّفَ قليلاً

لأمنحها الحياة

فيفعل عن طيبِ خاطر.

الآنَ وقد صرتُ أكتبُ الشِّعْر دونَ توقّف

ليلَ نهار

صرتُ أخافُ أن يذهبَ قلبي فلا يرجع،

صرتُ أخافُ أن يذهبَ ليكتبَ قصيدةَ الموت.

*

أكاذيبُ عشقنا تتجدّدُ كلّ يوم

فهي أجملُ الأكاذيبِ على الإطلاق،

أكاذيب اخترعها آدم

وفرحتْ بها حوّاء وضحكتْ بل رقصتْ.

رغمَ أنَّ هذه الأكاذيب

ضيّعتْ عليها وعلى آدم الجَنّة.

*

سأعلّمُ حرفي

كيفَ يمسح كلَّ شيء من الوجود

حتّى نَفْسه.

فهذا أسهل من الغوصِ أبدَ الدهر

في ذاكرةٍ ملأى بوميضِ السّكاكين

وعواءِ الذئاب

وصراخِ القِرَدَة.

*

سأعلّمهُ كيفَ يحتالُ على اللغة

فلا ينطق إلّا بكلامٍ يلبسُ بعضه بعضاً

قناعاً من الغموضِ والإبهام.

*

سأعلّمُ حرفي أن يحتالَ على نَفْسه

فيمسح من الوجودِ نقطتَه الوحيدة

دونَ أن تبكي له عين

بل دونَ أن يرمش له جفن.

*

سأعلّمُ حرفي أن يرقص

على إيقاعِ حروفِ شعوبٍ انقرضتْ

وبقيتْ صورُها مُعلّقةً في الكهوف.

*

سأعلّمهُ أن يكتبَ مرثيّةَ الحُبّ

على الحائطِ الذي أُزِيلَ قبلَ أن يتمّ

وضْع أحجاره الوهميّة.

*

سأعلّمُ حرفي أن ينسى اللغةَ كلّها

والنقاطَ كلّها

فيتكلّم بلغةِ الكمانِ والناي والدفّ

ويقرأ المخفيَّ والمستور

بلغةِ الطبول.

*

سأختارُ لحرفي مكاناً قصيّاً في الذاكرة

حيث دجلة تسبحُ امرأةً بشفتين من لهبٍ وشوق

وحيث الفرات قد كفَّ عن سذاجته

فلم يعدْ يُهيّئ لها قلبَه كعشاء ربانيّ.

*

أن نرقصَ معاً،

أنا والحرف،

طفلين عاريين على شاطئ البحر.

تلك هي قصيدة الفجر.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ذكرى

 

 

من أجلِ أن أنامَ ،

مزّقتُ قصيدتي التي كتبتُها عن ذكراكِ

ورميتُها في بئري السِّرّيّةِ، أعني ذاكرتي.

*

سقطتْ دمعتُكِ فحملتها الريحُ إلى ذاكرتي.

طارتْ ذاكرتي فحملتْ ذكراكِ إليّ.

يومها تعرّفتُ إلى شيء يُدعى الحرف الأسْوَد،

أعني السِّحْر الأسْوَد.

*

يا ليتني لم أزح الغيمةَ ليلتها عن مكانِها

ولم أخرجْ لأراكِ تفيضين وتموتين.

*

بسببِ حُبّكِ المُفاجئ،

بسببِ حُبّكِ المُزلزِل،

صارت الشّمس

تغيبُ في ذاكرتي منتصفَ النهار

لكنّها تُشرقُ الليل كلّه!

*

لغتُكِ نبعُ سلامٍ.

نعم

لكنّها حرب على الطمأنينة.

*

لا تتعجّبي من حرفي العاشقِ لكِ أبداً

ومن نقطتي التي نسيتكِ أبداً.

ففي هذه ال(أبداً)

تكمنُ روحُ الشِّعر

وأمطارُهُ التي تتساقطُ عليَّ.......... أبداً.

*

مِن أجلِ أن لا أنساكِ

سأقيمُ احتفالاً سنويّاً للذكرى.

وسيكونُ الدخول إليه مَجانيّاً بالطبع

لحروفِ العشقِ ونقاطِ المعشوق.

*

كنتُ أسمعُ أخبارَ الزلازلِ في التلفزيون

وأكتبُ قصيدةَ حُبٍّ عنكِ.

ولم أجد اختلافاً كبيراً

فقد كانَ حُبّكِ من النوعِ المُزلزِلِ للذاكرة.

*

لم استطعْ أن أعرفَ مقياسَ حُبّكِ

على مقياسِ ريختر الزلزاليّ

لكنّي أعرفُ تماماً مقياسَ حُبّكِ

على مقياسِ الحرفِ المتكوّنِ من سبعين نقطة.

*

الحياةُ مُملّةٌ حدّ اللعنة.

لا علاجَ لها إلّا بالحُبّ

حتّى لو كانَ من دونِ الحاء

أو من دونِ الباء،

أعني من دونِ نقطةِ الباء.

*

الحياةُ أُغنية

ضحكتُها الحاء

ودمعتُها الباء.

*

الحياةُ خرافة

وجدَ التاجرُ حَلّاً لها بالدولارات

والجنرالُ بالانقلابات

والرسّامُ بهذيانِ الألوان.

أمّا أنا فوجدتُ حَلّاً لها

بتمجيدِ حرفِكِ ليلَ نهار.

 

 

 

 

لم أسأل عن كلمة سرِّك

 

 

ربّما كنّا محظوظين أنّنا لم نعبر الجسرَ معاً

فالجسرُ قد انهار

وتساقطَ العابرون فوقه إلى الماء

جميعاً

ولم ينجُ إلّا أولئك الذين يعرفون كلمةَ السّرّ.

*

كانتْ كلمةُ السّرِّ مَزيجاً من الحظّ

وجمْعِ حروفٍ عجيبة،

وكانتْ أرقاماً لا معنى لها

ترسمُ صورةَ حيوانٍ برأسين.

*

لم تكنْ قصيدةً بالطبعِ أو عنوانَ قصيدة

ولم تكنْ كلمةَ شوقٍ أو حُبٍّ أبداً.

كانتْ تخفي سينَ السّمِّ لا سين السّلام

وكافَ الكذبِ لا كاف الكمال

وهاءَ الهذيانِ لا هاء الذي لا إلهَ إلّا هو.

هكذا كانتْ - وا أسفاه - كلمةُ السّرّ.

*

كلمة السّرِّ التي لم يعرفها ملوكُ النّهرين

فَقُتِلوا - وا حسرتاه -  الواحد بعدَ الآخر.

ولم يعرفها زعيمُ الفقراء

فلم تُرَ له شاهدةٌ أو قبر.

وكانَ على وشكِ أن يفكَّ طلاسمها

طاغيةُ العصر

إذ عرفَ مِن أحرفِها قافَ القتل

وراءَ الرعب

وحاءَ حروبٍ لا أوّل لها ولا آخر.

لكنْ أخطأَ في الرقمِ الثالثِ بعد الألفين

فالتفَّ على رقبته حبلٌ رثّ.

*

قرأتُ ما أعرفهُ من كلمةِ السّرِّ على شبابي

ففاضَ بي الفرات

حتّى سكرتُ من جُنونه ومُجُونه،

وكادتْ دجلة أن تلقي بي من فوقِ جسرِها

أو تذرّ رمادي كأيّ صوفيّ أو درويشٍ أو حلّاجٍ.

وقرأتُ ما أعرفهُ من كلمةِ السّرِّ على طفولتي

فضاعتْ منّي دراهمُ العيدِ السّبعة

ثُمَّ قرأتُه على جسدِ المرأة

فعلّمني أن أطيرَ في مفتتحِ الحرف

وفي خاتمةِ النُّقطة.

وقرأتُه على الريحِ فسلّمتني

إلى البحرِ الذي سلّمني إلى الغيمة.

وقرأتُه على الأصدقاءِ فبكوا أوّلاً

ثُمَّ ضحكوا ثانياً

ثُمَّ رقصوا رقصةَ الوحوش.

وقرأتُه أخيراً على الليل

فامتدَّ حتّى أكلَ الفجرَ عندَ الفطور.

*

يا لها مِن محنة!

مَن كتبَ كلمةَ السّرِّ هذه؟

مَن الذي اختارها؟

أهو الليلُ أم الفجر؟

أهو الإنسانُ أم الشّيطان؟

*

لم أسألْ عن كلمةِ سرِّك

كنتُ مشغولاً بسرِّكِ كلّه،

مَذهولاً بدهاليزه

وخرائطه التي تتبدّلُ أبدَ الدهر

كما تبدّلُ الأفعى ثوبَها.

ولم أعرفْ أنّ السّرَّ يملكُ باباً

لا يُفْتَحُ بالمفتاحِ ولا بالسِّحْرِ ولا بالشِّعْرِ ولا...  

بل بكلمةِ سرٍّ فقط.

*

يا لها مِن محنة!

قلبي لا يعرفُ كلمةَ السّرّ

إلّا التي تخفي الحاءَ والباء

وتظهرُ الحاءَ والباءَ أيضاً.

ومثل هذه الكلمة: المعجزة

لا يعرفها إلّا الذي اكتوى حتّى صارَ رماداً

وطيّرتهُ الريحُ حتّى صارَ ذكرى.

*

أن أعثرَ في زمنِ العولمة

على مِثْلِ قلبي،

أعني على القلبِ الذي يرسمُ كلمةَ السّرّ

بالحاءِ والباءِ نُطْقاً ونَبْضاً

كمِثْلِ الذي يعثرُ على البحرِ في الصّحراء

أو على الماءِ في فُوَّهةِ البُركان.

*

هكذا ضاعتْ كلمةُ السّرِّ منّي

فعوّضتُها بالطيرانِ الكثيفِ في غابةِ الشِّعْر

كلّ ليلةٍ حتّى مطلعِ الفجر.

وحينَ أتعبُ من الطيران

أذهبُ إلى حانةِ النُّقطةِ راقصاً كالدراويش

حيث كلّ شيء لحرفي مُباح.

 

 

حرف محذوف

 

 

القمرُ الذي كانَ يمشي بهدوء

في الليلِ الأسْوَد

التفتَ إليَّ بهدوء أسْوَد

ثُمَّ أضاءَ نقطةَ قلبي

بكثيرٍ من الدموع.

*

قالتْ: هل في قلبِكَ مرآة؟

قلتُ: نعم،

وقد رأيتُ اسمَكِ مكتوباً عليها

فمسحتُهُ بقليلٍ من الملح

وكثيرٍ من الرماد.

*

الشَّاعرُ الذي كتبَ كثيراً عن الحرفِ والنُّقطة

مات.

ولم يتركْ لي شيئاً

سوى كتاب قصائده الذي أقتطعُ منه

كلّ يومٍ ورقةً

ألصقُها على قلبي

ليكفَّ عن الهذيان.

*

في غابةِ حياتي المُوحشة

كلّما قطعتُ شجرةً لأشعلَ ناراً

وجدتُها مليئةً ببَيضِ الغربان

وريشِ الجِنّ

وقهقهاتِ المنفيين.

*

تعبتُ من سجنِ حرفي أبدَ الدهر

فصرتُ أطلقهُ في الليل

ليلعبَ في حديقةِ ذاكرتي.

*

رأيتُكِ عاريةً في مَطلعِ الأغنية

ولكي أُلحّنكِ

لم أكنْ مُحتاجاً إلّا إلى قُبْلةٍ واحدة.

*

مثلما أضاعَ كلكامش صديقه أنكيدو

وهو يبحثُ عن عُشبةِ الخلود،

أضعتُ حرفي

وأنا أبحثُ عن نقطتي،

أعني عن حياتي.

*

لأنَّ قلبي وتر عودٍ مقطوع

لذا سأكفُّ عن العزفِ إلى الأبد،

لأنَّ جَرّاحَ القلب

لا يعرفُ أن يصلّحَ قلباً

قد أصبحَ عوداً،

ولأنَّ مُصلّحَ العود

لا يعرفُ أن يصلّحَ عودا

قد صارَ قلباً.

*

لم يعدْ لديَّ من مباهجِ الأغنية

سوى توهّم سماعها في الحلم.

*

كانَ عليَّ أن أكونَ في منتهى الجُرْأة

لأطلبَ لطيري عشّاً في شجرتِكِ القاسية

وقت أن سرقتِ بيضةَ حلمه أمامي

ورميتِ بها إلى الماضي السحيق.

*

هل سيكونُ لطلبي رائحة الجنون؟

نعم، لا، ربّما.

لكنَّ اللغات تتشابه

وكانَ للغتكِ مخالب

أنشبتْ أظافرها في عنقي منذ زمنٍ بعيد

ولم تزلْ ظاهرةً فيه إلى يومِ يُبعثون.

*

الشِّعرُ يعشقُ الترميزَ حدّ الهذيان.

لكنّ الحياة لا تعشقُ الرمزَ أو الترميز،

الحياة صريحة حدّ اللعنة.

*

اشتركتُ مُجبَرَاً في سبعين حرباً

وخسرتُها، بنجاحٍ أسطوريّ،

الواحدة بعد الأخرى بعد الأخرى.

لكنّي انتصرتُ في حربٍ واحدة

هي حرب النُّقطةِ التي توجتّني مَلِكاً

على أبجديّةِ الوهم.

*

حينَ سقطتْ قصيدتي واحترقتْ

فتحتُ، بعدَ جهدٍ جهيد، صندوقَها الأسْوَد

فلم أجدْ سوى حرفٍ واحد؛

حرفٍ محذوف.

 

 

 

 

 

شَظيّة مرآة

 

 

ركضتُ كثيراً في صحراءِ المرآة

علّي أجد المرأة

فوجدتُ أقدامي تسبقني ليلَ نهار.

*

لم أشتَقْ كثيراً إلى داري

إذ لم تكنْ فيها بئرٌ أو مرآة .

*

ستسألني امرأةٌ عابرةٌ

سؤالاً ليسَ بعابر.

أضحكُ ممّا سألتْ

وأُحدّثُها مُرتبكاً عن مرآتي،

أعني عن حرفي الوهميّ.

*

امرأةُ المرآة

شاختْ، هرمتْ.

وحينَ ماتتْ

دخلتُ إلى غرفتِها

لأجمعَ شظايا المرآة

فلم أجدْ أثراً للمرأةِ أو للمرآة.

*

اصطفَّ الموتى في ذاكرتي.

لم يُحدِّثوني أبداً عن رحلتِهم

وهم يحملون مرايا من طينٍ

أحْمَر أو أصْفَر أو أزْرَق أو أسْوَد.

والغَلَبَةُ كانتْ للأسْوَد،

وا أسفاه.

*

للطائرِ مرآة،

أجملُ مرآةٍ في العالم.

أجملُ من مرآةِ النّهر

ومن مرآةِ المرأة،

أجملُ حتّى من مرآةِ الريح.

*

لا تسرعْ يا هذا فالمرآةُ انكسرتْ

والزمنُ سالَ دموعاً ودماً.

*

كنتُ سعيداً

إذ قضيتُ حياتي وحيداً

أحملُ شَظيّةَ مرآة

وأُوهِمُ مَن حولي أنّي ملآن بمرايا الكون.

*

كنتُ سعيداً لسماعِ كلامِ شَظيّةِ مرآة

لأنَّ شَظيّة مرآةٍ لا تكذبُ أبداً

ولا تعرفُ فنَّ التّشْوِيشِ أو التّهْرِيج.

*

أكانتْ مرآتي مرآة الدرويش؟

*

شَظيّةُ مرآةٍ رسمتْ لي صوراً لملوكٍ قتلى

وطغاةٍ ما كفّوا يوماً

عن حرقِ كلِّ جميلٍ في الأرض.

ورسمتْ لي أنهاراً من دماءِ الفقراء

وذهبِ المنهوبين

ودموعِ المحرومين

وصيحاتِ الغرقى في الليل

وبكاءِ الأيتامِ عندَ الفجر.

*

شَظيّةُ مرآةٍ رسمتْ لي صُوَراً

لمجانين رموني بحجرٍ من سِجِّيل،

فقط لأنّي أملكُ شَظيّةَ مرآة.

فَبِمَ سيرمونني لو كانتْ عندي مرآة ؟

 

 

 

 

حينَ أحببتُكِ فقدتُ نصفَ ذاكرتي

 

 

حينَ أحببتُكِ فقدتُ نصفَ ذاكرتي

وحينَ خرجتُ من الحربِ فقدتُ نصفَها الآخر.

وفي المنفى

شكا الأصدقاءُ والأعداءُ من ضياعِ الذاكرة.

أمّا أنا فقد كنتُ أضحكُ من محنتهم بمرارة

لأنّني، ببساطةٍ، جئتُ إلى المنفى بلا ذاكرة.

*

قالَ المعرّيّ : خَفِّف الوطء.

وقالَ الخيّام : اشرب الكأس.

وقالَ جُبران : أعطِني الناي وَغنِّ.

أمّا أنا فقلت : الحرفُ كأسٌ والحرفُ ناي

فَخَفِّفوا من وطأةِ القولِ أيّها الشُّعَراء.

*

حينَ هبطنا من الجبل

كانَ بعضهم يحملُ كيساً من الذهب،

وكانَ بعضهم يحملُ كيساً من الأوسمة،

وكانَ بعضهم يحملُ كيساً من الأكاذيب.

أمّا أنا فقد كنتُ أحملُ كيساً فيه رماد جُثّتي.

*

لم يكن الرمادُ في ذلك الكيس أبداً

بل كانتْ جُثّتي فيه كاملة دونَ نقصان.

*

حينَ هبطتُ من الجبل

كنتُ أحملُ جُثّتي.

غير أنّها لم تكنْ مَيّتةً تماماً

إذ كانتْ تخرجُ على النَّصِّ، نَصِّ الموت،

فتكتبُ لي قصائدي أو تُدمدِمُها في الأدقّ

وأحياناً تغنّي لي

بل تغنّي وترقص!

 

  حوار مع الفرات

 

 

سألت النُّقطةُ الحرفَ: كيفَ وصلتَ؟

أجابَ الحرف: ماشياً.

فهزّت النُّقطةُ رأسَها

واستلقتْ على فراشِها العجيب.

*

الشِّعْرُ يحتاجُ إلى الغموضِ والترميز

والقلبُ يحتاجُ إلى البكاءِ والصراخِ وشقِّ الثياب.

ما فائدةُ الشِّعْر إذن؟

*

الفراتُ يتصلُّ بي تلفونيّاً كلّما اشتدَّ به المرض،

فعلّمته الصّلاة.

قال: لا أحتاجُ إليها،

أنا أُصلّي على وسادتي المصنوعةِ من الطينِ والسَّمَك.

*

الفراتُ يحُبّني وأنا أحُبّه

لكنّي لا أستطيعُ أن أقولَ له:

إنّ حُبّه أهلكني

وألقى بي إلى الجحيم

شاعراً من حروفٍ وحُتوف.

*

بعدَ أن شكوتُ للفراتِ محنتي الأسطوريّة،

قال: لا أفهمكَ يا ولدي

أنتَ حرفٌ وأنا نهر.

*

أردتُ أن أصفَ أنيابَ الكلاب

فأفسدت القِرَدَةُ عليَّ الأمر

بصراخِها الذي لا يتوقّف أبداً.

*

المرآةُ حلمٌ

كيفَ أقودهُ إلى نَفْسه؟

*

المرأةُ كائنٌ هَشّ

أكثرُ هشاشة من الثلجِ المُتساقطِ من السّماء.

*

قلبي هشّ

مصنوعٌ من القَشّ.

ولذا أخافُ عليه من النّارِ والريحِ والآه.

*

أردتُ أن أصفَ جمالَكِ،

أن أغنّي لكِ،

أن أعزفَ موسيقى الجسد لكِ،

فقلتِ : لا، ولا، ولا.

معَ أنَّ (لا) واحدة تكفي تماماً وتزيد.

*

قلتُ للفرات: أأنتَ قلتَ لي

- حينَ كنتُ صَبيّاً وأردتُ الطيران-

لا تحزنْ يا صديقي الصغير،

أنتَ مُؤهّلٌ للطيران في سماءِ القصيدةِ فقط.

ضحكَ الفراتُ وقال:

أنا لا أفهمُ إلّا في الماء

وحديثُ السّماءِ عليَّ غريب.

*

قلتُ للبحر:

أريدُ أن أرجعَ إلى الفرات.

فتبسّمَ وقال:

مَن يصل البحرَ لا يرجع إلى النّهر.

*

المرآةُ العاريةُ رقصتْ وبيدها المرآة.

أعني أنَّ المرأةَ العاريةَ رقصتْ وبيدها المرآة.

*

أخرجتُ الثلجَ من المرآة

فبكيتُ لأنَّ النّار اتّسعتْ وأحرقتْ أصابعي.

*

أنكرَ الفراتُ علاقته بالمرآة،

وأنكرت المرآةُ علاقتها بالمرأة،

وأنكرت المرأةُ علاقتها بالحرف،

وأنكرَ الحرفُ علاقته بالنُّقطة

لكنَّ النُّقطة لم تنكرني

فبقيتُ مَذهولاً مُنتَظِراً أبدَ الدهر.

 

 

 

 

 

 

 

 

ماركيز يضحك

 

قالَ لي صديقي ماركيز :

حينَ بلغتُ الثمانين

صرتُ أضحكُ كلّ صباح

من أخطائي المُرّة.

أوّلها الشهرة

إذ ظهرتْ فارغةً مثل كيسٍ مثقوب،

وثانيها خيالي الأسطوريّ

إذ نبتتْ له أجنحةُ نُسور،

أمّا المرأة فلم أضحكْ منها

رغمَ أنّي كتبتُ عنها  ثمانين كتاباً.

إذ عرفتُ بعدَ أن بلغتُ الثمانين

أنّها نبع الضحكِ في ذاكرةِ الإنسان

وذاكرةِ النّسيان.

*

أعظمُ مجدٍ للشِّعْر

أنّه يخلق لكَ أصدقاء وهميين،

وأعداء مُخلصين،

وأعدقاء أكثر وهماً وإخلاصاً بالطبع.

*

في العاصفةِ الكبرى

ظهرَ النّاسُ عُراةً بثيابِ الأشباح.

*

ماتَ الطاغيةُ ففرحَ النّاس

ولم يعرفوا أنَّ الفرحَ ممنوع

والرقصَ العلنيّ ممنوع.

فرجعَ الطاغيةُ إليهم في الفجر

بسيفٍ أغْبَر

وبوجهٍ أغْبَر

وثيابٍ غُبْر.

*

السّوقُ جميلة

والبضائعُ والفواكهُ والحلوياتُ مُرتّبةٌ وأنيقة.

الكلُّ سعداء في السّوق

ماعدا العصفور الذي شبعَ مطراً مثلي

وتعبَ مثلي

من منظرِ البضائعِ خلفَ الزجاجِ الأنيق.

*

أولئك الذين يجيدون لغةَ الكراهية

قرأوا كتابَ الحُبِّ بترجمةٍ رديئة.

*

الحرفُ الذي أعلنَ نَفْسَه إلهاً للأبجديّة

ماتَ بعدَ خمس دقائق فقط

من كتابةِ نقطةٍ واحدة.

*

قلبُكَ بابٌ مفتوح.

إذا جاءكَ زائر

فتذكّرْ أن تغلقَ حرفَكَ بالمفتاح.

*

قلبُكَ أغنيةٌ

سقطتْ سرّاً وعلانيةً في النّهر.

وصارَ عليكَ أن تستخدمَ أدوات الصيّادين

لتنقذها من الغرقِ، ومن النّهرِ، ومن الأسماك.

*

قلبُكَ أغنيةٌ لم يغرقها الطوفان

بل أغرقَها الخوفُ من الطوفان.

*

ماذا لو أنَّ الزمنَ كانَ رحيماً

فلم يترككَ وحيداً

كحرفٍ سقطَ من فمِ سكّير؟

*

حاولتُ الطيرانَ كثيراً

لكنَّ سماء زماني كانتْ ملأى

بخرائط حرفٍ مسكونٍ بالغيمِ لا بالشمس.

*

ماذا لو أنّ علامات الاستفهام

كفّتْ يوماً أو بعضَ يوم

عن محاصرةِ قصيدةِ حُبٍّ عمرها آلاف الأعوام؟

*

القُبْلةُ حلمٌ والوردةُ آه.

قالَ القائلُ ثُمَّ غنّى حلماً مِن آه.

بيده كانتْ وردة؟

نعم

لكنَّ الوردة سقطتْ

حينَ دخلتْ في أعماقِ الآه.

*

صاحَ الصائحُ: مَن ينقذني مِنّي؟

ضَحِكَ النّاسُ والتفتوا نحوَ الصائح.

والتفتَ الصائحُ إلى نَفْسِه

فلم يجدْها.

ارتبكَ ثمَّ تلعثمَ

ثُمَّ ضَحِكَ معَ النّاس. 

 

 

 

 

 

ورقة القصيدة

 

أيّها الحُبّ

أعطِني حرفاً فقط

أو أعطِني نقطةً فقط

وسأعطيكَ بكرمٍ أُسطوريّ

أبجديّةَ عشقٍ كاملة.

*

لا يمكنكَ أن تكونَ عاشقاً حقيقيّاً

ما لم ترقص كالطفلِ الذي يرقصُ ليلةَ العيد

أمامَ حذائه الأحمر الجديد.

*

حتّى لا أكتئب

فإنّني أكتبُ أُسطورتي بحروفِ الأطفال

وذاكرةِ الطيورِ التي تحلّقُ عالياً في السّماء.

*

كي أروّضَ وَهْمي العظيم

فإنّني أشتري وَهْماً جديداً

كلّ يومٍ من سوقِ الأيّام

فإن لم أجدْ أقطع ورقةً أو ورقتين

من شجرةِ وَهْمي الكبرى

تلك الشّجرة التي زرعتُها سرّاً

في حديقةِ الدارِ الخلفيّة.

*

كي أروّضَ أُسطورةَ الموت

فإنّني أكتب كلّ يومٍ أُسطورةً جديدة

بحروفٍ من ماء

ثُمَّ أعرضها على الشّمسِ لتختفي

فأكتب في اليومِ التالي

أُسطورةً أخرى.

*

ورقةُ القصيدةِ كانتْ صغيرةً جدّاً

والحروفُ مكتوبة من اليمينِ إلى اليسار

ومن اليسارِ إلى اليمين

ومن الأعلى إلى الأسفل

ومن الأسفل إلى الأعلى.

فاحترتُ كيفَ أقرأها على النّاس

ثُمَّ قرّرتُ في لحظةِ شِعْرٍ ساحرة

أن أقرأها من السّرّةِ حتّى العنق.

*

الورقةُ التي أُعطِيتْ إليَّ صغيرة جدّاً

لا تتسعُ سوى كلمةٍ أو كلمتين.

فكيف أختصرُ سبعين عاماً من النفي

والهربِ دونَ جدوى من النفي

في كلمةٍ أو كلمتين؟

يا لها مِن محنة!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

نعم، لا، ربّما

 

 

الذين يقولون: إنَّ أصلَ الحرفِ نقطة،

يفهمون في الأبجديّةِ فقط ولا يفهمون في الحُبّ.

ذلك أنّ أصلَ الحُبِّ نقطة،

أعني نقطة الباء.

*

في الكتابِ الذي أعدتُ كتابةَ مسودّته للمرّةِ الألف،

كتبتُ إهداءً قلتُ فيه الكثيرَ لكنّي نسيتُه.

النّسيانُ داءٌ عظيمٌ يصيبُ العشّاقَ والمجانين والمنفيين.

أعراضُه كتابةُ الشِّعرِ وطَرْق بابِ الحرفِ دونَ جدوى.

أحياناً،

وهذا سرّ أرجو أن لا يصدّقه أحد،

يطرقون بابَ الموت .

ليسَ مُهمّاً مَن هم الذين يطرقون بابَ الموت.

المُهمّ أنّني أسمعُ طَرْقَ البابِ الآن

لكنّني لن أفتحَ الباب

إلى أن أنتهي من كتابةِ هذه القصيدة.

*

انتقلتُ كثيراً من مدينةٍ إلى أُخرى،

أعني من قصيدةٍ إلى أُخرى.

كنتُ أنتقلُ بالباصِ أو الطائرةِ أو الحلم

بعينين تفيضان بالدمع،

وهذه عادةٌ سيئةٌ دونَ شكّ

لمَن يعاني مِن مصاعب في النومِ أو في السّرير.

مَن قال: إنَّ الحياةَ حلمٌ؟

لا أعرفُ، لكنّه لم يكنْ كذّاباً أبداً .

*

معَ أنَّ القصيدةَ غير مُرقّمة

فإنّني أحاولُ أن أضعَ الرقمَ الصحيحَ لها حتّى أتوازن

أي حتّى لا أتحوّل إلى حرفٍ طائر أو نقطةٍ تائهة.

*

ماتَ الشَّاعرُ الكُحوليّ

وكانَ يسقطُ من السّريرِ أثناءَ النوم.

أنا مثلهُ أسقطُ من السّريرِ أثناءَ النوم

معَ أنّني لا أشربُ الخمرَ أبداً.

هل في هذا ما يدعو إلى الضحك؟ ربّما.

*

بدأ الشَّاعرُ الكحوليُّ يقفزُ على السّريرِ من الفرح

وأنا أقرأُ له قصيدةً عن الجمرِ والخمر

لكنّه قالَ لي

وأنا أحاولُ عبثاً تمشيطَ شَعْري أمامَ المرآة:

ابْقَ هكذا يا صديقي، أنتَ تحاولُ والشَّعْر يرفض.

انتهى حوارُ الشِّعرِ والشَّعْرِ حينَ سقطتْ قذيفةٌ بيننا،

فذهبَ هو إلى أقصى النُّقطة ليموتَ وحيداً

وأنا ذهبتُ إلى أقصى الحرف

لأموتَ وحيداً أيضاً.

ولم يكنْ في موتنا فرْقٌ سوى فرْق التوقيت.

*

هذا كتابٌ عن الحُبّ

لكنّه غير مخصصٍ للعُشّاق.

العُشّاقُ الآن يشاهدون أفلاماً من الدرجةِ العاشرة

ليمارسوا فنَ القُبْلة.

في زمني كانَ الحرفُ هو السبيل إلى ذلك،

ولذا كانَ الحرفُ مُصاباً

بداءِ العاطفةِ المُلتهبةِ وبأغنياتِ السذاجة.

أنفقتُ أربعين عاماً

لأخلّصَ الحرفَ من العاطفةِ والسذاجة

حتّى تحوّلَ إلى صخر.

هل أنا صخرٌ؟ لا أظن.

*

الأنبياءُ كانوا عُشّاقاً أيضاً،

عُشّاقاً بعيونٍ زادها الكحلُ جمالاً.

كانوا يعشقون الحقيقةَ ويكتبون رسائلهم إلى الله

فيتقبّلها منهم بقبولٍ حَسَنٍ.

الآن أنا أعيشُ في زمنٍ لا أنبياء فيه.

إنّما فيه قِرَدة من كلِّ نوعٍ

تلوكُ الحروفَ والنقاط،

وترقصُ على المسارح،

وتلعبُ بالملايين،

وتطلقُ النّارَ بسرعةِ البرق

على كلِّ مَن يخالفها الرأي

حتّى لو كانَ على نوعِ الرقصةِ فقط.

*

الجملُ المبتورةُ، لا القصيرة، هي عمادُ القصيدة.

القصيدةُ خرجتْ عن المسارِ حتماً.

الفقراءُ يغرقون في البحرِ فيضحكُ الأثرياءُ من الأعماق

وهم يشربون الكونياكَ بالثلجِ والليمون.

وحينَ تسقطُ القنابلُ على رؤوسِ الفقراء

يسارعُ مذيعون أغبياء

ومذيعاتٌ أشدّ غباء

لنقلِ الأخبارِ السّعيدةِ في قنواتِ التلفزيون.

أنا سعيدٌ لأنّني لا أملكُ جهازَ تلفزيون

إذ بعتهُ قبلَ الحربِ بأيّام

وصرتُ أقضي الليلَ وحيداً

أتأمّلُ في بياضِ الجدارِ كأيّ فيلسوفٍ عظيم.

*

"الشّتاءُ كثيرُ الغيوم"

هذا هو عنوان قصيدةٍ كتبتُها قبلَ أربعين عاماً

ونشرتُها في مجلةِ صديقي الشَّاعر الذي هربَ سرّاً

إلى المجهول

ونسي، بالطبع، أن يردَّ على رسائلي.

ثُمَّ جاءَ مَن يكتبُ ليكتب كثيراً

عن شتائي وغيومي دونَ معنى

فقد كانَ خفيفاً أو مُؤدلَجاً حدّ اللعنة.

الآن تركَ الخفّةَ والأدلجة

بعدَ أن غرقَ بيتُهُ بالطوفان

فلم يعدْ يُميّز ما بين الحروف

بل لم يعدْ يُميّز ما بين الشّمس والغيوم.

*

كم تمنيتُ أن أرسمَ حروفي بالألوان

لكنّني أعيشُ في شقّةٍ ضيّقة

وقد منعني صاحبُ العمارة

مِن إدخالِ الألوانِ إلى الشقّة.

مع أنّه يعطفُ عليَّ

فيشتري نُسَخَاً مِن كتبي بسعرٍ رمزيّ،

ويرسلُ إليَّ كلّ إسبوع مبلغاً من المال

كي أدفعَه إليه كإيجار

أو كثمنٍ للهواءِ الذي أتنفسُّه باستمرار!

أليسَ هذا أمراً مُضحكاً؟

نعم، لا، ربّما.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

شبح قصيدتكِ الأخيرة

 

 

شهيقُ البحرِ الصاخب امرأةٌ عارية

وزفيرهُ رجلٌ غريق.

*

كلّ يومٍ أغسلُ قميصَ حياتي

وأنشرهُ فوقَ حبلِ شقّتي المُطلّةِ على البحرِ الصاخب

لعلّ الريح تطيّرهُ فأنزل إلى البحرِ عارياً.

*

في داخلي مَلاكٌ وشيطان.

فَمَن منهما قد أحبّكِ؟

أهو مَلاكُ الحلمِ المصنوعُ من الرماد

أم هو شيطانُ الشِّعْرِ المُتألّقُ بالنّار؟

*

سألتني امرأةٌ عندَ شاطئ البحر:

هل البحرُ حرف غامض خَلَقَه الشُّعَراء

أم نقطة هائجة خلقها السّرير؟

*

قالَ لي: أحاولُ أن أكتبَ قصيدةً

ليسَ فيها أيّ معنى،

أيّ معنى كان.

قلتُ له: لو فعلتَ ذلك لأصبحتَ شاعراً بجناحين.

*

عدوّ الطاغيةِ وصديقُ الطاغية

التقيا فجأةً عندَ قبر الطاغية

وركعا إليه ككلبين وفيين.

*

لعمقِ محبّةِ النّاسِ لأكاذيبِكِ الجميلة

تحوّلتْ أكاذيبكِ إلى حقيقةٍ تتناقلها السّاعة

ليلَ نهار.

*

حرفي يصارعُ العمى كي يراكِ

أو يرى رمادَ ذكراكِ.

*

البارحة كتبتُ قصيدةً عنكِ

ثُمَّ نمتُ نوماً عميقاً بعمقِ البحر.

وفي اليومِ التالي لم أستطع القيامَ من الفراش

فاستعنتُ بشبحِ قصيدتكِ الأخيرة.

 

 

 

 

 

هذيان

 

البحرُ خرافةٌ قديمة

لا تؤمنُ بها سوى السُّفن والنِّساء.

*

للبحرِ لحيةٌ بيضاء

تظهرُ عندَ الفجرِ للمجانين

وتظهرُ عندَ الغروبِ للمنفيين.

*

ألبسني الحرفُ قُبّعةً

بأكثر من عشرين ريشة وريشة

لكنْ لم يشهدْ هذا التكريم الملوكيّ أحد

سوى النُّقطة.

*

ضاعتْ آنيةُ الوردِ الفضّيّة

بعدَ أن قدّمتُ لكِ فيها بيدين مُرتبكتين

قلبي مَقطوعاً،

كالزهرةِ مَقطوعاً.

وكيفَ لكِ أن تفهمي قلباً من هذا النوع

يا صاحبةَ القلبِ الحجريّ؟

*

مرَّ ألفُ شتاء.

سيأتي في العامِ القادم

شتاءٌ لا يذهبُ أبداً.

سيجلسُ في الشّرفة

ويمطرني ليلَ نهار

بألف قصيدة حُبٍّ كُتِبَتْ بلُغاتٍ لا تُقْرَأ،

كُتِبَتْ بحروفٍ لا تفهمها حتّى النّار.

*

في القاعةِ كنتُ لوحدي أقرأُ شِعْري،

إذ حضرَ رجلٌ يشبهني

وجلسَ في الصفِّ الأوّل

وأخذَ يُبدي حركاتِ الإعجابِ بشِعْري.

قلتُ له: مَن أنت؟

قال: أنا ظِلّك!

قلتُ له : لا ظِلّ لي فأنا شبحٌ!

بل أنا شبحٌ ميّت!

هل سمعتَ بظِلٍّ لشبحٍ ميّت؟

*

طلبَ المُخرِجُ منّي الطيران!

قلتُ له : كيفَ أطير؟

قال: الأمرُ سهلٌ جدّاً!

فضحكتُ بل قهقهتُ في المشهدِ الأوّل،

وبكيتُ في المشهدِ الثاني،

وفي المشهدِ الثالثِ صَمَتُّ مائة عام.

*

لماذا طلبَ المُخرِجُ منّي الطيران؟

سؤال أسألهُ بهدوء أسْوَد.

لكنْ ما مِن أحدٍ يردُّ عليَّ،

أو يؤمنُ، مثلي، بعذابِ الهذيان.

 

 

 

سكرت الكأسُ فصحوتُ شاعراً

 

 

* هل ذوتْ قصّةُ حُبّنا؟

- نعم.

* هل يبستْ؟

- نعم،

يبستْ واحترقتْ وتحوّلتْ إلى رماد.

* وماذا عن الرماد؟

- لقد تطايرَ، وا أسفاه،

وتحوّلَ إلى قصائد وحروف.

*

أنتِ حلمٌ خالصٌ ليسَ إلّا،

حلمٌ حاولتُ أن أستعيدَ فيه عينيكِ

أو شفتيكِ أو نهديكِ

فلم أستطعْ.

فتأكّدَ لي أنّكِ حلم خالص لا أكثر ولا أقل،

ولذا توقّفتُ

عن محاولةِ استعادةِ أيّ شيء يعودُ إليه

حتّى أنّني توقّفتُ

عن كتابةِ الحاءِ واللامِ والميم،

أي توقّفتُ عن إتمامِ القصيدة:

المتن والهامش والعنوان.

*

بقيتُ أشربُ من كأسِ حُبّكِ

سبعين عاماً

حتّى سكرت الكأسُ

فصحوتُ شاعراً.

*

قالتْ نقطتي :

الملوكُ على سبعةِ أنواع،

لكنّ ملك الحروفِ أكثرهم جُنوناً.

*

تحتَ غيمةِ عمري المُلوّنةِ الكبيرة

جلستُ درويشاً

يسألُ النّاسَ عمَّن رأى الله.

لكنّ النّاس كانوا سفهاء أو شعراء

يضحكون وهم يشيرون إلى أنفسهم.

*

أنا أكرّرُ نَفْسي كلّ يومٍ

حتّى لا أموت!

*

كانتْ حياتي شمعة

حينَ كانَ القصفُ مُستمرّاً على بيتي

طوالَ ثلاث حروب.

الآنَ وقد انتهت الحروبُ كلّها،

كما أعلنَ المذيعُ ذو الشوارب الكثّة في التلفزيون،

فإنّ حياتي تحوّلتْ، فجأةً، إلى دُخان.

*

في شاشةِ الحياة

كثيراً ما رأيتُ الحروف المُزيَّفة

تبتسمُ لكاميراتِ التلفزيون

أو تأخذُ لنَفْسِها صوراً شخصيّة

بلهاء تماماً.

*

كنتُ أحسبهُ حرفاً حقيقيّاً،

فبعثتُ إليه ببطاقةِ تهنئة

لكنّه رمى بطاقتي الطيّبةَ من نافذةِ الفندق،

وهو يرقصُ للدنانيرِ التي انهالتْ عليه

بعدَ أن أنهى  خطابه الأجوف

عن محاسن الزُّهْد.

*

لأنّي أعيشُ وحيداً مثل شجرةٍ في الصّحراء

لا تملكُ ثمراً ولا طيوراً

لذا قرّرتُ أن أخلقَ حروفي طيوراً مُثمرة

ونقاطي ثمراً

يطيرُ ويطيرُ ويطير.

 

 

 

  

 

 

 

في حُبّكِ حرف

 

 

لِمَ تبكي أيّها الحرف؟

هل ترككَ قلبي وحيداً على الورقة؟

*

الحرفُ يخلقُ قصصَ حُبٍّ خرافيّة

لكنَّ جذورها تطفو على الماء.

*

الحرفُ ضيّعَ مرآتَه في البحر

واستعاضَ عنها بالقصيدة،

القصيدة التي تقولُ كلَّ شيء

ولا تقولُ أيّ شيء.

*

أتعبني المطربُ الذي يبكي على حبيبته ليلَ نهار.

أتعبني حتّى أنّني كتبتُ عنه ألفَ مرثيّة،

كلّ مرثيّةٍ تعادلُ دمعةً

من دموعِ أغنياته الألف.

*

اليأسُ ثقافةٌ أسّسها الحُبّ

ولم يحضرْ، للأسفِ، حفلَ افتتاحِها المأساويّ.

*

اليأسُ اسمُ المرأةِ التي ترتدي

خرافةَ الحاءِ وأسطورةَ الباء.

*

في سينِ اليأس

ثمّة دمعة من الحجر.

*

في حُبّكِ حرفٌ مسكونٌ بالماضي

لا يرجعُ إلى الخلفِ ولا يلقي بنَفْسه إلى التهلكة.

*

في حُبّكِ حرفٌ مسحورٌ لا يستسلمُ أبداً

رغمَ أنَّ الطلقات النّاريّة

قد ملأتْ جُثّتَه الجميلة.

*

حرفٌ ألقى القبضَ على نَفْسه

وأودعني في سجنِكِ الفسيح.

*

في حُبّكِ حرفٌ. هل هو أنا:

أنا الألِفُ الذي لا بداية ولا نهاية لليله الأسْوَد،

ولا لقصيدته التي كلّما نجتْ من زلزالٍ

هرولتْ إلى زلزالٍ جديد؟

 

 

كنتَ وَهْماً فأصبحتَ حرفاً

 

 

رسمتْ إبرةُ عقاربِ السَّاعَةِ حظَّكَ

بقليلٍ من الأخضرِ الملآنِ بالفرح

وكثيرٍ من الأسْوَدِ المُتفحّم.

لا تحزنْ كثيراً

فربّما كانتْ إبرةُ عقاربِ السَّاعَة

أخفّ وطأة من أظافر القدر

أو أصابع الماضي.

*

السَّاعَةُ تُخيّركَ ليلَ نهار

ما بين النّهر والصّحراء.

النّهرُ أجملُ دونَ شكّ

فالغرقُ فيه أسرعُ من الموتِ عطشاً في الصّحراء.

*

لم يكنْ كلبُكَ باسطاً ذراعيه

بل كانَ يركضُ خلفَكَ منذ الطفولة.

لا ترتعبْ منهُ فهو قد عضّكَ ثُمَّ هرب،

وأنتَ الآن في دورِ النّسيانِ العظيم.

*

كنتَ تُراباً

فأحببتَ أن تُعْرَفَ فصرتَ حرفاً.

*

كنتَ وَهْماً

فأصبحتَ أسطورةَ وَهْم.

*

كنتَ وَهْماً فأصبحتَ أسطورةَ وَهْمٍ

ولم تصبحْ أغنيةَ حُبٍّ كما تمنّيت.

*

الفرحُ فاء

والحُبُّ حاء

والسعادةُ سينُ ساعةِ أفعى تفحُّ تفحُّ.

*

يقرأُ الجميعُ نقطتَك

ولا يحتارُ فيها أحدٌ سواك.

*

الشّيطانُ لا يحبُّ سوى الشّين

أو نقاط الشّين.

وقيلَ إنّه يكره الأبجديةَ كلّها.

*

هل تحاولُ النّسيان؟

إذنْ خلّصْ قلبَكَ بهدوء من القاف.

أو خلّصه من السّين

فهي كثيرة التسويف

وتدخلُ في أسماءِ السّيوفِ والسّكاكين كلّها.

*

كنتَ وَهْماً فأصبحتَ ألِفاً

ألا يكفيكَ هذا إبحاراً في سفينةِ الغرقى؟

*

كنتَ وَهْماً فأصبحتَ نقطةً.

ألا يكفيكَ هذا مَجْداً؟

*

كنتَ تُراباً وستعود تُراباً

ألا يكفيكَ هذا حرفاً؟

*

كنتَ ولم تكنْ.

تذكّرْ هذا ولا تبكِ

واعبرْ جسرَ الحياةِ القصير المؤدّي إلى الموتِ بهدوء.

 

 

 

 

 

 

 

الدرج الطويل

 

في الدرجِ الطويل

ألتقي يوميّاً بشخصٍ يشبهني تماماً.

وكلّما أردتُ أن أسأله: مَن أنت؟

ماذا تفعلُ هنا؟

لماذا تبتسمُ ابتسامةً ساخرةً حينَ تراني؟

احترتُ،

احترتُ كيفَ أبدأُ أسئلتي

فتوقّفتُ عن السّؤال

وبادلتُه ابتسامةً ساخرةً أيضاً

في الدرجِ الطويل.

*

المرأةُ ذاتُ المفتاح البلاستيكيّ

اشترتْ لها قفلاً ينفتحُ ذاتيّاً

ولم تعدْ بحاجةٍ إلى أحد.

*

النّاس الذين التقيتهم صدفةً على شاطئ البحر

كانوا يجيدون الابتسام.

وحينَ سألتُهم

إن كانَ بإمكاني أن أجلسَ معهم،

ضحكوا وقالوا:

نحن أشباح أيّها الغريب، كيفَ رأيتنا؟

*

في مسلسلِ خساراتي التي لا تُحصى

لم يعدْ يعنيني أن أجدَ حلّا لها.

صرتُ مشغولاً فقط

بإعدادِ الموسيقى التصويريّة.

*

كلّما ارتبكتُ سارعتُ لأدقَّ بابَ الشِّعِر.

وحينَ يخرجُ لي ملكُ الحروف

وهو يرتدي التاجَ المُرصّعَ بالجواهر

أكتفي بالنظرِ إلى قدميه الحافيتين.

*

على بابِ الدرجِ الطويل

كتبتُ لافتةً تقول:

هذا درجٌ لا يؤدّي لشيء

وليستْ فيه درجات للصعود

ولذا على مَن يرغب الصعود

أن يجيدَ الطيرانَ من دونِ جناحين.

 

 

 

 

الوهم المجنون

 

 

في القفصِ الذي دخلنا فيه مُرغَمَين

وخرجنا مُرغَمَين

كانَ هناكَ وَهْمٌ يطيرُ بجناحين

ويمشي على قدمين،

وَهْمٌ اسمُه الجمرة،

اسمُه القُبْلَة،

اسمُه السّرير.

كانَ ينتظرنا بشغفٍ مجنون

ليقودنا كوحشين صغيرين ساذجين

إلى القفصِ/ السّرير.

فدخلنا إليه مُسرعَين

وخرجنا مُرتبكَين ضائعَين مُسرعَين.

أنتِ تحوّلتِ إلى رمادٍ تطايرَ بعيداً

وأنا تحوّلتُ إلى غيمةٍ حلّقتْ بعيداً بعيداً.

هكذا خرجنا من القفصِ/ السّجن

بعدَ أن تركنا بابَ السّريرِ مفتوحاً،

أعني بابَ القفصِ مفتوحاً،

أعني بابَ السّجنِ مفتوحاً.

ما معنى كلّ هذا الوَهْم؟

ما معنى القفصُ/ السّجنُ/ السّرير؟

آ.... ما معنى كلّ هذا الوَهْم المجنون؟

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بئر الفراق

 

 

حرفي قصيدةُ حاء وباء

نشرتُها في ديوانِ مَن لا ديوان لهم،

أعني ديوان الزاهدين والمتأمّلين وعابري السبيل.

*

بقيتُ أحفرُ في أرضِ القصيدةِ ليلَ نهار

حتّى طارَ قلبي من الألم.

*

لم يكنْ يوسف سوى دمعة

ولم يكنْ يعقوب سوى عين.

هذا هو المشهد الذي لم يستوعبه إخوةُ يوسف

أبداً.

*

المرأةُ الفاتنةُ تتعرّى بملابسها العارية

في كلِّ مكان.

أهي عقوبةٌ إضافيّة

للقلبِ الذي صرعته حاءُ الحُبِّ والحربِ والحرمان

في وَضَح النّهار؟

*

الكورسُ يصرخُ في المسرحيّةِ السّحريّةِ صرخةَ الموت.

الصراخُ مؤثّرٌ جدّاً

حدّ أنّني لا أصدّقه على الإطلاق.

*

بحرفِ المحبّةِ يأسرُ قلبي النّاس.

شكراً له

وللمحبّةِ التي جعلته يطيرُ بجناحين من نقاط.

*

حرفي قصيدةُ عشقٍ 

لا يفهمها إلّا مَن عرفَ حاءَ الحرمان

واكتوى بنونِ الهجران

فهامَ على وجهه في وادي الله.

*

أنفقتُ حياتي من الألِفِ إلى الياء

أحفرُ في أرضِ القصيدة 

حتّى ظهرتْ لي في آخر المطاف

بئرُ الفراق.

 

 

 

 

 

 

هدايا الشِّعْر

 

 

لم يزلْ حرفي سهماً مُنطَلِقاً

لكنّه لم يصلْ إلى هدفه

رغمَ أنّني أطلقتهُ قبلَ ألف عام.

*

حلّقت الطيورُ البِيضُ المُهاجرةُ فوقَ رأسي تماماً

وأنا جالسٌ على مصطبةِ الحديقةِ العامّة.

حلّقتْ بالمئات

حتّى تصوّرتُ نَفْسي أطيرُ في حلمٍ سعيد.

*

على كلِّ منفيّ أن يبتدعَ خرافته الخاصّة

وإلّا سيتحوّلُ هو إلى خرافة،

خرافة تمشي على قدمين بالطبع .

*

البارحة ماتَ صديقي

فحاولتُ أن أتذكّرَ له موقفاً حَسَناً

لم أجدْ سوى أنّه مضى دونَ رجعة.

*

حرفي الذي مزّقتْ شظايا الحربِ قلبَه

بكى أمامي وأشارَ إلى البحر.

قالَ : ما اسمه؟

قلتُ : هذا قلبكَ الجديد.

*

كلّما شعرَ المنفيّ

بالرغبةِ في الطيران من فوقِ الجسرِ الكبير

أعطوهُ ذاكرةً جديدةً مجّاناً،

ذاكرةً مليئةً بالقهقهات.

*

في آخر المطاف

وزّع الشِّعْرُ هداياه على الشُّعراء:

جاءَ بشكلِ امرأةٍ مُذهلةِ الجمال

رمتْ على الشُّعراءِ الريش،

ريشَ حمامٍ وصقورٍ وعصافير وغربان.

ففرحَ الشُّعراءُ كلّهم دونَ استثناء

حتّى أولئكَ الذين نالوا ريشَ الغربان.

 

 

 

 

 

 

 

السّؤال الأعظم

 

الحروفُ تُحبُّني

ولذا أحببتُ كلَّ شيء حتّى أعدائي.

*

في زمنِ الحقدِ المُدَجَّجِ بالمخالبِ والأنياب

كيفَ تُوصَفُ هذه المحبّة الأسطوريّة:

أهي طيران الغُرابِ وضحكته الصفراء

أم هي طيران النَّسْرِ أعلى فأعلى فأعلى؟

*

هذا السّؤالُ الملآنُ برَفْرَفَةِ السّرّ،

برَفْرَفَةِ جناحِ الغُرابِ/ النَّسْر

لا يملكُ، وا أسفاه، أيَّ جواب.

لكنّه يلعبُ معي ليلَ نهار

لعبةَ الألِفِ بالوهنِ والوهم

أو لوعةَ الجيمِ بالصراخِ والعياط

أو دمعةَ الباء على سجّادةِ الدعاء.

 

 

 

 

 

بحثاً عن مقْبضِ الباب

 

 

في حُبِّكِ حلّقتُ بعيداً،

حلّقتُ طويلاً

حتّى عدتُ بسينِ السّرِّ وميمِ الماء.

*

إذا اجتمعتْ سينُ السّرّ بميمِ الماءِ ظهرَ السّمّ.

أهو سمُّ الحُبِّ أم سمُّ الموت؟

*

لا جدوى، بالطبعِ، من أسئلةٍ من هذا النوع

فحُبّكِ صحراء كبرى

كُتِبَ عليَّ أن أجتازَ ثعالبها ومكائدها

وعواصفها وزلازلها

بهدوء نبيّ ويقينِ إله.

*

في صحراءِ ظنونِكِ

ليسَ للعاشقِ سوى أن يحلمَ بالموتِ عطشاً

فذلكَ أهْوَن

من ذئبِ الذكرى الذي سيطاردهُ أبدَ الدهر.

*

اسمُكِ يتكرّرُ في أسماء نساء ونساء،

وفي أمطارِ شتاءاتٍ لا تُحصى ونوافذ لا تُحصى،

وفي أحداقِ غيومٍ من عبثٍ فاتن،

وفي ذاكرةِ أحلامٍ نسيتْ أن تغلقَ حقائبها

فطارتْ كرمادٍ في الريح.

*

بعدَ أن باعتني صحراءُ الحُبِّ إلى جبلِ الدّمع

وجبل الدّمع إلى بحرِ المنفى،

صرتُ أقرأُ شِعْري كلّ صباحٍ ومساء

إلى موجِ البحر

وسفنِ البحر

وشمسِ البحر.

*

قهقهة الدهر أسمعُها صاخبةً في حُبِّكِ.

قهقهة الدهر هي حُبّك.

*

حُبّكِ أسطورة

كُتِبَ عليَّ أن أقرأ حروفها حرفاً حرفاً

أنا الأعمى الذي يتلمّسُ جدرانَ البيت

بحثاً عن مقْبضِ الباب.

 

 

 

الشّبح المُتلصِّص

 

 

على الشّاعرِ أن يُهيّئ نَفْسَه دائماً

لكتابةِ قصيدةِ المطر

حتّى لو كانَ في الصّحراء.

*

في زمنِ العولمة،

يمكنُ لأولئكَ الذين يبنون قصوراً في الهواء

أن يضعوا لها أُسساً حقيقيّة

بقليلٍ من الأسمنتِ الوهميّ.

*

الجلّادُ الذي أصرَّ على تشريدي

أصبحَ مُشرّداً هو الآخر،

إنّما في العالمِ الآخر.

*

على بابِ التأريخِ لا باب الأكاذيب:

كتبَ أحدُ العابرين:

ما أسهلَ أن تبدّلَ جِلْدَكَ أيّها الجلّاد

لتكونَ نبيّاً أو رسولاً أو ضحيّة!

*

لا تثقْ بالقصيدةِ التي تغيّرُ عنوانَها

كلّما صدرتْ في طبعةٍ جديدة

أو في أكذوبةٍ جديدة.

*

اختفت المرآةُ وامرأةُ المرآةِ منذ نصف قرن،

لكنَّ الشّبح الذي كانَ يتلصَّصُ من خلفِ النافذة

لم يزلْ في مكانه واقفاً.

*

سألتُ الشّبحَ المُتلصِّصَ من خلفِ النافذة:

أكانَ المشهدُ يستحقُ كلّ هذا الوقوف الأسطوريّ؟

فأجابني بحديثٍ طويلٍ وغريبٍ وعجيب

لم أفقه منه شيئاً، للأسف،

لأنّه كانَ بلُغَةِ الأشباح.

*

أعرف أنَّ للأشباحِ لُغَة

لكنْ هل للأشباحِ أبجديّة؟

وهل في حروفهم نقاط؟

*

الحياةُ ضحكةٌ مُدوّية،

قليلٌ من الشّعراء

مَن يتحمّلُ قهقهاتها التي لا تنقطعُ ليلَ نهار.

وبعضُ هذا القليل يحوّلُ القهقهات،

بعدَ طول عناء،

إلى قصائد ذات حروفٍ ونقاط.

*

احترقَ بيتُ امرأةِ المطر

وقيلَ بل أُزِيلَ من مكانه.

لكنّني أُصبتُ بمسٍّ من الجنونِ دونَ شكّ

حينَ طلبتُ من امرأةِ المطرِ قُبْلَةً عابرة

حينَ رأيتها عابرةً،

عاريةً، حافيةً في الشّارعِ الطويل.

 

 

   

 

 

تلك هي روحي

 

 

سألني سائلٌ: متى تَتَلفّت القصيدة؟

قلتُ: حينَ تبحثُ عن حرفٍ

ينقذُها ممّا هي فيه.

*

قالَ: متى ينبغي على الملوكِ أن ينتحروا؟

قلتُ: إذا صاروا شُعَراء.

ضحكَ وسألني ثانيةً:

هل القصيدةُ ملكةٌ قتيلة؟

قلتُ: نعم، والقاتلُ مجهول.

*

قالَ: مِن أيّ بابٍ دخلتَ إلى الشِّعْر؟

قلتُ: من بابِ الاضطرار.

قالَ: هذا بابٌ هائلٌ، صفْهُ لي أرجوك.

قلتُ: هو مِن هَوْله لا يُوصَفُ أبداً.

*

قالَ: البارحة قرأتُ لكَ مَرثيّةً لروحٍ لم تمتْ بعد.

قلتُ: نعم، تلكَ هي روحي.

 *

قالَ: بأيِّ ملعقةٍ ينبغي قياس الشِّعْر؟

قلتُ: بملعقةِ الألم.

*

قالَ: مَن علّمكَ كتابةَ الشِّعْر؟

قلتُ : الموت.

قالَ: لكنّكَ حيّ!

قلتُ: نعم، أنا الميّت الحيّ.

*

قالَ: هل تستطيعُ المرأةُ كتابةَ الشِّعْر؟

قلتُ: نعم، إذا كانتْ لا تُحْسِنُ فَنَّ القُبْلَة.

*

قالَ: هل البحرُ شاعرٌ؟

قلتُ: نعم، كلُّ بحرٍ هو شاعر.

قالَ: والأنهار؟

قلتُ: لا، ما عدا الفرات فهو شاعرٌ خطير.

قالَ: ودجلة؟

قلتُ: تلكَ مُطربةٌ وممثّلةٌ من طرازٍ فريد.

*

قالَ: هل سمعتَ بسوقِ الشِّعْر؟

قلتُ: هو أسوأ الأسواق.

*

قالَ: مَن يسرقُ القصائد؟

قلتُ: الأغبياءُ والمُهرّجون.

قالَ: واللصوص؟

قلتُ: اللصوصُ لا يسرقون الشِّعْر

لأنّهم يكرهون الأبجديّة.

*

قالَ: متى تستطيعُ القصيدةُ الطيران؟

قلتُ: حينَ تكونُ أجنحتُها مِن دموع.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

رفرفة جناح الطائر

 

 

بسببِ طبيعتي الزلزاليّة

فأنا لا ألمعُ إلّا بين الأنقاض.

*

أرضي خصبةٌ

والأشجارُ كثيرة

لكنْ لا أسماء لها ولا أحداق.

*

يوميّاً أجلسُ عندَ النبع

من الفجرِ حتّى المغرب.

حتّى أنَّ النبعَ تنبّهَ لي

وَأخذَ يسألني أسئلةً مِن ماء.

*

قالَ صديقي: كيفَ أكتبُ شِعْراً؟

قلتُ: الأمرُ بسيط

لا تكتبْ عن الشّجرة

ولا عن الثمرة،

اكتبْ عن الجذرِ فقط.

قال: هذا صعبٌ جِدّاً!

قلتُ: اذنْ، اكتبْ عن عشِّ الطائرِ فوقَ الشّجرة

فهو دليلكَ نحوَ الثمرة

ورفيقكَ في كشفِ روحِ الشّجرة.

ضحكَ صديقي وقال:

أنا لا أحبُّ العشَّ ولا الطائر.

قلت: اذنْ، أنتَ لا تصلح للشِعْر

فالشِعْر هو الطائر.

بل هو، في تفصيلٍ أكثر،

رَفْرَفَةُ جناحِ الطائر.

*

قالَ: هل ترى الشَّاعرَ كاتبَ نصوص؟

قلتُ: الشَّاعرُ مُطلِقُ راء الروح

إلى فاءِ الفجرِ أو ميمِ الموت،

وهو مكتشفُ حاء الحُبِّ وساحرُ باء البُعْد.

*

الشَّاعرُ قمرٌ في أرضٍ لا يسكنها بشرٌ

أو شمسٌ لقومٍ لا أحداق لهم.

*

الشِّعْرُ هَلْوَسَةُ الألِفِ وأنينُ النُّونِ: الروح.

*

الشِّعْرُ دمدمةُ الموت،

هذيانُ البحر،

ضياعُ الصّحراء،

كوابيسُ المنفى،

ولمعانُ الماء.

*

الشِّعْرُ هو الفصلُ الأعظمُ في سرِّ الكون.

*

الشِّعْرُ حرفٌ يحتجُّ على نَفْسه

فيتظاهرُ ليلَ نهار

ضدّ فساد المعنى

ورياء الكون.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المطر يُغرقُ سريري الموحش

 

 

قالَ لي: الحياةُ قصيرةٌ فلا تقلقْ.

إنّها تشبهُ جلسةَ عابرِ سبيلٍ تحتَ ظلِّ شجرة.

قلتُ له : أرجوكَ دلّني على هذه الشّجرة.

*

البارحة، أعني اليوم، أقصدُ غداً

التقيتُ صدفةً بحرفي في الطريق

ورأيتهُ يحملُ أكثرَ مِن نقطةٍ مُحطَّمَة.

*

في غرفةٍ تشبهُ الكهف

جلستُ وكتبتُ تحتَ ضوءِ شمعةٍ كبيرة

أربعين كتاباً في العشقِ والموتِ والجنون.

كنتُ سعيداً لأنّني كنتُ أعلّقُ فوقَ رأسي

صورةً نادرةً لكلكامش وأنكيدو

يضحكان منّي ومِن كتبي:

كتب العشقِ والموتِ والجنون.

*

أفضلُ قصائدي كانتْ عن المطر

لأنَّ المطرَ كانَ يبلّلُ شُبّاكَ غرفتي،

وأحياناً يدخلُ منه ليبلّلَ فراشي المُوحش

بكثيرٍ من الحياة.

*

الحُبُّ مرآةُ المطر

فالمطرُ يحبُّ الجميع:

الملوك والشّعراء والعصافير والكلاب.

*

كلّما رأيتُ وردةً جميلةً شهيّةً تفتّحتْ للتوّ

تذكّرتُ كيفَ غرقتُ في النّهر،

غرقتُ حدّ أن أصبحتُ حرفاً دونَ ذاكرة.

*

في مدينةِ القططِ والفئرانِ والكلاب،

قرأتْ عليَّ نقطتي قصيدةً عن الغزال،

قرأتها حتّى دمعتْ عيناي.

*

على شاطئ الفرات

يتناوبُ القتَلَةُ على دورِ الجلّادِ ودورِ الضحيّة.

ولم يكن الفراتُ يأبه كثيراً لما يحصل

لأنَّ مجرى الدمِ فيه

كانَ يسيرُ إلى جانبِ مجرى الماء

منذ الأزل.

*

ملّلتُ من مشاهدةِ قصصِ الحُبِّ البائسة

على شاشةِ السّينما

وصرتُ أفضّلُ مشاهدةَ قصصِ الضائعين في الصّحراء،

معَ أنَّ الصّحراء في قلبي بحجمِ الجحيم.

*

أينَ هو المطر؟

ولماذا اكتفى بإغراقِ فِراشي المُوحشِ هذه الليلة

مع أنَّ الاتفاق معه كانَ صريحاً:

أن يغرقني حدّ أن أنسى كلَّ شيء عدا النّسيان؟

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قصيدتي تسبح وتضحك

 

سأشعلُ حرفاً من حرفٍ

حتّى أبقى مُبصراً طوالَ حياتي.

*

سأشعلُ ليلاً من ليلٍ

حتّى أجد الفجر.

*

سأشعلُ حلماً من حلمٍ

حتّى أبني لروحي صَرْحاً من نور.

*

البحرُ قريبٌ جدّاً

بل هو ممتدٌّ كالحلمِ أمامي

لكنّي في القصيدةِ أسمعُ أمواجَه بوضوحٍ أزرق

وألمسُ زرقتَه رملاً يتساقطُ من بين أصابع كفّي.

*

حينَ تنقرضُ شمسُ حياتي

ستمرُّ الريحُ بذاكرتي

فلا تجدُ حرفاً يستقبلها

أو يتأمّلها أو يهبّ معها كما اعتادتْ.

فهل ستحزنُ للحال

أم تمرُّ مرورَ العابر الذي لا يأبهُ بأيّ كان؟

*

حرفٌ تحدّثَ كثيراً عن القنبلةِ العانس.

فلما كبرَ تزوجَها

وأنجبَ حرباً شعواء.

*

في ذاكرةِ الحرفِ الأخضر أنَّ الحاءَ هي الحرّيّة،

وفي ذاكرةِ الحرفِ الأزرقِ هي الحقد،

وفي ذاكرةِ الأسْوَدِ هي الحرب،

وفي ذاكرةِ الأبيضِ هي الحُبّ

بعيداً عن كلِّ أكاذيبِ التأويل.

*

حرفٌ علّمني الشِّعْرَ حتّى أفقدني ذاكرتي

فلما ذهبتُ إليه أعاتبه لم يعرفني أبداً.

*

قصيدتُه دلّتني على بئرِ الموت

بدلاً من بئرِ الحُبِّ أو بئرِ الحكمة.

*

آبارُ الرحلةِ لا تُحصى:

أوّلُها بئرُ الوحشة

ثُمَّ بئرُ الخوف

وبئرُ الجوع

وبئرُ اللذّة

وبئرُ الحرمان

وبئرُ الأنين

وبئرُ المنفى.

لكنْ أن تجدَ بئراً للماء

فذلك يعني أنّكَ وجدتَ المصباحَ السّحريّ.

*

الحروفُ تنظرُ إلى الورقة

وتقولُ لي ببراءةِ طفل:

لماذا تكتب؟

أرتبكُ من السّؤالِ فأردُّ بسرعة:

أنا لا أجيبُ على مثلِ هذه الأسئلة!

*

باعتباري مَلِكاً للبحر

قرّرتُ أن أرسمَ لوحةً للبحر

بحجمِ البحر.

ذلك هو المستحيل

ولذا رسمتُ البحرَ بحجمِ سبعين عاماً

من المستحيل.

*

سأشعلُ ذاكرتي بقليلٍ من الحروفِ والورق

فهي ذاكرة تشتعلُ أبدَ الدهر

ولا تعرفُ الطمأنينة

إلّا كما يعرفُ الشّحّاذُ رغيفَ الخبز.

*

هل كانتْ ذاكرتي طائراً تائهاً

يرفرفُ فوقَ رأسي

طوالَ العمر؟

أم نهراً يتصارعُ أبداً

معَ سدٍّ ضخم

أُقِيمَ بمكانٍ سرِّيّ مجهول؟

*

وضعتُ البحرَ في قصيدتي

ففاضَ قلبي وبكى.

وظلَّتْ قصيدتي تسبحُ وتضحك.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أُغْرِقُ ذاكرتي في الماء

 

حينَ انتهت الحرب

أرسلتُ ذاكرتي للتصليح

كي تتخلّصَ من الشظايا والدخان.

كانت النتيجةُ مُذهلةً حقّاً

فلا ذاكرتي عادتْ إليّ

ولا بيان انتهاءِ الحربِ كانَ صحيحاً.

*

المنفى خُدْعةٌ إضافيّة

من خُدَعِ الوطنِ التي لا تنتهي.

*

نقطتي الخرساء

اختفتْ بعدَ أن تعبتْ من رمي الحجارة

على بابِ الحروف.

*

على ورقةِ حياتي

كتبتُ حرفاً وحلمتُ بكِ.

فاخضرَّ الحرفُ

ثُمَّ اصفرَّ

ثُمَّ ازرقَّ

ثُمَّ اسودَّ

ثُمَّ اختفى.

*

أحلى قصص الحُبّ

هي التي تبدأُ بالقُبَلِ وتنتهي بالكوابيس.

*

في المنفى ليسَ هناك مِن مرآةٍ لترى نَفْسَك

ولذا صارَ الشَّاعرُ يَتَمرأى في حرفه ليلَ نهار.

*

حينَ تنكسرُ المرآة

تتحوّلُ المرأةُ - لا المرآة - إلى شظايا لا تنفعُ بشيء.

*

كلّما تذكّرتُكِ

صعدَ حرفي إلى الغيمة

ثُمَّ ألقى نَفْسَه في البحر.

*

في السِّجن

كانَ الشّرطيُّ يُغرقُ رأسَ السّجينِ في الماء

ليعترف.

أمّا أنا،

ففي كلِّ قصيدةٍ كتبتُها،

كنتُ أُغْرِقُ ذاكرتي في الماء

لتتوقّفَ عن الاعتراف.

 

الطفل في المرآة

 

 

مثل طفلٍ نظرَ في المرآة

فوجدَ رأسه دونَ شَعر

فقرّرَ أن يضيفَ على صورته في المرآةِ شَعْراً،

هكذا نظرتُ في مرآةِ روحي

فوجدتُ حرفي دونَ نقطة

فوضعتُ عليه نقطة.

لماذا؟

أمِن أجلِ أن أستعيدَ غيمةَ طفولتي؟ 

أم لكي لا أُصاب بِمَسٍّ مِن الجنون؟

*

الوردةُ أعني القصيدة

أشرقتْ هذا الصباح دونَ معنى واضح أو سببٍ مفهوم.

مَن قال:

إنّ القصيدةَ تحتاجُ إلى معنى واضح أو سببٍ مفهوم

لتشرقَ

أو

لتنتحر؟

*

تعلّمتُ كتابةَ الشِّعر في غرفةٍ ضيّقة.

ولم أزلْ أتنقّل

بين عشراتِ البلدان من غرفةٍ ضيّقة

إلى أخرى أكثر ضيقاً

لكنّني كنتُ أوسّعُ حلمي

وأدفعُ به جدرانَ غرفتي شيئاً فشيئاً

حتّى أصبحتْ غرفتي بحجمِ بحرٍ عظيم.

*

أولئك الذين يُحبّون الحرف

والحرف يُحبّهم

مُصابون بلعنةِ الموهبة

أعني لعنة الطيران على ارتفاعِ ذراعٍ واحدٍ من الأرض.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

غداً حينَ يطلعُ الفجر

 

 

بعدَ أن حوّلتْكِ صرخةُ الروحِ إلى أُسطورةٍ حروفيّة

تساءلتُ:

مَن مِنّا سَيُكتبُ له الخلود أو أكذوبة الخلود

أنا أم أنتِ؟

*

بعدَ أن كتبتُ عنكِ كتاباً كاملاً

أصبتُ بداءِ النّسيانِ العظيم

ففرحتُ

فقد كانَ هذا هدف كتابي الذي لا هدفَ له.

*

خُلِقَ الكونُ من الماءِ والترابِ والهواءِ والنّار

أمّا أنتِ

فقد خُلقتِ من الرمادِ والدمِ والملحِ والدموع.

*

صارت الكتابةُ عنكِ تمريناً يوميّاً

لإزالةِ التراب عن فراشتِكِ المطليّةِ بالذهب

وسطَ ركامِ الذاكرةِ السّوداء.

*

قُبْلتُكِ عبرتْ معي القارّاتِ والسّنين

لذا توجّبَ عليَّ أن أمتدحها

أي أن اخترعَ لها حرفاً جديداً.

*

غداً حينَ يطلعُ الفجر

سأكتبُ آخرَ قصيدة حُبٍّ عنكِ

وبعدها أجرّب أن أطيرَ إلى المجهول

بجناحين من حروف.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قصيدة لا تنتهي

 

 

في القصيدةِ الأربعين

ينبغي كسر الباب الأربعين

والسقوط الحرّ في ثقبِ الذاكرة.

*

الحبُّ خدعةٌ عظيمة

اكتشفها آدم بالصدفةِ السّعيدة

وتوجّبَ علينا - نحنُ أحفاده - أن ندفعَ ثمنَ اكتشافه

 بهدوء ولا نتكلّم كلمةً واحدة.

*

إذا كنتَ نباتيّاً فلا تكنْ أسدَ الغابة.

مَن قالَ هذا؟

أظنّه فيلسوف الطغاة

أو طاغية الفلاسفة.

*

البارحةَ سقطَ دينارٌ من الذهبِ وسطَ يدي.

ارتبكتْ عيناي وارتجفتْ أصابعي،

سارعتُ فأعطيتُه إلى عابرِ سبيلٍ ضَلَّ السبيل،

ففرحتْ عيناي واستراحتْ أصابعي.

*

ليسَ هناك من مطرٍ في الشّارعِ أو في الحديقة.

هناك مطرٌ في قلبي

أحياناً يجعلني أرقص،

وأحياناً يجعلني ألصقُ عينيّ بالنافذة

مُتأمّلاً في الشّارعِ والحديقة

إلى أن تغرقَ عيناي بالدموع.

*

سألني سائلٌ: أين النّهر؟

أعني النّهر الذي تغرفُ منه كلَّ هذه الحروف؟

فأشرتُ بيدي إلى اليمين

ثُمَّ إلى اليسار

ثُمَّ إلى الجنوب

ثُمَّ إلى الشمال

ثمَّ إلى اليمين ......

فتعبَ السائلُ من حركةِ يدي

ومضى وهو يهزُّ يده ممّا رأى.

*

في زمنِ العولمة

يتداخلُ السيركُ مع الجمهور

فلا تستطيع أن تعرفَ على الإطلاق

مَن هو المُهرِّجُ ومَن هو المُشاهد!

مَن هو المُروِّضُ ومَن هو القرد!

*

كتبتُ عدّةَ أسطرٍ من قصيدتي عنكِ

وأرسلتُها إلى الحلم

فتكفّلَ الحلمُ بتكملتِها بكثيرٍ من القُبُلات.

*

كم كانتْ قصّةُ حُبّنا جميلة

بل كم كانتْ قصّةُ حُبّنا مُدهشة

لو أنّني استطعتُ أن أقلّمَ الصورَ المُرّة فيها

مثلما أقلّم أظافر يدي.

*

قلتُ للحرفِ وسماءُ القصيدةِ امتلأتْ بالبريق:

ما هذا؟

قالَ: إنّهُ الرعد.

قلتُ: أعرفُ الرعدَ إشارةً للمطر.

قالَ الحرفُ: والمطرُ إشارةٌ لي

أنا الشّوق الذي يملأُ الروحَ بالمطر.

*

سأتوقّفُ عن الكتابةِ فقط

حينَ يتحوّلُ حرفي إلى طائرٍ حقيقيّ

أو حينَ أطيرُ حرفاً من الحقيقة.

*

قصيدتي لا يفهمها مَن لم يمسكْ بحاءِ الحرمان

ويضعها جمرةً على نقطةِ باءِ الحبّ.

*

القُبلةُ مَلِكَةٌ

والموعدُ لاجِئٌ بجوازِ سفرٍ سقطَ في البحر.

*

نقطتي لا يستطيعُ أن يبوحَ بها حتّى الحرف.

*

أنا سعيدٌ حدّ أنّني نسيتُ السّينَ والسّمَّ والسّكّين.

*

حرفي حلمُ حُبٍّ عارٍ إلّا مِن نبضةِ القلب. 

*

صرتُ شاعراً

لأنَّ حرفي لا يعرفُ أن يمشي إلّا على الجمر.

*

صرتُ قصيدةً حروفيّة

حتّى أحافظ على ما تبقّى من ذاكرةِ الطفلِ في أعماقي.

*

اشتريتُ مرآةً هائلة

لكنّها انكسرتْ وأنا لم أزلْ قربَ محلِّ المرايا.

رجعتُ إلى البائع

وطلبتُ بعينين دامعتين مُرتبكتين مرآةً جديدة.

فاعتذرَ البائعُ بكلامٍ عجيبٍ غريب،

كلام لم أفهمْ منه سوى أنّه لا يبيع الإنسان

أكثرَ من مرآةٍ واحدة!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قفزة خاطئة

 

 

المدنُ التي تجيدُ سحقَ كلّ شيء

هي مدنُ الشّحّاذين المُزيَّفين

على بابِ الأسواقِ أو بابِ الجسور،

والشُّعَراءِ الشّحّاذين

على بابِ الحاناتِ أو بابِ الملوك.

*

في النّهرِ الصغيرِ كخنجرٍ بدويّ

كانَ طيراني الأوّل معكِ.

طرتُ ولم أزلْ أتذكّر،

بعدَ نصف قرنٍ من الأهوال،

الغيمةَ التي لقيتُها في الطريق.

مثلما أتذكّر أنّني عدتُ مُتعَباً

أجرُّ أقدامي جرّاً

وأجرُّ أجنحتي أيضاً.

*

في ميمِ الماءِ سرٌّ

أعظمُ من سرِّ ميمِ الموت

رغمَ أنّ سرّ الموتِ أعظم.

*

في ميمِ الماءِ لوعةٌ عجيبة

ولذا كانَ الطيرانُ في النّهرِ عجيباً.

*

حُبُّكِ أكذوبةٌ سعيدة

لحياةٍ هي، في الأصلِ، سلّة أكاذيب.

*

لا يصلحُ العطّارُ ما أفسدَ الدهر.

لكنَّ الشَّاعر يحاول،

وكلّما ازدادَ جنوناً أو ازدادَ حكمةً

فإنّه يستبسلُ في المحاولة.

*

حينَ يقفزُ البيتُ الشِّعْريُّ بالخطأ

أتذكّرُ، دونَ أن أبكي أو أضحك،

أنّ الحياةَ قفزةٌ خاطئة.

*

الحياةُ قفزةٌ خاطئة.

لكنَّ مليارات العدّائين والعدّاءات تركض

ككلابِ السباقِ ليلَ نهار.

في حين أنَّ المطلوب،

باختصارٍ شديد،

هو القفز لا الركض.

*

حُبّكِ رجلٌ مريض

أُطْلِقَ توّاً من السّجن

فانهمرتْ دموعُه الحرّى

وكادتْ تفسد عليه هواءَ الحُرّيّة.

*

لا بأسَ أن أقولَ لكِ وداعاً،

مع أنَّ الأمرَ كلّفني حياةً بأكملها.

*

لا بأسَ أن أقول لكِ وداعاً

لأجرّبَ إطلاقَ النّارِ السَّعيد

على رأسي السَّعيد

كلّ ليلةٍ سعيدة.

*

تكرّرَ المشهدُ كثيراً حدّ اللعنة،

ولذا أشفقَ الدهرُ عليّ

فعلّمني أن أكتبَ قصيدةً جديدة

كلّما نفدت الإطلاقات

أو كلّما فشلتْ في إصابةِ الهدف.

*

الحياةُ قفزةٌ خاطئة

لكنّها قفزة سعيدة،

سعيدة لأنَّ الشّمسَ تشرقُ كلّ صباح

لتزيلَ آثارَ الإطلاقاتِ على الأرض

وآثارَ الصرخاتِ على جسدِ الليل

وجسدِ القصيدة.

 

 

 

إذا أفاق البحر من نومه

 

 

الذكرياتُ تشبهُ جبلاً مُغطّى بالثلج.

المشهدُ هائلُ الجمالِ دونَ شكّ،

لكنْ إذا جاءَ الصيف

وبدأَ الثلجُ يذوبُ شيئاً فشيئاً

فإنّكَ لا تستطيع إيقافَ الذكرياتِ من الذوبان

سواءً أرقصتَ مذبوحاً من الألم

أو رقصتَ مذبوحاً من الملل

أو رقصتَ مذبوحاً من الجنون.

*

قالَ لي البحرُ ذاتَ مَرّة:

أنا عاشقٌ.

وحينَ أردتُ أن أسأله عن السببِ بكيت.

*

كنتُ أخاف أن أذهبَ إليه لأسأله

فقد مرَّ نصفُ قرنٍ على فراقنا.

وقلبُ البحرِ كبير

لكنّه لا يحبّ الأسئلةَ الغريبة

ولا أسئلةَ الغرباء.

*

صرتُ، الآنَ، مثل البحر

أنظرُ إلى النّاسِ فقط.

لا أتبسّمُ ولا أضحك

ولا أتكلّمُ بأيّ كلامٍ أو إشارة

ولا أسألُ، بالطبعِ، أيَّ سؤال.

*

لم أشأْ أن أرمي الحجارةَ على السّفينة:

سفينة القبطانِ السكران

والمرأةِ العارية

والكلبِ الذي لا يكفُّ عن النباح،

 لولا أنّ القدرَ رماني مثل الحجارة

على شاطئ الجحيم.

*

البحرُ يكرهُ الشطرنج

وهوايتهُ المُفضّلةُ هي النوم، النوم العميق.

لكنّه إذا أفاقَ من نومه مَرعوباً

فإنّه يبدأ بخنقِ الجنودِ والوزراءِ والملوك

والفيَلَةِ والخيول

الواحد بعد الآخر.

ولا يرتاح باله أبداً

إلا إذا انتهى من خنقِهم وإغراقِهم جميعاً.

 

تيتانيك

 

 

قصّةُ حُبّنا تشبهُ قصّةَ الباخرةِ تيتانيك

التي غرقتْ قبلَ أن تعرف البحر

بقليل.

*

حُبّنا يشبهُ آخر الناجين في الباخرةِ تيتانيك

إذ كانَ قابَ قوسين أو أدنى من الموت

جالساً واقفاً كفأرٍ مذعور

في المكانِ الأخير،

في مركبِ النجاةِ الأخير.

*

قصّةُ حُبّنا تشبهُ الباخرةَ تيتانيك

التي فوجِئتْ بأنَّ البحرَ لا يعرف إلّا الاغتصابَ الوحشيّ

هي التي جاءتْ إليه عروساً تحملُ جمالَها الأسطوريّ

وشفتيها العارمتين بالحياة

ونهديها اللذين يصيبان كلَّ مَن رآهما بصعقةِ الهيام.

 

 

 

قطعة ذهب

 

 

حينَ ماتَ حُبّي أَمامي،

دونَ سببٍ مفهوم،

صرختُ

فامتدَّتْ صرختي عبرَ السّاعات

والأيّام والسّنين

حتّى أيقظتْ حرفي من نومه

فجلسَ في منتصفِ الليلِ عارياً أمامَ المرآة

وبدأَ يكتبُ مرثيّتي عبرَ السّاعات

والأيّام والسّنين.

*

كانَ حبُّكِ قطعة ذهبٍ وجدتُها في الطين

فركضتُ إلى النّهرِ لأغسلها

لكنّها سقطتْ من يدي

فرميتُ جسدي خلفها.

ولأنَّ النّهر كانَ بعمقِ سبعة آلافِ عام

لذا غرقتُ

وكانَ غرقي ضروريّاً

كما يبدو من سياقِ الكلام.

*

لكتابةِ كابوسٍ رائع

ينبغي على الشَّاعرِ أن ينتحر

أكثر مِن مرّة.

*

في طفولتي ضعتُ في السّوق،

ضعتُ ألف عام

حتّى أعادني كلكامش إلى نقطتي وحرفي،

وربّما أعادني أنكيدو.

لكنَّ أنكيدو مات

فماتَ كلكامش حزناً عليه.

ولذا ضعتُ مرّةً أخرى،

وكانَ الضياعُ - وا أسفاه - أبديّاً.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

دائماً أسألُ أصابعَ يدي

 

 

وا أسفاه

كانَ حُبّكِ من النوعِ المُزلزِلِ للذاكرة.

*

دائماً أسألُ أصابعَ يدي التي طَرَقَتْ بابَكِ

قبلَ أربعين عاماً:

إن كانَ قد عَلِقَ بها شيءٌ مِن سحرِكِ وأُسطورتِك

فكَتَبَتْ أربعين ديوان حُبٍّ عنكِ

ولم تزلْ تكتب المزيد.

*

لم تكنْ حبيبة الشَّاعر

بل خرافته المُقدَّسة.

*

لم تكنْ حبيبته بل لعنته،

لعنته التي تختارُ لنَفْسِها

اسماً جديداً كلّ يوم.

*

كانتْ زلزاله الذي لا يكفُّ عن الرقص

ورقصه الذي لا يكفُّ عن الدوران

ودورانه الذي لا يتوقّفُ أبداً.

*

كانتْ أُكذوبة حرفه الجميلة.

*

كانتْ دُمْيَته التي يخفيها في قلبه

إذ لم يكنْ معه ما يكفي مِن المكان أو الزمان.

*

كانتْ جسر طفولته الخشبيّ

وصُرَّة ملابسه التي حملَها وهربَ باتجاه الشّمس.

*

كانتْ كتابه العجيب الذي امتلأَ بحروفِ الوهم

ووهمِ النقاط.

*

كانَ يُعلّمها الرقص

ويطلبُ منها الصّلاة.

*

 كانَ يُعلّمها البحر

ويطلبُ منها الصّحراء.

*

كانَ يُعلّمها الغرق

ويطلبُ منها النجاة.

*

كانَ يُعلّمها النّجم

ويطلبُ منها الإقامةَ في الرمل.

*

كانَ يُعلّمها الكتابة

ويطلبُ منها الصمت.

*

كانَ يُعلّمها العشق

ويطلبُ منها النّسيان.

*

كانَ يُعلّمها العطش

ويطلبُ منها الماء.

*

كانَ يعلّمها الزحف

ويطلبُ منها الطيران.

*

بعدَ أن قطعوا لسانَ الشَّاعرِ الرائي

صارَ على الجلّادين

أن يمحوا حرفَه من الأبجديّة.

*

القصيدةُ تتلفّتُ إلى الماضي

ثُمَّ إلى المستقبل

وتقولُ: هل مِن معنى ينقذني مِمّا أنا فيه؟

*

في قصيدةِ العولمة

تلعبُ الحاءُ معَ نَفْسها فقط

فيما تركبُ الباءُ درّاجةً هوائيّةً مسروقة.

 

 

 

المقطع الأخير

 

 

اليوم سمعتُ أُغنيةً مُؤثّرةً حقّاً؛

كانَ المستمعون يُصفّقون مُبتهجين

والموسيقيّون يعزفون وهم يبكون

فيما كانَ المطربُ المسكين

يموتُ ببطءٍ شديدٍ على المسرح.

*

الشّعراءُ الحقيقيّون لا يموتون أبداً

لأنّ الموتَ أسطوريّ

والأسطورة تكرهُ الموتَ من الأعماق.

*

على شاطئ النّهر

كانَ العشّاقُ يُقبّلون حبيباتِهم بحرارة

فيما كنتُ أختلسُ النظرَ إليهم

وأنا أرمي قطعَ الخبزِ إلى البطِّ وأضحك،

وكانَ البطُّ يأكلُ قطعَ الخبز

وهو يضحكُ مثلي.

*

حرفي قصيدة

وقصيدتي نقطة؛

نقطةٌ واحدةٌ فقط.

*

البارحة لم تمطرْ غيمةُ القصيدةِ في رأسي

فاضطررتُ إلى النومِ في التابوت،

التابوت الذي استعرته من الذاكرة

لليلةٍ واحدةٍ فقط.

*

في الغابةِ الكونيّة،

لم يستطع الغرابُ أن يتعلّمَ الصّلاةَ أبداً

إذ كانَ يُعاني مِن عُقدةِ خيانته الأزليّة

لنوح وللناسِ وللسفينة.

*

الغرابُ علّمني بحقده الأعمى سرَّ الحُبّ؛

علّمني أن أرفعَ يدي

عبرَ الغيمِ إلى خالقِ الحاء

فيستجيب لدمعتي الحرّى،

وأن أضعَ يدي على قلبي

فتهبط الباءُ قصيدةَ حُبٍّ صوفيّة الأسرار،

عذبةً كقطرةِ المطر.

*

في أرضِ الملح،

كيفَ لأشجارِ العسلِ أن تنمو؟

*

لكثرةِ ما فتّشتُ عن روحي

ضحكَ منّي حتّى المجانين.

*

الروحُ ماء

والماءُ ريح

والريحُ وهم

والوهمُ هاء.

مِن أين، إذن، جاء

كلُّ هذا الهباء؟

*

البارحة نسيتُ أن أغلقَ الباب

فدخلتْ عليَّ الريح

وخلعتْ نافذتي الوحيدة.

ولذا أغلقتُ اليومَ الريح

فدخلتْ عليَّ الباب

ونامتْ بجانبي على السّرير.

*

لم تكنْ حياتي سوى هروبٍ مُتواصل

ولذا لم أشعرْ بالمللِ أبداً

إلّا في اللحظاتِ التي التقطتُ فيها أنفاسي.

*

بحرفٍ واحدٍ فقط

حاربتُ سبعين عاماً

اليُتمَ والوحشةَ والحقدَ والظلام

حتّى نلتُ، بعدَ عذابٍ أسطوريّ،

وشاحَ النُّون

ووسامَ النُّقطة

وصولجان الكلمة

وتاجَ الحُلْم

وعرشَ الحروف.

 

 

Adeeb Kamal Ad-Deen (Babylon, 1953) is a poet, journalist and translator who has degrees in Economics 1976 and English Literature from the University of Baghdad 1999 plus a Diploma of Interpreting (Arabic-English) from Adelaide Institute of TAFE, South Australia 2005.

He has published 19 poetry collections in English and Arabic and won the major prize of Iraqi poetry in 1999. His poetry has been translated into many languages such as: Italian, French, Spanish and Urdu. A huge number of articles and books have been written about his poetry style, and many researchers have earned doctorates and masters degrees in the Universities of Iraq, Algeria, Iran and Tunisia by writing critiques of his works.

As a translator, he has translated into Arabic short stories and poems from Australia, Japan, New Zealand, China and the USA.

Adeeb Kamal Ad-Deen now lives in Australia as an Australian citizen. His poetry has been published in The Best Australian Poems 2007 (edited by Peter Rose) and The Best Australian Poems 2012 (edited by John Tranter), on many Australian websites and in magazines and books, such as Southerly, Meanjin and Friendly Street Poets.

www.adeebk.com

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home