قراءة في (النقطة) لأديب كمال الدين

مفاجأة المتلقي بجمالية القسوة

 

 

 

نجاة العدواني

 

قال باشلار: إنّ كلّ شاعر يدعونا إلى القيام برحلة، وهذه الرحلة تكون إلى عالم يخلقه الشاعر من مزيج صور، يعانق الواقعيُّ الخياليَّ فيها، والدعوة التي تلبيها هذه القراءة من شاعرعراقي تطغى على تجربته نزعة عنف دام فرضها واقعه المعيشي والتاريخي. ورغم أنّ المضمون أخذ حيزاً بارزاً من اهتمام الشاعر أديب كمال الدين في مجموعته الشعرية السادسة(النقطة) فإنّ القارئ لا يمكنه غير أن يحتفي بشعرية واضحة ومهارات تتراكم كماً ونوعاً لتؤكد بلغة عالية ملامح صوت متميز يفكك اللغة العربية إلى حروف ونقاط ليشكّل منها رموزه وصوره التعبيرية التي بنى عليها نصوصه.

استعمل الشاعر التشبيه بكثرة وكذلك المقابلة وجمع بين المتناقضات كما لجأ إلى أسلوب حكائي ينسجم مع قصيدته النثرية ذات الايقاع الداخلي وعمد إلى تكرار بعض الملفوظات والأرقام على امتداد القصيدة الواحدة أو عبر المجموعة كلها مثلما فعل في قصيدته (محاولة في الرثاء) ص5 وهي مرثية فعلية نسجها الشاعر بأسلوب المراثي القديمة، معدداً مراحل حلمه، حيث أعاد الرقم (أربعين)  ثماني مرات والطريف في هذه القصيدة أنّ الشاعر يشخّص الحلم ويمنحه ملامح الشخص: (كان الحلمُ نحيلاً كموعدٍ ضائع) ص5، فهو نحيل وطيّب ويضع على رأسه تاجاً ويرتدي زيّاً رسمياً وعقالاً ويركب الخيل، وبقوله: (جلستُ على باب الحلم) يكون الشاعر قد حدد الزمن والمكان والحدث في القصيدة كما حدد الهدف قبل دخوله إلى جوهرها لأنّ الباب يقود إلى الداخل وهو بجلوسه على باب الحلم كان يتهيأ إلى تلك الرحلة، ومثلما فعل في القصيدة الأولى فعل أيضاً في القصيدة الثانية (محاولة في السحر). إذ حدد الزمن والمكان والحركة:

 

(في ظهيرةٍ تموزية:

جلستُ تحت سنّ الشمس

فطحنني الحرّ حتّى ابتلّتْ ثيابي

وقلبي وأصابعي

وسقطتْ من عيني دمعتان

انقلبتا، بقدرة قادرٍ، إلى ساحرين.) 

 

 تبدأ الحكاية عادية وكأنها تنطلق من الواقع ظاهرياً وقد تجلّى ذلك بتحديده الزمن، ومن خلال فعلي الجلوس والطحن والحال الذي تؤول إليه ثياب من يتعرض إلى الحر. ولكنه انطلاقًا من قوله: (انقلبتا إلى ساحرين) يدخل منعرجاً آخر يحملنا إلى عوالم الخيال والخرافة فتتحول الصورة من إيحائية واقعية إلى إيحائية ترميزية فيذكرنا الشاعر  بأجواء السحر ويذهب بنا إلى الهند واللامكان وكأنهما متجاوران أو يعنيان الشيء نفسه بالنسبة للقارئ فالهند هي بلاد العجائب البعيدة وستظل كذلك في المخيلة مهما اقتربت.

 

الشاعر والحلم

إنّ الشعور الفني لدى الشاعر لا يمكنه الانفصال عن الحلم خصوصاً أحلام اليقظة التي يستبطنها جاعلاً قصائده امتدادا لها، والحلم في هذه المجموعة الشعرية تغلغل في كلّ النصوص مازجاً بين الذات والموضوع فكأنّ الصور تخفي في جوهرها حقائق كامنه خزنتها الذاكرة واستحضرتها لحظة الكتابة:

 

(وذابت امرأة العسل

فبدتْ شفتي مرّة كالسمّ

وذابت كفّ الحلم

حتّى تحوّلتْ إلى أصابع هيكل عظمي.) 

 

 هذا الحلم الذي بدأ جميلاً وساحراً انتهى بفاجعة مرعبة تفوح منها رائحة الدمار والهلاك وذلك لإنّ الشاعر رغم تعلقه بالوهم يدرك أنه لا يستطيع الخلاص من واقعه المرّ، فيصرخ مستغيثاً حتّى يرّق له قلب أحد السحرة الأربعة في قصيدته، فيقول

 

(سنعطيكَ حروفنا أيهذا المعذب

ونعلمكَ نقاطنا أيهذا المحروم

لكننا نخاف إن تعلمتها

أن تسخر من الذهب وثياب الذهب

أن تسخر من البلدان

أن تسخر من الأداء والسيقان

أن تسخر من الأحلام

فتكون مثلنا فارغاً

بارداً

ضائعاً

عارياً للأبد.) 

 ورغم قداسة العلم ومع أنه بمثابة السلاح لمن يملكه لأنّ به يمتلك ذاته وكل ما حوله إلاّ أن الساحر هنا لا يرى فيه هذه الخصال بل يعتقد من يمتلك الحقيقة يفقد الحياة. ربما لأن المعرفة تجعلنا نبتعد عن الحلم و نواجه الواقع بكلّ قسوته:

 

(أنا بريقُ سيف الأصلع البطين

أنا معنى اللامعنى وجدوى اللاجدوى

أنا دم أخذته السماء ولم تعطه الأرض

أنا بقية من لا بقية له

أنا الفرات قتيلاً ودجلة مدججة بالأثم).

     من قصيدة: (محاولة في أنا النقطة)

 

 وظّف الشاعر الخرافة في هذه القصيدة أيضاً ولكن عن طريق الشكل الخارجي للملفوظات مثل: (الخرافة) وكلمة (اللامعنى) ولكن ونحن نتجاوز غشاء  الصور تطل علينا تلك الحقيقة التي تقطر دماً، حقيقة شعب استباحت دماءه ثورات خرافية. ولكن الأشياء، تتجرّد من معانيها فتصبح خاوية من كلّ شيء بالنسبة إلى رجل يرى الفرات قتيلاً ودجلة مدججة بالإثم وليس باستطاعته أن يفعل شيئاً لذلك يلوذ بالحلم جاعلاً أناه تنحت ملامحها على كلّ الأشياء والأفكار إنها ذات الشاعر الحائرة التي لم تجد تفسيراً مقنعاً لما يحدث حولها:

 

 (أنا النقطة

عرفتُ الحقيقةَ وعجنتها بيدي

قبل أن يصل الإنسان إلى الكلمة

وقبل أن يصل إلى القمر

وقبل أن يبتكر المقابر الجماعية

بل إنني عرفتُ الحقيقةَ عارية

عري هابيل وقابيل

فأعطيتها ملابسي المثقوبة

ورعبي الذي اتسع فشمل آسيا الطغاة

وأفريقيا المجاعة

وأمريكا الأعاجيب).

 

 لا تعدّ الصورة صالحة بحد ذاتها بل بشبكة المعاني التي تنشرها. إنّ صورة العري هنا استمرت رغم محاولة الشاعر سترها وذلك لأنّ الملابس المثقوبة غير قادرة على تغيير معنى العري أو الفضح الذي كان ينشده الشاعر في قصيدته  هذه وصورة  العري تحيلنا إلى الحقيقة التي تصبح أحيانا خطيئة لأنّ المعرفة تحدث ذلك الزلزال الذي يقلب  كلّ شيء والنقطة هنا لها ملامح ومشاعر فهي تبكي وتشعر بالخطيئة وبالخراب الذي لمسته ولم تستطع الحروف الأخرى الوصول اليه فبقيت محافظة على موتها:

 

 (ما أشدّ حزني

ما أعمق دمعتي التي وسعت آلام البشر

ما أفدح خطيئتي: خطيئة المعرفة

ما أعظم زلزالي وخرابي الكبير).

 

الحلم والموت

بنى الشاعر قصائده على عالمين متناقضين لكنهما يلتقيان عند نقطة الغياب أو التلاشي وهما الموت والحلم. فالموت يعني الفناء، والحلم رغم جمال عوالمه وغرابيتها يقود إليه أيضاً وذلك لأنه يعني اللاوجود.

 

 (كانت النقطةُ جوهرةً

جوهرة بحجم تفاحة كبيرة

حملها طفل مدهوش ببريقها

فتبعه كلُّ لصوص المدن

كانت النقطةُ حلماً مليئاً بالدفء الباذخ

خرج إليّ ليعوضني عن يتمي وهلْوَسَتي

فتبعه كلّ أنين القصائد الحيّة والميّتة).

    قصيدة: (محاولة في دم النقطة).

 

إنّ أسلوب الشاعر الحكائي يجعل القارئ يتابع في لهفة طفل أحداث القصيدة وتطوراتها فهو يروي حكاية النقطة التي خرجت من الباب هذه النقطة المشخصة المتحركة التي كانت عسلاً أسود وتكرار فعل (كان) إلى جانب تأكيده حكائية القصيدة يؤكد أيضاً حركة النقطة داخل زمنين: ماض وحاضر، فالحاضر هو الزمن السابق في هذه القصيدة لأنه انبثق مع لحظة الكتابة وتشكل الصور الشعرية وكذلك الأحداث الراهنة التي أثارت شجون الشاعر وأيقظت  في ذاكرته أحلام الطفولة ودفئها. ولم يكن ذلك الطفل الذي  يحاول تهريب دهشته بعيداً عن فضول الذباب واللصوص والوحوش والقتلة الاّ أن رغبة الشاعر في الخلاص والراحة النفسية التي يجدها في الماضي  فهو يستحضر الطفولة ويفقدها  بمجرد أن يفتح عينيه على الحقيقة المرّة التي تغتال كلّ بارقة فرح في روحه:

 (كانت النقطةُ طفلة/ امرأة

خرجتْ إليّ بثديين غامضين

وعينين مفتونتين

وشفتين ذاهلتين

فتبعها كلّ وحوش المعمورة)

 

تبرز القصائد ذلك الصراع الذي يعيشه الشاعر على كلّ الأصعدة وخصوصاً النفسية فهو يشعر بقسوة خضوعه لمشيئة القدر التي تهدد بحرمانه من تحقيق أية حرية في الاختيار لذا يتسلّط عليه الماضي و تلازمه الطفولة ولا يرى في ذاته الاّ بئراً بلا قاع تزحف على فكره وقد تجلّى ذلك خصوصاً في بعض القصائد التي مثلت فيها النقطة دور أنثى بأجساد مختلفة فهي الطفلة التي تمثل البراءة والأخوة وهي كذلك الأم التي تلقم طفلها ثديها، وهي أيضاً المرأة الشبقة الفاتنة التي تثير غرائز الرجل ببهاء جسدها. وقد تجلّت هذه الصور من خلال صورة: (طفلة/ امرأة)  ثم من خلال السطر (خرجتْ بثديين غامضين) والغموض هنا يعطي للثديين أكثر من وظيفة فهما مصدر أمومة متدفقة حناناً وكذلك مصدر إثارة جنسية، لكن هذه المرأة المزدوجة لا تسلم من فضول (وحوش الأرض) ويعني الشاعر هنا أنّ الأنثى ستبقى تثير المطامع حتّى وإن كانت طفلة أو أمّاً:

 

(كانت النقطةُ نوراً يلفّ كلّ شيء

نوراً خرج لينير سواد طفولتي

فحاول قتله كلّ ظلام الأرض)

 

 بدت صورة الحلم في كل القصائد متبوعة بصورة الموت وذلك ربما لأن الكتابة هي الغوص في الذات واكتشاف ماترسب داخلها وتحريكه ثم بعد ذلك تبدأ لحظة التوحّد مع ذلك الكامن والصعود به إلى سطح الذات حيث يتم صقله وتشكيله على هيئة صورة قد تكون حلماً يجمع بين كيانين مختلفين كالحياة والموت مثلما فعل الشاعر هنا إذ عكس الصور فجعل النور يلفّ كلّ شيء بينما طفولته وحدها ظلت سوداء قائمة، وذلك يوضح الصراع القائم بين الذات والأشياء:

 

 (كانت النقطةُ نقطتي

لكنْ حين لعبنا طفلين مسحورين

على سرير اللذة الأحمر

تحوّلت النقطةُ إلى خرافة

ثم إلى هزأة

ثم إلى مهرّج

وحين عضّها الزمنُ بنابه

تحوّلتْ إلى سيركٍ عظيم

لا بداية له ولا نهاية).

 

 تعكس كلمة (سيرك) هنا معنيين أحدهما يحيل على فرح الطفولة وهو ماتفتقده طفولة الشاعر ومن هم مثله والمعنى الثاني يحيل على السخرية من العالم و خوائه من القيم والأخلاق، من ناحية  ثانية أجاد الشاعر اللعب بالملفوظات  عندما عمد إلى المقابلة بين المتناقضات مثلما فعل هنا:

 

 (لم أجد ما أحرق به نفسي

سوى حروفي الباردة)

 

 وقد تحوّل برود الحروف ضمنياً إلى نار تحترق بها نفس الشاعر التي تستلذ الحلم ويعجبها الموت الذي يليه بعث:

 

(الموسيقى تجيء

فاقومُ من الموت اليها

لنلتقي طفلين يتيمين

يتحسّران على أرجوحة العيد).

 

في هذا المقطع تبعث الموسيقى الحياةَ في الشاعر الذي يهرع من الموت إليها، وقد برز تعلق الشاعر بالموسيقى على امتداد نصوص الديوان فهي (عذبة كشفاه الأطفال) وهي يمجيئها تبعثه من الموت كالهة، كما إنّ الموسيقى تجمع الشاعر بطفولته البائسة التي اكتنفها اليتم والحرمان. وليس ضرورياً أن تكون المعنية هنا طفولة الشاعر وحده بل الطفولة في المطلق وخصوصاً في الأماكن المحاصرة:

 

 (السعادةُ راقصةُ باليه

والحزنُ بدويّ يفترش الأرض

ليعزف على الربابة)

 

 في اللحظة الأولى من التلقّي تساءلتُ بشأن إقدام الشاعر على تشبيه السعادة برقصة الباليه الرقيقة الجميلة وتشبيه الحزن بالبدوي يفترش الأرض؟ ولكنني وأنا أحاول تمثّل تلك الصورة أمام عيني وجدتني أوافقه بل أعجبني ترميزه هذا فصورة راقصة الباليه بكلّ مالديها من سحر تثير السعادة عند رؤيتها بينما تثير صورة البدوي وهو يفترش الأرض ليعزف على الربابة الحزن والبؤس. وهذه الصورة الذكية تؤكد مقدرة الشاعر على تطويع  اللغة حسب إرادته ويواصل الشاعر مفاجأتنا فيقول:

 

 (أعجبني موتي

وحين حاولتُ أن أكرره

جننت!)

 

في هذا المقطع يحاول الشاعر تمثل صورة شعورية مخفية خلف تشابك الخيوط، أراد أن يجعلها مرئية كما أراد أن يحولها إلى فعل نابع من إرادته هو من خلال قوله: (أعجبني موتي) ومحاولته تكرار هذا القول. كلّ ذلك يجعلنا ندرك رغبة الشاعر في التحدي حتّى وإن كان يدرك مسبقا هزيمته. وبذلك لم يعد الموت يعني الاندثار بل يعني أيضاً حب الحياة والكفاح من أجلها، وهو هنا يوافق (فرويد) على مقولته الشهيرة (إنّ هدف الحياة هو الموت) وهذا يعني أنّ الموت حقيقة لا يجب أن نتجاهلها بل يجب أن نجعلها طريقنا إلى الحياة لأنّ قوة الحياة أعتى وأبقى:

 

 (الموسيقى تهبطُ.. تهبط ..

والروح تضيع.. وتمّحي).

 

 إنّ الموت هنا صورة ضمنية تتجلّى من خلال فعل الهبوط التدريجي للموسيقى وضياع الروح إلى حد الامحاء. لذلك يقترن هذا الموت باللذة التي تقود إلى الجنون والضياع، تجلّى الموت من خلال الملفوظات فكان عمارة (قبوراً وأضرحة، وجثثاً، وأكفاناً، وكان حزناً وقتلاً)

ولكنه دائماً يفتن الشاعر:

(من أجلكِ افتتنت بالموت).

لقد وظف الشاعرُ الأساطير مثل قلقامش وقابيل وهابيل ....... الخ

 

 (كلّ يوم أطلقُ عليكَ النارَ ولا تموت

أشفقُ عليكَ لأنكَ قويّ كالثورِ المجنّح

ووحيد كمرآة أعمى

وغامض كرأسٍ مقطوع

ووحشي كدبابةٍ تسحقُ طفلاً

وضائع كحرفٍ لا نقطة فيه

وساذج كأنكيدو

وخاسر ككلكامش

أشفق عليكَ لأنكَ تشبهني تماماً

لأنكَ أنا!).

 

 هناك رغبة كامنة في النسيان عند الشاعر في أن يغتال ذلك الضمير الذي يذكره بمعاناة شعبه بحضارته التي أصبحت ساذجة ولا معنى لها أمام أسلحة الدمار التي تحاول أن تمحوها وهو أول من جعل من قلقامش البابلي رمزاً للخسارة بعد أن كان رمزاً للخلود والوفاء والشجاعة  وربما تكون واقعية الشاعر وموضعيته ووعيه وراء تفطنه إلى تلك الخسارة التي لحقت بقلقامش في الغاب بحثاً عن عشبة الخلود لم ينته بعد وبالتالي فنتائجه لم تكن مضمونه وتحيل على الخسارة المجسدة في موت أنكيدو الذي تم فعلاً وهذه الصورة تخفي وراءها صورة أخرى صورة شعب دفع من دمه الكثير مقابل عشبة أخرى لم يتم تجسيدها في الواقع بعد:

 

(لأنّ غرفتي ضيقة

ولأنّ حرب الطيور بدتْ مليئةً بالرعب).

 

إنّ صورة الحروف وهي تحلّق في الغرفة على شكل (نسور، وصقور، عصافير وبلابل، نحلات وحمامات، بوم وشواهين) جعلت الحرب تبدو غيرعادلة لأنها تجمع أنواعاً غير متكافئة من الطيور فالعصافير والبلابل لا تقابل النسور أو الصقور عندما يتعلق الأمر بالقوة لأنّ القتال سيقوم به فريق واحد بينما يمثل الفريق الآخر الفريسة أو الضحية كما إنّ ضيق المكان يجعل ذلك الهجوم أكثر فظاعة لأن الغرفة تعني مكاناً مغلقاً محاطاً بحدود يسهل داخلها الانقضاض على الفريسة ومحاصرتها  بدون أن تقوى على الإفلات أو يسمع صوتها أحد. وهكذا هو العالم غرفة ضيقة تنقض داخلها الجوارح على الطيور المسالمة. وترافق هذا الموت أجواء احتفالية:

 

 (محتفلاً بنفسي

وضعتُ دمي في كأسي

وضغتُ منه أوركسترا حروفي ونقاطي

هل أجرّب الرقص؟

نعم سأهيىء من حروفي

رقصة باليه لكرياتي الحمر والبيض

هل أجرّب الموت؟

نعم  سأهيىء من حروفي تابوتاً أخضر

يحمله الشيوخ الملتحون ليضعوه في قصر من المرمر

فأكون معهم وحولهم وبانتظارهم).

 

 تمتزج طقوس الموت وعمارته بطقوس أخرى احتفالية تملأها الموسيقى والرقص، وكأنّ تجربة الرقص تمتزج  بتجربة الموت ليشكلا عالماً من الأهازيج والحركات التي تقود كلها إلى التلاشي لأن الاحتفال دموي والاوركسترا  صيغت من الدم والرقص أيضاً بطلاته مزيج من كريات بيض وحمر لهن رائحة الدم، ولكن الذات الواحدة التي قامت بالاحتفال انتهى دورها بعد أن دخلت التابوت الاخضر فأصبحت مفعولاً به عندما حملها الشيوخ الملتحون. لكن موتها هنا أيضاً لم يكن نهائياً وهم يضعون التابوت في قصر المرمر ستكون خارجة معهم وحولهم. إذن هي ذات لا تهزم ولا تموت رغم كل ما تتعرض له وبالعنف تقترن الموسيقى دائماً، بالدم أو الموت:

 

 (وحين اكتمل كلّ شيء

ولم يبقَ سوى موسيقى الفرح العظيم

أطلقتُ عليه النار

وإذ تلوّى دمي بدمه

وصار يسحب خيط الدم بألمٍ فادح

دهشتُ لهول المشهد

ثم ضحكتُ وضحكتُ

وبكيتُ

ومت).

 

 ورغم محاولة الشاعر إخفاء مشاعر العنف الكامنة في ذاته الاّ أن القارئ يلاحظ تلك الصورة الدموية التي تمتزج بكلّ مكونات قصيدته حتّى الجميلة منها وخصوصاً الموسيقى والرقص وربما كان لانعكاس الألم على ذات الشاعر ذلك التاثير القوي لهذه الصورة التي تشبه فيلماً أمريكياً هو (الرقص مع الذئاب) حيث البطل الوحيد في الصحراء بين الوحوش يروّض بموسيقاه الذئاب ويجعلها أليفة تشاركه رقصته المجنونة حول النار أو تشبه رقصة زوربا اليوناني التي أراد من خلالها أن يدوس على أحزانه وأحزان من حوله ويتحدى الصعوبات. إنّ الضحك من مشهد الدم والألم هنا هو ذلك الضحك المرّ الذي يشبه البكاء، والموت فهو لم يكن ضحكاً متحدياً كرقصة زوربا أو رقصة الذئاب ولهول هذا كلّه يصبح (العدم سعيداً) والموت (كمهرجان أسطوري).. يقول الشاعر أديب كمال الدين:

 

 (على نارِ شمعة

أريدُ أن أذيب أهرام حزني

وعلى نارِ دمعة

أريدُ أن أحرق رمادَ شبابي

وعلى نارِ اطلاقة

أريدُ أن أبدأ أو أنهي سمفونيةَ دمي).

 

 إنّ العنف والموسيقى متلازمان على امتداد القصائد:

 

 (الموتُ على الأبواب

الموتُ هو الصديق الوحيد الذي يتذكّرني بعمق

ولا يكفّ عن إرسال أزهاره السود إليّ

بالبريد المسجّل).

 اننا لم نلاحظ اشمئزاز الشاعر من الموت فهو دائماً مهرجان أو صديق أو لحظة متعة:

 

 (الزمن مدن بهيئة مقابر مضيئة

وضوء عذب ينير جثث المسافرين)

 

 فحسب رأيه يكمن الموت الحقيقي في تلك المدن التي تشبه المقابر والضوء لا يعطيها شرعية الوجود والحياة ولكن مايثير الدهشة هو هذه الصورة المتناقضة التي تجمع بين عذوبة الضوء والجثث وبين الحركة التي يعنيها السفر والجمود الذي يعنيه برود الجثث. ومثلما يقابل بين الموت والحياة والحركة والجمود يجمع الشاعر بين الجريمة والبراءة، وذلك من خلال الاعتراف بالذنب وهذا يعني التطهر الذي تسعى إليه الذات المعذبة نتيجة إحساسها بالخطيئة التي تهدد بحرمانها من معانقة الحرية لأنه لا يتوفر الإحساس بالمسؤولية تجاه من أحبهم الشاعر إلاّ عندما تكون الذات متيقظة وعلى أتم الاستعداد للقفز في أتون الفكر:

 

 (أنتِ جريمة قتل متكاملة

لا ينقصها إلاّ أنا)

 

 هكذا يرى الشاعر الحياة من حوله: دم وقتل وجثث وأحلام وأطفال وذات حائرة بين كلّ هذا تبحث داخل متاهة الوجود عن خيط نور يشدها إلى الدنيا كي تحيا من جديد. في النهاية لم أشأ الغوص في الجانب الشكلي للقصائد وفضلت اختيار قراءة تأويلية رغم ما تحمله من مسؤولية لأنّ تجربة الشاعر رغم تشبثها ظاهرياً بالأساطير والخرافات وبعض ملفوظات القاموس القديم، فقد بدت لي تحمل نفساً جديداً يتأرجح بين الرومانسية والكلاسيكية إذ هي من ناحية نابعة من روح حساسة تنعكس على المواضيع وتؤثر فيها ومن ناحية أخرى تبدو الغلبة  ظاهرياً للشكل الذي اختاره الشاعر منذ البداية وطوّع له الجوهر كي يتماشى والحروف والنقاط التي شكّلت رموز هذه القصائد، وكذلك كان الأمر بالنسبة للمواضيع فبملفوظات ناعمة كان يتم التعبير عن معان وحالات قاسية بل بقدر ما تكون الملفوظات ناعمة يكون المعنى الموحي به جارحاً ومرعباً أحيانا.

 

********************************************

 

 نُشرت في صحيفة الزمان اللندنية العدد 877  - 27 آذار - مارس 2001

و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 225 - 236

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home