الهوية وسؤال المعنى في شعر أديب كمال الدين

*****

 (مقاربة تأويلية)

أ. د. عبد القادر فيدوح

 

 

 

*****

 

 جامعة قطر

 

1.                مرايا الهوية

·                    الهوية المتأرجحة

·                    ما تبقى من أرومة المنبع

·                    ما يسلب من رغبة الإمكان

2.                الواقع المُبَايَنُ/سؤال الهوية

·                    الواقع المتأبَّى

·                    الواقع المشرئب

3.                الغربة المستديمة

·                    فَصْمُ المدار/ غيهب المعنى

·                    رحلة المنفى/ مستودع البلاء

4.                هوية نص الإمكان

·                    اللغة مأوى الشاعر/كسر القاعدة

·                    هوية النص بين الشعري والسردي

·                    ظلال المعنى

 

 

 

1.  مرايا الهوية

الهوية المتأرجحة

إذا كانت ثقافة أيّ عصر تميل باستمرار إلى خلق نمط حياة جديدة، وتنتج معارف وسلوكيات مخالفة لما كان سائدا عبر توالي العصور، فلأن مرد ذلك اهتمام الفرد بما يخدم مصلحته الذاتية، وإذا كان الأمر كذلك مع راهن الثقافة الجديدة، أو ما أصبح يطلق عليه بالبارديغم Paradigm ، فإن مصطلح الهوية "التقليدية" كانت دوما متماسكة في اختياراتها، داخل النسق المتعارف عليه، حيث يصاغ كل شيء داخل المجتمع، أو شريحة اجتماعية ما، في تبنيها المعاني والقيم المشتركة المتعارف عليها، وبالنظر إلى هذه الحدود الفاصلة، فإن نسق البراديغمParadigm  متغير باستمرار، في حين تبدو الهوية محافظة على سرِّ الاستمرارية ـ مع التحفظ وبشدة على نسبة التحولات وإمكانية التغييرات ـ في توجيهها لمعاني القيم المشتركة بين الناس؛ الأمر الذي تبدو معه العلاقات المترابطة منفلتة في المدة الأخيرة، ومنزاحة عن الثوابت ذات المضامين المتفق عليها، وخالية من أيِّ فائدة منوطة بالمعايير والتصورات التي ينبغي لهيئة الوضع أن يكون عليه.

وفي أدبيات الهوية "التقليدية" كانت يقينيات القيم تعد شرطا مسبقا للخوض في أيِّ تجربة؛ والسبيل الوحيد لضمان التقدير والالتزام ـ غالبا ما ـ يصدر من قيم المجتمع في إيديولوجياته بجميع مكوناتها، وبالنظر إلى ذلك تكون النتيجة احترام السائد شرطا مقدسا، حين يعم الالتزام بضوابطه، وبوساطة هذا السائد ترسم الأسس لأنماط الحياة، وفاعلية الوصول إلى السبيل، وليس من الغريب أن يكون من خرج عن هذا النظام هو كمن خرج عن القاعدة، ومن ثم فإن الهوية "التقليدية" هي ما يملي على الناس القيم والمعايير الضابطة للمجتمع، وتمارس تأثيرها عليه. أما نسق البراديغم فهو ـ في نظر ذويه ـ صانع الذوق الجديد، وهو دائما في مسعى إلى البحث عن أنماط متميزة؛ لإنعاش أسلوب الحياة الجديدة، لذلك أصبح الاهتمام المتزايد بالثقافات الجديدة المنضوية تحت البراديغم ـ الذي علا شأنه مع جيل الألفية الثالثة ـ مقابل الانكفاء تدريجيا عن الالتزام بأيقونة الهوية التي بدأت تخسر رصيدها من وظيفتها المتوارثة، بعد أن أخْلت معايير ثوابتها السبيل إلى معايير استقلالية الإنتاج الذاتي، من خلال سند نسق التكوين الذاتي  Autopoiesisالذي أشار إليه نيكولاس لمان Niklas Luhmann  حيث تشكل مبررات الذهول والاضطراب قلب ثقافة الحيرة " ما يعني أن سؤال الهوية لنسق ما، يجب طرحه والإجابة عنه من داخل النسق نفسه، وليس عبر مراقب خارجي. يجب أن يَستخلص النسق قراره بذاته، فيما إذا كان قد تغيّر أثناء المسار التاريخي من خلال تغيّر البنى إلى درجة أنه لم يعد هو نفسه"[1]

إن الإفاضة في الحديث عن الهوية قد يميلنا عن جادة الصواب الذي رسمناه لبحثنا، وقد لا يجدى الإسهاب فيه نفعا، والبحث عن الإجابة الشافية لما يتضمنه سؤال المعنى المرتهن بنسق الثقافة الجديدة "الباراديغم" والمتخفي بتلاوين وصراعات جمّة، لايعني بالضرورة العودة إلى استكشاف معنى الهوية وطلب توضيح مقاصدها، اعتقادًا منا أن الهوية لم تعد مقيدة بالثوابت المنطقية المتعارف عليها، بعد انهيار المعنى، وتنامي إنتاج السطح، وتعاظم الزيف، نتيجة تفشي الثقافة الاتباعية في مقابل الثقافة الإبداعية.

أضف إلى ذلك أن حديثنا عن الهوية في الإبداع لا يعني بالضرورة العودة إلى الهيكل الموروث في مصادراته الممكنات من الأشكال والرؤى، أو حاجتنا بالعودة إلى الانتماء، أو الاستناد إلى النماذج الأولية بوصفها مسلمات لمبادئ واقع الحال، أو بالطريقة التي فرضها التفكير التقليدي؛ كي نعي بها مرجعية هويتنا. إن الحالة الراهنة تستوجب من الأجيال على توالي العصور التأمل في الهوية بوصفها مفصلَ تحول، ومقامَ انفتاح على ممارسات مستجدات العصر التي من شأنها أن تخلق بدائل مناسبة من دون إفراغ ثوابت مرجعية الهوية من محتواها التليد.

والمبدع في تمثل هذا التصور، واقتفائه هذا المسعى، معنيٌ ـ حتما ـ بالإسهام في تمكين وعي الوجود الذاتي من مَنَاعَةٍ تجعل المرء غير قابل للانجراف مع التيار الذي تختلط فيه الاتجاهات، والميول، والأهواء، كما أنه مقصود به تنوير المجتمع بتعزيز التواصل الإنساني الذي ينتصر للقيم الكونية النبيلة، وبوصفه أيضا حريصا ـ أكثر من غيره ـ على ربط العلاقات المحترمة، وتطلع الذات إلى تجسيد ما هو كامن في الذات الإنسانية من فعل تواصلي يقوم بالأساس على قيم التداولية في كل شيء، سعيا إلى تحقيق شروط الإنجاز، وبناء الفعل الحضاري.

ولا أحد، في اعتقادنا، ينكر بوادر تمثل الهوية في شكل منفصل عن الجماعات، نتيجة تفاقم معايير نسق البراديغم للحياة اليومية الجديدة، على نحو ينتج فيه نسقه بتصورات يعمل على أساسها الواقع، وهذا يعني أن هناك عشوائية في الخلق والإنتاج. كما أنه لا أحد ينفي أن الهوية ـ مع بداية الألفية الثالثة تحديدا ـ  لم تعد سوية في المؤتلف، بقدر ما أصبحت تميل إلى الانزياح نحو الإمكان الذي يشكله النسق اليومي، والدخول في سديم وهْم السهي إلى وجود بديل عن الوجود الأصلي؛ الأمر الذي خلق معه استبدال الهوية المضادة المنفلتة (البراديغم) بالهوية المعيارية اليقينية، أو تحول "الهوية المركبة والمتحولة في وجه الهوية المغلقة والنهائية" حسب تعبير أمين معلوف الذي بيَّن وَهَنَ هوية الجذور مقابل "الهوية المتأرجحة"، أو هوية الجذور المنتشرة عشوائيا من دون هدف.

لقد أدت مستلزمات تعقيد الحياة الاجتماعية، من قبيل الفوضى المنظمة، إلى خلق نمط حياة يتطابق خاصة مع مستجدات التجربة الذاتية بخلق ميثولوجية جديدة، تعنى بإبراز المظاهر المتعالية التي شملت كل مجالات الحياة، بتغذيةٍ من وسائل تكنولوجية المعلومات المعقدة ـ على وجه التحدريد ـ وهو ما تدرسه الدراسات الابستيمولوجية، والدراسات الأنثروبولوجية الثقافية في البحث عن المقاصد الغائية اللانهائية للمبادرات الفردية التي أصبحت تتعارض مع البنية الذهنية التقليدية الداعية ـ دوما ـ إلى البحث عن الحقيقة وفق أنساق متعارف عليها، وبقيم أحادية التصور في مقابل المنْفلتٍ لذاته، الذي قد لا يعنيه غيره.

والحال هذه، كيف يمكن وقاية الهوية بالعملية الإبداعية، والشعر على وجه التحديد، وفق نسق البراديغم؟ وهل يمكن شعريا حفظ ما تبقى من الهوية؟ وهل باستطاعة الشاعر رسم حدود الذات التي يُستدل بها على  كَبِد الحقيقة؟ وما الذي يمكن أن يضيفه المبدع في ظل متغيرات الحياة؟ وكيف يكون الإبداع حول مسألة الهوية ـ في منظورها الجديد/ البراديغم متجاوبا مع أزمات واقع الحال؟ وبصورة أدق، كيف يمكن للشاعر تحديد رؤية الوجود أمام تنامي صدمة المستقبل؟ وكيف يتأطر المعنى المنفلت في الإبداع مع غياب اليقين؟

هذه الأسئلة وغيرها ـ كثير ـ ستأخذ موضوع " الهوية وسؤال المعنى في شعر أديب كمال الدين" بالدراسة والتحليل والخوض في استيفاء صورة الهوية في شعره.

إن مجمل ما عَمِيَ من صور الشعر الحديث، وخفي، نابع من مركبات نمط حياة "فوق واقعي" مبطن بالعجائبي والغرائبي في تجريده الصور، بعد أن تذرذر الدائم/الثابت قسريا، وتناثرت مفاهيمُه، سواء في سلوكيات الحياة اليومية أو من خلال إيقاع الصور الشعرية، وانسياب الكلمات، ومرونة الأسلوب، وهو علامة دالة على السطحية المصطنعة، والانسيابية المعتمدة الموازية لفقدان العمق في حياتنا اليومية. وإذا كان الأمر على هذا النحو  فإن أديب كمال الدين يحاول إعادة تشكيل الصورة في منظوره الخاص؛ ليضع القارئ أمام تحديد موقفه لمقاومة ما اعترى مسالك هويتنا من شوائب، وجعْلِه يختار ما يربط سؤاله بالبحث عن حقيقة وجوده، ويفكر فيما ينبغي التفكير فيه؛ لأن الحياة التي لا تدعو المرء للتأمل في نظره ليست قابلة للعيش بأي حال.

ما تبقى من أرومة المنبع

يتسع مجال الارتبط بالأصالة في شعر أديب كمال الدين، وتتنوع مستويات الهوية في دلالاتها، بعد أن أدرك أن الحياة لم تعد قابلة للعيش كما كانت، ولم يعد ثمة مجال للتأقلم معها؛ الأمر الذي أفقده سيادته على نفسه قبل فهمه حقيقة ما يجري في هذه الحياة التي أصبحت مترعة باليأس، والضيم، والإذلال.

وتتنوع أعمال أديب كمال الدين ـ  بخاصة مع "الحرف" ـ بين ما هو موضوعي وما هو ذاتي، أو بين الواقع المعمول، والواقع المأمول، وبين الذات والآخر، وبين التعبير عن تفكيك القيم وما يعتري الإنسان من تجاذب في مساعيه، اليائسة، إلى سبل للخلاص يرى فيها آفاقه، وتعيد فيه "أناه" المتاعلية بعد أن أصابها الوهّن، واحتواها الحضور المغيّب، أو المهمّش، وامتصاص مرارة الألم التي باتت تلازمه لزوم من يمشي مع ظله، مسلوب الإرادة، هائما بين سؤال الهوية واستجداء الطريق الذلول كابن السبيل الذي تقطعت به السبل، وضاقت به الحال والمآل، فلم يجد ما يتبلّغ به، حتى أنه لم يعد يعرف هويته إلا وهي متناثرة في هباء الزوبعة، أو كمن يحاول القبض على السمك الأزرق، حين يجيب عن أسئلة عائقة، وكأنه يستحضر مقولة هيدغر" الوجود سؤال، ولكنه ليس من الوجود في شيء":

..... 

* ما اسمكَ أيها الشاعر؟

- اسمي الطائر.

* وبعد؟

- السمكة.

* السمكة؟                                                     

- نعم.

* ذلك ممتع!

 ....

 * والنقطة، كيفَ تصفُ النقطة؟

- النقطة أمّي وأبي.

* وإذنْ، قضّيتَ طفولتكَ معها؟

- وقضّيتُ صباي وشبابي ودهري الأعمى.

* هل كنتَ سعيداً؟

- نعم،

 إذ عشتُ وسط النقطةِ كالسمكة.

وكانت النقطةُ بحراً يمتدّ ويمتدّ

إلى ما شاءَ الله.[2]

 

 

 

 

 

 

 

 

ولعل الجمع بين "الطائر" و"السمكة" و"النقطة" يضع القارئ في متاهة؛ لصعوبة الربط بين المعاني، حيث تبدو العلاقة متنافرة، غير أن تشخيصها في استعارتها المكنية يعطي مفاتيح تخفف من آلية التحقق الدلالي لكُنْهِ عالم الشاعر، وغايته، في الرسالة التي أراد من خلالها إنتاج معنى آخر يستجيب للرغبة في خلق واقع آخر، حتى لو كان خياليًا يجعل الذات الشاعرة تحمل في داخلها روح الطائر، وتبني وجودها في مقام فضائه الذي يرمز إلى اللامتناهي، المقترن بالحلم في تحقيق الحرية المنشودة، غير أن زئبقية الوصول إلى ذلك الحلم في صورة السمكة جعل الشاعر يتجرع حلمه، ويكظمه، وكأن تشخيص صورة السمكة في فضاء حركيتها هي في حد ذاتها حالة منفلتة، ومحاولة القبض عليها يصبح ضربا من الجَهد المضني، والتيه في عمق لا متنفس فيه؛ الأمر الذي يبعده عن الوصول إلى الحقيقة التي تمثل النقطة غايتها "نقطة الوحدة". ونقطة الشاعر في مركزية هويته هي أصل دائرة وجود الحضاري، وإنزال السكينة في قلبه، ومرآة لثقافته، حيث كل شيء في وجوده يربطه بمحور هذه الهوية التي تدور حولها ثقافته، وكل شيء منجذب إليها.

وفي مثل هذه الحال، تكمن روحية التصوير الكشفي في طبيعة ما يحاول الشاعر معالجته بخصوصية تجربته المريرة، المرتبطة بمرجعية الانتماء والتأمل الحدسي، اعتقادا منه أن تصوره القائم على الحدس لا يمكن أن يتجرد من إدراك معرفة ما يصدُق عليه، ومن صورة الواقع الذي يستمد منه حُلمه؛ لأن تصور الواقع المفترض" لا يمكن أن يقوم إلا على أساس مكين من مفهوم متماسك للخيال ... فالصورة هي أداة الخيال، ووسيلته، ومادته الهامة التي يمارس بها، ومن خلالها فاعليته ونشاطه"[3]

 أما إذا حاولنا ربط النقطة بنزعة الشاعر الصوفية، فإنها من الاصطلاحات التي استقر عليها معظم المتصوفة الذين نظروا إلى الوجود بوصفه متَأَملاً في نقطة البداية، كما هو الشأن عند الحلاج الذي أعطى للحروف رمزا، و"طاسين النقطة" مكانة تشير إلى أصل كل خط يربط الإنسان بتجلي الحق، كونها محور "وصل العاشق بمعشوقه" وغير قابلة للتجزئة؛ لذلك أصبحت النقطة في نظر المتصوفة مركز الوجود وأصل دائرته، والتي تعكس صورة الاتحاد والتمام والكمال، وبيان ذلك أن الوجود بعينه نابع من جوهر نقطة التوحد في ذاته جلّ شأنه.

ويجعلنا الشاعر مدركين أن هويتنا مرهونة بإيجاد ما يضمن لها الاستمرار، بتماثلها في حياتنا، اعتقادا منه أن الهوية في تشكل دائم، وخسارتها يعني خسارة مكونات استمرارها، وعندئذ يتم التماهي مع قابلية الخسارة التي تفضي بنا إلى فقد الكينونة الفعّالة، و" في هذا المستوى لا يعود للماثلة والتطابق أيّ دور معرفي أو جمالي، بل إن المماثلة تصبح مستحيلة، وتصبح الهوية قائمة لا في التطابق والتماهي، بل في التباين والاختلاف. لا في المكوّن، بل في ما لم يتكون بعد. لا في المنتهى، بل في ما لم ينته بعد"[4]، على ألا يكون ذلك سببا في تضييع الرؤيا بـ "كَرَّ‌ة خَاسِرَ‌ة" [5]

خساراتي لم تعدْ تُحْتَمل

فأنا أخرجُ من خسارةٍ لأقع في أخرى.

فأنا – على سبيلِ المثالِ – متّ

متُّ منذ زمن طويل

وشبعتُ موتاً.

...

الأمد

 

ولعل عزاء الشاعر ـ المحترق بكلِّ المآسي، وخساراته المتوالية ـ في شفاعته بالموت في معناه الدال على نومه المستثقل، وسكون توهجه، وهموده، وهي صورة تراجيدية معبرة عن ضَلاله، وتشرّده من منفى الوطن، والانتماء، ومن الشأو، والهوية، ومن كل ما هو مكين، وحميم، ولم يعد يصابر على فعل شيء أمام مثبطات عزيمته، كما أنه لم يعد يواجه غير الموت، حيث احتضاره ﴿يَتَجَرَّ‌عُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ۖ [6]، تتقاذفه الأمواج بالتتابع على شواطئ بلا بَرٍّ، وتذروه الأقدار هباء منثورا، على حد قول البياتي:

              قبرك في المنفى

                وفي الوطن

                قبرك في كل مكان

                شيع فيه الضوء والكفن

وتكمن روحية التصوير الدرامي في طبيعة ما يحاول الشاعر معالجته، وفي خصوصية التجربة المريرة، المرتبطة بمرجعية الانتماء والتأمل الحدسي، اعتقادا منه أن كل تأمل لا يمكن أن يتجرد من صورة واقعه الذي يستمد منه حلمه.

خساراتي لم تعدْ تُحْـتَمل.

دخلتُ في النارِ واحترقتُ كما ينبغي

وحين قمتُ من رمادي

وجمعتُ رمادي

وذرّيته في دمي كي لا أموت من جديد

صدمتُ حين عرفت

أنّ مَنْ ألقاني في النار:

أصدقائي الذين أعطيتُهم نورَ الأخضر

وأحبّتي الذين منحتُهم شمسَ الغيمة.

فارتبكتُ لأنني لم أهيىء نفْسي لدورِ الفادي

ولم أكنْ أتصوّر أنّ دور يهوذا

سَيُعادُ عرضه في كل مكانٍ بنجاحٍ ساحق.

 

الفقد

 

 

 

تواصل الذات الشعرية ـ الراوية ـ سرد مآسيها، وتحاول تفعيل إمكاناتها لتحقيق مساعيها، ولكن من دون جدوى، فلم يكن له مناص من استدعاء أشق ما يمكن الاحتماء به" لهب النار وسعيرها"، يستعين بها عنوة وقهرًا من شر الواقع وإكراهاته، على النحو الذي عبرت عنه صيغ الأفعال؛ لتدل على الحال في سياقها من وجهة الظرف الذي يفرض نفسه على الشاعر، ومن خلال القرائن السياقية التي وحّدت من دلالة أزمنة هذه الأفعال.

الزمن النحوي الماضي

الزمن النحوي للمضارع

الدلالة الزمنية للمصدر

دخلتُ

تعدْ

خساراتي(لم تعد)

احترقتُ

تُحْتَمل

 

قمتُ

ينبغي

 

جمعتُ

أموت

 

ذرّيته

أهيّىء

 

صُدمتُ

أكنْ

 

عرفت

أتصوّر

 

ألقى

سَيُعادُ

 

أعطيتُ

 

 

منحتُ

 

 

ارتبكتُ

 

 

 

والمتأمل في الزمن النحوي في توزيع هذه الأفعال، بما في ذلك إلحاق مصدر (خسارتي) بالفعل (لم تعد)، يستنتج أن وظيفتها تتعدى صفتها التي تفيد الموصوف بالحدث، كما تتعدى وظيفتها المجردة من السياق إلى "مطلق الزمن" الدال على الخوف والقلق في صيغة الماضي، ودوام الحال من هذا الخوف في صيغة النفي في المضارع ( لم تعد تحتمل) و (لا أموت) و ( لم أهيئ) و ( لم أكن أتصور)، بالنظر إلى القرينة الجامعة بينها التي أعطت صفة وقوع الفعل في "مطلق الزمن"؛ ما يعني أن  الذات الشاعرة تعيش واقعًا منهارًا، ونبوءةً قاتمةً بعد أن سُدت في وجهه الآفاق، وعمّ المجتمعَ العتمةُ، وانتشر الفساد؛ الأمر الذي لم يعد قابلا للاحتمال، سواء كان محترَقًا أو خامدًا، أو معافىً، وكأن الشاعر يصور الهم الإنساني الذي بدا ينكأ قَرحة ضمير الأمة المتورّم منذ الأمد، بكل ما فيه من تناقضات وتشيّؤ، فلم يجد بدا من رسم هذا الوجود المغلق، وهو في حالة من الذهول والدهشة.

وأمام مظاهر الدهشة ـ هذه ـ المشحونة بالحيرة وجد الشاعر نفسه ـ بوصفه معادلا موضوعيا للمعايير التي تعمل على أساسها هويته ـ مغيبا ذاتيا، مرتهنا في كرامته وحريته، منزويا، كما تنزوي الجلدة في النار:" دخلت في النار" فاتخذ مذرورها ترياقا": ذررته في دمي"، وكأنه بذلك يشير إلى انصهار ذات الشاعر في لهيب الجذوة، نظير الطبيعة الوحشية للمعاملة الإنسانية المزدرية بـ "ما تبقى من أرومة المنبع". وإساءة تقدير لما تعنيه القيمة الإنسانية، نظرا إلى تفشي ظواهر الاستلاب التي اكتسحت الذات الإنسانية، وجعلت هويتها مغنما لتدميرها، أو تحييدها عن مسارها الطبيعي، وبددت الوعي، وكل ما في إمكانية الإنسان من مشيئة، وقوّضت كل ما يحيط به من صحو، وتشتيت الطوية، وهدر الشعور بالوعي الأخلاقي، وكأن الإنسان في مثل هذه الحال أصبح مشطور الحضور ، مستهجنا في دوره المنوط به، نظير تشويه وجه الحقيقة، وتعريض القيم للامتهان، على النحو الذي عبر عنه نيتشه Friedrich Nietzsche في كتابه "إرادة القوة" بالعدمية، حيث أرفع القيم تقوم بتدمير ذاتها[7]

 

ما يسلب من رغبة الإمكان

عندما يتأنّى المتلقي، بحصافة التدبّر، في قراءة شعر أديب كمال الدين، ويتمعّن في فحواه، يجده نابضا بالحركية، مألوف التوظيف في مبناه، لكنه مستغرب الاستعارات بمجازاتها، على الرغم من اقتباسها، من الواقع، أو مما لا يدركه عامة الناس على النحو الذي وصفه أمبرتو إيكو بـ "المحسوس الغفل"[8] من صور دالة، تمر عليهم من دون التفطن لها؛ "لأن الشعر يفعل بالوعي ما يفعله الفكر البدائي بدون وعي، وهذه إشارة واضحة إلى الاستخدام ما قبل العقلاني للغة؛ لربط الأشياء لتكون بمثابة "أفكار موحدة"... ومن مسئولية الشعراء والمفكرين اكتشاف الاستعارات الخفية التي تربط الكلمات بالطبيعة، والإبقاء عليها حية في اللغة التي استخدموها".[9] وهو ما أطلق عليه الجرجاني بـ "الاستعارة التخيليّة" بوصفها تستند إلى عنصر الخيال. "ولعل أهم ما في دراسة عبد القاهر الجمالية للصورة الاستعارية بيانه الدور الذي يقوم به الخيال في عملية خلقها، والخيال عنده أداة ضرورية لإيضاح مالم يستطع التعبير العادي أن يؤديه أو يوضحه"[10].

وإذا كانت نصوص الشاعر تبدو غريبة، نسبيا في نظر الكثير من القراء، فإنها بالمقابل تبرز بصور محكمة، سواء من حيث دوالها في تنظيم مفرداتها، أو من حيث المدلول الإيحائي؛ لما فيها من مفارقة الجمع بين التجاذب والانشطار، تجاذب الأفكار السوداوية، وانشطار الصور بين ما هو سردي، يبدو واقعيا في ظاهره، مصاحبا للتعبير المعياري، وما هو إشاري في سننه الأيقونية، وقوانينها، " وإذا كان الإنسان العادي يستبطن قواعد السنن وقوانينها بالحدس والمشاركة الاجتماعية العفوية، فإن مهمة السيميائيات هي نقل هذه المعرفة اللاشعورية من الخفاء إلى التجلي، والكشف عن (الثقافة) حيث لا تبدو سوى (الطبيعة) "[11] التي تجمع بين هاتين الصورتين ضمن السياق المقامي لرسالة النص المنثنية في تضاعيف ما لا يدرك من هذه الرسالة، سواء أكان ذلك عن قصد من الشاعر أم عن غير قصد، بدافع المسوِّغ الإبداعي المرتهن باللاشعور، وفي كلتا الحالين تبدو ذائقة الصورة الشعرية جالبة معها ذائقة المتلقي على حد تعبير بورخيس Jorge Luis Borges:" إن طعم التفاحة ليس في التفاحة نفسها، ولا في فم من يأكلها، وإنما هي في التواصل"[12]؛ لأن في كل صورة، أو عبارة، شعرية وشْمًا يميزها في وعي المتلقي، بالنظر إلى ما تتركه من أثر متنوع الدلالات، ومتسع الفضاءات، من دون أن يحُول ذلك بين المتلقي والقبض على جوهر الصورة الشعرية التي تحمل في مضامينها احتواء الواقع، وشمولية القيم الإنسانية، بخاصة ما يتعلق بالمبدأ الفاعل لهويتنا العربية الإسلامية، أو ما يمكن تسميته بـ " هوية المصير" في اتساع مداها الحضاري، وتفاعل الإنسان معها، بوصفه جزءا من كينونتها.

 وإذا كان الشاعر قد توصل إلى هذا التصور، أو إلى قليل منه، فكيف شكل هويته شعريا؛ لكي يحقق كينونته في ظل هذا الوجود الموبوء؟ وما الذي وجده في هذه الهوية؟ وكيف استطاع أن ينظر إلى مرجعيتها في ظل مجريات ما يحاك حولها من انعكاسات؟ وكيف له أن يحمي بالشعر قيم، ومثل، وغايات هذه الهوية؟ قد تلتبس علينا الإجابة عن هذه الأسئلة ـ في ظل ما يجري من حولنا ـ متى ما أدركنا أن الشاعر نفسه في حيرة من أمره، بخاصة إذا تبين لنا أنه لم يعد يعرف ماذا يريد من هذه الهوية، بعدما بدأت تنقطع بها السبل، حتى يمكن له أن يحتمي بثوابتها، ويتلحَّف بلحافها؛ لذلك تساءل بما يدعو إلى الارتياب والحيرة بإلقاء نظرة تبعث على الالتباس والدهشة:

  حين نظرت إلى ساعتي

لم أجدْ فيها أياماً ولا سنوات

بل وجدت فيها أنهاراً من الحلمِ والموسيقى والكلمات.

فحلمتُ ولعبتُ وكتبت

حتّى كدتُ أموت من الحلمِ والموسيقى والكلمات

حتّى كدتُ أموت من الغرق.[13]

 

يمثل الفعل "نظرت" محورا بارزا في عملية حركة الكشف عن تحول الزمن من الحاضر إلى الماضي، عبر تيار من الذكريات يعيدنا إلى الوراء بتوظيف "الساعة" التي تجاوزت صورتها البعد الكرونولوجي في تقسيم الزمن، وترتيب أحداثه، وفق القياس المرجعي لتدفق المعلومات والأحداث في وعي الذاكرة. وتشير الاستعارة المكنية في دلالة الساعة إلى الإسقاطات الاستبطانية للمتغيرات التي تحرك ضمير الشاعر، وتربطه بحياته الحميمية، وتستحضر فيه الذكريات داخل الذهن.

ولعل اقتران "الساعة" بـ " أياما" و"سنوات" في: (لم أجدْ فيها أياما ولا سنوات) بوصفهما ظرفي زمان، وردا في مقدار غير محدود من الزمن، يسوغ وعاء مفتوحا لتاريخ هوية الشاعر القائمة على التفاعل الدلالي لما مرت به أحداث مشتركة بين جهتي الحاضر والماضي، وكأن الشاعر يريد أن يرهن الماضي بالحاضر في مأساتهما بزمن إشاري مطلق، فكان ما يسمى "بالتداخل الدلالي أو البنيوي بين الزمن والجهة، ذلك أن اشتقاق التفاعل القائم بينمهما يحتم علينا تناولهما بنفس الآليات النظرية تركيبا ودلالة؛ وهذا يمكّننا، من جانب آخر، من رسم نوع من التوازي الصارم بين دلالة الزمن والجهة، وبين تركيب كل منهما، كما يمكننا من رصد بعض أوجه الالتباس بين التأويل الجهي والتأويل الزمني"[14]

        لقد عاد بنا الشاعر إلى حيز الماضي بنظرته إلى "الساعة"، ترافقه الغرابة عندما لم يجد ما يوحي بفعل الزمان ومسوغات وجوده، وإنجازاته، ولم يجد غير فيوض من الأحلام في صورة حالكة خارج الصيرورة الزمنية. وعدم وجود الأيام والسنوات في (لم أجدْ فيها أيامًا ولا سنوات) يشير إلى عدم وجود ما يبرر الإسهام في المكون الحضاري، وكأن الشاعر يلقي بالائمة على الذات، في ضميرها الجمعي، التي تسببت في تهتك هويتها وابتذالها؛ لتقاعسها عن القيام بالدور المسند إليها، والعهد الأخلاقي الموكلة به، وكأنها تجسد مقولة عائشة الحرة لابنها عبد الله حين قالت له: "ابكِ مثل النساء ملكًا مُضاعا لم تحافظْ عليه مثل الرجال"، فصورة عبد الله في اللامقول عند الشاعر تتكرر في كل آن، وفي كل مدة تكون سببا في ضياع فكرة الانتماء، وفي ضياع الهوية، وانحرافها عن مسار المكونات الحضارية، وانعزالها عن سياق البناء والتطوير على رأي قاسم حداد:

فعل ناقص

        ونحاة الكوفة

يستبسلون

الشاعر يقصد من وراء ( فعل ناقص)  أن رسالة الحضارة العربية لا تخرج عن نطاق اللغة. ودلالة "لغة " تتوارى خلف ما اصطلح عليه أن العرب أمة لغوية، ينبني عليها فهم كل المتغيرات، عبر كل الأزمنة، وحتى في حال الإقدام على المبادرة فإنها تنطلق بالتفكير الاسترجاعي، أو تداعي الوعي، مادام الفعل لا يفضي إلى أي رؤيا، واللغة هنا كونها فعلا ناقصا ـ في نظر الشاعر ـ  لا تحمل أيَّ رسالة إلا داخل اللغة، رسالة مغلقة على ما لم ينجز بعد، أو عليه أن ينجز بشكل مغاير، وببشريات ما يُنتظر من فضائها المفتوح على البياض، وإذا كانت "لغة" مغلقة بسياقها اللغوي في المكتوب، فلا انغلاق في الفضاء الرديف لها، ما يعني أننا أمام نصين، نص مغلق في " لغة " ، ونص مفتوح في " البياض " يجسد فعل  الهوية/ الاغتراب / الهجاء / التمرد، بين المعمول والمأمول.[15]

إن صور (الحلم، والموسيقى، والكلمات) عند أديب كمال الدين في صورة (بل وجدتُ فيها أنهاراً من الحلمِ والموسيقى والكلمات) لا تختلف عن صورة (الفعل الناقص) التي يقصد بها أن ما قام به السابقون لا يخرج عن نطاق التفكير بالاسترجاع، أو تداعي الوعي المرجعي بالصَّبَابة، مما تبقى من القليل، مادام الفعل لا يفضي إلى أي رؤية، كونه يعيش خارج الزمن، على حد تعبير صلاح عبد الصبور:

هل تدري في أيّ الأيام نعيشْ؟
هذا اليوم الموبوء هو اليوم الثامنْ
من أيام الأسبوع الخامسْ
في الشهر الثالث عشرْ 

ولعل مثل هذه الصور ـ وما أكثرها في الإبداع العربي ـ  تنطلق من العتمة التي غشت فضاء الذات الشاعرة، المخولة بالإنابة عن الضمير الجمعي، وحجبت عنه نور اليقين؛ لذا كان على من له الحميَّة على هويته أن يدرك معنى التبصر، رغبة في تجاوز تمثل القنوط، والحياة المغرَّبة، والإحساس بالوجود المنحدر الذي أدخل الإنسان في دوامة التساؤل الملغز على النحو الذي راود فرانز فانون Frantz Omar Fanon في كتابه (بشرة سوداء، أقنعة بيضاء)": " ما الذي يريده إنسان ما؟"[16]

وإذا كانت كل رغبة تسعى إلى تحقيق عمل ما، فإنها بحاجة إلى قدر من الانعتاق؛ لجني مُتصَوَّر الخيال، غير أن الأمر يبدو على خلاف ذلك مع الشاعر أديب كمال الدين،  حيث لا شيء غير الويل والهلاك، ولا شيء غير الدمار:

حين نظرتُ إلى ساعتي

لم أجد فيها أياماً ولا سنوات

بل وجدتُ فيها أنهاراً من ميماتِ الموت

وواواتِ الموت

وتاءاتِ الموت.

فبكيتُ شبابي وشموخي وشروخي

وبكيتُ شكوكي.

 

إن الموت في هذه الصورة هو المكافئ النفسي لانهيار الهوية على نحو قسري، ولا سبيل إلى الخلاص إلا بالبكاء على ريعان مجدها، ونضارة شموخها، وأصالتها، في نسبة الضمير المتصل في (فبكيتُ شبابي وشموخي وشروخي) إلى مجد الهوية المتأصلة في عمق مشاعره، وهو ما أثار شكوكه فيما يجري لها، حيث الخوف عليها مصدر تلك الشكوك، حتى لم يعد للعقل مجالا يمتلك من خلاله الحد الأدنى من التعقل الذي من شأنه  رفع جوهر حقيقة الهوية، ورفع درجة الحضور العقلي لحماية نشاطها الإبداعي بدل نشاطها الاتباعي، لذلك يقع الالتباس بين العقل الحامي/ الحافظ الأمين، المنفتح الإبداعي، والعقل الواهن، والمنغلق، والاتباعي، وكأن العقل بَراء مما يتبصّر، وملتبِس فيما ينظر، يتضح ذلك في قول المعري:

أُمورٌ  يَلْتَبِسْنَ  على  البرايا       كأنَّ العَقْلَ منها في عِقَـالِ

 

2.   الواقع المُبَايَنُ/سؤال الهوية

الواقع المتأبَّى

ما من شك في أن الواقع الماثل في العيان والذي نعيشه على أكمل وجه قابل للتغير والتحول من حال إلى أخرى، وفي تغير دائم، وإذا كانت الدميومة تكمن في التطور المستمر، فإن هناك عارضا قد يحول دون هذا التطور الذي يريده أن يظل على حاله، وهو ما لا يؤدي مطلقا إلى الاستمرارية الطبيعية. وفي هذا إجحاف في حق قوة الإرادة بفعل المناعة الموجِهة توجيها إيديولوجيا، وبالصورة التي تريدها المشيئة الفاعلة، والصلابة المرغِمة بقصد، والآمرة لرسم واقع واحد وحيد، وهو ما يتنافى مع سنن الخلق في وجوده، ومع وثبة الحياة في معناها المتجدد.

وأن تحاول خلق عالم آخر يعني أن تجرد من العالم المعمول خاصية رؤية العالم المأمول، يجد فيها المرء نفسه بما يعزز دوره، وقد يكون الفارق بين الواقعين قائما على اختلاف في المواقف التي تثير ـ في الغالب ـ الحيرة في هذا التحول، ولم يكن الأمر بهذه الصورة واردًا ما لم يكن توجيه مدار هذا الواقع إلى متاهِ اللاَّحد من المغالق والغموضات التي موْضعت الإنسان في نسق مغلول، من جهة ضالعة، وبضوابط مقيِّدة.

في ظل هذا التصور كيف صاغ أديب كمال الدين خطابه الشعري المتعلق بالهوية الاجتماعية؟ وهل يوجد في شعره ما يربط الذات الواعدة بالواقع المأزوم، فاقد العزم والعزيمة؟ قبل ذلك هل باستطاعة الشعر إعادة تكوين الواقع؟

إن المتمعن في دواوين الشاعر يصاب بالإحساس الدرامي الذي يعتري مضامينه الشعرية المشحونة برسم صورة الهوية الملتبسة، كلما تعمق في الدلالات الضمنية، والمفضية إلى النفور من الواقع المترع بالإخفاقات القسرية التي عمت مشاعر الذات العربية المنخرطة في توظيف العقل الأداتي السلبي، والمتسم باللامبالاة؛ الأمر الذي أسهم في خلق حس تراجيدي في وعي كل إنسان، وتقويض المطالب، وتشتت المساعي، وتبديد الأحلام، وهو ما جعل الشاعر يُبعد عن مساره كل ما يحيط به، بعد أن استعصى عليه معرفة نفسه قبل معرفته الآخر:

أزلتُ عن قصيدتي الهوامش

ثمَّ أزلتُ الفوارز وعلاماتِ الاستفهام

والتعجب والارتباك.

ثمَّ صرتُ أكثر شجاعةً

فأزلتُ المعنى عن قصيدتي

بعد أن أزلتُ النقاطَ عن الحروف بالطبع.

حينها

بدأتْ حروفي تتماسك

لتشكّل دائرةً تحيطُ بي

وأنا في وسطها.

وبدأت الحروفُ عاريةً تماماً

ترقصُ وترقصُ وترقص

رقصةً وحشيّة

وأنا لا أعرف مَن أنا

 

ويظل الصراع بين المثال في صورة (قصيدتي) والواقع في صورة (الهامش) يلازم الشاعر، ويلاحقه، بعد أن أدرك أنه أصبح طريدة لمصائب الواقع المأزوم. وليس غريبا أن يشغل الشاعر نفسه بالحديث عن واقعه وهو من ابتلى بفقد كينونته، وهويته، ووطنه، ورفاقه، ومحيطه الذي تربى فيه؛ الأمر الذي أثر سلبا على حياته، وترك جرحا عميقا لا يندمل، واسودَّت الدنيا في عينيه، وتجلى له الردى، فلم يكن له بد ـ  والحال هذه ـ من إزالة كل ما يفسد عليه مشاعر السعادة، ويغيب الذات، ويعمق فيه الإحباط.

ولعل سياق الفعل (أزلت) بقرائنه الدلالية، في جميع مواضعه، يحيل إلى تجاوز السياق الزمني بصيغته الصرفية الدالة على الماضي المطلق إلى ما يسمى بالزمن السياقي التركيبي لدلالة الاستقبال؛ لأن القرينة الدالة السياقية في صورة( حينها) وربطها بما ورد بعدها من صور شعرية تشير إلى التحول الحاصل بين ما وقع للشاعر وما يقع له في الحاضر، فالقرينة السياقية تؤكد ما ورد في (حينها)، وكأن المقصود أن يعيش الشاعر الحلم الوسِن، والإحساس بالفقد، والتضييع في المطابقة الزمنية بين الفعل الماضي في (أزلت) والفعل المضارع في: (تتماسك/ تشكّل/ تحيط/ ترقص). أضف إلى ذلك أن تكرار صيغة الماضي في (أزلت) وربطها بصيغ المضارع المتتالية مؤشر على دلالة الحدث في الحال والاستقبال، بعد استحضار صورة الماضي المرتبط بالحاضر، على نحو ما عبر عن ابن الأثير في قوله"واعلم أن الفعل المستقبل إذا أتي به في حالة الإخبار عن وجود الفعل، كان ذلك أبلغ من الإخبار بالفعل الماضي، وذلك لأن الفعل المستقبل يوضح الحال التي يقع فيها، ويستحضر تلك الصورة حتى كأن السامع يشاهدها، وليس كذلك الفعل الماضي"[17]، والحال هذه أن الشاعر يربط بين الفعلين في آنٍ؛ ليعبر عن ضياعه في فضاء الحضور المؤسَّس من حالة الغيبة المسلطة عليه، والمتوارَى به عن إمكانية تأكيد الذات، أو إعمال النظر إلى ماهية الواقع الفارق في دهشة السؤال، بحثا عن هويته، خاصة بعد أن حاد هذا الواقع عن جادة الصواب حين ربط العلاقات المادية والمعنوية بالتشيؤ  Chosification في مقابل علاقات التكافؤ في الاعتراف بحق الذات، كما في صورة:

وأنا لا أعرف من أنا.

إلا بوصفه موزعا بين هويات مختلفة، بعد أن ارتمت به الأقدار، وطوّحت به الشطآن، وألقت به بعيدا في حضن هويات أخرى قسرًا:

أأنا المصلوب في أورشليم الذي وشى به يهوذا؟

أم أنا طوطمٌ أفريقي

أم أنا مجرد حرف ضال

حرف خارج القطيع

يشعرنا الحروفي الكليم بالعدم كما يعيشه من خلال مداليل سايق الأفعال في مقاصدها للمعنى المسوق له، بحسب مقتضى تطابق الفعل المعبر عن الماضي لمقتضى الحال في الفعل المضارع، ومن أجل ذلك يدعوك الشاعر لمحاولة التعرف إلى الذات العربية الغائرة في التيه، والسابحة في الوهم، والتي أريد لها أن تطفو على سطح ضحالة التدبر، بعد أن تجردت هويتها من كل حضور، ورفع عنها الدِّثار في الأونة الأخيرة ، في إشارة إلى تغييب الفعل الحضاري للهوية العربية الإسلامية التي كانت لها المقدرة على التوسع شرقا (الشمس بيمينه) وغربا ( القمر بشماله) في صورة الحرف الممسوس:

حرف ممسوس

أمسكَ الشمسَ بيمينه

والقمرَ بشماله،

فكرهته الحروفُ جميعاً

وقررتْ أن تعاقبه بالسجنِ المؤبّد

عبر رقصها الوحشيّ المؤبّد

حول صليبه العجيب؟

 

 

3.   الغربة المستديمة

 

       تعد رؤية الشاعر التشاؤمية وليدة الإرث العربي في شقه المأزوم، المنفصل عن روابط التواصل الحضاري، والمكون الفكري، والمطوق بالعقل الأداتي، سواء بميله إلى منحى الثابت المشفوع بالنسيج الثقافي المكرور الذي كان يرزح تحت طائلة "عقل الفقه" في غياب " فقه العقل، أو بانحنائه إلى منحى التبعية التي دحضت ظاهرة بناء المشترك الإنساني بوصفه أساس النمو الحضاري، في مقابل الوهن الحضاري الذي أذعنت له مجتمعاتنا، وتغييب النبع المولد، بعد أن " أخفى التقدم حقيقة الأصل، وظن أن الأصل لم يكن إلا تخلفا وبدائية، ولم ير الحقيقة البشربة إلا في حركة التاريخ التصاعدية... ونحن في زمن للعصر الكوني يتيح لنا الاهتداء إلى الأصل المشترك؛ ولتحقيق الإنسانية ينبغي لنا، الآن، أن ننهل من هذا الأصل المشترك".[18]

        وبالنظر إلى ذلك يعد معيار الهوية متجسدا في العقل الأداتي في علاقته بالهيمنة المفرطة للقوة المستبدة التي تتحكم في ربقة الإرادة؛ الأمر الذي أرجع كل معلوم فينا إلى مجهول، وبعد أن أفقد فينا هوية وعي الضمير، وأدخلنا في حيز الاستسلام، والجري وراء السراب ﴿يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً [19]، ومن ثم باعدت الهوية في نظر الشاعر مسار لملمة تصور الآفاق، مقابل الاهتمام بالشكل الذي من شأنه أن يؤدي إلى التشيؤ والاغتراب:

توقف الغريب، عند النبع، وقت الغروب

توقف ليشرب وحصانه الماء

...

تأمّل الغريبُ طويلاً في ماءِ النبع

..

أنا الغريب،

لا أرض لي ولا هدف،

لا وجهة ولا رغبة ولا قرار.

جرّبتُ الحكمةَ والغيبَ والنساء

واللهو والغنى والحروب.

فلم أجدْ أيّ شيء يعينني

على عذابي المقيمِ وضياعي المكتوب.

ثمَّ صمتَ الغريبُ طويلاً وقال:

أيّها النبع،

هل عندكَ دواء للسأم؟

* قالَ النبع: لا.

وهل عندكَ دواء للغربة؟

* قالَ النبع: لا.

وهل عندكَ دواء للموت؟

* قالَ النبع: لا.

فضحكَ الغريبُ ثانيةً

حتّى اغرورقتْ عيناه بالدموع.[20]

 

       إنه شاعر الغربة بشجن همومه الحضارية، بعد أن رماه الموج من كل أوْبٍ وصوبٍ، وبعد أن هيمن عليه جمع المتناقضات في جدلية مركبة قائمة على محنة الذات والكون معًا، وهذا التكوين يقتضي بدوره موقفا معرفيا... ومعرفة الذات والكون أمر أساسي، اعتقادا منا أن الذات التي ينبغي معرفتها إنما تمثِّل العالم بأسره. فالذات هي "الكون الأصغر" microcosme  الذي يعكس "الكون الأكبر" macrocosme، وإدراك كُنْهِ الأول هو إدراكٌ لكُنْهِ الثاني أيضاً. ومهمة الشاعر أن يسبر غور هذين الكونين من خلال تأويلهما. فالشعر تأويل للذات وللموضوع، ولا وجود لأيٍّ منهما خارج هذا التأويل"[21]

 

        تأخذنا صور الشاعر في قصيدة " الغريب" ـ وغيرها من القصائد ـ إلى تبديد الذات في تضاعيف الشجا الذي ألهب أحزانَه، وأثار حنيه إلى مجد نبعه الأصيل، وكأن تعيين الإنسان ـ في نظر الشاعر ـ على هذا النحو يعكس صورة الاغتراب الذي ينخر تخوم الأصول، ويُتلف مرام الهوية من سلطة حق الآخر على الذات، وفرض الواجب عليها، وتقويض صلاحيتها، وتجريدها من دورها؛ الأمر الذي أدخل الواقع في حالة ارتياب في الصلاحيات المشروعة بين الذات والآخر بفعل قوته العليا التي أسهمت في شرذمة تعيين الهوية وخلق مسافة بينية، مكونةً بذلك اضطرابا واختلالا في العلاقات، وتباينًا في المواقف.

 

            يستخدم الشاعر في قصيدة" الغريب" العبارات الدالة عن القهر من خلال توظيف اللامقول ـ غير المباشر ـ في الحوار الدائر بين" الغريب والنبع" ليظهر موقفه من الحياة التي أجبرته على أن يتخذ منها موقفا يميزه من غيره، ويعتقد من خلاله أنه متنزه عن الأوهام السائدة بضحكته الساخرة، اللاهفة:

فضحكَ الغريبُ ثانيةً

حتّى اغرورقتْ عيناه بالدموع

 وهو ما دعاه إلى التأبه عن نقائص سوءاتها في مزاولة تجربة الحياة الطبيعية التي أصبحت عصية على التحديد، لذلك حاول تعويض التأوه والمكابدة بالحرف ـ الذي اشتهرت به معظم قصائده، حتى سُمي به ـ واللجوء إلى الخلاص بالكلمة ضمن سياق الاصطلاح المتواضع في استعمالات الصورة الشعرية التي ما انفكت تسعى إلى التغيير، وتتساوق مع طبيعة الحياة اليومية. ومن هنا، نعتقد أن كل محاولة تعترض سبيل الشاعر، وتقوض مشيئته بالصورة التي تحجمه ـ خوفا، أو رهبة، أو نفيًا، أو إقصاء ـ عن  دوره في التعمير، وبما ينبغي أن يكون عليه، لا تكرس إلا امتدادا للانفلات من قبضة الانكسار في مقابل الانضواء إلى الكلمة التي رأى فيها ـ على حد تعبير إريك فروم Erich Seligmann Fromm  أنها " تجعل من نفسها بديلا عن التجربة المعاشة"[22]، ورغبة في التطلع إلى السمو، ولكن من دون جدوى، كما في قوله:

فلم أجدْ أيّ شيء يعينني

على عذابي المقيمِ وضياعي المكتوب.

       إنها حالة من الحضور المغيّب  في اختفاء أي دور للإنسان في هذا الواقع المكلوم، وكأنه يطرح سؤالا أنطولوجيا عن كينونة هذا الإنسان، وما يحيط به من دوافع تسهم في اغترابه. ومثل هذا الطرح ـ عند الشاعر ـ يعكس حالة مساءلة الإنسان عن قيمة الحياة من دون تفاعل اجتماعي، وتأثير ثقافي، وتبادل الأدوار، وكأن الشاعر يثير مسألة التغييب القسري بأشد ما تصل إليه الذروة، بعد أن جرب كل شيء:

       جرّبتُ الحكمةَ والغيبَ والنساء

واللهو والغنى والحروب.

       في إشارة منه إلى أنه يعيش حالة من الانقضاض، تنهشه مخالب "الأمر الجائر"، والرأي المستبِد، وذلك يتنافى مع قدَر الطبيعة التي منحت الإنسان معنى التلاحم، والتعاضد، والتفاعل، وغيرها من حالات تكاثف الجهود العملية لخدمة المجتمع، وقيمه الحضارية، والتي من شأنها أن تضفي على الوجود صبغة إنسانية، بحكم سجية التواصل الاجتماعي النيِّر، وقريحة السلوك الحضاري المشرق للإنسان.

ولعل الصورة الشعرية في هذا المقطع ـ كما في جميع قصائده بِلُغتها الممانِعة ـ تتجاوز كونها صورة مدركة، أو نسخة مقيّدة بها، وإنما هي صورة دالة، أو رؤيا منفتحة بلغتها الحدسية التي تجعل من التأويل وسيلة للوقوف على حقائق افتراضية، أو نسبية؛ لذلك نرى في شعر أديب كمال الدين سمة الجاذبية؛ لأنها تأسرنا بلغز استعاراتها؛ لتَنَابُذِ المباينة بين وعْي الحُلْم ووعي الرعونة، والواقع والممكن، بقرائن تدل على دقة معانيها المتداعية، وبسبك عباراتها التي تجمع في تضاعيفها منهلا لفاعلية نبر اللغة بكمدها المؤثر، وتمثيلا دقيقا للواقع غير المقنع، والمفترَى عليه، والمرتَهن بالاصطناع؛ لأنه "واقع فوق واقعي"؛ أي واقع بلا أصل، حسب تعبير بودريارJean Baudrillard، أو واقع نيتشه  Nietzsche الباعث على "شذر المثبت"، وانهيار القيم، أو "الواقع المتشظي" الذي خلق مجتمع " رمي كل شيء" كما عند دافيد هارفي David Harvey، وكأن هذه الصور الشعرية تنكأ جراح كل إنسان غيور على هويته، وضميره الجمعي؛ لتكون النتيجة قنوطا ويأسا، بعد أن أصبح المشهد يصنع هوية ـ بلا هويات ـ جديدة، قوامها تشظي الذات، بعد أن فقد العالم آنئذ عمقه، وبات عرضة لأن يكون سطحا رقيقًا، أو مجرد تتابع لصور فيلم من دون معنى. من منظور أن الطابع الحسي للمَشاهد هي المادة الخام التي يتشكل منها الوعي[23]، بالنظر إلى ما وصل إليه واقع الحال من تشيُّؤ، أفسد نكهة الحياة، والإحساس بهشاشة الوجود، ومأساة المصير المؤدي إلى الاغتراب، وهذا يعني أن الواقع لم يعد نتيجة إنتاج قيم، بل أصبح مرتهنا بنتيجة التشيؤ، وغير قابل للفهم، بحكم فرض سلطة الإنسان أمام غياب اليقين" حسب رأي إيليا بريغوجين (Ilya Prigogine) . وهو ما نستشفه في قصائد أديب كمال الدين التي توحي بانهيار المعنى، وغياب جوهر الفكرة، في مقابل انفتاحها على المغامرة في ارتكانها إلى إنتاج السطح، ونشر الزيف.

رحلة المنفى/ مستودع البلاء

تركز رحلة المنفي في شعر أديب كمال الدين على القوة المؤثرة في حياتنا اليومية بوصفها قوة مستبدة تشده بالربقة؛ أي بقيد الغُلِّ في العنق لتلجيم مشيئتة، وكفه عن إرادته؛ الأمر الذي أرجع كل معلوم إلى مجهول، وهو ما أفقد في ضمير الوعي الجمعي البصيرة النافذة في مقابل الشعور بالضياع والاستلاب كما في هذا المقطع من قصيدة " لِمَ أنت؟" [24]

يا شاعرَ الحروفِ المريرة

رأيتُكَ البارحة

تحملُ حقيبتكَ السوداء من جديد

حزيناً كقاربٍ مُحطّمٍ على ساحلٍ مهجور.

خفتُ أنْ أسالك

عن اتجاهِكَ الجديد،

أعني عن منفاكَ الجديد.

خفتُ أنْ أسألك

فقد كنتَ تتعكّز على ضياعِكَ الأبديّ

وعلى صمتِكَ الذي لا يطيقُه الجبل

وعلى وحدتِكَ ذات السياط السبعة.

 

       وكأن الشاعر في هذا المقطع يريد أن يمتثل نهج ما قاله R.D.Laing في كتابه سياسة الخبرة، The Politics of Experience: "لقد ولجنا في عالم ينتظرنا فيه الاغتراب"[25] وهو ما يشير ضمنيا إلى أن أديب كمال الدين لم يختر الكتابة عن المنفى بصريمة الإرادة، بقدر ما كانت حاجةً فرضتها حالة التشيؤ، ولزوما موجبا اقتضته ضرورة تمزق الواقع، فضلا عن سلب الإرادة، وضياع البوصلة في الاتجاه الآمن، على نحو ما نستشفه في مضامين شعره المصبوغ بدلالات التشريد، والتهجير، وكل ما يمت بصلة إلى صفات السلب والنفي، وكأنه في هذه الحالة منقاد إلى النبذ، والإبعاد؛ وكأنه بذلك يجسد صورة "شاعر النفي" بعد أن ذاق مرارة " اللامأوى" الذي أصبح مصير العالم ـ حسب تعبير هيدجر ـ  حين أصبح الإنسان بلا جذور" والمتجول هو التجسيد الخالص للغريب الذي لم يفقد مأواه فحسب، بل فقد أيضا وضعه في الزمان على السواء"[26].   

وتقوم عناية الشاعر بقضايا أزمات الواقع، وضياع الحلم، على تباعد "السمافة البينيية المولدة لاضطراب الهوية"؛ لأن مسألة تعيين الهوية ليست أبدا مسألة تأكيد على هوية متعينة مسبقا، ولا هي نبوءة تحقق ذاتها، إنها على الدوام إنتاج صورة للهوية وتغييرٌ للذات  باتجاه اتخاذها تلك الصورة، والحاجة إلى تعيين الهوية، أضف إلى ذلك أن تعيين الهوية التي يبحث عنها الشاعر هو على الدوام عودة صورة للهوية تحمل علامة الانشطار في المكان الآخر الذي منه تأتي[27]، من دون أن يعرف المرء في نظر الشاعر إلى أين ترمي به المغبَّة، وإلى أيٍّ من شطآن النجاة من الخطر يجد فيه ظل ذاته، بوصفها حقلا لتحقيق الإحساس بالانتماء؛ لذا أصبحت ممارسة البحث عن الذات محورا أساسًا في ظل جور التباين، وتناقض اليومي الذي أزاح حقيقة المعنى من السياق الذي يبحث عنه الإنسان، في ظل الوجود القلق، وضياع فرصة الانتماء:

       ففي النهاية

لن تكون أنت

سوى حرف أضاع نقطته

سوى حرف يحتضن نفسه

وينام وحيدا

مثل يتيم طُرِد من الملجأ[28]

كل شيء يوحي بالتفكك والذرذرة مع (الضياع، وانقباض النفس، والوحدة، واليتم) حيث كل شيء يرمي بالشاعر، لسان المجتمع، إلى العزلة النفسية قبل العزلة الاجتماعية، والتحلل من الارتباط بالقيم، والثقافة، وعدم الانتماء إلى الوطن، فيما يشبه صورة الانعزال القسري للإنسان في هذا الزمن الموبوء، من خلال الشعور بالوحشة، وفقدان الاتجاه، بوصفه أحد أهم النماذج المتحققَة "لانهيار الهيكل الثقافي للمجتمع الذي يحدث بصفة خاصة حينما يطرأ انقطاع حاد في التواصل بين الأهداف الثقافية وقدرات أفراد الجماعة، تلك القدرات التي حددت بما يتفق والهيكل الاجتماعي، وبحيث يتم إعمالها وفقا لهذا الهيكل"[29]

 

 



[1]  نيكولاس لمان: مدخل إلى نظرية الأنساق، ترجمة ، يوسف فهمي حجازي، منشورات الجمل، ط1، 2010، ص 24

[2]  أديب كمال الدين: ديوان، شجرة الحروف، دار أزمنة للنشر والتوزيع - عمّان الأردن 2007،   ص 69 - 72

 

[3]  جابر عصفو: الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي، المركز الثقافي العربي، 1995، ص 14

[4]  أدونيس: موسيقى الحوت الأزرق (الهوية، الكتابة، العنف)، دار الآداب ط1 2002، ص 25،26.

[5]  سورة النازعات، من الآية 12

[6]  سورة إبراهيم، من الآية 17.

[7]  ينظر، ديفيد هارفي: حالة ما بعد الحداثةـ بحث في أصول التغيير الثقافي ـ ترجمة محمد شيا، المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2005، ص 318

 [8]  ينظر، أمبرتو إيكو: سيميائيات الأنساق البصرية، ترجمة محمد التهامي العماري، وآخر، دار الحوار، ط1،2008، ص 76.

[9]  ينظر، جاكوب كورك: اللغة في الأدب الحديث، ترجمة ليون يوسف(وآخر)، دار المأمون، بغداد، 1989، ص 241

[10]  أحمد الصاوي: مفهوم الاستعارة في بحوث اللغويين والنقاد والبلاغيين، منشأة المعارف بالإسكندرية، 1988م  ص93.

 

[11]  سعيد بنكراد، تقديم كتاب، أمبرتو إيكو: سيميائيات الأنساق البصرية، ترجمة محمد التهامي العماري، وآخر، دار الحوار، ط1،2008، ص 17.

[12]  ينظر، محمد صابر عبيد، الفضاء الشعري الأدونيسي، دار الزمان، ط1، 2012، ( وردت العبارة في تصدير الكتاب، ص 7.

[13]  أديب كمال الدين: مجموعة حاء، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2002 ، ص 129 - 132

[14]  عبد المجيد جحفة: دلالة الزمن في العربية ـ دراسة النسق الزمني للأفعال ـ دار توبقال، ط1، 2006، ص 202

[15]  لمزيد من التفصيل، ينظر، عبد القادر فيدوح: معارج المعنى في الشعر العربي الحديث، دار صفحات، دمشق، 2012، ص 26 وما بعدها.

[16]  ينظر، هومي بابا، موقع الثقافة، المركز الثقافي العربي، ط1، 2005، ص 99

 

[17]  المثل السائر، 2/194

[18]  أدغار موران: النهج، إنسانية البشرية ـ الهوية البشرية، ترجمة، هناء صبحي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، كلمة، ط1،  2009، ص 343، 344.

[19]  سورة النور، من الآية 39

[20]  أديب كمال الدين، شجرة الحروف، دار أزمنة، ط1، 2007، ص 27،29.

[21] ينظر، بطرس الحلاق: الشعر والوجود قراءة في حياتي في الشعر، موقع معابر، الرابط، http://www.maaber.org

 

[22]  ينظر، ريتشارد شاخت، الاغتراب، ترجمة كامل يوسف حسن، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 1980، ص 196

[23]  ينظر، دافيد هارفي، حالة ما بعد الحداثة، ص 78

[24]  أديب كمال الدين: نُشرت في مجموعة: أقول الحرف وأعني أصابعي. الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان – بيروت 2011 ،  ص 91 و92

 

[25]  ينظر، مجاهد عبد المنعم مجاهد: الإنسان والاغتراب، سعد الدين للطباعة والنشر، بيروت، 1985، ص 36

[26]  ينظر، مجاهد عبد المنعم مجاهد: الإنسان والاغتراب، ص 28

[27]  هومي بابا: موقع الثقافة، ص 104.

[28]  أديب كمال الدين: أقول الحرف وأعني أصابعي، ص 97.

[29]  ريتشارد شاخت: الاغتراب ص 247.

 

 

 

***********************************************************************

نُشرت في العدد الأول من مجلة الأقلام  - يغداد   2016

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home