حوار مع الشاعر العراقي أديب كمال الدين:

الشعر هو ابن التناقضات والأضداد

تعمّق بحر الغربة فيَّ واشتدّت أمواجه الغامضة

حاوره: هادي الحسيني

 

لم يمّر بتاريخ الشعرية العربية عامة، والعراقية خاصة، مشغل شعري كالذي يعمل به الشاعر العراقي أديب كمال الدين الذي تمكن من الانتصار للشعر من جانب وإلى لغتنا العربية من الجانب الآخر على مدى ثلاثة عقود خلت. ولا يزال يواصل، وهو في أوج تألقه الشعري، كتابة قصيدته التي أصبحت علامة فارقة في الخارطة الشعرية العربية، لمِا فيها من نضوج فكري وتكثيف شعري يحيلان القارئ، في أحايين كثيرة، إلى أن يتلقى “كدمات شعرية” لكنها غاية في الروعة والجمال لتجعله يندمج بدهشة مع قصيدة هذا الشاعر حتى النهاية من دون أن يشرد ذهنه، كما يحدث في نصوص بعض الشعراء الذين استسهلوا الكتابة من أجل الشهرة وعلى حساب الشعر.
لقد تمكن الشاعر أديب كمال الدين من استجواب أحرف لغتنا العربية من الألف إلى الياء والغور في أعماق الماضي والحاضر والمستقبل. وكلّ حرف جعله يبوح بما يخزنه من تشكيلات شعرية عبر القصائد التي اتسمت بمهارة الصنعة، والخبرة، إضافة إلى ذلك تمكّنه من اللغة العربية والغور في أعماقها واستنطاقها شعرياًً، وهذا ما لم تستطع فعله الشعرية العربية منذ عقود مضت . فقصيدته محملة بأوجاع الماضي والحاضر، ومكثفة وهي تعالج الكثير من هموم الحياة والإنسان الأمر الذي جعل النقاد يعاملونه باحترام كبير لِما يبذله من جهد إبداعي أضاف الكثير إلى تاريخ الشعر العراقي والعربي.
ويعتبر جيل السبعينات العراقي- الذي ينتمي اليه الشاعر أديب كمال الدين- من أهم الأجيال الشعرية التي أسست لمدارس شعرية جديدة. فكل شاعر من أبناء هذا الجيل له بصمته الخاصة في الشعرية العراقية والتي أنتجت شعراء كبار على مدى عقود من الزمن، ولا يزال العراق يتربّع على عرش الشعر العربي من دون منازع باستثناءات قليلة داخل الوطن العربي الذي ظل متشبثاً بالشعراء الكلاسيكيين الذين اكتسحتهم عجلة الأجيال الشعرية العراقية المتعاقبة بدءا من قصيدة التفعيلة ومروراً بقصيدة النثر ووصولاً إلى كتابة النص المفتوح. ولعل الشاعر أديب كمال الدين الذي أبدع غاية الإبداع في مشروعه الفريد الذي أسس له وتفرّد بريادته ليكون علامة مميزة في الخارطة الشعرية، قد عانى الكثير من ويلات الحروب والحصار ولسنوات طويلة أسوة بالشعراء الذين أخلصوا للشعر وحده متحمّلين تلك المصاعب والحياة القاسية التي استمرت لعقود من الزمن، وأجبرت العديد من الأدباء والمثقفين العراقيين على الرحيل خارج الوطن في بداية عقد التسعينات من القرن الماضي وتلتها هجرات متتالية، حتى تمكن أديب الدين الشاعر والإنسان أن يغادر العراق أواخر العقد التسعيني متوجهاً إلى الأردن ليمكث فيها سنتين ومن ثم يرحل إلى أستراليا. ومنذ سنوات إزداد تألقه الشعري وأصدر المجموعات الشعرية الواحدة تلو الأخرى مع حضور مميز في المهرجانات والصحافة العربية والعالمية.
أصدر أديب كمال الدين أول مجموعة شعرية له عام 1976 في النجف بعنوان (تفاصيل). ثم أصدر العديد من المجاميع الشعرية في بغداد وعمّان. والشاعر أديب كمال الدين من مواليد مدينة بابل عام 1953 . وقد حصل على بكالوريوس في الأدب الانكليزي من جامعة بغداد عام 1999 بعد أن نال شهادة البكالوريوس في الاقتصاد عام 1976 ومن جامعة بغداد أيضاً. كما نال دبلوم الترجمة الفورية من أستراليا عام 2005.
عن الشعر والمنفى والبلاد والخوض في تفاصيل تجربته كان معه هذا الحوار..

* بسبب التقلبات السياسية التي حصلت في تاريخ العراق المعاصر منذ منتصف القرن الماضي وحتى اليوم، كان الشعر العراقي يفرض سيطرته التامة على الشعرية العربية برمتها ولا يزال كذلك من خلال الانعطافات الشعرية بدءاً بالرواد ووصولاً إلى أجيال الشعر الجديدة، فهل تعتقدون أن العراق هو المصدر الرئيسي لتلك الانعطافات والتي أقصد بها القصيدة الحرة والتفعيلة مروراً بقصيدة النثر ووصولاً إلى النص المفتوح، وما سرّ العراق الشعري المتفوق؟

- أعتقد أن تسميتك اللطيفة الجميلة ل”سرّ العراق الشعري المتفوق” لم تبدأ منذ منتصف القرن الماضي ولم تبدأ بسبب تقلبات العراق السياسية، بل هي – أي التسمية- وليدة بزوغ بغداد مدينة حضارة، وعاصمة حاضرة، ومركزاً للإمبراطورية العربية الإسلامية العباسية. منذ ذلك الحين والشعر في بغداد يتألق جيلاً بعد جيل. هكذا تألق الشريف الرضي والمتنبي وأبو تمام وأبو نؤاس وابن الرومي وأبو العتاهية والعباس ابن الأحنف، وبقية الكوكبة الشعرية اللامعة (دون أن ننسى، بالطبع، شعراء الكوفة والموصل والبصرة) التي منحت الكثير للشعر العربي تجديداً وإبداعاً حتى أصبحت بغداد حاضرة الدنيا وما سواها بدو- كما قال المؤرخون العرب القدماء- خاصة إذا ما أضفنا إلى منجزات الشعر منجزات النحو والبلاغة والفاسفة والجبر والكيمياء والهندسة والبناء والطب والجراحة والتصوّف والفقه والموسيقى التي تحققت في هذه المدينة العجيبة: مدينة السيف والقلم، مدينة الغنى والفقر، مدينة الجنس والتبتّل، مدينة التصوّف والملذات، مدينة الطعام والجوع، مدينة الإيمان والإلحاد، مدينة السلام والدم!
الشعر يحتاج إلى حاضنة حقيقية ذات صفات استثنائية لينمو ويترعرع ويزدهر ويتجدد. وليس هناك حاضنة أكثر انسجاماً مع الشعر من العراق. هنا، أي في العراق، يولد الشعر ويتنفس ويترعرع ويكبر وينضج ويتجدد ويتشظّى إلى البلدان الأخرى. لأنّ الشعر، ببساطة متناهية، هو ابن التناقضات والأضداد. والعراق هو التناقضات بعينها والأضداد برمتها والصراعات التي لا تنتهي أبدا!
العراق الذي لم تزل تتصارع فيه بعنفٍ عجيبٍ قيمُ البداوة والحضارة، وقيم القرية والمدينة، وقيم المؤمنين والملاحدة، وقيم العنف والسلام، وقيم أهل الدنيا وأهل الآخرة، وقيم العسكر والمدنيين، وقيم الأغنياء والفقراء، وقيم الشرق والغرب، وقيم المثقفين والأميين، وقيم المسلمين والمسيحيين واليهود والصابئة، وقيم القديم والجديد، وقيم الإمام علي ابن أبي طالب (ع) والحجاج! في أرضٍ كهذه يكون الشعر هو الفن المطلوب ويكون كاتب هذه الأرض هو الشاعر. إنه، أي الشعر، الفن الذي يستجيب بسرعةٍ مدهشةٍ إلى الأحداث العجيبة والحروب العبثية والصراعات الزلزالية التي لا تكفّ عن التناسل والحضور، كما يستجيب بالسرعة ذاتها إلى صيحات الروح وسط الزلزال العنيف وصبوات القلب وسط الحرمان الأسطوري ودموع الروح وهي تنتقل من فاجعةٍ إلى أخرى. هكذا إذن، ولِدَ الشعر عراقياً بامتياز!
وحين ننتقل للحديث عن الحداثة الشعرية العربية فسنجد، بوضوح، أن الأرض العراقية كانت هي الحاضنة الأولى لكل ماهو جديد وحداثي شعرياً. ليس هذا فقط بل كانت أرض العراق هي الأرض التي تعمّق المنجز الحداثي وتصيّره حقيقة ماثلة للعيان إن لم تكن بذرة المنجز الحداثي قد ولِدت فيها. هنا الأرض: أرض العراق تتقبل نبات الشعر الجديد والماء مناسب دون شك، والمجتمع يحفل بالشعر وقائليه ومبدعيه ودارسيه كثيراً. ثم إن الشعراء العراقيين يخلصون للشعر إخلاصاً نادر المثال ويعينهم على ذلك بنية مجتمعهم التي تقوم على الصراع العميق واليومي والمستمر وبنيتهم النفسية المليئة بالسؤال والعنفوان. وكلّ هذه العوامل تجعل التجارب الشعرية الحداثية في العراق تتألق. انظرْ إلى مصر مثلا ستجد أن القوم لا يزالون مختلفين حول قصيدة النثر ولا يزال شعراء النثر يُنْظَرُ إليهم بارتياب ويعانون الأمرّين في النشر وحضور المهرجانات. في حين أن قصيدة النثر العراقية تمركزتْ وتركّزتْ وصار لها حضورها الفاعل ونقادها وجمهورها منذ زمن غير قصير. ومع ذلك، فيجب أن لا نغفل، بأية حال من الأحوال، التجارب الشعرية والإضافات المبدعة التي قدمتها أسماء شعرية متميزة في سوريا والبحرين وعُمان والمغرب ولبنان والسودان وتونس وفلسطين والأردن ومصر والأمريكيتين وأستراليا وأوربا والتي أسهمت، دون شك، في تعميق المنجز الشعري العربي وكان لها قدم إبداع متميزة ..

* فترة السبعينات التي تنتمي اليها كانت مزدهرة شعرياً وافرزت نخبةً من الشعراء الذين تقف الشعرية العربية برمتها لإنجازهم الإبداعي الذي تشكل بمرحلة تكاد تكون معقدة اجتماعياً وسياسياً وحتى أدبياً، كيف تفسّر لنا تعقيدات تلك المرحلة التي عزلت الكثير من الشعراء وأجبرتهم على ترك الكتابة والانتباه إلى أمورهم الحياتية، وفي نفس الوقت صمدت مجموعة أخرى أمام تلك التيارات- وأنت أحدهم- ما هي المعوقات التي كانت تطارد نصوصكم ومشروعكم الشعري الذي استطاع أن يبرز وبقوة في تلك الفترة؟

- الشعر يحتاج إلى إيمان حقيقي وعميق وراسخ به وبدوره الإنساني الكبير. وغالباً ما يُتخذ من قبل عديد الشعراء أداةً لمآرب أخرى: المال والجاه والنفوذ والمنصب. ومثل هؤلاء الشعراء المزّورون يتخّلون عن الشعر سريعاً ما أن يصلوا إلى بغيتهم وهدفهم. أما الشعراء الحقيقيون فيتمسّكون بالشعر لا يبغون عنه سبيلا. هؤلاء يستطيعون أن يجددوا ويبدعوا ويتألقوا بنار الشعر ويتماهوا مع مباهجه الكبرى: وهي مباهج روحية خالصة دون أدنى شك.
لقد أعطاني الشعر حرية السؤال لا حرية الإجابة. فالإجابة معروفة وخلاصتها الموت! إذن فالشعر شجّعني على إطلاق أسئلتي، أسئلة الإنسان الكبرى والصغرى: أسئلة الموت والحب والمرأة والبحر والرحيل والكابوس والحرف والنقطة! كما انه أعطاني، بعد رحلة طويلة ومضنية، اسماً أدبياً، فلله الحمد، ودواوين عديدة، ومقالات وكتباً نقدية أثنتْ على تجربتي الشعرية، وجائزة إبداعية كبيرة، مثلما تُرجمت قصائدي إلى عديد اللغات كما أُختِيرتْ قصيدتي: “أرق” كواحدة من أفضل القصائد الأسترالية لعام 2007 ونُشرت في أنطولوجيا خاصة. وآخر مطاف ذلك كله صدور مجموعتي (أبوّة) باللغة الانكليزية عن دار سيفيو الأسترالية أخيراً.
وعوداً إلى سؤالك، فلقد ازدهرت السبعينيات العراقية بروح الشعر. لكن سلسلة الحروب المفجعة أفسدتْ، ببساطة مخيفة، كلَّ شيء. وتحوّل الشعر في الثمانينات إلى بوق للصنم وللحرب وللقنابل وللصولات والجولات والمدرعات والدبابات والصواريخ. ولم يعد المجال مفتوحاً على الإطلاق لأي مجموعة تريد أن تناقش من بعيد أو قريب مواضيع الإنسان الأزلية. شخصياً لم أستطع أن أنشر مجموعتي (جيم) ذات النفس الصوفي الحروفي وذات الهم الإنساني الواضح الاّ بعد أن انتهت الحرب العراقية-الإيرانية بسنة، أي عام 1989. ولم أكد أستلم نسخي من المجموعة ولم يكد يبدأ النقاد في الكتابة عنها حتى دخلنا في حرب جديدة في الكويت! وتحوّل المشهد الشعري مجدداً وبشكل سريع ومخيف إلى مشهد الصولات وشعر الصولات! وكانت خسارة الجيش العراقي خسارة فادحة لا توصف، لكن شعراء التزوير أصرّوا على انتصار الجيش العراقي بطلب من الصنم وإعلامه. ثم جاءت مرحلة التسعينات وفيها برز شعر المديح للصنم وظهر التكسّب في الشعر بشكل مذلٍ لا مثيل له. هذه التغيرات الكبرى خلقت عملية غربلة قاسية وعنيفة ومستمرة قضت على أسماء شعرية كثيرة من مختلف الأجيال- وليس فقط من السبعينيين- بلا رحمة ولا شفقة. قضت على أولئك الذين تكسّبوا بالشعر أو اتخذوه مطيةً لتحقيق مآربهم الأنانية للحصول على الجاه والمنصب والسيارات الفارهة والدنانير الملوّثة بالدم. ولم يخرج من هذا المصهرالجنوني العجيب: مصهر الحروب والحصارات والتكسّب الإ القلة القليلة التي آمنت بروح الشعر حتى النفس الأخير والرمق الأخير ودفعت فاتورة الإيمان هذه: تهميشاً قاسياً وعزلةً وفقراً وألماً وخوفاً وأمراضاً جسدية عجيبة.

* في مجموعتك الشعري الحاملة لعنوان (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) نجد رمزية مدمجة بواقعية سحرية وبواقعية مغتربة حيث العمل المنسجم رمزياً وواقعياً وسحرياً، بل نجد صوفية منفتحة على الأبواب التاريخية والمدينية في قصائدك، إلى أيّ مدى تمكنتَ من هذا الدمج الشعري المنسجم وغير المألوف في كتابة الشعر إلا ما ندر؟

- سؤال جميل حقاً فشكراً لك وله! ذلك أن توصيفك النقدي لهذه المجموعة يكاد ينطبق على معظم ما كتبته من شعر. ليس، فقط، مجموعة: (ما قبل الحرف… ما بعد النقطة 2006) بل ينطبق على ما كتبته من شعر منذ مجموعة (جيم) التي كتبتها في الثمانينات وصدرت في أواخرها وحتى قصائد (ما قبل الحرف… مابعد النقطة) و(شجرة الحروف 2007) وما كتبته بعد شجرة الحروف ومرورا ب(نون 1993) و(أخبار المعنى 1996) و(النقطة 1999) و(حاء 2002). وهو توصيف دقيق وحيّ لآلية الكتابة الشعرية لديّ. أما تحديد المدى المتحقق من (هذا الدمج الشعري المنسجم وغير المألوف في كتابة الشعر إلا ما ندر) كما ذكرتَ في سؤالك الجميل فهو يتغير في نسبة نجاحه، بالطبع، من قصيدة إلى أخرى، ومن مجموعة شعرية إلى أخرى. لكن، بشكل عام، هناك – ولله الحمد- درجة من القبول لهذه الآلية الشعرية المغايرة وهذا الأسلوب الشعري الجديد لدى الكثير من النقّاد والكتّاب – والقرّاء كذلك- بحيث كُتِبتْ المقالات والدراسات والأبحاث الصحفية والإنترنيتية والأكاديمية لتتناول بالدراسة والبحث والنقد منجزي الشعري. أقول هذا بتواضع شديد، وأشكر لله فضله، كما أشكر من الأعماق أولئك الذين كتبوا عنّي من النقاد والكتّاب والدارسين .
* بموجية متدفقة أو مائية عالية توجّت مجموعتك الشعرية الأخيرة (شجرة الحروف) وقد جاءت على هيئة تنظير شعري لِما ورد في الماضي والحاضر الذي سيجيء مغترباً لكنه ليس حائراً، هذا التنظير أكّد على اللغوية في الحرف أو النقطة أو الكلمة كمرمزات فكرية أو صوفية أو سوريالية تتدلى فوق الواقع أو رأس الواقع، هل ترى ذلك في العملية الشعرية التي ارتكزت على بصيرتك الفكرية والفلسفية؟

- (شجرة الحروف) هي مواصلة لنهجي الشعري الحروفي الصوفي الممزوج بواقعية الشعر السحرية وحلمه الجنوني. لقد تعمّق بحر الغربة فيّ واشتدّت قوة أمواجه الغامضة يوماً فآخر في البلد البعيد، مثلما تعرّفت إلى أسرار بحر الغربة اللونية الجميلة والقاسية في الوقت نفسه. وصار على ذاكرة القصيدة، وهي المتشظّية بفعل الطفولة المجففة والصبا المحروم والشباب الملآن بالعنفوان والصبوات والكبوات، أن تتركّز ثانيةً وتستجمع زجاجها المتناثر في الطرقات والشوارع الخلفية. صار عليها أن تتكلم عن حروب العبث وحصارات الجوع وغرابة بلد الغنائم والنفط والفقر والحرب والقمع والدم. صار عليها أن تناقش ليس، فقط، حاء الحب والحنين والحرية والحرب بل حاء الحيرة وسط الحضارة وحاء الحقد وسط الحضارة، ذلك الذي يمكن أن تراه في البلد البعيد: أستراليا ليس فقط في بعض قلوب أبناء البلد بل تراه جلياً في بعض قلوب العراقيين المنفيين الذين، للأسف الشديد، نقلوا معهم، بنجاح ساحق، أمراضهم المزمنة المستعصية!

* الحرف رمز شعري يدخل في العملية الشعرية كترميز صوفي تارة وكترميز سوريالي تارة أخرى بل يذهب الحرف إلى أكثر من ذلك فهو يشكّل معنى دينامياً حتى يصل به المطاف ليكون كلمة فجملة، ثم يأتي دور التشكيل الفني ذو الطاقة الشعرية التي تحدد ماهية ذلك الترميز وأقصد الحرف عينه حتى اني أقصد الكلمة فالمعنى الذي يتأتى من خلال الجمل الشعرية أو الصوفية التي تترامى هنا وهناك في المساحة الشعرية التي أنت تراه، ما هي المرتكزات الاساسية التي أسستَ عليها لبناء صرح شعري بهذه التركيبة؟

- لقد تحقق للعربي معجزته الروحية الكبرى اعتماداً على اللغة وتأسيساً عليها (القرآن الكريم) مثلما كان يحقق حركة ساعات يومه الاجتماعية والفكرية والفلسفية والإبداعية اعتماداً على اللغة والتي بثها شعراً متفوقاً قبل شروق شمس الإسلام العظيمة على جزيرته. وما دامت اللغة بالنسبة للعربي بهذه الأهمية فإنّ اختيارها ملاذاً شعرياً، ومن ثم، التزامها بهيئة مبدعة، يجعلنا نمسك بالوتر النابض في الآلة المدهشة.
بيد أنني انطلقتُ من الكلمة إلى تفصيلها العظيم: الحرف: ذلك الكائن الغامض السريّ العجيب. وفي الحرف، وبه، وبواسطته، حفرتُ منجمي ومسرحتُ عويلي ومارستُ احتجاجي وأطلقتُ صيحاتي وخلقتُ مسراتي وكتبتُ شاهديتي. وكلّ ذلك طلبته وأطلبه من خلال مستويات عديدة ينتمي إليها الحرف، كما أرى، والمستويات هي: الدلالي، الترميزي، التشكيلي، التراثي، الأسطوري، الروحي، الخارقي، السحري، الطلسمي، القناعي، الإيقاعي، الطفولي . هكذا وعبر كتابة المئات من القصائد الحروفية التي اتخذت الحرف قناعاً وكاشفاً للقناع، وأداةً وكاشفةً للأداة، ولغةً خاصةً ذات رموز ودلالات وإشارات تبزغ بنفسها وتبزغ باللغة ذاتها، عبر هذا كله أخلصتُ للحرف عبر عقود من السنين حتي أصبح قَدَري الذي لازمني وسيلازمني للنهاية. لقد أخلصتُ له حتى أكرمني وأدخلني في قاعة عرشه وقبّلني ما بين عينيّ وأجلسني إلى جانبه وخلع عليّ رداء حكمته وأفصح لي عن أسراره وخَطَرات قلبه بلطفٍ نادرٍ وجمالٍ عجيب ومنحني- وأنا الفاني الضائع المنفيّ المنسيّ- كأسََ البهجة والمسرّة والخلود. وليس الكرم بغريب عن الحرف البتة! فلقد تركتُ من أجله الكثير، ناسياً كلّ شيء وزاهداً في كلّ شيء، ذلك أن الحرف - كما خبرتُ ذلك ومحّصته – لا يُحبّ أن يُشرك به! هو يحبّ - أن يُحَبَّ لنفسه، لروحه وجسده. إنّ حبّ الحرف هو المعنى الوحيد للحبّ، فإنْ لم تؤمن بهذا- أيها القارئ- فلا بدّ لكَ أن تؤمن بأنّ حبّ الحرف هو المعنى الوحيد للحبّ والشعر والحياة!

* الطاقة الشعرية ذات الرمزية العالية المتنوعة في شعرك تنفك وتتحد في ذات الوقت كما لو كانت صيغة بنائية كيميائية وكأنّ الطاقة الشعرية تشتغل أو تعمل أو تبث داخل المضمر أو العدمي أو المشوب بالتورية وذلك لنقله رمزياً إلى المعنى أو المعلوم اذا جاز التعبير، كيف يعمل أديب كمال الدين فنياً وفكرياً ليخلق تلك الطاقة التي يقول عنها أحد نقاد نصوصك انها طاقة صوفية مرمزة فحسب؟

- كان الحرف ولم يزل سبباً في خصوصيتي الأسلوبية الشعرية كما ذكرت قبل قليل. بيد أن الوصول إليه لم يكن سهلاً البتة. لكنني عشقته فسهّل العشق عليّ الوصول ثم القبول ثم المثول في حضرته حتى الهيام والتماهي. وربما، وبخاصة، وقت الحريق الشعري أعني وقت كتابة القصيدة، يصل الأمر إلى درجة نسيان السبب والمسبب في رحلة الحياة. ثم تعرّفت إلى أسراره فكانت (النون) بهجة المحبّ وحليب العصفور وهلال العيد والحلم والنوم والجمال المهلك والهالك والحرمان والارتباك والدوران والقمع والاحاطة والسيطرة، كانت النون رمزاً لمحبة كلّ شيء قريب وفي متناول اليد كما القمر في متناول المجنون وهو يرى صورته منعكسة فوق سطح الماء! وقبله كانت (الجيم) إشارة الجنون والجثة والجحيم والجند والحرب والدم. لكن (النقطة) كانت هي الكينونة دون شك. ففيها السرّ الأعظم وفيها الطلسم الذي لا يفكّ رموزه أحد وإن ادعاه الجميع لقداسته وعمقه ولطفه الذي لا يعرفه سوى الخواص وخواص الخواص. وستكون (الحاء) حاء الحبّ والحرية والحنان دون شك، لكنها حاء الحرب والحريق قبل ذلك وبعده، وهي حاء الحلم الجبار الذي يكاد أن يختصر الشعر كله ومعناه كله وغموضه الذي لا حدود له . وقد صدرت لي أخيراً من (شجرة الحروف) فكان الثمر غريباً والرحلة التي قطعها الغريب أكثر غرابة. وكدتُ أسمّيها “شجرة اليأس” لولا إخلاصي الذي لا حدود له للحرف، ولولا محبتي التي لا يساورها الشك لشجرة الأمل وإن بدت صغيرة جداً وشاحبة جداً ومتعبة جداً لشدة العاصفة التي تحيط بها وبي. وكان عليّ أن أوثّق لما جرى لي بلغة الاعتراف الجميل الذي سيراه بعضهم لذيذاً والآخر مليئاً بالغموض والثالث عذباً والرابع…أو بلغة الفاصلة الجسدية والزمكانية التي تغني القصيدة وتزيد، ربما، من سعة آفاقها لتحتوي الحياة كلها في لحظة نادرة.
الرحلة لا تنتهي بالموت ذلك عجب الدنيا العجاب، لأنّ الحرف لا ينتهي وتأويله شعراً لن ينتهي، وفي هذا بعض العزاء لي بأن سكني في لحاء الحرف قد أنار لي ظلمةَ وداعي وأعانني على الوصول إلى شيء ما وإن كان سرّ هذا الشيء مجهولاً للطفه العميق. لقد عالجتُ كوارث الدنيا وظلامها الكثيف بالحرف وداويتها به. وكان العلاج شافياً للوهلة الأولى لكن الظلام كان مزمناً فصار عليّ - أنا المنسيّ المنفيّ في جسده قبل وطنه وفي وطنه قبل جسده- أن أعيد العلاج المرّة تلو الأخرى. ولذا أبدلتُ الحرف من (الجيم) إلى (النون (إلى (الحاء) إلى (النقطة) إلى (ما بعد الحرف.. ما بعد النقطة) وإلى (شجرة الحروف) أخيراً، ثم حاورت النقطة والحرف وجعلتهما يتحاوران في كلّ شيء ويتناغيان ويتساءلان ويكتشفان بعضهما بعضاً وينصهران إلى حد التلاشي والذوبان. ثم جعلتُ النقطة تعترف وترقص وتبكي وتغني وتعشق وتهيم وتجنّ وتشطح وتشرق أبداً في البر والبحر والنهرً. كنتُ صادقاً فكان حرفي صادقاً هو الآخر، ولسانه كان رطباً أبداً بالدعاء والغناء والهذيان، وكانت النقطة طيبة كدمعة طفل يتيم. لذا لا عجب أن رأيتِ البحرَ والطفل والساحر يهبطون من الحرف ليأخذوا بيدي أنا المتأمل المهووس بالجسد والنار والموت لأسير خطواتي المرتبكة وسط القساة والأجلاف والقََتََلة، ولأتجنب، ولو لبعض الوقت، ذكرَ حيرتي الكبرى وضياعي المكتوب.

* من خلال سنوات المنفى الأسترالي الذي عشته وتعيشه الآن ومن قبله كانت محطتك الأولى العاصمة الأردنية عمّان، هل كانت الانتقالة توجسك القلق والخوف جراء الأجواء المختلفة كلياً؟ وهل ترك المنفى ثمة بصمات واضحة على نصك الشعري الذي كنت تكتبه داخل العراق أو في الأردن؟
- أنا أنتقلُ من بلدٍ إلى آخر ومعي صليب روحي: أسئلتي الكبرى عن مصير الإنسان في هذه الحياة: ما الجدوى وما الفائدة؟ الناس في شُغِل عن الموت: سؤال الحياة الأول والأخير وهم في شُغِل عمّا ينتظرهم في ما بعد الموت، بل هم في شُغِل عمّا ينتظرهم بعد حين من الدهر فهم أبناء يومهم وأبناء ملذاتهم ودنانيرهم ودولاراتهم ومشاغلهم اليومية البسيطة والساذجة إذا ما قارنها بمسألة الموت الخارقة . نعم، وأنا أنتقل ومعي في الوقت ذاته إحساسي العميق بالسحر: سحر الجسد والبحر والشاطئ والجبل والصحراء والغابة. فتراني أتأمل هذا السحر الذي يسمّونه الجمال بعين مَن يراه للمرّة الأولى أو للمرّة الأخيرة. وبين رؤية المرّة الأولى للجمال ورؤية المرّة الأخيرة يلعب القلب لعبته العجيبة: لعبة الشعِر والحرف والحبّ والشوق العظيم! أما أثر المنفى عليّ فكبير: فكل ما أكتبه الآن هو شعر منفى! لكن ليس المنفى الجغرافي الذي أعاني منه فقط بل المنفى الروحي والإنساني والثقافي والديني والصوفي والإختلافي. مثل هذه المنافي لم تظهر فجأةً في عمّان أو في أستراليا بل كانت لها جذورها الشديدة الوضوح وأنا في العراق، منذ أن ولِدت في بابل العراق! هكذا فأنا أعاني من أنواع عديدة من الغربة، وليست الغربة المكانية بأولها على أية حال . وهكذا أيضاً وبسبب من تعقيد المسألة وتجذّرها في الأعماق، فإنني “وضعت” الغربة في “كيس” خاص في جسدي. هل سمعتَ بحالة يعاني فيها الإنسان من إصابته بإطلاقة نارية لتستقر الرصاصة في جسده، ولأسباب كثيرة، في مقدمتها رغبة الجسد في البقاء على قيد الحياة، فإنه يقوم ب”تكييس” أو “تلييف” الإطلاقة فيحدّ من خطرها المميت ويحدّ إلى حدّ ما من آلامها الوحشية ؟ لقد استقرّت الغربة: الرصاصة في أعماقي داخل كيس خاص. ما اسم هذا الكيس الذي أحاط بالغربة- الرصاصة وروّضها إلى حدّ ما؟ أهو الشعر؟ أهو الحرف والنقطة؟ أهو الحرفنقطة؟ المهم أن الغربة بمخاطرها وآلامها تحت السيطرة حتى الآن، ولكن ليس لدرجة التصالح على الإطلاق !
لقد تحدثتُ عن الغربة المكانية، آخر أنواع الغربة التي تعرّفتُ إليها، لكن الغربة الإنسانية أكبر من ذلك دون شك. وهكذا تبدأ غربتي، كإنسان وكشاعر، بتعبير حروفي، من غين الغربة ولا تنتهي بتائها المربوطة! لقد كنتُ مغترباً وأنا أعيش وسط الوطن، ووسط المجتمع العام والخاص، ووسط النخبة الثقافية التي ما أن حاولت الاندماج معها حتى اكتشفت مبكراً صعوبة وربما استحالة ذلك لأنها تتخذ من الأيديولوجيا تحديداً لماهية الأنسان. كان هذا في السبعينيات، ثم في الثمانينيات والتسعينيات حيث كانت النخبة تتماهى، بشكل أو بآخر، مع مؤشرات خطاب “القائد الضرورة”. أي في الحرب وفي رعبها، وفي الحصار وفي ناره، اتسعت غربتي واشتدّت فلا أنا ممن كتب ولا أنا ممن مجّد فأراح واستراح بل كنت من الذين قاوموا بالكلمة عملية دهس الكلمة التي مارستها المؤسسات الثقافية. كنتُ من القلة القليلة التي ارتضت بهذا الصراع السريّ الخفيّ الخطر. أن تبقى في الداخل ولا تتماهى مع شروط إعلام و”إبداع ” الداخل بل تؤسس بأظافرها المدماة لكلمة الحق. هكذا كتبتُ مجاميعي “تفاصيل” و”ديوان عربي” “وجيم” و”أخبار المعنى” و”النقطة” و”حاء”. وهكذا واجهت المدّ الاعلامي الجنوني فاتخذت من قناع الحرف أولاً ومن قناع النقطة ثانياً وسيلةً للكشف عما يحدث من تزييف لحقيقة الشعر وجماله ومعناه . كانت الغربة بمرور السنين تشتدّ والثمن الذي أدفعه لكي أبقى حياً وسط حروب مدمرة وحصارات وحشية وتهميش إعلامي وثقافي غالياً . بعبارة أخرى، كانت الغربة داخل الوطن عذاباً حقيقياً لم يعرفه الاّ القلّة من الذين اختاروا معي صفاء الكلمة وشظف العيش وارتياب الآخر وتشكيكه وتهميشه بدلاً من مسخ الموقف والاندماج بالمؤسسة. وما أن وصلتُ إلى أستراليا حتى بدأت غربة أخرى تطلّ برأسها: إنها غربة اللغة. ولحسن الحظ فإنني قد أعددت نفسي لها إعداداً جيداً حيث درستُ الأدب الانكليزي بكلية اللغات بجامعة بغداد في التسعينات. لكن الغربة كما اكتشفتُ ليست لغوية بل أوسع من ذلك، إنها حضارية. وهي غربة تقوم، في الغالب، على اصطدام الحضارات والثقافات. وأنا القادم من الشرق الفقير المحبَط هو مَن سيكون نقطة اصطدام الشرق بالغرب! بالطبع هناك، مثلما أشرتُ في البدء، غربة الإنسان في هذا الكون. إنها الغربة الأقسى. غربته وهو يحاول عبثاً فكّ طلاسم الموت: الوجه الآخر للحياة. هي غربة تطلق شرار الشعر فيَّ أبداً، وتدلّني، منذ كتابتي لقصيدتي الأولى وحتى الأخيرة، على انحسار الأمل لا انحسار السؤال. هذه الغربة هي ردبف عظيم للسؤال الشعري، رديف يتبعني كظلي.

* من المؤكد أنْ ثمة اكتشافات شعرية مهمة توصلتَ اليها في أستراليا خلال سنوات الاقامة فيها، خاصة وانك تجيد اللغة الانكليزية كونك قد تخرجتَ من كلية اللغات ببغداد وفي الأدب الانكليزي بالذات، فلم تصطدم بحاجزها الذي يعيق المهاجرين عادة. كيف تحدثنا عن الشعر الأسترالي وتقبّله للشعر العربي من خلال الأمسيات التي أقمتها هناك وترجمة نصوصك وهل ثمة قبول للقارئ الأسترالي لنصوصك ونصوص العرب الآخرين؟

- أفضل أن أسمّيها ملاحظات بدلاً من اكتشافات. ويمكن إجمالها على النحو التالي: أولاً يمكن ملاحظة أن الأستراليين يهتمون بنواحي الحياة المختلفة كلها. إنهم يهتمون بالشراب والطعام والجنس والموسيقى والرياضة والرقص والسفر والسيارات والملابس وحتى بالمخدرات، مثلما يهتمون بالقراءة: قراءة الكتب بإنواعها: السياسية والدينية والعلمية والاجتماعية والنفسية والروائية والشعرية وكتب الطبخ والتسلية. إنهم شعب مقبل على الحياة يحبّ العلم والتعلم ويتلذذ بملذات الدنيا دون استثناء. ثانياً: الشعب الأسترالي شعب عَمَِلي لا يعيش في زوايا التاريخ ولا في براثن الأسطورة. ثالثاً: هو شعب يحترم العمل بأنواعه وليس لديه عمل لائق أو غير لائق، محترم أو غير محترم فكلّ عمل هو لائق محترم مادام يحقق مردوداً مالياً . فإذا انتقلنا للحديث عن الأدب فستجد أن السوق الأدبي هو سوق الرواية قبل كلّ شيء. ثم تأتي كتب السياسة والعلم والاجتماع والدين والنفس والطبخ والأزياء والرحلات. والشعر يأتي في آخر المطاف للأسف. وهذه الملاحظة لا تقتصر- كما هو معروف- على أستراليا بل على الولايات المتحدة وكندا وعموم دول أوربا. ولأن اللغة الرسمية هنا هي الإنكليزية فسوق الكتاب تشهد صدور عشرات الكتب إسبوعياً في مختلف نواحي المعرفة، وليست الكتب هذه مطبوعة في أستراليا فقط بل مطبوعة في الولايات المتحدة وبريطانيا. هذه هي الملاحظة الرابعة أما الملاحظة الخامسة: فهي أن الدولة تدعم وبشكل مستمر كافة الأنشطة الثقافية وليست الأدبية، ويتساوى لديها إقامة سفرة نهرية لجالية ما مع إصدار كتاب لتأريخ أو شعر تلك الجالية! الملاحظة الأخيرة هي أن الأستراليين يرحّبون بكلّ شيء مبدع أو متميز أو مختلف، ليس، فقط، في الشعر بل في الرواية والمسرح والفن بأنواعه، ويفتحون له الأبواب ولكن ضمن قوانينهم التي لا تخلو من التعقيد. وهكذا فقد ساهمتُ في أكثر من قراءة شعرية في المدن الأسترالية وتم تضييفي في جمعية الشعر في مدينة أديلايد عاصمة أستراليا الجنوبية عام 2004 وغاليري (De la Catessen) عام 2006 ونشرتُ قصائدي- ولم أزل مستمراً- في أكثر من مجلة أسترالية مهمة، مثلما اختيرتْ قصيدتي “أرق” Sleeplessness كواحدة من أفضل القصائد الأسترالية لعام 2007 ونُشِرتْ في أنطولوجيا خاصة أعدّها الشاعر الأسترالي والروائي المعروف بيتر روز Peter Rose. كما صدرت أخيراً مجموعتي (أبوّة) بالانكليزية مع مقدمة كتبتها الشاعرة والكاتبة الأسترالية جود أكولينا Jude Aquilina

* في السابق استطاع الشعر أن يحرّض على القيام بالثورات ضد الأنظمة المستبدة وكان سلاحاً فعالاً لنصرة الفقراء والمظلومين والمضطهدين، أما اليوم فلا دور يذكر له بهذا الشأن إلاّ ما ندر، كيف تحدثنا عن هذه الإشكالية التي يواجها الشعر بوجه عام وأين الخلل في رأيك؟

- كان الشاعر في ما مضى هو “الناطق” الوحيد و”المتكلم” الوحيد. لذلك كانت القبيلة تحتفل ب”ولادة” شاعرها الذي سيكون لسان حالها وموّثق انتصاراتها والمدافع عن قيمِها وعاداتها. لكن الدنيا تغيّرت بالطبع، وتنازعت الإذاعة والصحافة والسينما والتلفزيون دور الشعر والشاعر لتصبح متكلمةً هي الأخرى وناطقةً بوسائلها الخاصة. وهكذا أصبح دور الشاعر أكثر صعوبة في ظل منافسين يمتازون بامتلاكهم وسائل تكنولوجية متقدمة كالصوت والصورة. وساعد ابتعاد الشعر عن تناول هموم اليومي من الناس والمجتمع من ناحية أخرى وتأكيد الإذاعة والصحافة والسينما والتلفزيون على هذا التناول اليومي، ساعد في عزلة الشاعر بالطبع. كما إن تطور القصيدة على نحو صار استيعابها من قبل المتلقّي يتطلّب من الأخير قدراً معقولاً من المعرفة باللغة والتاريخ والسياسة والتراث، أدّى، على نحو ما، إلى نخبوية الشعر. خاصة وانّ المتلقّي في هذا الزمن مشغول بضيق الزمن وضغطه المتواصل عليه وتحدّيه له على نحو عجيب . أنا لا أعتبر هذه إشكالية، لأنّ التطور الإنساني والإعلامي والإتصالي لا يتوقف ولن يتوقف. الآن دخلنا عصر الإنترنيت. وبدأت الصحافة الورقية تواجه منافسة حقيقية من قبل الصحافة الورقية. بل دخل المدوّنون الذي أخذوا يعلنون أفكارهم في مدوّناتهم وفي المواقع الإنترنيتية دون خوف حقيقي من القمع في كثير من الأحيان. أرجو أن لا أكون شديد التفاؤل إذا ما تصورت أن الإنترنيت قد حقق ثورة على صعيد البشرية كلها، وأن “ثورة” الإنترنيت في البلدان العربية- رغم النسبة الضعيفة في استخدامه إذا ما قورنت ببلدان العالم الأخرى وبخاصة بلدان العالم المتقدم- خفّفت إلى حد ما من هذا الغياب المُهلك للحرية والحضور العنيف لآلة القمع، كما كسّرتْ، إلى حد ما، من الحدود العربية المخيفة أمام حركة الاتصال وتلاقح الأفكار وكذلك حركة الكتاب العربي بعامة والمجاميع الشعرية بخاصة. الآن يمكن قراءة الكتب على أنواعها على الإنترنيت مفتوحة اليدين والقلب! فشكراً للإنترنيت الذي حقق حلماً إنسانياً قديماً وعظيماً، وعسى أن تنجح هذه الثورة الكبرى في تحقيق إنتشار الكتاب العربي بعامة والمجاميع الشعرية بخاصة وإيصاله إلى القراء والحد من نسبة القراءة المتدنية لدى الشعوب العربية على نحو يثير الرثاء والبكاء والخجل! هذا يعني أن الإنترنيت سيساعد في إيصال الشعر وتوسيع دائرة متلقّيه في مشارق الأرض ومغاربها مستقبلاً. وسيكسر، بل كسر فعلاً شبح الألف نسخة التي يطبعها الشاعر ويوزعها على معارفه! الممتع والجميل في المسألة أن الكتب الإلكترونية مجانية وهي تقفز فوق الحدود المانعة وسياط القمع والمنع والردع ليتجاوز رقمها الألف بعشرات وربما مئات المرات. إنها ثورة رائعة بكل المقاييس!

* ما هو تقييمك للشعر العراقي بشكل خاص والعربي بشكل عام في ظل الظروف الدراماتيكية والتقلبات السياسية التي ذهب ضحيتها مئات الآلاف من البشر جراء الحروب والارهاب والمشاكل الأخرى، فهل تمّكن الشعر من تجسيد هذه الحالات اللاإنسانية؟

- هذا سؤال كبير ومهم، وهو يحتاج الى بحث أكاديمي واسع وعميق حتى يستطيع أن يحيط به وبجوانبه المختلفة. جوابي سيكون متعلقاً بما أنجزته شخصياً. إذ إن كلّ ما أنجزته من كتابة شعرية إنما هو طموح للإحاطة بهذه الموضوعة الكبرى: أن يحيط الشاعر بزلازل عصره ونكباتِ الإنسان فيه ومواطن الموت والقتل والقلق والاستلاب. لكن التحدي الحقيقي هو أن يحيط الشاعر بهذه الموضوعة العظيمة متسربلاً بإسلوبيته الخاصة التي تمسك بشروط تناول الموضوعة من جهة وبشروط أن يتم تناول الموضوعة ضمن بصمة الشاعر الفنية وقاموسه اللغوي والصَوَري الخاص. وهذه معادلة في غاية الصعوبة. فهناك مَن يتناول الموضوعة بطريقة مباشرة ودعائية وفجّة وتدعو للرثاء وهناك مَن يتناولها بطريقة التغميض والهذيان الاجوف. وبالطبع فإنّ النتيجة القادمة في الحالتين ستكون خارج الشعر المبدع كلياً. فشاعر المباشرة والفجاجة يخسر الشعرية بشكل مفجع، وشاعر التغميض والهذيان الأجوف يخسر المتلقّي الذي بدونه لا تكتمل دورة الشعر المبدعة. لكن من ناحية أخرى، يجب أن نعترف بأن هناك أزمة في الحصول على الشعر المتفوق المبدع، لأنّ الكثير من الشعراء والشاعرات في أقطارنا العربية يفتقدون إلى الفهم الدقيق لمسألة بنية القصيدة، ولمسألة النمو العضوي في القصيدة، ومسألة الاقتصاد في اللغة، ومسألة القاموس الشخصي للشاعر، كما يعانون من الخواء الروحي والإنساني أحياناً. الكثير منهم لا يملكون تجارب روحية أو إنسانية ذات شأن أو عمق. وتجد جملهم الشعرية وصورهم الفنية مليئة بالتغميض والترهل والتقعير والهذيان اللامجدي حتى تحوّلتْ قصائدهم إلى مايشبه ركاب عربة القطار الذين لا يعرف بعضهم بعضاً ، ولا يجمعهم أي جامع سوى العربة. مثل هؤلاء الشعراء يهرفون بما لا يعرفون!
إنّ الشعر، كما أراه، هو اكتشاف الحياة في ومضة نادرة وبأقل عدد من الكلمات. ولذا سيكون الشعر الحقيقي والعميق نادراً على الدوام. والغلبة في الظهور، على الأكثر، للنماذج غير الأصيلة، للنماذج التي تعوزها الومضة النادرة في اكتشاف الحياة أو تعوزها قدرة الشاعر على تجسيد هذه الومضة بشكل عميق ومبتكر دونما تعقيد أو تغميض. وبالتغميض أعني الغموض المفتعل وليس الأصيل. نعم، إنّ معادلة الإبداع في الشعر صعبة حقاً، وتتطلب من الشاعر خبرة حياتية وثقافية ولغوية وشعرية، مع مران مستمر، وإيمان حقيقي بالشعر ودوره الإنساني الخلاق، مع الحرص الصادق على عدم ابتذال الشعر بأيّ شكل من الأشكال.

* يقول طه حسين على الشاعر العربي أن يجيد لغة اجنبية غير العربية لتكون له القدرة في البحث والتنقيب في الثقافات الأخرى، فأنتقل معك من فن الشعر إلى الترجمة، ما هي مميزات المترجم الناجح خاصة وأن ترجمة الشعر تختلف كلياً عن النصوص الأخرى، هل كانت رغبة الترجمة لديك نابعة من عشقك للغة الانكليزية؟ أم تأثرتَ بمقولة طه حسين لتتعرف بشكل دقيق على ثقافات عالمية رصينة في الأدب الإنكليزي لتتمكن من كتابة نص شعري متميز؟
- إنّ أهمية امتلاك الشاعر لناصية لغة حية إضافة إلى لغته الأم هي مسألة أصبحت في حكم البديهيات. وقد انتبهت إلى ذلك منذ زمن مبكر. وكافحتُ، بقوة، لكي أتعلم الانكليزية بشكل أكاديمي في كلية اللغات ببغداد في التسعينات ثم درست الترجمة الفورية في أستراليا بعد ذلك . إذ كيف يمكنك أن تتطور شعرياً دون لغة ثانية تتيح لك الإطلاع الحقيقي والمتواصل على منابع الشعر في العالم؟ كيف يمكنك أن تتواصل مع التطور الحضاري في العالم دون لغة تعينك على الاتصال المباشر مع هذا التطور أولاً بأول؟ بل كيف يمكنك أن تتعامل مع مفردات الحياة اليومية وبخاصة المفردات التكنولوجية والعلمية التي أصبحت تُنطَقُ بلغة ثانية دون أن تعرف أسرار هذه اللغة الثانية؟ والمشكلة بالنسبة للشاعر العراقي والعربي (وللقارئ العراقي والعربي قبل ذلك) هنا أكثر وضوحاً وأكثر حدة حين نتذكر أن مجموع ما تُرجِمَ إلى اللغة العربية من آداب وعلوم ومعارف الشعوب الأخرى لا يتجاوز2-3 بالمائة من المجموع العام لتلك الآداب والعلوم والمعارف! يحدث هذا والبلدان النفطية العربية تئن من فائض ملياراتها النفطية! ويحدث هذا والمترجم العربي شبه عاطل والمليارات تئن إلى يوم يبعثون!
أما صفات المترجم الناجح فهي كثيرة، أولها تمّكنه من فهم أسرار وتفاصيل اللغتين (المترجم عنها والمترجم إليها) وتفاعله بشكل إيجابي مع النص المترجم وإحاطته بظاهره وباطنه. وكذلك تمسّكه بمبدأ الأمانة في الترجمة فلا يغادره إلا مضطراً للسبب لغوي أو جمالي، مع تمسّكه بمبدأ الوضوح والسلاسة واللطف في كتابة النص في اللغة الجديدة (المترجم إليها) بعيداً عن التقعير والارتباك والالتباس. ويحتاج المترجم الناجح إلى سعة في الاطلاع في تخصصه. فلترجمة الشعر مثلاً ينبغي على المترجم معرفة أساليب الشعر المختلفة عالمياً وكذلك معرفة حقيقية في الشعرية لدى اللغتين بحيث يتمكن من اختيار المفردة الأقرب إلى روح النص المترجَم وكتابتها على نحو يحفظ لها أكبر قدر من روحها الأصلية وأكبر قدر من الشعرية فيها، ولذا قيل إنّ أفضل من يترجم الشعر هو الشاعر وهذه حقيقة لا لبس فيها!
أؤكد - بشكل عام - في ترجمتي لشعري أو لشعر سواي على الأعمال التي تعتمد في حضورها الإبداعي على”الثيمة” أكثر من اعتمادها على مفارقات اللغة والتلاعب بالألفاظ. ذلك أن “الثيمة” يمكن أن تجتاز صعوبات الترجمة بنجاح ويبقى العمل محتفظاً بزبدة جدواه الفنية. أما العمل الفني الذي يعتمد في حضوره على مفارقات اللغة فذلك لا سبيل إلى ترجمته البتة. كذلك أؤكد، قدر المستطاع، على الأمانة في الترجمة، مع منح القصيدة ما تستحق من شعرية دون الاساءة إلى هذه الأمانة بل الحفاظ عليها بكل الوسائل الممكنة. هذه هي الخطوط العامة لأسلوبيتي في الترجمة أما التفاصيل فانها تتطلب حديثاً له بداية وربما لا نهاية له.


******************************

نُشِرَتْ في صحيفة الزمان- لندن 1- تموز ، يوليو  2009

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home