فهم الذات في قصائد الشاعر الحروفيّ أديب كمال الدين

 

 

 

حسن حافظ السعيدي

 

 

 

  تسلمتُ، عن طريق البريد الجوي المبعوث من أستراليا، المجلّد الخامس من الأعمال الشعرية الكاملة مرسلاً من الشاعر الحروفي الأستاذ أديب كمال الدين، والذي جاء ليمثّل للمتلقي ذلك الإحباط اللامتناهي في القيم كلها، في الحياة والطبيعة والنفوس البشرية التي وصلت إلى أسوء حالاتها، وكأنه يريد أن يؤكد لنا، أن كل شيء في هذا الدنيا باطل الأباطيل، ولا شيء فيها يستحق الركض خلفه، ماخلا الله تعالى فهو الكمال المطلق. لذا فان الشاعر يفتش عن النور لإضاءة تلك النفس البشرية، علّه يستطيع أن يصل إلى (السدنة الالهية). وهكذا يروي لنا حكايات وحوارات عن طريق القصيد للتعبير عن هذه المفاهيم، فهكذا تاتي أغلب صوره الشعرية، عن الطبيعة والمطر والمرأة والبحر الزاخر بالذات، وهو الطهور ماؤه، في غضبه وسكونه، وعمقه وغدره، وهو يبتلع المهاجرين الفارّين من بلدانهم نحو المجهول! الذين قد يصلون إلى الشاطئ وقد يبتلعهم هم وآمالهم التي جاءوا من أجلها، ليصبحوا لقمة سائغ طعامُها للسمك والحيتان، إذ ان (البحر الذي لا يعرفُ إلّا الاغتصاب الوحشيّ/ من قصيدة تايتنيك).

  أمّا (المرأة) فهي العالم الآخر اللامتناهي التي يفترض أن تكون تلك النسمة العذبة التي تلطّف الطقس الحياتي، فهي الرقة المتناهية وهي الدفء، وهي القيمة الجمالية العليا حتى في تقلباتها علوّاً وهبوطاً والتي أسبغ عليها الشاعر سمة (الجمال المُطلسم!). ألم يخاطبها بقوله: (حينَ أحببتكِ فقدتُ نصفَ ذاكرتي، وحين خرجتُ من الحربِ فقدتُ نصفَها الآخر).!   أمّا (المرآة ) فيا ويل لمن تخدعه المرايا ليرى ذاته وجهاً لوجه حين يقف امامها، على حقيقتها دونما زيف أو رتوش. ويا ويل من يدعي أن المرايا خادعة وأنها لا تمثّل حقيقته. سواء ظهرفي سيماء وجهه أو بغضون التجاعيد التي كست هذا الوجه الذي كان يفيض رواء وتضجّ فيه عروق الحياة، فاذا بها تجفّ تماماً فلا ترويها دماء ! ومن هنا نجده وهو يحاول الإطاحة بالمفهوم الأوحد في خطاب الشاعر وعدم تبنّيه لما يطرح عند الاخرين ؛ اذ ترتبط صوره الشعرية بالتأويل والذات والقارئ على السواء في ضوء أنطولوجيا الفهم القائم على الوعي والإدراك القصدي لها.

 زد على ذلك أن الأمر قد يقترن بالشك والفكر أولاً ومن ثم العمل المنتج الذي يركز على ما يعود للذات من فعل وقراءة. وكما يذهب إلى ذلك الدكتور علي هاشم طالب فيشير إلى أن (قراءة الذات بفعل النص وقراءة النص بفعل الذات، مثل المكان الضيق في شعر أديب كمال الدين في فهم الذات له ومن ثمَّ فهم الذات بوساطته وقراءة المتلقي لهما، فانعكس الأثر بالظاهرة التي تمثّل بُعداً اجتماعياً ونفسياً وفلسفياً ينطبق على فهم الذات وقراءتها لذاتها مما يشكل حضورها الذاتي الذي يكون في الغرفة والسرير والنافذة، وكل ذلك يرتبط بالحضور الذاتي وتشكله الآني، وقد يصل ذلك الفهم في التشكل إلى الموت، ويمكن أن يكون حضوره من خلال الجسد. كل هذه الأماكن كان يفترض أن تكون مصدر الراحة والطمأنينة ، لكنها كانت مصدرا للخوف والقلق والحزن، وهذا قد يشمل الأماكن الواسعة التي أصبحت ضيقة في ضوء فهم الذات لها..). (د. علي هاشم طالب الزيرجاوي/ جامعة المثنى / كلية العلوم التربية للعلوم الانسانية/ مجلة جامعة ذي قار/ المجلد 14 العدد 1 آذار 2019).

  والغريب أننا نجد أن جميع قصائد  المجموعة الأولى في المجلد الخامس وهي المعنونة (رقصة الحرف الأخيرة)  تتكون من (19) مقطعاً شعريا Stanza حيث يمثّل هذا الرقم عند الروحانيين والصوفيين عمقاً كبيراً. فهو يمثل عدد حروف البسملة التي هي الافتتاحية لسور القرآن الكريم كافة والبالغ عددها 114 سورة، عدا واحدة منها هي سورة التوبة، إلا أنه مما يعوّض عن هذا النقص العددي في منح ذلك التطابق بين الرقمين أننا نجد أن تلك الآية قد جاءت مكررة لمرتين في سورة النمل. حيث يبنون الكثير من الأسرار عليها، فهي الافتتاحية لسورة السبع المثاني (الفاتحة) كما يذهبون في الكثير من البحوث إلى أن السور عند تحويل حروفها بما يناسبها من أرقام هجائية، كلها تقبل القسمة على الرقم (19 ) بدون باقٍ.. ولهذا يذهبون إلى أن كتاب الله المجيد متكامل رقمياً. ولو رجعنا إلى قصائد الشاعر لوجدناها تعتمد الأسلوب ذاته في أغلب قصائده ذات الأدوار الايقاعية والتي تقع ضمن الرقم المشهود (19 ) كما أن الشاعر أديب يتخذ من التكرار لكلمة أو لعبارة سبيلا.  اذ يتخذ منها تكية أو (دورا) لإنشودة يتغنى بها وبإيقاع مموسق Rhyme ، ولو ضربنا مثلا لوجدناه يلجأ إلى تكرار كلمة معينة كافتتاحية لمقاطعه الشعرية، ففي قصيدة (كاف السؤال)، يعمد إلى استعمال كلمة (ما دمتَ) أو عبارة (حين ماتَ) في قصيدة (توريث). مع أنه قد يتصرف فيها إذ يُغيّرها حسب المعنى المقصود (حين صُلب) والذي يريد إيصاله إلى المتلقي، ففي المقطع 14من تلك القصيدة ينشد لنا في إيقاع جميل:

حينَ صُلِبَ الحَلّاجُ وأُحرِقَ

أورثني رمادَ جُثّته.

فاحترتُ بأمرِ هذا الرماد.

لكنني ذات غروبٍ

وضعتُهُ في أكياسٍ صغيرة

وذررتُهُ  في دجلة.

ذررتُ كلّ سنةٍ كيساً

ولم أزلْ على هذا الحال:

لا أنا أموت

ولا الأكياس تنتهي.

واذا كان الشاعر حائرا في البداية، فإن حيرته قد انتفت حين اهتدى إلى حل، وهو أن يأخذ هذا الرماد ويوزعه في اكياس ليذرها في دجلة، ربما كما يفعل الهندوس مع موتاهم فقبل حرق جثثهم، يلجأون إلى غسل الجثة في النهر المقدس (رانج) وبعد أن تجف يتم حرقها لأن التطهير عندهم يتم بالنار ثم يذرون الرماد في النهر لتعيش الروح- حسب معتقداتهم - ..في اشارة إلى الخلود.. فهكذا يفعل الشاعر الحروفي الأستاذ أديب كمال الدين حين قام بذرّ رماد الصوفي الحلّاج في دجلة للبحث عن سر خلود النهر وامتداده بصورة لامتناهية، وهو هنا يصل إلى نظرة فلسفية نحو الكون.

  وفي تلميحة ذكية اخرى منه يقترب من عشبة الخلود التي سعى للحصول عليها (أتونابشتم) في ملحمة كلكامش التي حاول فيها التغلب على سر الموت بغية الوصول إلى الخلود السرمدي، وبذا أقدم الشاعر الحروفي على كسر ذلك الاحباط ومضاعفاته! اذ مهما امتد الظلم وطغى الفساد وما يصاحبهما من حلكة النفس واسودادها، يأتي ليبشرنا بتغريدته الخالدة (لا أنا أموت/ ولا الأكياس تنتهي!). وهنا أجد أن الشاعر يصل إلى ذروة القصيد وفي منتهى الروعة حيث يكون حين وصل بها إلى معراجها الأكبر Climax أما في قصيدة (قاف القضبان) فنجد أن افتتاحية المقاطع كلها تبدأ بكلمة (جلسَ) إذ يتناول فيها الكثير من الحالات، حيث إن الجلوس يمثل الهدوء والسكينة (جلس الشاعر/ جلس الطفل/ جلس الشحاذ/ جلست العانس/ جلس البريء ..) إلى أن يصل بنا إلى (جلس الزمن !) في استعارة جميلة منه بعد أن ألبسَ الزمن لبوس الحركة ومن ثم السكون:

جلسَ الزمنُ خلفَ القضبان

وهو يرى السّاعات

تفرُّ مِن بين يديه الضعيفتين

مثل طيورٍ فُتِحَ لها،

فجأةً،

باب القفص.

  وهكذا يرينا الشاعر حالة أخرى من التخلص من (أسر الذات !) وهكذا تترى صوره الشعرية ليتناول مختلف الناس وهيأتهم في مرحلة أخرى من مراحل الاحباط : جلست العاشقةُ خلفَ القضبان، حاولتْ أن تتكلّم ، فخذلها قلبُها، وخذلها لسانُها  وخذلتها الكلمات ! حتى التفاحة لم تسلم من أيدي الجزارين، إذ ينشد بأسىً :  جلست التفاحةُ خلفَ القضبان، فذهلتْ وهي ترى عشرات السكاكين  تحاولُ أن تنهشَ جسدَها!

وهكذا يستمر بنا الشاعر بالانتقال بنا بكامرته المتحركة لترصد لنا مختلف المواقع والحالات ولكن على الرغم من سواد الدنيا كلها وحلكتها الشديدة، فمهما بدت لنا العتمة من غسق الليل وكأن لا نهاية لها، إلا أنها لم تمنع الصوفي من الاهتداء إلى النور حيث يقول:

جلسَ الصّوفيُّ خلفَ القضبان،

جلسَ بقلبٍ مُطمئن

لأنَّ القضبان

لم تستطعْ منعَ قلبِه

مِن ترديدِ أسماءِ الله،

ولا البكاء

ما بين يديها المُقدّستين الطيّبتين.

إلا أن الشاعر حين يردد حرف الحاء ينكّس الراية ويستسلم، ففي قصيدة (حاء الحلم) ينشد لنا وجهات نظر متباينة : حاءُ الحلمِ أكثرُ الحاءاتِ شعوذةً، هكذا قالَ لي الصحفيون. حاءُ الحبِّ أكثرُ الحاءاتِ التباساً.. وغموضاً وهرطقةً، هكذا قالَ لي المؤرخون ... لكنّ قلبي قال: حاءُ الحبِّ أكثر الحاءاتِ مبعثاً للحزن! إلى أن يصل بنا الشاعر في خاتمة القصيدة إلى منتهى الاحباط، حين يردد:

ولذا جمعتُ قصاصات قصيدتي،

وصنعتُ منها وسادةً صغيرة،

وضعتُها تحتَ رأسي،

ونمتُ.

نمتُ سعيداً،

وأنا أحلمُ بحاء الحلم،

أحلمُ كأيّ طفلٍ ينتظرُ صباحَ العيد،

العيد الذي سحقتْ رأسَه حاءُ الحرب،

وحاءُ الحرمان،

وحاءُ الجحيم!

واذا كان حرف الرّاء هو الاكثر روّياً في قصائد الشعر الكلاسيكي لايقاعه الجميل، فإن الشاعر يعمل على سحقه، ليصب عليه لعناته الكبيرة لتلقيه في ضلالة الحرمان والجحيم، فما بين الحب والحرب، يكمن هذا الحرف (الراء) اذ يعمل على قلب مائدة الحياة تماما فيلقيها في مهاوي الضلالة والردى ..! ويبلغ (توق) الشاعر مَداهُ ، يستعيد فيها موقعه الصوفي حيث يستهل الشاعر قصيدته (قاب قوسين) بكلماته (يا لسعدكَ/ يا لبشراكَ/ يا لمجدكَ / يا لطفكَ ..) حين يختم قصيدته تلك في المقطع 19 اذ يصل بها إلى قممها السوامق صعوداً نحو المجد الالهي، وكأنه متعب وقد استعاد أنفاسه أخيراً، ففي نهايتها، ينشد بتوقٍ متناهٍ ولعله هنا يخاطب الذات المفعة بالحب الالهي:

يا لمجدك

وأنتَ تنطقُ الكاف

ليكونَ الكاف قلبك،

وأنتَ تنطقُ النُّون

فتكون النُّون نبضة قلبك.

وفي قصيدة (سين العظام والحطام) نجده يتغزل بالمرأة وجمالها المُطلسَم، فمرّة يشبهها بالحمامة ومرّة بالبيضة، وثالثة بالزهرة، حيث يتناغم معها بنعومة متناهية:

اسمُكِ السّين

وهو السّرّ،

وهو الموتُ السّرّيّ،

وهو سينُ مَن لا سين له

إلّا الجنون.

حيث يجد المتتبع إيقاع حرف السين الجميل بما يطلق عليه النقاد الانكليز: فحيح الافاعيThe Hissing Sound ولكنه في المقطع 13 يلقي بسؤاله المُحيّر بقوله (أين هو الحل يا سينَ العظام والحطام؟ ) لكنه سرعان ما يرقى من جديد إلى حالات من الكآبة شديدة حين يصور لنا كيف : استعان القتيل بقاتله خوفاً من الخوف ..! في فوبيا مرعبة Phobia وصل اليها في هذه المينة (مدينة الغربان ) بامتياز ..! وفي تناقضاته تلك يسخر الشاعر سخرية مريرة من أؤلئك المصفقون وراء كل مصفق، والناعقون وراء كل ناعق، كما يطلق عليهم : الشعراء المؤدلَجون:

الشّعراءُ المُؤدلَجون مُضحكون

لأنّهم يكتبون طوالَ العمرِ قصيدةً واحدة،

قصيدة تستعينُ بكلِّ الكناياتِ والاستعارات

لتثبتَ أنَّ الطغاة،

رغمَ كلّ أنهار الدمِ التي فَجّروها،

كانوا مُجرّد حمامات سلام.

 بينما في مكان آخر تصدح حنجرته بأعذب الشعر وأبهاه، فالشعر عنده هو رفرفة جناح الطائر ! فأية صورة شعرية أجمل من هذه ! وهكذا يريد بالشعراء أن يصلوا إلى السوامق حين يدّعي  أن (الشعر هو الفصل الاعظم في سرّ الكون). وها هو ذا يتحدث عنهم:

قالَ المعرّيّ : خَفِّف الوطء.

وقالَ الخيّام : اشرب الكأس.

وقالَ جُبران : أعطِني الناي وَغنِّ.

أمّا أنا فقلت : الحرفُ كأسٌ والحرفُ ناي

فَخَفِّفوا من وطأةِ القولِ أيّها الشُّعَراء.

  لكنه  في قصيدة (مرآة حروفية) فإن الشاعر أديب كمال الدين يطرح  أسئلته غير المتناهية. قد يجيبك على بعضٍ منها وقد يظل السؤال عالقاً في مؤخرة الذهن بحاجة إلى جواب ! اذ يدّعي أنه:

يمكنكَ، ببساطةٍ، أن تصنعَ المرآة.

خذْ شَظيّةً كبيرة

مِن زجاجِ نافذتِكَ المُحطَّمة

واغسلْها جيّداً مِن ذكرياتِكَ المريرة.

اغسلْها بالماءِ أو بالدموع.

وضعْ على وجهِها الثاني

قطراتٍ مِن دمِك.

دعها تجفّ تحتَ ضوءِ الشّمس.

وانظر الآن: ماذا ترى؟

قلْ لي بهدوءٍ شديدٍ: ماذا ترى؟

أرجوك لا تصرخْ

لا تستغِثْ

لا تذرف الدموع

لا تُدمدمْ

لا تَسخرْ

لا تضحكْ ولا حتّى تبتسمْ.

فقط، قلْ لي : ماذا ترى؟

وسأقسمُ لك

أنّني سأحتفظُ بسرِّكَ إلى أبدِ الآبدين.

  ولابد لنا إلى أن الشاعر كان يشير إلى عبثية الوجود، والا ما معنى الأبيات التالية:

على بابِ الدرجِ الطويل

كتبتُ لافتةً تقول:

هذا درجٌ لا يؤدّي لشيء

وليستْ فيه درجات للصعود

ولذا على مَن يرغب الصعود

أن يجيدَ الطيرانَ من دونِ جناحين.

فهل كان يتعين على الشاعر أن يرتقي هذا السلم الطويل، الذي يفضي إلى لا شيء ..لا شيء سوى العدم! ومما يؤكد هذا النهج هو قلقه الخصب وحيرته غير المتناهية، حين يردد : إذا اجتمعتْ سينُ السرِّ بميمِ الماءِ ظهرَ السمُّ .. أهو سمُّ الحبِّ ام سمُّ الموت؟) من هنا فالذي أخلص إليه: انه لا يمكن الإحاطة بما يطرحه الشاعر من رؤىً وافكار، لشدة  اتساع تجربة أديب كمال الدين وتنوعها، لا يمكن الإحاطة بما يطرحه الشاعر من رؤىً وافكار لا في حروفه ولا في قصيده الشعري، لا عن الحياة ولا عن الاخرين ولا عن ذاته حتى!

^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^

- الأعمال الشعرية الكاملة: المجلد الخامس، أديب كمال الدين، بيروت، لبنان 2019

- نُشرت في جريدة الزوراء بتأريخ 24 تشرين أول 2019

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home