قصة قصيرة

من أجل تابوت

 

 قصة: أدولف ديغاسينسكي ـ بولندا

ترجمة: أديب كمال الدين

 

 

 

 

ليس بعيداً عن (سيروك) يتموج نهرا (بغ) و(نارو) مثل وشاحين جميلين أزرقين بزرقة السماء العميقة في الربيع، وكان سائل الوشاحين يرتفع ويغمر الارض، بقدر ما تستطيع العين ان تراه، بماء هائج، صاخب، مضطرب.

اكتست الارض الممتدة ما بين (بغ) و(نارو) بمروج فاتنة وغابات صنوبر رائعة، نُقّطت، هنا وهناك، بأكواخ ريفية مغطاة بالقش. لم يتراجع فيضان الربيع تماماً بعد، وبإمكان المرء ان يسمع الصخب في كل جهة، نزلتُ الى (بغ) في ساعة اصيل متأخرة لألقي نظرة على النهر السريع، على طيور النوارس الصائحة فوق الرؤوس، على قوارب الصيد الرديئة النوع التي تناثرت على امتداد المياه الواسعة، فجذب انتباهي، رجل يجلس على ضفة مرتفعة حاسر الرأس، يرتدي قميصاً بأكمام، وذقنه يستند على يديه، لقد بدا وهو يفكر ملياً في الفيضان، ومن بعيد كان شبيهاً بالتمثال في مواجهة السماء، بسهولة كان بإمكاني ان اتخيله منتحراً ينهي حياته، مستعرضاً ماضيه قبل ان يرمي بنفسه في النهر العميق.

مررتُ به مرتين وبقيت اراقبه حين مشيت من أمامه قفز بغتة، نزع قميصه وقفز في النهر. بصورة غير متعمدة اطلقت ُصرخة، صرخة لا أحد يستطيع، بأية حال، سماعها، لأن المكان كان مهجوراً ولأن صخب الماء كان بإمكانه ان يخفي صرخة اقوى من صرختي، نظرت الى الماء وادركت، في الحال، ان الشخص الذي خفت من اجله كان سباحاً ماهراً حقاً، وكان يتحدى بجرأة النهرَ السريعَ الى أبعد حد . الآن، استطيع ان ارى بوضوح انه يسبح في اثر لوح من الخشب يطفو فوق الماء، وانه لم يضيع من وقته الكثير حتى امسك به ثم سبح عائداً الى الضفة.

حسناً، فكرت مع نفسي، من يفكر بالمخاطرة بحياته من اجل قطعة خشب حقيرة سوى فلاح جشع؟

خرج الغريب من الماء حاملاً لوح الخشب السميك في المكان الذي كنت اقف فيه. سألته: ايها الفلاح، هل تسكن قريباً من هنا؟

ردّ علي: انا لست فلاحاً.. انا عامل زراعي اعمل في معمل التقطير في زناهوري. لقد حظيت بلوح خشبي سميك.. للأسف فهو قصير بعض الشيء. ربنا رحيم. فهو لا يتخلى عن أحد.

 قلت له : وما الذي ستفعله به؟ هل ستصنع منه منضدة ام مصطبة ام رفاً؟

ردّ مع تنهيدة عميقة: وما نفع كل هذه الأشياء بالنسبة لي؟ كلا يا سيدي، بل سأصنع منه غطاء لتابوت.

هذا الانقلاب الغريب في حديثنا سبب لي صدمة، فصمُّت لحظة ثم قلت: لقد انطلقت من أمامي كرجل قوي تماماً، كنت اراقبك وانت تسبح قريباً مني في ذلك النهر المروع الذي بإمكانه بالتأكيد، ان يجرف اي رجل ضعيف الى (سيروك) فلا ينبغي لك ان تفكر في تابوت.

 * آه، انا ضعيف يا سيدي، ضعيف جداً، انا في السابعة والستين، ومرهق حتى النخاع بسبب العمل الشاق، يا الهي الكريم، لو كنت قوياً لكان بإمكان (ماريسيا) ان تبقى على قيد الحياة.

 - هل فقدتَ احداً؟

 * توفيت طفلتي، ابنتي..

وارتعد كما لو انه ارتعد بسبب ريح ثلجية، جلس ثانية فوق ضفة النهر، واراح رأسه على يديه، وحدق في الماء وتحدّث بطريقة كئيبة: لقد توفيت وحيدتي، حبيبتي، كنزي، نجمي الصغير. انطفأتْ مثل شمعة، وسقطتْ مثل ورقة من شجرة، وذبلت مثل زهرة جميلة، صغيرتي المسكينة.

لم اجرؤ على فتح فمي، كان صامتاً لحظة ثم قص علي قصته الكئيبة: كان بإمكانها تماماً ان تحتفل بعيد ميلادها التاسع عشر في يوم القديسة ماري، ولكنها توفيت فتاة هيفاء مثل شجرة صنوبر، كانت جميلة محبوبة مثل برعم، ورقيقة. لقد حسدني الناس فماتت وانا عجوز حقاً، متقدم في السن من اجل اللاشيء ما عدا المقبرة لقد عشت من اجلها.. آه.

انهمرت الدموع فوق خدي الرجل العجوز، فاهتزت شفتاه كما لو انه كان على وشك ان ينفجر في البكاء، تولد لديّ انطباع ان الطبيعة نفسها ساهمت في حزنه المقدس، لذلك فإن أية كلمة يمكن ان اقولها لتخفيف حزنه ستبدو غير مجدية

حمل لوح الخشب السميك على كتفه وذهب مترنحاً الى مكان آخر، كما لو انه اراد ان يكون وحيداً مع ألمه العميق، فتبعته، بصمت، معتقداً انه ينبغي علي مساعدته

 ثانية اختار مكاناً قريباً من النهر، وحين اراد ان يضع لوحه الخشبي السميك على الارض حاولت ان اساعده.

قال: فليباركك الله يا سيدي.. لقد اعتادتْ ان تعمل من اجلي انا الرجل العجوز، وذلك ما آذاها فتوفيت، لقد تركتها تقتل نفسها في العمل حيث حملت أكياس البطاطا الى معمل التقطير لتُهرس، لم استطع نقل المزيد من هذه الاكياس، وكانوا على وشك ان يطردوني من معمل التقطير بعد عشرين عاماً من العمل، لقد كان بإمكانهم ان يطردوني بالتأكيد، لو لم تكن هناك (ماريسيا) حبيبتي وعاملتي التي اشتغلت حتى الموت. دعني، على الأقل، احمل هذا اللوح السميك الى البيت، إليها، الى تابوتها. لقد توفيت البارحة عند الفجر حين بدأ الديك يصيح.

محاولاً ان ابعد الرجل العجوز عن النهر الذي ربما يحثه على ان يخاطر بحياته اقترحت عليه: ولكنهم، بالتأكيد، سيسمحون لك بأخذ بعض الألواح الخشبية السميكة من المزرعة لأجل التابوت.

هز رأسه وقال: لقد ذهبتُ الى المزرعة هذا الصباح، وطلبتُ منهم بعض الألواح الخشبية السميكة لأجل تابوت طفلتي، فقالوا ان ليس لديهم منها شيء  . اخبرني المدير: انت عجوز حقاً ولا تصلح لأي عمل، انت لا تستطيع ان تعمل لتعيد الى المزرعة ثمن الألواح الخشبية السميكة.

كان محقاً تماماً لذا تسللتُ الى مخزن الحبوب عند اقتراب الظهيرة حين لا يوجد احد قرب المخزن معتقداً انني استطيع ان اسرق قفصاً قديماً. هل تعرف ما حدث؟ لقد امسكني الحارس وسلب مني قبعتي ومعطفي، فجئتُ الى هنا من مكان بعيد لأطلب الألواح من مزرعة اخرى.

ولكن صاحبها كان مسافراً في رحلة ما، ثم ان الله استخدم النهر وبعث اليّ بهذا اللوح الخشبي السميك انا الآن انتظر، فربما سيبعث الي بلوح آخر.

ما كاد يقول ذلك حتى قفز وركض باتجاه الماء، فصرختُ خلفه: سأجلب لك بعض الألواح الخشبية السميكة فارجعْ.

لكن الرجل العجوز ركض مثل صبي بعد ان شاهد عدة ألواح خشبية سميكة طافية فوق السطح، ألواح أرسلها الله في وقت الحاجة.

على أية حال فإن السباح، هذه المرّة، لم يحالفه الحظ، فالنهر العنيف جرفه الى احدى الدوامات، وهناك انتهت حياته وانتهى حزنه.

 

 

 

 ****************************

ا

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home