المقدمة*

الحمدُ لله رب العالمين ، والصلاةُ والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين .

أما بعد :

فإنّ ما ارتأيت أن أدرسه في بحثي هذا هو مجموعة شعرية (الحرف والغراب) للأديب كمال الدين فحين يكون الحديث خاصّاً في زاوية من زوايا تجربة الشاعر أديب كمال الدين، يكون من المناسب الحديث أو الإشارة على أقل تقدير إلى النمط. أعني به حين يستقل الشاعر في كتابته وترسيخ تجربته عبر اتجاه واحد وأساليب مختلفة تتحكم في نصوصه وتخرجها. ومن المؤكد أنّي أشير هنا إلى تجربته مع الحرف التي امتدت إلى ما يقرب من نصف قرن اشتغل فيها أديب كمال الدين اشتغالات متنوعة خضعت في كل مسافة شعرية قطعها لتجارب مختلفة انصهرت لتكمل أو تستكمل جوانب شعريته(1).

 

لذا فأخذت على عاتقي أن أدرس هذه المجموعة الشعرية بشيء من الايجاز فابتدأت بدراسة سيرته الذاتية ونتاجاته الادبية على كافة المستويات القطرية والدولية. ومن ثم تجربته الشعرية وبدايات تفجر قريحته الأدبية وشهرته وفق فترات زمنية متفاوتة ، واخيراً وقمت بدراسة وتناول وتحليل نماذج من القصائد التي وردت في (الحرف والغراب) بشيء من التفصيل.

 

" سيرة أديب كمال الدين "

 

ولد أديب كمال الدين في العراق بمحافظة بابل سنة 1953م. وكان من نعومة أظفاره محباً للعلم شغوفاً بالأدب وهذا ما يستدل عليه من خلال نتاجاته الادبية.

حصل أديب كمال الدين على شهادة البكالوريوس في الاقتصاد من كلية الإدارة والاقتصاد- جامعة بغداد سنة 1976م.

ثم حصل على شهادة البكالوريوس أدب انكليزي – كلية اللغات- جامعة بغداد سنة 1999م.

ومن ثم دبلوم الترجمة الفورية – المعهد التقني لولاية جنوب أستراليا- أديلايد- أستراليا 2005م.

كان أديب كمال الدين شاعراً ومترجماً وصحفياً.

فاز بجائزة الابداع الكبرى للشعر – العراق – بغداد -1999م.

عمل في الاذاعة العراقية فقام بإعداد الكثير من البرامج منها: "أهلاً وسهلاً" و"شعراء من العراق" و"البرنامج المفتوح" و"حرف وخمس شخصيات".

عمل في الصحافة منذ عام 1975م وشارك في تأسيس مجلة (أسفار)، وهو عضو في نقابة الصحفيين العراقيين والعرب والعالمية. وجمعية المترجمين العراقيين. و كذلك عضو اتحاد الكتاب الاستراليين – ولاية جنوب أستراليا، وعضو جمعية الشعراء في أديلايد.

تُرجمت قصائده إلى عدّة لغات (الانكليزية، والفرنسية، والألمانية، والايطالية، والاسبانية، والكردية، والفارسية، والأورديّة) .

له مجاميع شعرية عديدة صدرت خارج وداخل العراق ومنها:

1.   تفاصيل – مطبعة الغري الحديثة- النجف 1976م.

2.   ديوان عربي- دار الشؤون الثقافية العامة- بغداد- 1981م.

3.   جيم- دار الشؤون الثقافية العامة- بغداد- 1989م.

4.   نون – دار الجاحظ- بغداد – 1993م.

5.   أخبار المعنى - دار الشؤون الثقافية العامة- بغداد 1996م.

6.   النقطة (الطبعة الثانية)- المؤسسة العربية للدراسات والنشر- عمان- بيروت- 2001م.

7.   حاء - المؤسسة العربية للدراسات والنشر- عمان- بيروت- 2002م.

8.    ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة -  دار أزمنة للنشر والتوزيع – عمّان – الأردن 2006 م.

9.    شجرة الحروف -  دار أزمنة للنشر والتوزيع – عمّان – الأردن 2007م.

10.                      أبّوة Fatherhood (بالانكليزية) دار سيفيو – أديلايد – أستراليا 2009م.

11.                      أربعون قصيدة عن الحرف-  دار أزمنة للنشر والتوزيع – عمّان – الأردن 2009

12.                      أقول الحرف وأعني أصابعي – الدار العربية للعلوم ناشرون- بيروت – لبنان 2011م

13.  مواقف الألف- الدار العربية للعلوم ناشرون- بيروت - لبنان 2012م.

14.  ثمّة خطأ Something Wrong - (بالإنكليزية) دار ومطبعة Salmat - أديلايد أستراليا 2012.

15.  الحرف والغراب- الدار العربية للعلوم ناشرون- كُتِبتْ في أستراليا-2011-2012م.  طُبِعتْ 2013م.

16.   إشارات الألف – منشورات ضفاف – بيروت – لبنان 2014

 

"تجربة الشاعر الشعرية"

 

 حين تناولنا تجربة الشاعر منذ مطلعها في السبعينيات أشرنا إلى مجموعة من الدوافع والتقنيات التي استغلها الشاعر أو لجأ اليها ولمّا كانت تلك الدراسة تحاول أن تضع في الميزان النقدي تجربة جيل كامل كانت الموازنة المنهجية تقتضي توزيع الاهتمامات على أكثر من ثلاثين شاعراً اقتربوا في فجر تجاربهم واختلفوا في ضحاها، وقد ذكرنا حينها أنّ السبعينيين لم يكونوا موحدي الرؤى ولم يجتمعوا إلا على زحزحة المشروع الستيني الشعري إذ لم يحالفهم الحظ في مشروعهم النظري، كان منفاهم على مستويين جغرافي وفني، أعني أنّهم تفرّقت بهم السبل منذ سنوات إعدادهم فاتجه كل منهم مختاراً رؤيته في الكتابة، بعد الإصدارات الأولى لهم . وأديب الذي اعترض يوما ما في إحدى مقالاته عن عدم وجود اسمه ضمن الموجة الجديدة من الشعراء أعني السبعينيين كان واحداً منهم من جيل هو الأشد إثارة للشغب الصحفي إن جاز لنا التعبير . أصدر "تفاصيل" عام 1976 وهي من أوائل الشعر السبعيني المطبوعة وقبله كاظم جهاد، ما يعني مضي ثلاث سنوات على مشروع القصيدة اليومية الذي انفرطت حباته قبل أن ينضج .

وتجربة الشاعر الذاتية حاول الشاعر فيها أن يتمثّل رؤية ذاتية. فالقصيدة السبعينية نحت في اتجاهين رئيسين الأول الاتجاه الذاتي والثاني السياسي عند أبرز ممثليها وإذا كان الثاني ميّالاً إلى قصائد تعبوية فإنّ الأول غاص في تقديم التجربة الذهنية كما عند زاهر وسلام وخزعل وأديب كمال الدين.

 تظهر هذه التجربة عند أديب كمال الدين على هذا النحو: على مستوى التكنيك تبرز عنده عناية واضحة برصد التفاصيل الجزئية التي تكوّن الصورة الكلية للنص وتتوازى مع الفعل التكنيكي في الكتابة إذ غالبا ما يضع لنصّه علامة كبرى ثم تتجزأ إلى علامات أصغر وبالتالي تكون العناية بالتفاصيل والإشارة إلى عناية كمال الدين بالغة الاهمية هنا، أعني تحديدا أنه اشتغل بدقة على مفهوم إنتاج اللغة من خلال عنايته بالرمز والإيحاء إلى حد بعيد مكوّناً صوراً ويستثمر الحرف بوصفه مرموزاً في مواضع عدة، إلا أنه لم يكن خياراً رئيساً له في الكتابة . في مجموعته الثانية الصادرة عام 1981 "ديوان عربيّ" تظهر ملامح التجربة الذهنية وتبين خطوطها وملامحها واضحة من حيث الاهتمام بالتجربة وبنسقها الجمالي وبدأت تظهر عنده القدرة على خلق التجربة بعد أن كان عنده الوعي بالتجربة هو الأظهر. وعلى الرغم من وجود ملامح في المجموعتين تشير إلى أن استثمار الطاقات المعطّلة شعرياً في الثقافة العربية وأعني هنا " الحرف والغراب" تحديداً إلا أنه لم يكن خياراً رئيساً في الكتابة ولم يظهر هذا الخيار إلا في مجموعات لاحقة ابتدأها ب "جيم"  1989 و"نون" 1993 و"أخبار المعنى" 1996 وما بعدها.

 

 وسواء كان الأثر الصوفي مغذيّاً لتجربة الحرف عند كمال الدين، ولا سيما ذلك القسم الخاص بأسرار الحروف ومنافعها إذ يكون لكل حرف مزاياه وخواصه أو التأثر بتجربة رامبو الحروفية أو كليهما معا ولا نستبعد ذلك فإنّ الأمر كما يبدو لنا أن الشاعر يستلهم الحرف ليفجر من خلاله طاقات شعرية، وهذه الطاقات تخضع لتحوّلات التجربة عنده وأفق النظر الذي يضعه في الكتابة. ففي مجموعة "النقطة" مثلاً تبدو صورة الضياع والاغتراب ساطعة. انعكست حتى على تقنية بناء الصورة وورودها كما في قصيدة "محاولة مع الهاء" التي تتوالد الصورة من نفسها لتعيده نفسها مرة أخرى، وفي قصيدة "أنثى المعنى" من مجموعة "أخبار المعنى" يكون الحرف معادلاً وحيداً للكون "الباء لها شكل الأنثى" "الباء فراش مكتظّ بالمعنى" "الباء: البحر بعيد".......... وهكذا يكون الحرف خلقاً للأشياء كما يراها الشاعر أو يريدها أن تكون. لم يكن الحرف كشفاً بالصدفة إنّما خيارا في الكتابة، وهو ما يعني خضوعه للمغايرة في الرؤية والتجربة، فهو وجوه للشاعر كما يقول الدكتور حسن ناظم . في مجموعته "أربعون قصيدة عن الحرف" تتمظهر تجربة التمسك بالحياة، صنعها، استمراريتها ، الكشف عن أسرارها، والحرف في هذه التجربة حاضر بما يكفل له الدور الرئيس. ففي قصيدة "جاء نوح ومضى" يطرح عبر استرجاعه ثيمة قصة نوح عليه السلام في محاولته إنقاذ العالم وفق مبدأ الأخيار ، يترك الشاعر وحرفه بعيدين عن سفينة النجاة غير أنّ التشبث بالحياة والإصرار عليها يجعلانه متوسّلاً بالنجدة مستغيثاً وليس معترضاً. وهذه الثيمة تتردد في قصائد أخرى مثلاً في قصيدة "دراهم كلكامش" التي تطرح تصوّره عن الحياة أو قصيدة " تناص مع الحرف " التي يطرح فيها خلود الحرف ما يعني خلود الشعر والشاعر " بالإحالة إلى العنونة " وبالتالي التعبير عن تجربة الحياة .

 

" نماذج من الحرف والغراب"

سنحاول الكشف عن مخبآت التجربة ، ما يخفيه الحرف وما تعكسه التجربة . البداية في الإشارة سريعاً إلى بعض ما يحمله مصطلح التجربة:

 . إنّ التجربة الشعرية لأيّ شاعر خلاّق هي معايشته الصميمة العارمة لحدثه والتعبير عنه بالأسلوب الفني المناسب، "كما أنّ أية تجربة شعرية مميزة لا بد أن تنعكس على مرآتها بشكل أو بآخر ثقافة الشاعر ومبنى تفكيره وموقفه من الوجود والكون والإنسان ومقدرته الفنية على التوصيل والتواصل مع المستقبل ولذلك تختلف وتتمايز تجارب الشعراء باختلاف وتمايز مؤهلاتهم الأدبية ووسائلهم التقنية في القدرة على التبليغ والتأثر والأثر والذوبان في مصهر الاشتعال الإبداعي بصورة ضبابية غامضة." " خواطر وآراء في مفهوم التجربة الشعرية "(2) وأيا كانت التجربة وتوصيفها فهي تعتمد بشكل أو آخر على إنتاج الذاكرة وتفعيلها وهو ما يعني أنّ عمل الشاعر ينطلق دائماً من بؤرة إحساس بالماضي ، أيّاً كان هذا الماضي ومن ثم ليكشف من خلاله عن لحظته الحاضرة أو المستقبلية "ويبدو أنّ مدى القدرة على بعث التجربة يعتمد في المحل الأول على تلك الدوافع والنزعات التي كانت نشيطة في هذه التجربة ... اننا نستطيع القول أنّ التجربة هي هذه الدوافع " كما يقول رتشاردز في مبادئ النقد الأدبي" 240 .

 سيكون من المناسب القول ان هيمنة نصوص معينة على أجواء المجموعة يعني بشكل ما سيادة تجربتها أو تسيّدها، والمسألة ليست إحصائية بالضبط بقدر ما توحيه سيادة مثل تلك النصوص وما تشيعه من أجواء وتداعيات متقاربة ، إلى أبعد من ذلك قليلاً حين يتسنّى لنا ربط عنوان المجموعة بقصائده، إذ قد يتبنى العنوان ، عنوان نصّ ما في إشارة يمررها الشاعر موحية بقراءة خاصة ومميزة لنص العنوان أو في إيحاء منه إلى أهمية تجربة ذلك النص ، وملاحظتنا على المجموعة ليست كما ذكرنا تماماً ولكن نرى أنّ للعنوان بنية رمزية ترتبط بتجربة الشاعر جميعها ، فالحرف غدا سيمياء دالة على الشاعر ، وبما أنّه كما ذكرنا متحوّل بحسب تحوّلات الرؤية ، سيكون عندئذ " الحرف " متحوّلاً بحسب تحوّلات التجربة . بالعودة إلى العنوان ، " الغراب " دال على في المثيلوجيا العربية على التشاؤم وعدم الاطمئنان للشيء ، وهو شعور جمعي رافق البشرية منذ نوح عليه السلام ، وتحوّل إلى رمز بهذه الثيمة عند مئات الشعراء ، غير أنّ الأمر في هذا العنوان يحمل دالاً آخر بقرينه " الحرف " إذ بمتابعة النصوص معظمها ، أنها تحمل ثيمتي الحياة والموت او ان شئنا الدقة الصراع بين الحياة والموت ، وهي الثيمة التي تعلن عن نفسها في القصيدة الأولى وسنأتي على منتخبات من القصائد، أقول بالعودة إلى هذه الثيمة، سنرى أنّ الغراب هو طرف المعادلة الآخر في حين أنّ الطرف الأول هو الحرف الذي يشي بالدلالات الآتية أو يكون رمزا ل"الحمامة" في القصيدة الأولى  أو لوركا أو عفيفة اسكندر أو غيرها من عناوين النصوص.  يصبح كل نص إذا ابتداء من الأول هو " الغراب و الحمامة"  أي الموت والحياة سنقف عند المقطع الأخير من قصيدة الحمامة والغراب : 

هكذا أنا على هذه الحال

منذ ألف ألف عام:

الغرابُ ينقرُ جمجمتي

فينبثقُ الدمُ عنيفاً كشلّال.

والحمامةُ تضعُ فوقَ جمجمتي،

دون جدوى،

حفنةَ رماد! (3)

 

 

سنلاحظ منذ الانتباهة الأولى للصورة أنّ ثمّة استمرارية في الحركة التي يتناوب طرفاها الغراب والحمامة، لا أمل في الخروج من كفّ المعادلة الاول إلى الآخر ، الا أنّ ما تشي به الصورة انخذال الطرف الأول إلى الأخر أو تراخيه أمامه إنّ الحياة بلا جدوى سينتهكها الموت ، لأنها ضياعات متوالية وانهزامات تتقافز امام سطوة الموت . في النص الأخر التالي "مثلثات" . الحياة ذلك السرّ الأزليّ الذي لن ينتهك حجبه إلا الموت ، مثلث بأبعاد مختلفة ، لأنّه يضمّ في محيطه " السلطة والرغبة والقوة والعبث والسأم ". أما السرّ الأزليّ لها فلن يوجد . سنلاحظ حين يمكننا تخطيط المثلثات هندسيا أنّ مثلث السلطة رأسه إلى الأعلى . في إشارة واضحة لمنطق السلطة والتسيّد الذي يتحكّم بالحياة في حين أنّ الفروع الاخرى تتجه اتجاهات مختلفة، ويغيب أو يغيب في ضمن ذلك مثلث الجمال أو الخلود ، كلّ المثلثات هي دالة على خسارة وانهزام، فالأول الطفولة الحافية والثاني الصبا الغارق والثالث الشباب المحاصر والرابع الشيخوخة التي تشبه مسافراً بعيداً.  هذه الخسارات لا تمثّل الشاعر بقدر ما تعكس رؤية الشاعر عن نفسه، تصوراته عن الحياة أكاد اقتنع تماماً أنّ النصوص معظمها تكشف عن هذه التجربة ، صراع بين الموت والحياة أزلي، غير أنّ رحلة الحياة التي بدأت تذبل ، ذبول عود الياسمين يتخطى بألم إلى العالم الآخر .

وفي " فنادق" يصور كمال الدين نفوذ حرفه المشع بالحياة والمعبر عن ذات الأديب من بين ثنايا كل المعوقات والارباكات ورائحة التشاؤم والخذلان فيرسم ويشق طريقه بين مقومات الحرمان الذي يطغي على تقييد وانحراف قلمه فيما اذا استسلم لتلك الارهاقات والمطبات التي تكاد تمنع حرفه من الوصول إلى غايته السامية بصرف النظر عن الزمان والمكان فيقول:

نجلسُ - أنا والحرف-

في انسجامٍ عجيب

ناسين أو مُتناسين

ضجّةَ السوقِ في بابِ المعظّم

وضجّةَ السيّاراتِ في عَمّان

وضجّةَ عبدةِ الدولار في سدني

وضجّةَ الحشّاشين في أديلايد

وضجّةَ اللصوصِ في ميلانو

وضجّةَ الضائعين في أمستردام

وضجّةَ النساء في بانكوك.

نجلسُ - أنا والحرف -

لنبادلَ في هدوءٍ مُقدَّس

آلامَنا وخساراتنا

وشيئاً من ريشِ حمامةِ نوح

وجدناهُ ذاتَ فجر

عند صلاة الفجر.

لكنْ حينَ يرى الحرف

أنني قد ارتبكتْ

وأحاط بي الدمعُ من كلّ جانب،

ينهضُ ساحراً من الوهم

ويأخذ بالرقصِ والرقصِ والرقص

حتى الصباح. (4)

فها هو في المقطع الاخير يصور تغلب حرفه على كل تلك المعوقات التي صادفته في شق طريقه إلى أن يصبح في فرحة وبهجة يؤدي به إلى أن يرقص ويتناسى الآمه وهمومه وخسارته وجميع متاعب ومشاق الحياة ويرسم البشارة كما ترسم الشمس بشارتها بجلاء الليل المظلم الدفين.

وفي نص "مهرجان شعري" يصور الشاعر رؤى الناس وتصوراتهم وأذواقهم وحكمهم السطحي عن كل ما يجري في الحياة فهو حكم خالٍ من الموضوعية والمصداقية يطرحه المرء على هواه التائه فيقول:

رسمَ أحدُهم

- وكانَ مجنوناً أو مخموراً بالتأكيد -

صورةً هائلة

لعشراتِ النمورِ والذئابِ والضباعِ والدببة

وهي تتقاتل

مِن أجلِ جُثّةٍ مُلقاةٍ على الأرض.

فيما كانت القردة

تصرخُ وهي تقفز

ما بين غصون الأشجار.

والصقورُ والغربانُ تحوم.

والببغاواتُ يرددنَ ثرثرةً لا تُطاق.

سألتُ بهدوء:

جُثّة مَن كانتْ ملقاة على الأرض؟

فقيلَ لي: جُثّة صوفيّ.

وقيلَ: جُثّة زنديق.

وقيلَ: جُثّة جَلاد.

وقيلَ: جُثّة تائه.

وقيلَ: بل جُثّة مجنون.

وقيلَ: بل جُثّة كذّاب.

وقيلَ: بل جُثّة شاعر.

وقيل... وقيل.... وقيل.........(5)

 

وكأن الشاعر أراد أن يبين لنا من خلال هذا النص المفعم بالآلام التي تجسد واقع المجتمع الذي نعيشه اليوم هو أن ندرك أن مهما كان ذلك الشخص الذي وقع حدفه مذهبه قوميته انتمائه لونه ثقافته سيرته. المهم هو انسان فلا نضيق الدائرة بالحكم على الناس من خلال تلك العناوين البائسة التي تمحي صورة الانسانية، فيا لها من صورة قاسية يجسدها كمال الدين في قوله: (فيما كانت القردة تصرخ....والببغاوات يرددن ثرثرة لا تطاق) وكأنه يريد أن يبين أن تلك الحيوانات التي ذكرها تطأطأت واضطربت لتلك الحادثة الهائلة مع كونها لا تمد لها بصلة فالاحساس والشعور والانفعال امتد إلى الحيوان الذي ترجمه دون أن يؤثر عليه أي مؤثر خارجي.

 

وفي نص "تسعة عشر مقطعاً" مثلاً : سنقف عند المقطع الأول والأخير مع إشارتنا إلى أنّ المقاطع لا تتناسل من بعضها وإنما من المقطع الأول: 

حين خرجَ الحرفُ من الحربِ، دخلَ إلى الصحراء التي سلّمتْه إلى الجبلِ الذي سلّمه بدوره إلى الغيمةِ التي سلّمتْه بدورِها إلى البحرِ الذي سلّمه إلى الموتِ الذي قادهُ بدوره إلى نَفْسِه.

وهكذا عادَ الحرفُ إلى الحربِ مِن جديد! (6)

   سنلاحظ أنّ الحرف بوصفه معادلاً للحياة ، تجري عليه هذه التحوّلات وهي دالة جميعها على " الحرب/ الخسارات، الصحراء/ التيه، الغيمة. البحر/ الذوبان والتلاشي، الموت/ النهاية المحتومة ".

تدور المقاطع الممتدة أسفل هذا المقطع متناسلة منه ، كما في المقطع مثلا 18

حين طرقتُ بابَ حياتي التي نُحِتَتْ

من الخشبِ العتيقِ كاللعنة

خرجتْ إليَّ الشياطين من كلِّ شقّ!(7) 

 أما المقطع الأخير فدال على ما أشرنا إليه في المقطع الأول:

سيبدأُ الحرفُ الليلة

كتابةَ قصيدته الجديدة

ليكتشفَ أنَّ النقطة

لم تكتفِ ببناءِ سجنٍ كبيرٍ له

بل أعدّتْ له منصّةَ الشنقِ أيضاً!(8)

 

  في قصيدة "مبادلة" أيضاً مثلاً حوار مع الحرف / الحياة والشاعر الذي يرضى أنّ يبدل الاشياء كلها بباء بغداد أو بابل ، في ايحاء واضح على تهشّم قيم الحياة في داخله وتعلّقه بذاكرة طفولته أو شبابه .

 وفي آخر نصّ في المجموعة "أيّة أغنية هذه؟"  تجسيد واضح لحالة الصراع التي يعكسها الشاعر بعدما تخزه أغنية تكون دافعه لتأملات مختلفة وتداعيات حول الحياة والموت

 

تؤلمني الأغنية

وهي تشيرُ بأصابع مبتورةٍ

إلى النجمةِ المعلّقةِ في الأعالي.

فأتذكّرُ نبْضي الذي ماتَ في شارعٍ

لا يؤدّي إلا إلى الخمرِ والدمع،

...................

تؤلمني الأغنية

حدّ أنْ أرى الموتَ في الليل

راقصاً قرب سريري(9)

في النهاية، هل يمكن أنّ نلخّص تصوّراتنا عن المجموعة؟ يمكن إذا قلنا إن المجموعة تناولت في نصوصها الموت وذبول الحياة ، الإحساس بذبول الأشياء ، الحرف رمز للحياة وتحوّلاتها أصبح يتكسر على هامشها ، هذا الإحساس هو الذي يمثل التجربة أو هو الدافع كما قال ردشاردز .

إنّ كل نصّ وبالذات النص التي كُتبت لشخصيات متوفاة هي تمثل وكشف للموت فكما يقول أرشيبالد مكليش في "الشعر والتجربة": " إن الشاعر يتوجّه نحو أشياء العالم لا لكي يكوّن أفكاراً عنها بل ليكشفها وبذا يكتشف نفسه".

  الآن في هذه المجموعة إذن الحرف لم يعد سرّاً للمعنى ولا كشفاً للغيب فقد تحوّل إلى رمز لعود الياسمين الذابل(10).

 

 

الهوامش:

(1) الدكتور: علي متعب جاسم- أكاديمي في جامعة ديالى (بحث منشور).

(2) ممدوح السكاف / صحيفة العروبة / سوريا/ 2010 

(3) الحرف والغراب/ أديب كمال الدين/11

(4) الحرف والغراب/ أديب كمال الدين/102-103

(5) الحرف والغراب/ أديب كمال الدين/113-114

(6) الحرف والغراب/ أديب كمال الدين/46

(7) المصدر نفسه/52

(8) المصدر نفسه/52

(9) يُنظر/ المصدر نفسه/115

(10) مقال نُشر على الانترنت بعنون "حينما يذبل عود الياسمين"/ للدكتور : علي متعب جاسم- أكاديمي في جامعة ديالى.

 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home