إضاءة في شعر أديب كمال الدين

 

عبر المجلد الأول لأعماله الشعرية الكاملة

 

 

undefined

 

 

 

علوان حسين

 

  .



سأمنحكِ أيّتها النون المجنونة بالجمالِ والانكسار
مجدَ الكلمة،
وسأعلنكِ إمبراطورةً حقيقيّة،
وأتوّجكِ في احتفالٍ سرّيّ عظيم
بتاجِ الحروف
وقلادةِ الكلمات
وطيلسان القصائد
ووسامِ الهيام
وعصا السحر.

أوفى وأبرع من كتب للنون وغرّد لها بقلبه كالحسون المهجور يناغي حبيبة غائبة ولكن بشعرية عالية وإحساس عميق ورهافة من شدة رقتها تكاد تكون ملائكية هو أديب كمال الدين.
أديب كمال الدين يكتب بكلمات قليلة ولغة متقشفة وعبارة مباشرة ومن شدة إستخدامها تكاد تكون عادية، لكنه وبلمسة سحرية تذهب إلى الأعماق ، إلى الداخل فيفجر اللغة ويمنح الكلام العادي شحنة تعبير غير عادية وهنا بالضبط تكمن شاعرية أديب كمال الدين وقدرته الفذة على النفاذ عميقا ً في جوهر الكينونة :


دخلتُ في الإيقاعِ الخطير:
لقد بدأ الحُبّ يسدُّ عليَّ مسامات روحي
ويعلنُ في مكبراتِ الصوت:
أنني خطأٌ فادح
وأنكِ خطئي الذي يتكرّرُ في الساعة
ستّين مَرّة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


هذا المجنون الذي تولّه بالحرف وأفنى عمره وتجربته ليلعب على أوتاره بأصابع مدربة ، هذه الحروف الخرساء الهامشية في بعض الأحيان والمجردة، كيف استسلمت كما تستسلم أرض عطشى للمطر وكيف باحت له بأسرارها وبادلته حبا ً بحب؟

ليس غريباً أنْ أبتهل إلى نقطةِ الحرف
وأجلس قبالتها مذهولاً في مسرّاتها
ومجيئها من الشرقِ إلى الغرب
محمّلةً بالدفوف والدموع والطبول.
ليس غريباً، بعد هذا، أنْ أبتهل إلى الهلال
وأدعوه لينقذني من نفْسي.

قبل أديب كمال الدين كانت الحروف مثل أحجارٍ مرصوفةٍ على طريق فجاء هو ليبني عمارته وينحتها بصمت ودأب النملة، وليمنح تلك الحجارة الروح ويستنطق ماهيتها ولنراها بعده مكتنزة تفيض معنى وشاعرية، وللمرة الإولى تعلن الحروف عن نفسها وتشغل مكانا ً كما الأشجار بظلالها وما تكتنز من ثمار وتخبئ من جذور ، صرنا نمرّ عليها مسحورين بفتنتها مأخوذين بعوالمها وفضاءاتها المفتوحة لنحلّق بأجوائها ومتاهاتها كي نرى من خلالها حياتنا بكل تقلباتها وألمها وغموضها :

أيّتها الجميلة كبحيرة
والضائعة كدمعةِ صوفيّ
أشكو لك نفْسي التي أفسدَها حُبُّك
والتي تقودني كلّ حين إلى ممرّاتكِ الغامضة.
فإن لم تجدكِ قادتني إلى قصيدةِ النون
التي خُلِقتْ مِن طين
فكانت سِحْراً وذهباً وغموضاً وسكاكين.


شعر أديب كمال الدين بسيط وواضح، وبساطته خادعة ومراوغة تأخذنا معها في متاهة، وترغمنا على التفكير أو الغرق وحتى هذا الانتشاء المؤقت بالموسيقى وعذوبة الإحساس وبهاء التصوير يضعنا في دوامة من التفكير ويرجّنا بعمق كما يفعل فنان خلاق . وأنا هنا لا أمدح ولكن أصوّر وأحاول إعادة القراءة فشعره من النوع الذي لا يُقرأ لمرة واحدة ، هذا النوع من الشعر لا يمنح نفسه بسهولة ، نقرأه كما نقرأ نصا مقدسا أو صوفيا. ولكل قارئ نصيب من قراءته كما تترك لوحة باهرة الجمال من تأثير على الأبصار وتدركها المخيلة :
انظري الآن يا حبيبتي
إنّ في الحرفِ لسحراً
يطوّقكِ فلا مهرب عنه
إلّا إلى الضياع.
أنا أنتظرُ أن تضيعي
وتذوبي
وتمّحي
لأدفن جسدَكِ البضَّ في شمسٍ من الحروف.



شخصيا ً أقرأ شعر أديب كمال الدين بحواسي كلها وينبغي أن أدرب مخيلتي وأشحذ حواسي لأكون متلقيا جديرا بشعره:
في حلمي، البارحة، رأيتُ قلبي
وقد أُصيبَ بسهمٍ.
ولمّا استيقظتُ وجدتُ فراشي
وقد تحوّلَ إلى قطعةِ دم
وقلبي قد تحوّلَ إلى قطعةِ حلم.

تغريني فيه شفافيته وغنائيته ولعبه الجميل على مفاتيح البيانو فتسحرني موسيقاه ، موسيقيّ بارع هو أديب كمال الدين كما هو نحّات ومهندس حروف ومخترع لغة حساس ومصغٍ للحرف ككائن يشاركه حيواته. ولم يعد الحرف طلسما ً أو إشارة وعلامة والسر كما أظن هو العشق بمعناه الدنيوي الحسي المتهتك وبوجهه الآخر الذي يستبطنه في الداخل من بوح صوفي وعشق إلهي في ثنائية عجيبة حيث يتجلّى الحب البشري الشهواني ممتزجا بذلك الطهر والحب القدسي، ولا ندري ما يكون الحرف أهو المرأة أم المرآة؟

ها أنذا أقتربُ منكِ لأبتعد عنك،
أصل إليكِ لأغادركِ كوميضِ البرق
فرحاً كغيمةٍ، محزوناً كبحرٍ ميّت.
لكنّكِ في طلاسم جسدي أبداً
مرآة حُبّ كبيرة تتعرّى.


*****
لو تركنا جسدينا يتحدّثان لدقائق
لقضيا على كلِّ انكساراتِ النونِ وهلْوَساتِ الألف،
ولألقيا القبض علينا بتهمةِ تضييعِ الوقت
في مناقشاتِ الحُبّ
دون دخولٍ مفيدٍ في المفيد!

يضعنا شعره أمام الشعور ويغرقنا معه في بحيرة الإحاسيس أحيانا ً وتارة يرمينا في بحر الأفكار والعواطف المتضاربة بكثافة تعبيره وتصويره الألم البشري ببوحه الجارح وما تملك لغته من إيحاءات وقدرة على التكثيف كما يفعل شعراء الهايكو :
حُبّكِ جرّاح
سيقتطعُ جزءاً من قلبي
وحين يعجز سيضعُ لي
شيئا ًمن السمِّ أشربه فأموت.

ماذا نريد من الشاعر غير أن يهبنا القدرة على أن نرى ما يستبطن من خلال كلماته وأن يهب حرفه حياة ً فيها معنى وجمال وهذا ما يفعله أديب كمال الدين بالضبط .

أنتِ الشمس عالية في الأقاصي
وأنا البئر ممتدة في الأعماق.
أنتِ تمنحين الدفء
وأنا أمنحُ الحنان.
أنتِ تعطين النور
وأنا أعطي الأسرار.
أنتِ تشرقين وتغيبين
وأنا ثابتٌ لا أتزحزح.

هذه القراءة المتواضعة لا تدعي نقدا ً ولا مثاقفة إن هي إلا محاولة في مشاركة شاعر حروفه وتأمل تجربته والإقتراب من عوالمه بشيء من الموضوعية وبقليل من الحب، فبدون الحب تغدو الحياة والحروف عوالم خرساء لا معنى ولا حياة ولا جمال لها :

 


كلّ يوم أتوقع أن تقولي: (أحبّكَ)
وكل يوم أتوقع أن تقولي: (وداعاً).
وبين الاثنين يتقدّمُ قلبي ويتأخّر،
يضيعُ ويتأوّه،
يبكي ويضحك،
يدمدمُ ويصفر،
يصيحُ ويصمت،
يغادرُ ويسكن،
يهذي ويتلو.


************************

 


الأعمال الشعرية الكاملة- شعر: أديب كمال الدين- منشورات ضفاف- بيروت 2015
علوان حسين: كاتب من العراق

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home