أنسنة الحرف والنقطة وانزياحهما في شعر أديب كمال الدين

 

 

مجموعة: أربعون قصيدة عن الحرف، ومجموعة: ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة، ومجموعة: أقول الحرف وأعني أصابعي) أنموذجاً

مها يوسف عاجل

 

 

أُطلِقَ على الشاعر أديب كمال الدين تسمية "الحروفي". ولم تأتِ هذه التسمية من فراغ، فقد شغف الشاعر بالحرف والنقطة كثيرا، ولا نعرف هل امتلك  الحرفُ والنقطةُ الشاعرَ أم العكس هو الصحيح؟

فقد أضفى الشاعر عليهما صفة التشخيص. لقد قرأتُ ما يقارب عشر مجموعات شعرية له فرأيته قد ركّز فيها على الحرف والنقطة تركيزا واضحا يجذب فكر القارئ إلى معرفة سر التعلق بينهما. ذلك أن تسميته بالحروفي، قد اكتسبها – أي الشاعر- من أسماء مجموعاته الشعرية (نون ، حاء ، جيم ، إشارات الألف، مواقف الألف ، أقول الحرف وأعني أصابعي، ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة). وقارئ شعره يقف دون شك عند نصوصه وقفة تستدعيه إلى التحليق بسر حرف ونقطة أديب كمال الدين .

 

عادة يأنسن الشاعر الحرفَ والنقطةَ وعادة يجعل بينهما حوارا وديا أو العكس. وأكثر ما ورد في أشعاره من أنسنة الحرف والنقطة تمثّل ب ( قال الحرف ، قالت النقطة ) ليضفي عليهما صفات تشخيصية كأنّ يكون الحرف رجلا والنقطة امرأة، ويستمد الحوار بينهما من صور جمالية دلالية يستعير الشاعر لها أعذب المفردات التي تجعل القارئ يكد ذهنه في رسم خيال للحوار بين الحرف ونقطته .

أغلب مجموعات شعر أديب كمال الدين تبتعد عن الواقع وتحلّق في أفق خيال الأدب العربي وصوره الغنية ، نذكر منها ما يلي :

قالَ لي الحرف:

لا تأبه كثيراً

فالكلُّ سيموت،

حتّى الموت نفسه سيموت!

قالَ لي الحرفُ ذلك

وأفردَ جناحيه

ليحلّق كالنسرِ وسط السماء.

أما النقطة

فتحوّلتْ إلى غيمةٍ عظيمة

رحلتْ باتجاهِ البحر البعيد.

 

  الشاعر يوجّه خطابه إلى الحرف والنقطة  معتبراً اياهما كائنين حيين بشريين يسمعانه ويتحدثان معه، إذ يجعل منهما شخصيات حية ناطقة متحركة واعية ومدركة ما يقوله. كأن  يكون الحرف ذكرا والنقطة أنثى . الخطاب معهما انزياح أسلوبي في نسيج نص الشاعر إذ ان خروج الشاعر عما هو سائد بوساطة التزاوج بين الاستعارة والانزياح في صورة فنية جعلت من الحرف والنقطة يمتلكان القدرة في مخاطبة الشاعر في أمر الموت. وكأنما الحرف أصبح خليله الذي يجالسه ويتحدث معه عن الأمر الحتمي وهو (الموت)، ويصبرّه ويحاول إقناعه أو تهوين الأمر عليه ثم بعد ذلك يستعير الشاعر للحرف جناحا ولا يكون الجناح إلا الكائنات الحية ، ويشبّهه بالنسر في صورة لها دلالة بلاغية غنية على تمكّن الحرف وقوته ومدى تأثيره وشجاعته. ذلك أن الشاعر عندما يعظّم من شأن الحرف فليس  بغريب عليه،  حيث أن أديب كمال الدين قد تفرّد بهذه السمة واختصّ بها وقد أبدع في رسمها :

قالت النقطة:

انظروا إلى هذا الأرعن الذي ملأ

عليَّ الشارع

ضجيجاً وصراخاً.

وقال الحرف:

انظروا إلى هذه الخائنة التي سرقتْ

قلبي وفلذّة كبدي

وتركتني أنام على الرصيف.

صمت الناس

أعني الكلمات.

صمتت الكلمات

أعني الناس

واحتاروا في أمرّ هذه الضجّة العجيبة

آخر الليل.

جاء أحدهم وصبّ الماء

فوق رأس الحرف.

وجاء الآخر

ليسألَ الحرفَ عن مدلوله ومعناه.

وجاء الثالث

ليحدّق كالمشدوهِ في هذا الحرف

المرمي في آخر القصيدة.

أما النقطة

فاختفتْ وسط بيت خيانتها المنيف

لتترك الحرف يبكي ويصرخ ويولول.

 

  الحوار بين النقطة والحرف  كان حوارا متصادما ، فالنقطة تصف الحرف بالأرعن والحرف يصف النقطة بالخائنة ، إذ ينعتان نفسهيما بصفات يتسم بها الكائن الحي كأنهما رجل وامرأة. وظّف الشاعر هذا النص بوساطة انزياح النسيج الشعري، فالخيال في رسم هذه اللوحة الأدبية الإبداعية لم يتحقق لولا أسلوب الانزياح الذي نلمح به خروجا عن اللفظ المألوف والمعتاد ، ويظهر في النص دور أسلوب الانزياح إذ جعل نص الشاعر مشحونا بقيم دلالية جمالية أغنت نص الشاعر بجمال أسلوبي. بعد ذلك يستمر الحوار بينهما ويستمر دور أسلوب الاستعارة في قوله "رأس الحرف" والرأس من الصفات الجسدية للبشر أما الحرف فلا رأس له. لقد جاءت الصياغة على سبيل الخروج عن المألوف بوساطة الاستعارة مكنية، يستمر الحرف باتهام النقطة بالخيانة ، ويبدأ  الحرف بالبكاء والصراخ على سبيل الاستعارة . هذا النص لعب فيه الانزياح دوره فقد جسد النصوص وخرجت عن نسيجها المعتاد وهذا ما أبرز جمالية النص .

وقوله :

تحت شجرة الكلمة

جلسَ الحرفُ والنقطة

وقبّلا بعضهما بعضاً.

كان الحرفُ أخرقَ

لا يجيدُ سوى فنّ الكلام

ولا يجيدُ، بالطبع، فنَّ التقبيل.

فقامت النقطة

بتعليمه سرَّ القُبلة

تحت شجرة الكلمة.

 

  الشاعر في خطابه عن حوارية الحرف والنقطة يضفي تجسيدا خياليا رائعا لهما ، فقد كان خطابه حيا، وكأنه يعاملهما معاملة حية ومباشرة ، إذ يستعير في نصه مفردات تخص الكائن الحي ؛لأنه وحده يستطيع القيام بها ، ففي لفظ (جلس، قبّل، أخرق، الكلام، قامت، تعليمه) كل هذه الأفعال تخص الكائن الحي ؛لأنها بحاجة إلى روح تمثلّها وتقودها نحو الحياة ، وبحاجة إلى عقل سديد يوجهها نحو الصواب، هي بحاجة إلى كائن حي يسير ويشعر ويحس بمَن حوله . هكذا  فإن الشاعر يحاول إضفاء هذه الأفعال  على الحرف والنقطة وأنسنتهما، ممثلا بذلك خروجا عن المألوف. هذا ما ولد انزياحا في النص لأن من المستحيل أن يقوم  الحرف والنقطة بهذه الأدوار لأنهما حرف ونقطة فقط. هما مجردان من كل صفة إنسانية تخوّل لهما القيام بفعل البشر، جمال الشاعر الأسلوبي والدلالي في توظيفه للحرف والنقطة مد بنية النص بجمال خارق زاد في كثافة النص.

 أبدع الشاعر أديب كمال الدين في وصف الحرف والنقطة وأنسنتهما مما دل على رصانة أسلوبه وتماسك ألفاظه بتوظيفها توظيفا دلاليا جماليا رسم لنا صورا  شعرية حلّق بها القارئ في خيال واسع.

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home