الموت بين يديّ القصيدة

مسرحية صامتة مهداة لصديقي الشاعر

أديب كمال الدين بمناسبة إشاراته الصائتة

 

 

 

 

 

صباح الأنباري

 

 

 

 

 

الصامتون:

الرجل الوحيد.

الكائن الغامض.

مجموعة التماثيل البشرية.

مجموعة الوحوش البشرية.

القاتل.

مجموعة الموتى.

 

المِصْمَت الأول

على خلفية المسرح تتوهج الأضواء بمختلف الألوان راسمةً أشكالا مبهجة تتداخل مرة، وتتوزع مرة أخرى على امتداد المكان. شبح الرجل الوحيد وهو يمسك قلما ضخما، وورقة طويلة يبدو للناظر وكأنه هو من يحرك سيمفونية الأضواء. نوافير من النور المتراقص يشهق توهجها نحو الفضاء. ومن الجانبين يندلق فيض من الزهور الضوئية المبهجة التي تتهاوى فتذوب حال ملامستها الأرض. مذنبات من الضوء يتقاطع وهجها ،ضمن كرنفال الجمال والبهجة الشعرية الساحرة، تزامنا مع حركة الموسيقى صعودا ونزولا أو انسيابا مع إيقاع الضوء وحركته الباهرة، سيقان تنمو متأرجحة وعلى قممها الساطعة تتفتح زهور بألوان زاهية تختفي لتظهر بعدها زهور أكثر جمالاً وألقاً. ينهمر على المكان ضوء أشد من الشمس سطوعا وهيمنة محوّلاً المكان إلى كتلة من بياض ساحر يبتلع توهّجات القصيدة وألقها الخلّاق، ويستمر مشعا حتى تنطفئ الأضواء كلّها ويعمّ الصمت والظلام.

 بعد وهلة من الظلام الثقيل تنفتح مساقط الأضواء العمودية على ثلة من تماثيل بشرية مختلفة في الحجم والهيئة. وسط التماثيل يجلس الرجل الوحيد محاطا بعشرات الأوراق المدعوكة بقوة. خلفه مباشرة ثمة مرآة تنعكس على وجهيها صورة الأشياء وكأنها مركبة من مرآتين منفصلتين وملتصق بعضها بظهر بعض.. الرجل الوحيد لم يتجاوز الستين بعد لكنه لا يزال محتفظا بمظهر أنيق، وقوام رشيق، ورأس أشيب، وملامح احتفظت ببريقها على الرغم من تقدم العمر وما تركه على وجهه من غضون.

 يسير الرجل إلى الأمام بضع خطوات ثم يتوقف مفكراً.. يستدير نحو التمثال الأول ببطء على هدي موسيقى حلمية.. يواجه التمثال.. يحدّق في ملامحه مليّاً.. يلمس أجزاء من وجهه.. يمسك يديه من الجانبين لكنه ينفر بشكل مفاجئ وكأنه فشل في وجود المشترك بينهما.. يدور حوله نصف دورة ليكمل نصفها حول التمثال الذي يليه ويليه حتى يكمل التفافه الحلزوني حول بقية التماثيل لينتهي منها عند مكانه الأول.. يتقدم قليلاً إلى الأمام.. يتوقف متأملاً.. يتحرك بسرعة وخفة نحو أحد التماثيل التي التفّ حولها.. يحدّق فيه مليّاً.. يكتشف نقاط الشبه بينه وبين التمثال بفرح غامر سرعان ما يتحول إلى نفور مقزّز ومعكّر للمزاج.. يهرول جوار التماثيل وهو يلامسها بأصابع كفه القريبة منها ابتداءً من أول الصف وانتهاءً بآخره.. يتوقف عند أخيرهم.. ينظر إلى الوسط حيث توجد المرآة.. ينطلق إليها.. يقف أمامها محدقا في صورته المنعكسة على وجهها.. يشعر بالنفور فيحركها حول محورها لتظهر صورته منعكسة على وجهها الثاني.. يتفاقم شعوره بالغضب.. يتحرك بانفعال شديد هنا وهناك.. يمسك ملامح وجهه بأصابع كفه اليمنى.. يبعدها كلما اقترب من أحد التماثيل محدقا في الوجه ثم يعيد تغطية ملامحه بباطن كفه بنفور.. يعود إلى المرآة.. يحدق فيها بانفعال شديد تتصاعد وتائره، وتبلغ أقصاها عندما يوجه لكمة تَكْسِر المرآة مشظية إياها، وناثرة قطعها على الأرض قطعة قطعة.. يغادر مكانه.. يخطو بضع خطوات.. تختفي التماثيل البشرية والمرآة أو ما تبقى من المرآة، وتفتح الأضواء على غرفة بنافذة واسعة وباب وسطي، ومكتب يتوسط مساحتها الضيقة.. يجلس على كرسي المكتب.. يشغّل جهاز اللابتوب.. يضرب على مفاتيح البورد فتهبط من فضاء المسرح شاشة سكرين كبيرة.. تظهر عليها ما يكتبه بجنون على هيئة قصيدة ولكن بحروف غامضة يصعب قراءتها (ضرباته على الكيبورد تشبه إلى حد ما ضربات الموسيقار على آلة البيان بانفعال واضح).. نسمع قبل انتهائه منها ثلاث طرقات منغّمة.. على إثرها يذهب الرجل إلى النافذة.. ينظر من خلالها مستعرضاً حركة المرور.. يعود إلى مكتبه وقبل أن يجلس على الكرسي يسمع ثلاث طرقات أخرى فيتوقف عن الحركة.. ينظر إلى اللابتوب بتركيز شديد، وإذ يسمع ثلاث طرقات جديدة يضرب على الكيبورد بقوة وانفعال فتختفي الشاشة ويظلم المكان.

 

*

المِصْمَت الثاني

   تفتح الأضواء تدريجياً فنراه جالساً على الأرض، ومحدّقاً صوب البحر الذي يبدو هائلاً في خلفية المكان.. يبدد الصمت هدير الأمواج وصخب البحر الملتصق بالأفق البعيد.. تظهر مقدمة سفينة قديمة الطراز قادمة من أبعد نقطة في الأفق.. يبدأ الرجل الوقوف وهو يحدق في مقدمة السفينة التي راحت تقترب منه شيئا فشيئا.. يلوّح لها بغبطة كبيرتين، ويرقص بفرح غامر ثم يتوقف عن الرقص حالما يسمع هدير منبهها.. يفتح ذراعيه كمن يريد احتضان القادم الجديد.. تقترب السفينة القديمة ،وهي تشقّ الموج الهادر، أكثر فأكثر حتى تغطّي الخلفية كلّها فيبدو جسمه ضئيلاً ضئيلا.. تتحول مقدمة السفينة ،التي ملأت خلفية المكان، إلى اللّون الأبيض.. يخفض الرجل ذراعيه بيأس تام ،وهو يرى انغلاق الأفق عليه، بينما السفينة القديمة تعود القهقرى بالطريقة التي قدمت فيها بالضبط حتى تختفي وراء الأفق الفسيح.. يعبث الرجل على الرمل راسماً حدود ظلّه قبل أن ينفجر باكياً بمرارة ويأس.. تتركز دائرة من الضوء عليه فتختفي صورة الأشياء من حوله.. ومع استمراره بالبكاء تتقاطع معه أصوات غريبة ومريبة يتنبه لها فيتحرك باضطراب قبل أن يرى التماثيل البشرية عائدة للمكان ولكن بأوضاع مختلفة وتشكيلة مغايرة، وهي تحيط به من كلّ جانب.. تنطلق صرخة مدوية لكائن غريب مجهول متزامنة مع انفجار ضوئي غاية في الرّوعة والرّوع.. يظهر ،على الخلفية، الكائن الغريب وهو يحلّق بجناحين كبيرين ريشهما يكاد يشعّ باللون الأحمر القرمزي.. يطير بخفّة، وخفر، ورشاقة، وانسيابية ساحرة تناقض هيئته التي تنزل الرعب في القلوب الواجمة.. يهبط بطريقة عجيبة ،لا كما يهبط الطير، فترتج الأرض تحت قدميه المخولبة.. تصاب التماثيل البشرية بالذعر والفزع.. تحاول الهرب بسرعة خاطفة لكنها تجد المنافذ مغلقة والخوف ممسكا بتلابيبها الواهنة وهي ترتجف هلعا بينما الرجل يراقب المشهد ببرود، وهدوء، وشيء من بسمة خفيفة ارتسمت على ملامحه الواجمة.. يضمّ الكائن جناحيه بعضها لبعضه الآخر فتظهر على الخلفية (السايكلوراما) التماثيل وهي تصارع البحر حتى يدفنها البحر بموجه الفتّاك.. تمتلئ التماثيل ذعراً بينما يستمر الرجل بلا مبالاته المحيّرة.. يستعر البحر فتحترق التماثيل بألسنته الطويلة.. ومن بين ألسنة الموج يظهر قرش عملاق يبتلع التماثيل واحدا واحدا.. تتوقف التماثيل عن الحركة لهول ما رأت بينما يفرد الرجل ذراعيه مستقبلا الزائر ذا الجناح القرمزي.. يعانقه ببرود فتذوب روحه بين الجناحين القرمزيين.. يتركه الكائن ببطء قبل أن يغادر طائرا في فضاء المكان، ومحلقا نحو سماء قرمزية هي الأخرى.

 

 

*

المِصْمَت الثالث

يستيقظ الرجل ،من موته، ببطء مع الموسيقى.. يرى طريقا رفيعا مديدا معلقا سابحا في فراغ فضائي لا يحدّه حدّ، قد ينتهي في نقطة ضئيلة عند حافة الأفق البعيد جداً، وقد يمتد إلى ما لا نهاية.. يقترب من الطريق فيجده معلقاً في الهواء ومنقسماً على قسمين رفيعين كخيطين في شبكة عنكبوتية.. يضع قدمه اليمنى على طريق والأخرى على طريق آخر.. يسير.. يترنح.. يتوقف.. يشير لشمس غاربة، ثم لظلمة قادمة، ثم لفجر جديد.. يتوقف عن السير بلا هدف فيظهر له الكائن المحلّق في فضاء المكان وهو يطير نحو النقطة الضئيلة فيتبعه حتى تختفي هيئته في الأفق البعيد.. يتقدم الرجل في صعوده الغامض.. يتعثّر في سيره ثم يسقط على الأرض، وعلى نحو سحريّ يجد نفسه محاطا بمجموعة من الوحوش.. ينهض فتنهض الوحوش معه، وإذ تبدأ بالرقص الجنوني يرقص معها بجنون أشد حتى تهاجمه الوحوش نهشا وقضما ولا تبقي منه سوى الرأس أو فروة الرأس.. تتقاذف الرأسَ مثل لعبة بحجم كرة القدم.. يسقط الرأس على منتصف المكان.. ينفرد أحدهم فيركله نحو هدف افتراضي بين الأرض والسماء. وفي لحظة طيرانه تطفأ الأضواء وتتوقف الحركة.

 

 

*

المِصْمَت الرابع

تفتح الأضواء تدريجياً فيستيقظ الرجل الوحيد من حلمه أو كابوسه المربك المريب.. يرى ثلاثة أحرف ،بحجم كبير، ممددة إلى جانبه، وصندوقاً من الأبنوس بغطاء محكم غليظ.. يضع الحروف فوق الصندوق الأبنوس فيكون الحرف الأول (و) والثاني (ت) والثالث (م).. يركع خلفها.. يرفع كلتا يديه إلى الأعلى ويخفضهما إلى الأسفل ،معاً، كما يفعل الكهنة تزامنا مع ترتيلة من الأنين والهمهمة.. يصيبه السأم فينهض بضجر واضح.. يغيّر ترتيب الأحرف فيصير الأول (و) والثاني (م) والثالث (ت).. يجعل شعره أشعث ويدور حول الأحرف كمجنون مفتون بسحر الأحرف وتأثيرها المربك.. يتوقف إذ يشعر بلا جدوى الجنون.. يغيّر ترتيب الأحرف للمرة الأخيرة فيصير الحرف الأول (م) والثاني (و) والثالث (ت).. يقف خلفهن رافعا كلتا يديه إلى الجانبين وتاركا رأسه متدلياً الى الأمام مثل مصلوب بريء.. تتعالى أصوات كورالية مرتّلة إحدى تراتيل (الجمعة العظيمة) وثمة تغييرات على الخلفية تمنح المنظر هيبة وقداسة.. يشعر بالسأم من وقوفه المملّ على صليب الموت فيخفض يديه.. يضرب الأحرف الثلاثة بضجر فتسقط هنا وهناك، وعلى هدي ايقاع جنائزي رتيب يدخل في صندوق الأبنوس ويغلق الباب عليه ومن الأعلى ينهال التراب حتى يغطي الصندوق تماما ثم يتلاشى الإيقاع الجنائزي تدريجياً، وتدريجياً تختفي الأضواء. 

 

*

المِصْمَت الخامس

يلتمع خلال الظلام نصل سكين قاتلة يومض هنا وهناك.. تظهر حدود فسفورية لشخصين اولهما (القاتل) وهو  يلاحق الثاني (الرجل الوحيد) محاولا الانقضاض عليه.. يزوغ الرجل عنه ببرود كلما سدد له طعنة قاتلة.. يقترب القاتل منه.. يراوغه قليلا ثم يغرز السكين في صدره طاعنا إياه عدة طعنات قاتلة.. يتراجع رويدا رويدا حتى يختفي وراء الكواليس.. تفتح الأضواء فنرى الرجل الوحيد مطعونا في القلب.. يترنح قليلاً.. رأسه متدلّ وهو يمسك بكلتي يديه موضع الجرح.. يبرك على الأرض.. يرفع رأسه.. ينظر إلى الأمام.. يبتسم ثم يسقط على الأرض ميتاً دون حراك.

يستيقظ ببطء.. يرفع رأسه.. يرمق المكان بنظرة بانورامية فاحصة.. ينهض واقفا بمواجهة الأفق الذي تبرز على امتداده قبور يمتلأ المكان بها حتى تبدو للناظر مثل مدينة شيّدت بمئات البنايات القزمية، مدينة من قبور حسب.. تتعالى الهمهمات مضرجة بأنين الموتى.. يسير الرجل بضع خطوات بين القبور.. تتغير ألوان الأفق، وتمر على نحو سريع غيوم شفافة وأبخرة هائمة تبحث عن منفذ بلا جدوى.. يتصاعد صوت الأنين حتى يرفع الرجل يديه مقاطعا فيتوقف الأنين على نحو عجيب.. تسري به قدماه فوق سحاب أرضيّ.. يشير للموتى بالنهوض فيفعلون.. يقف كلّ واحد منهم إلى جانب مثواه بوضع مختلف عن مجاوريه، وبإشارة منه تنطلق سمفونية الأضواء نابضة متدفقة ومانحة جثة الحياة ألقها المستنير كما في بداية المسرحية حيث تتقاطع نوافير الأضواء مع بعضها بعضا معلنة بدء كرنفال الأنوار والألق والتسامي صعودا إلى سماء من البهجة والحبور.. يستدير الرجل عائداً إلى مكانه الأول حيث صندوق الأبنوس الفارغ من جثته المضيئة.. يفتح غطاءه الثقيل فتداهمه الأنوار ببرقها وبريقها المذهل.. يدخل فيه.. يتمدد داخله.. يغلق بوابته الثقيلة تزامنا مع بدء الموسيقى.. تنهال عليه الزهور من الأعلى حتى تغطي الصندوق تماماً.. تطفأ الأضواء تدريجياً، وتدريجياً تفتح ثانية على هيئة بقعة ضوئية رأسية نرى ،ضمن محيطها الدائري، الرجل واقفا بجمود خلف صندوقه وسط تل الزهور وهو يمسك قلما ضخما وورقة تطول حتى تلامس الأرض أو تحيط الصندوق من كلّ الجهات.. تطفأ الأضواء معلنة نهاية صمت القصيدة أو على نحو أكيد نهاية صمت المسرحية.

 

 ***** 

صباح الأنباري

 

 

 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية

Home

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة