قراءة في قصيدة (شجرة الثعابين) لأديب كمال الدين :

 

 هجنة النص: قراءة في قصة الخلق الرمزية

د. صالح هويدي

 

 

 

مدخل:

ينتمي الشاعر العراقي أديب كمال الدين، المقيم منذ سنوات في أستراليا، إلى ما عرف تجوزاً في المشهد الشعري العراقي بجيل السبعينيات. وللشاعر منجز شعري كبير.(1)

لكن ما ميز منجز الشاعر العراقي بين مجايليه والمشهد الشعري العربي عامة أنه توفر على ثيمة موضوعية، اتخذها منطلقاً لتجربته، ومهاداً راح يؤثث شعره على هديها، حتى استغرق جل شعره؛ لتصبح هذه الموضوعة علامة على منجزه وعنواناً دالاً على الشاعر، وأقصد بها تجربة انشغاله بالحرف، وتسخير جل منجزه للتعبير عن معطياته، سواء بالاتكاء على التجربة الصوفية أو باستكمال مدياتها والاجتهاد في البحث عن آفاق جديدة معاصرة فيها.

 لقد عرفنا الحروفية في منجز بعض التشكيليين العراقيين والعرب المعاصرين والقدماء، لكن الاشتغال على الحروفية في المشهد الشعري العربي المعاصر يظل يمثل ظاهرة نادرة وميداناً طريفاً.

وإذا كان لصدور أي مبدع عن رؤية جاهزة أو موضوعة محددة سلفاً، وجهان على الدوام، أحدهما لصالح المبدع، والآخر في غير صالحه، فإن انشغال الدارسين بالموضوعة الحروفية لدى الشاعر، وتركيزهم عليها تركيزاً ندر أن تخطّى عتباتها، صرف النظر عن المعطيات الأخرى في تجربة الشاعر، وحرم القارئ من فرصة تعرف ملامح الشعرية، وطرائق تشكلها، وأدوات بنائها، وهي كثيرة، وتستحق عناية النقاد والدارسين. وهو ما نأمل في أن نوليه ما نستطيع من عناية.

 

لا ريب في أن اشتغال الشاعر أديب كمال الدين على ثيمة شديدة الخصوصية هي الحروفية، مدة تزيد على أربعة عقود قد أكسبته ميزة بين شعراء جيله، بل والشعراء العرب المعاصرين له. ومع أن الاشتغال قد قاد الشاعر إلى ضروب من التقنيات والأساليب في معالجة رؤياه عبر نهج الحروفية من خلل دواوين عدة، مقلّباً ومتأملاً ومجترجاً نصوصه لإبلاغ رؤياه والتعبير عن عما يود إيصاله، فإن رهن الشاعر والمبدع عامة إبداعه لاتجاه أو ثيمة أمر لا يخلو من مخاطر دفع الشاعر إلى الدوران في آفاق محدودةـ فضلاً عن تضييق الفرصة على قارئه الذي يفقد كثيراً من أفق توقعه المفتوح دوماً. وهو ما كان الشاعر على وعي به، حين لم يشأ أن يغلق أفق نصه تماماً على النهج الحروفي الذي استغرق معظم تجربته، مبقياً الباب موارباً على تجارب نصوصية حاولت التعبير عن رؤياه وعوالمه ومشاعره وخبراته؛ الشخصية أو العامة التي بدت على قدر من الغنى والطرافة المغلّفة بالألم والمعاناة.

وإذا كان معظم النقاد والدارسين الذين تناولوا شعر الشاعر قد اختاروا النفاذ إلى عالمه الذي شكل طقسه المميز، فإننا آثرنا أن نتناول الجانب الآخر الذي لم يحظ بالاهتمام الكافي. وهنا لا بد لي من التنويه بأن عالم الشاعر أديب كمال الدين عالم مترامي الأبعاد، متعدد المستويات والتجارب والتقنيات التي تمتد مما هو واقعي ورمزي إلى ما هو فانتازي وتعبيري وتجريبي. وهو عالم يمتلك حضوره وخصوصيته، من خلال علامات تطرد، ورموز وثيمات ما تني تتردد مؤكدة بعدها الدلالي، ومعبرة عن خصب تجربته.

 

ولعل قارىء شعر الشاعر لن يعدم وعياً بحضور رموز البحر والطير والشجر والبئر والدم، جنباً إلى جنب مع تردد ثيمات المرأة والحب والموت والحرب والغربة والغدر، حضوراً واضحاً يؤطر معجمه الشعري، جاعلاً منها بنية ذات نسق دلالي ومتوالية تعبيرية ذات هوية دالة. وإذا كان تتبع هذه الدوال والعلامات واستكناه معادلاتها في عوالم الشاعر، وصولاً إلى إضاءة ممكناتها، أمراً يحتاج إلى وقفة طويلة، نأمل في أن نعود إليها يوماً، فإننا سنكتفي هنا بالوقوف على نص شعري واحد، ليكون نموذجنا التطبيقي المعبر عما نريده. والنموذج الذي نختاره هنا هو قصيدة "شجرة الثعابين" من مجموعة الشاعر "شجرة الحروف"*.

 

 

البنية المشهدية:

ينهض النص على بنية شعرية مكونة من أربع مقاطع ينجح في تجسيدها عن طريق تكثيف المعطيات البصرية وتقديمها في شكل مشاهد حية مقنعة. المشاهد الثلاثة التي يقدمها النص هي: مشهد "شجرة الطفولة"، والمشهد الثاني هو: مشهد" شجرة الحب"، أما المشهد الثالث فهو مشهد "شجرة الموت". لكن اللافت في المشاهد الثلاثة أن أحدها ينضوي تحت مقطعين اثنين (الثاني والثالث)، على نحو يبدو فيه المقطع الثالث وكأنه يستعيد دورس الكورس في العرض المسرحي.

هجنة النص:

يجنح النص نحو الإفادة الواضحة من معطيات فن السرد، مستعيناً بعدد من العناصر السردية التي تجعل من بنيته مزيجاً من المعطيات الشعرية والسردية في آن معاً. فثمة استخدام لأسلوب الراوي المتماهي بمرويه في تقديم الشاعر للمشاهد المشار إليها عبر ضمير المتكلم، فضلاً عن توظيف أساليب سردية مختلفة في التعبير عن تجربته من مثل: العرض، والتلخيص، والحذف، والوصف والتكرار، والانتقال بين الأزمنة، إلى جانب توظيف المعطيات المشتركة بين الجنسين الأدبيين؛ من رمز وتخييل وأسطرة وفانتازيا ومعطيات حلمية.

وعموماً فإن النص مقدم من خلال لغة تجمع بين السرد والإخبار أو التعليق. أما توظيف الشاعر للزمن في نصه. فعلى الرغم من استخدام ضمير المتكلم للشخصية واتخاذ السرد آلية لاسترجاع الوقائع التي مرت بها في الماضي، فإن طريقة عرض النص لهذا الماضي جاء – بحكم تأثره بمعطيات السرد- جامعاً معطيات زمني الماضي والحاضر، من دون طغيان لأحدهما على الآخر. وهي وسيلة سردية معروفة، تهدف إلى تحيين الزمن مع مجريات النص والحضور فيه.

 

تفكيك المقطع الأول:

يطل علينا المقطع الأول بمشهد الشجرة الأولى "شجرة الطفولة" عبر زمن المضي على طريقة السرد الشفاهي القديم، يتبعه زمن الحاضر، ليعود مجدداً إلى زمن المضي، بنوعيه التام وغير التام (الناقص)، ليعود من جديد إلى زمن الحضور، متخذاً بذلك شكل نسق تناوبي بين الزمنين. وهو نسق يهيمن على جميع المقاطع على نحو لافت، ودونما طغيان لأحدهما على الآخر.

يُلحظ على هذا المشهد أيضاً الحركة البطيئة للزمن، تلك التي توحي بها الأفعال (أحبو/ أخطو/ تسلّقت..) وكأنها تحكي قصة نمو الكائن البشري. وإذا نظرنا إلى السطور الشعرية الثلاثة، فسنلاحظ أن الشاعر قد مارس في السطر الثالث نوعاً من الحذف بدافع الوصول إلى مبتغاه، وذلك حين انتقل بنا نقلة زمنية كبيرة من (الحبو) و (الخطو) إلى تسلق الشجرة. كما نلحظ على المشهد غلبة سمات الفرح والانتشاء الظاهرة في العينين الفرحتين والتطلع البهيج.

ولا شك في أن انتقال الشاعر إلى صيغة التكرار في السطرين السابع والتاسع إنما أريد له توكيد الأفعال الدالة على مشاعر التشجيع المصاحب للطفولة عادة، فضلاً عما يمنحه من تعميق للخطة المشهدية (السينمائية) للحدث:

كنتُ أصعدُ وأصعد/ تدفعني أعلى فأعلى

ولعلنا نلحظ المباهج التي يشيعها النص هنا وقد جاءت متفقة والطبيعة الطفولية النازعة نحو التعلق بأكثر من بهجة، والفرح بأكثر من ثمرة؛ حيث لا تمحور حول هدف بعينه أو الاكتفاء بفاكهة بذاتها:

بعينين فرحتين/ تتطلّعان إلى بهجةِ التفّاح / وفرحِ الموز.

اللافت في الحركة الثانية للنص هو حضور الجدّة الذي يكتسب بعداً دلالياً يستند إلى الإرث الروحي والتقاليد التي تمدّ الطفل بنسغ الدعوات والمؤازرة لخطواته، ما يحولها إلى رصيد رمزي للاندفاع والمضي نحو الأعالي، كاشفاً عن نسغ التقاليد الروحية الداعمة لاستمرار الحياة الشابة، وسعيها نحو طموحاتها ومباهجها:

" كنتُ أصعدُ وأصعد

ودعواتُ جدّتي

تدفعني أعلى فأعلى".

ولعل ما يؤكد هذا المعنى ذلك الحدث الذي ينتهي به المقطع الأول، وأقصد به حدث السقوط المفاجىء للشاب من على شجرة الحبّ إثر موت الجدّة المفاجىء:

"لكنْ، على حين غرّةٍ، ماتتْ جدّتي

فسقطتُ، وا أسفاه، من شجرةِ الطفولة".

 

واضح هنا أن المقطع الذي يحكي فيه الطفل عن بدايات اعتماده على نفسه حبوا ومشياً وتسلّقاً وسقوطاً من على جسد الشجرة، لم يكن هدفه التعبير عن التدريب على التسلق الواقعي (المادي) للشجرة أو السقوط منها لاحقاً، بقدر ما كان يهدف إلى التعبير عن جرح الطفولة الأليم للشخصية، والإحساس الفادح بفقد هذه الطفولة لحظة موت الجدّة التي كانت نسغ الحياة الحقيقي لهذه الطفولة.

 

تفكيك المقطع الثاني:

في المقطع الثاني الذي يدخل بنا الطفل معه إلى مرحلة جديدة من مراحل حياته وخبرته، تتجرّد السطور الأربعة من هذا المقطع لتتابع حدث السقوط الذي انتهى به المقطع السابق مستخدمة الفعل الماضي بنوعيه (التام والناقص). بل لعل الطريف في توظيف فعل المضي هنا أنه جاء ليدل على زمن الحضور والاستمرار أكثر من دلالته على زمنه النحوي الذي يدل عليه تركيبه، إذ يحدثنا التركيب في شكليه (المثبت والمنفي)عن استمرار فعل السقوط حتى لحظة الرواية:

"استمرَّ سقوطي عاماً فعاماً

ولم أصلْ إلى الأرض".

ولا ريب في أن الإخبار باستمرار حدث السقوط من أعلى، مع وقف التنفيذ؛ أي من دون وصول إلى الأرض لسنوات، إنما يتخذ من معطيات آلية الحلم وسيلة فنية، مستبدلاً التخييل بالواقع.

أما النقلة الثانية فهي تلك التي يخبرنا الراوي من حلالها بتحقيق السقوط أخيراً، ولكن ليس على الأرض، بل على شجرة، اسمها "شجرة الحبّ".

إن المفارقة التي يكشف عنها النص هنا، إنما تتمثل في تلك الدعابة المجانبة لحقائق الطبيعة الفيزيائية وقانون الجاذبية، إذ يقرر الراوي أن خفّته كانت السبب في جعله يقع على هذه الشجرة وليس ثقل الجسد كما هو ثابت علمياً، متكئاً في تسويغ هذا المنطق غير الواقعي على آلية الحلم أيضاً:

" كنتُ خفيفاً كما يقولُ الحلم

كنتُ خفيفاً بما يكفي

لأسقط على شجرةٍ ثانية

تُدعى: شجرة الحبّ".

نقف في المقطع الجديد على بعض المظاهر السابقة التي واجهتنا في المقطع السابق، وأبرزها: (تسلّق الشجرة) و(مشاعر الفرح) و(فاكهة التفّاح)، ما يجعل من هذا المقطع، أي مقطع "شجرة الحب" امتداداً لمقطع "شجرة الطفولة" تسلّقاً وفرحاً، ورغبة في الوصول إلى فاكهة التفاح، على الرغم من تخصيصها هنا أسطورياً بكونها (فاكهة الحبّ). ولا شك في أن التفّاحة كانت مادة مشتركة في العديد من الأساطير العالمية والمعتقدات الدينية(2)؛ السماوية والأرضية المرتبطة بالحب فيها مع الحب والجنس. لكن مما له دلالته المعبرة هنا تلك المشاعر التي حملها المقطع الجديد إلى جانب مشاعر الفرح السابقة، وخلا منها المقطع الأول، وأقصد بها مشاعر الالتذاذ بالتفّاح. فلقد أراد النص التركيز على مشاعر الفرح البرىء بالتفّاح لدى الطفل في مرحلته الأولى، في حين ذهب إلى تعميق الإحساس باللذة لدى الشاب في مرحلته الجديدة؛ مرحلة التضج الملائمة لمرحلة الحب وطقوسها:

"تسلّقتُها بعينين فرحتين

تتطلّعان إلى لذّةِ التفّاح

فالتفّاح فاكهة الحبّ كما تقولُ الأسطورة".

وكما قام المقطع الأول على بنية المفاجأة، تواجهنا المفاجأة غير المقصودة في المقطع الجديد في شكل يفقد فيه الراوي حبيبته هذه المرّة، وما تحمله من ذكريات وتفاصيل علاقة حميمة، على النحو الذي فقد فيه جدّته في المقطع السابق.

وكما تسبب فقدانه جدّته، في سقوطه من شجرة الطفولة، انتقاله إلى مرحلة النضج، فقد تسبب فقده حبيبته في سقوطه من شجرة الحبّ وإضاعته إياه:

" لكنْ، على حين غرّة،

ضاعتْ حبيبتي

وقبلاتُ حبيبتي

ومواعيدُ حبيبتي

فسقطتُ، وا حسرتاه، من شجرةِ الحبّ".

لا ريب في أن ربط التفّاحة بالحبّ إنما يحيل هنا إلى حواء الحبيبة والتفّاحة التي يمكن أن يتداخل معها حدث الخروج من الجنة، المعبر عنه هنا بالسقوط من الشجرة، عبر معادل رمزي يوحي بالموروث الديني على نحو مجازي.

 

تفكيك المقطع الثالث:

لعل مما يكسب المقطع الثالث خصوصية، أنه مقطع يخلو من وجود حدث جديد يمكن أن يضاف إلى الأحداث السابقة، إذ يبدو أنه محض امتداد خطي، اكتفى بالتعليق على مجريات المقطع السابق ووصف مشاعر الراوي، ما يجمد الحدث ويوقف الحركة الدرامية في النص. فالراوي يخبرنا في هذا المقطع أنه توقع أن يكون سقوطه مدوياً، بسبب من علّو شجرة الحبّ، لكنه بخلاف ما توقعه لم يصل إلى الأرض، برغم مرور سنوات على سقوطه:

" كنتُ أتوقّع أن يكونَ سقوطي مدوّياً

لأنّ شجرةَ الحبّ عالية كالجنّة.

لكنْ رغم مرور السنين

لم أصلْ إلى الأرض".  

وكما استخدم الشاعر الدعابة في مقطعه السابق يعود في هذا المقطع إلى استثمارها أيضاً، وذلك حين يعزو سقوطه على الشجرة الثالثة إلى كونه كان سعيداً بما يكفي للسقوط على الشجرة الجديدة. وهي دعابة تنطوي على مفارقة متأتية من كون اكتمال سعادته قد أدت به إلى السقوط على شجرة هي "شجرة الموت". ولعله أراد أن يقول: إن خاتمة السعادة واكتمالها لا بد من أن يقود إلى نهاية كهذه.

" ربّما لأنني كنتُ سعيداً كما تقولُ الدعابة

ربّما لأنني كنتُ سعيداً بما يكفي

لأسقط على شجرةٍ ثالثة

تُدعى شجرة الموت".

وهكذا يتضح أن دور المقطع الثالث هذا، فضلاً عن التعليق والتعبير عن المشاعر بما سبق أن حدث، هو أن يكون حلقة تربط ما سبق بما سيقع من أحداث، إذ يخبرنا أول مرة أن السقوط قد تحقق، وأنه قد استوى على شجرة الموت التي سيختص بها المقطع الرابع والأخير.

تفكيك المقطع الرابع:

يبدو المقطع الرابع مختلفا عن سواه من المقاطع الثلاثة السابقة عليه، سواء من حيث مظاهره وتفاصيله المتصلة به والروايات المنسوجة حوله، أو من حيث مشاعر الراوي منه. فخلافاً للمقاطع السابقة التي لا يبدو أن للراوي خبرة أو تصوراً مسبقاً عنها، يبدو هذا الراوي لنا وقد اختزن عقله أفكاراً وتصورات قبلية كافية عن طبيعة الشجرة التي انتهى إليها. فها هو ينبئنا منذ السطر الأول لهذا المقطع أن الأمر ليس كما السابق، فهو خطير هذه المرّة ولا يحتمل المزاح. ثم يبدأ ببيان أوجه الاختلاف. فهو يقرر أن هذه الشجرة لا تحب شجرة الطفولة ولا شجرة الحبّ. وهذا يعني أننا بإزاء مشاعر من الكراهية لدى هذه الشجرة لم نألفها في الشجرتين السابقتين، فضلاً عن كونها شجرة مضحكة. فإذا ما أردنا معرفة لم كانت هذه الشجرة مضحكة، فإننا سنجد جواب الراوي يأتينا من خلال أسلوب الدعابة الذي ألفناه من قبل، وبطريقة لا تخلو من مفارقة، إذ يرى أن الشجرة طويلة، وأنها في طولها أشبه ما تكون بجهنّم. وهو قياس يفارق المألوف ويتيح لمعطيات الحواس التبادل فيما بينها، أي بين ما هو مادي عياني ومنظور وصورة متخيلة غير عيانية. ولا يخفى علينا هنا ملاحظة الدقة التي التزم بها الشاعر في التوظيف اللغوي واستخدامه الصفات على نحو بالغ الدلالة. ففي الوقت التي توصف شجرة الموت بالطويلة إلى حد الإضحاك وجدنا النص يخلع على شجرة الحّب السابقة صفة مختلفة أخرى، على الرغم من مشاركتها الشجرة الأخرى في صفة الطول، إذ وصفت شجرة الحبّ السابقة بالقول إنها شجرة عالية. وفي صفة العلو حمولة نفسية إيجابية، فيها من التعاطف والانبهار أكثر من الوصف الخارجي المحايد. يُضاف إلى ذلك كشفه عن صفة أخرى يخلعها على الشجرة لا تخلو من إيحاء بالكراهية والعدائية، تلك هي وصف ساقها بالملاسة التي تذكر بجلود الأفاعي، وربطها بجهنّم في مقابل ربط شجرة الحب بالجنّة كما مرّ بنا.

ولا تبدو الملاسة كريهة لأنها تذكر بجلد الأفاعي حسب، بل لأن هذه الملاسة ستكون عائقاً دون تسلق الشخصية الشجرة، كما حدث مع الشجرتين السابقتين مثلاً. وهو ما يفقدها هوية الشجر، فضلاً عن مباهجها التي يسعى الطفل أو الشاب لاحقاً إليها.

لكن أمر اختلاف شجرة الموت عن الشجرتين السابقتين لا يقف عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى عدد من المظاهر الأخرى المنفّرة، فليس في أعالي الشجرة ثمر ملوّن يدعوه إلى الفرح بالوصول إليه أو التطلّع بقلب ساذج إليه. ومن هنا نستطيع أن نستشعر انطفاء الفرحة في قلب الشخصية، إلى جانب ما ذكرنا من تشبيه الشجرة الأخيرة بجهنّم.

لقد بدا الراوي مشوش الذهن ومختزنا عدداً من الروايات حول هذه الشجرة التي يفصح عما استقر في ذهنه منها، من خلال أسلوب التكرار، لما سمعه وتناهى إليه بصيغة الفعل المبني للمجهول هذه المرة، حيث تكثر الأقاويل، وتتعدد تعدداً يجعله يلجأ إلى أسلوب الحذف الدال على كثرتها:

" فشجرةُ الموت

كما قيلَ لي

مسكونة بالندم

وقيلَ مسكونة بالملائكة

وقيلَ بل بالأجراس السود

وقيل بل بالثعابين

وقيل..".

ولا يبدو من خلال طبيعة المظاهر المحيطة بهذه الشجرة أنها شجرة كسابقتيها، إذ كل شيء فيها منفّر وكريه. فهي مسكونة بالندم تارة أو بالملائكة أخرى، أو بالأجراس السود، أو بالثعابين، أو بأشياء أخرى أمسك الراوي عن ذكرها، معتمداً طريقة الحذف: "وقيل..".

ولا ريب في أن نظرة إلى تلك الأوصاف التي ساقها لنا الراوي تدلل لنا على أنها جزء من المعطيات والتصورات التي كونتها المعتقدات الشعبية عن الموت، وما يرافقه من صور يعود اللاوعي لنبشها في لون من الميكانيزم الدفاعي عن الحياة، في مقابل الموت والذهاب إليه، مقارنة بطول شجرة الحب وشجرة الموت من حيث الدلالة اللغوية.

ولا يخلو من دلالة أن آخر وصف للشجرة هو وصفها في رواية من الروايات أنها مسكونة بالثعابين. وهو الوصف الذي يمسك الراوي عن تقديم وصف آخر بعده، مكتفياً بالحذف على طريقة "وقيل..". وهذا الوصف الأخير هو ما ترشح في وعي الراوي وفرض على الشاعر اختياره عنواناً للقصيدة" شجرة الثعابين".. الصورة الأكثر تعبيراً عن مشاعر الشخصية إزاء هذه الشجرة.

عند هذا الحد يكون المقطع الرابع قد أشرف على الانتهاء منتظراً الحركة الأخيرة التي يحاول اختصارها وعبور كمها واختلافاتها بعبارة "وقيل.."، إذ يلجأ الراوي إلى ما يشبه الرغبة في تجاوز التشويش وعدم اليقين بهذه الروايات إلى حيث ما يراه محسوماً لديه:

" لكن من المؤكّد

أنني أتسلّقها كلّ يوم

منذ سنين طويلة

وأنا في طريقي إلى الندم

أو إلى الملائكة

أو إلى الأجراس السود

أو إلى الثعابين".

 

لقد جاءت الرواية الأخيرة للشخصية لتعيد الأمور إلى نصابها بعد أن ازدادت الشخصية حكمة وأدركت حقيقة الأمور، واتضح لها أن الدورات التي مرّت بها والرحلات التي شملت الأشجار السابقة ليست سوى حلقات في سلسلة زمنية واحدة غير منفصلة عن الحلقة التي انتهت بشجرة الموت. وهي حقيقة تقود إلى الاعتقاد اليقيني الوحيد الذي تكشف للشخصية، وهو أن الحقيقة المؤكدة هي تلك المتمثلة في أنه كان يتسلّق هذه الشجرة الكريهة يومياً على مدى سنين مضت، وسيظل يمضي في تسلّقها، سواء أكان سيمضي مع هذه الشجرة إلى الندم أو إلى الملائكة أو إلى الأجراس السود أو إلى الثعابين؛ فلم يعد في الأمر فرق ما دامت النهايات تقود إلى الطريق المحتم.

وإذا نظرنا إلى مدى المقاطع الأربعة من حيث زمن القراءة لدى المتلقي (الطول) فسنجد أن المقطعين الأول والثاني متقاربان في الطول، وأن المقطع الثالث أقصر منهما، بحكم كونه لا يكشف عن بنية متطورة جديدة، بقدر ما يبدو وكأنه وسيلة ربط وتعليق على الأحداث. أما المقطع الرابع فواضح أنه المقطع الأطول بين مقاطع القصيدة. وهو الذي سيستأثر بالضوء وبالتفاصيل.

 

عتبة النص:

لقد بدأنا مقاربتنا بالقول إننا سنخرج عن الفضاء المألوف للشاعر، ونحن على علم بأن عنوان القصيدة "شجرة الثعابين" يتصل بعنوان المجموعة "شجرة الحروف"، فضلاً عن عشرات الأشجار التي حفلت بها نصوص الشاعر، ما يجعل عزل نصوصه الحرة عن أجوائه الحروفية أمراً لا يخلو من صعوبة في الأقل على مستوى الرؤية الكليّة.

 

إلى جانب ما تبتعثه صورة الثعابين من تصورات وقصص دينية وأسطورية تخرج من عالم اللاوعي الفردي أو الجمعي للشخصية التي روت لنا من خلل بوحها بضمير المتكلم رحلتها الرمزية من الطفولة إلى الموت، فضلاً عما تحمله الشجرة في هذا النص من حمولة تراثية ومن دلالات أسطورية ودينية، إلى جانب الأسطورة السيميولوجية التي اجترحها النص لتقديم رؤية شعرية ذات تقنيات سردية. لقد استطاع النص، في بنيته المجازية وما توافر له من عناصر فنية- رمزية وتخييلية- أن يكون نصاً أليجورياً يتجاوز التجربة الفردية، ليعبر عن قصة الخليقة في رحلتها بدءاً وانتهاء.

 

 

النص:

شجرة الثعابين

شعر: أديب كمال الدين

 

 (1)

حين بدأتُ أحبو

ثمّ أخطو قليلاً قليلاً

تسلّقتُ شجرةَ الطفولة

بعينين فرحتين

تتطلّعان إلى بهجةِ التفّاح

وفرحِ الموز.

كنتُ أصعدُ وأصعد

ودعواتُ جدّتي

تدفعني أعلى فأعلى.

لكنْ، على حين غرّةٍ، ماتتْ جدّتي

فسقطتُ، وا أسفاه، من شجرةِ الطفولة.

 

 

 (2)

استمرَّ سقوطي عاماً فعاماً

ولم أصل إلى الأرض.

كنتُ خفيفاً كما يقولُ الحلم

كنتُ خفيفاً بما يكفي

لأسقط على شجرةٍ ثانية

تُدعى: شجرة الحبّ

تسلّقتُها بعينين فرحتين

تتطلّعان إلى لذّةِ التفّاح

فالتفّاح فاكهة الحبّ كما تقولُ الأسطورة.

لكنْ، على حين غرّةٍ،

ضاعتْ حبيبتي

وقبلاتُ حبيبتي

ومواعيد حبيبتي

فسقطتُ، وا حسرتاه، من شجرةِ الحبّ.

 

 

(3)

كنتُ أتوّقع أن يكونَ سقوطي مدوّياً

لأنّ شجرةَ الحبّ عالية كالجنّة.

لكنْ رغم مرور السنين

لم أصل إلى الأرض.

ربّما لأنني كنتُ سعيداً كما تقول الدعابة

ربّما لأنني كنتُ سعيداً بما يكفي

لأسقط على شجرةٍ ثالثة

تُدعى: شجرة الموت.

 

 

(4)

هذي المرّة

كانَ الأمرُ خطيراً

فشجرةُ الموتِ لا تحبُّ المزاح،

لا تحبُّ الطفولةَ ولا الحبّ.

لكنّها شجرة مضحكة

كانت طويلةً كجهنّم

وساقها ملساء كجلدِ الأفاعي

وليسَ هناك في الأعالي

من ثمرٍ مُلوّن

أتطلّع إليه بعينين فرحتين

وقلبٍ ساذج.

فشجرةُ الموت،

كما قيلَ لي،

مسكونة بالندم

وقيلَ مسكونة بالملائكة

وقيلَ بل بالأجراسِ السود

وقيلَ بل بالثعابين

وقيل..

لكنْ مِن المؤكّد

أنني أتسلّقُها كلّ يوم

منذ سنين طويلة

وأنا في طريقي إلى الندم

أو إلى الملائكة

أو إلى الأجراسِ السود

أو إلى الثعابين.

****************************

 

الإحالات:

(1). وصل منجز الشاعر أديب كمال الدين إلى ما يقرب من عشرين مجموعة شعرية، فضلاً عن سبعة كتب نقدية تناولت تجربته، وضم أحدها (الحروفي) عشرات الدراسات التي كتبها عنه نقاد عرب وعراقيون.

·       أديب كمال الدين: شجرة الحروف، شعر، ط1، دار أزمنة، عمان- الأردن، 2007.

(2). ثمة أسطورة إفريقية غانية تعود إلى أزمنة قديمة تتحدث عن هبوط رجل وامرأة من السماء، ثم أرسل إليهم الإله بعد زمن ثعبانا بنى له بيتاً في النهر حتى وصل إلى الرجال والنساء الذين كانوا يتعايشون مع بعض من دون اتصال جنسي أو فكرة عن الحمل والولادة. وحين سألهم الثعبان عما إذا كان لديهم أطفال وردوا عليهم بالنفي، طلب منهم الاصفاف أزواجاً ووجوههم إلى بعض، ثم رش على بطونهم الماء مع قراءة طقوسية، طالباً منهم العودة إلى منازلهم وممارسة عملية المضاجعة. وهكذا تعلم هؤلاء طريقة الجماع وإنجاب الأطفال الأوائل في الكون. ينظر أحمد محمود القاسم، مفهوم الجنس المقدّس والأديان، موقع  الحوار المتمدن، العدد: 2216 - 2008 / 3 / 10.

 ***********************************

* نُشرت هذه الدراسة في كتاب (الضوء والفراشة: مقاربات نصيّة لنماذج من الشعر العربي) منشورات دائرة الثقافة والإعلام الشارقة، سلسلة دراسات نقدية، د. صالح هويدي،  الإمارات 2015 ص 67 - 86

* كما نُشرت في  جريدة العالم البغدادية بتاريخ 25 آب – أغسطس 2014

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home