النون: أيّ سرّ ينطوي تحت هلالك ونقطتك؟

 

 

وديع العبيدي

 

 

 

واأسفاه

صرتُ أتنقلُ من حرفٍ إلى حرف

ومن نارٍ إلى نار!

 

 ثمة علاقة وطيدة تجمع بين الشعر والتاريخ، كلاهما يمتح من الواقع ويسعى إلى الحقيقة. كلاهما ينقسم إلى ذاتي وشخصي وموضوعي. وكلاهما قابل للاستدلال والتأويل والخلاف. والنص الشعري بغض النظر عن جودته وخصائصه الفنية هو نص تأريخي ووثيقة تعبر عن بصمات بيئة وحدث ما. وكما المؤرخ يقسم التاريخ إلى مراحل وفق معيار معين ، يلجأ الشاعر لتقسيم مسيرته الذاتية وتجربته الأدبية إلى مراحل، ونعبر عن كلّ مرحلة بكتاب أو قصيدة. لا جرم أن الشعراء ليسوا كلهم على نفس الدرجة في الحسّ التاريخي أو الانشغال به. وربما كان منهم من يلغي التاريخ ويعتمد أساليب فنية وذهنية معينة للإجهاز عليه. في هذا الصدد أتوقف عند ظاهرة تداخل الشعري والتاريخي في تجربة الشاعر أديب كمال الدين متخذاً مجموعته (نون) سبيلاً إليه. اتخذ الشاعر دالة الحرف دالة لتجربته، وجعل كل حرف صوتاً أو تعبيراً أو توصيفاً لمرحلة زمكانية محددة. فيتغير لديه الحرف (دالة ودلالة) بين فترة وأخرى. ويمكن استقراء مسيرة الشاعر بحسب ذلك مقسمة إلى خمسة مراحل تكشف كل منها مدى الترابط بين طبيعة الظرف ورمزه الحروفي: أولا:  تضمّ المرحلة الأولى مجموعتي الشاعر[تفاصيل 1976/ ديوان عربي 1981]. وهي إضافة لارتباطها ببدء ظهوره الأدبي، فأنها ترتبط كذلك بحالة الاستقرار النسبي لمناسيب الحياة العراقية. وعلى الصعيد الشخصي يحصل على شهادة الجامعة عام 1976 من كلية الادارة والاقتصاد ويدخل عالم الصحافة. أي أنها مرحلة التأسيس والتأهيل على كافة المستويات، الشعرية والشخصية والعامة. وتمثل نهايتها نهاية المنطق والمعقول والعادي في تاريخ العراق. ثانيا:  تضمّ المرحلة الثانية مجموعتي الشاعر [جيم 1989/ نون 1993] وهي انعكاس لمرحلة الاضطراب واللامعقول بدل الاستقراروالحياة العادية. تمثل هذه المرحلة حالة قطع وتأجيل ثم نفي وتدمير المرحلة السابقة. في هذه المرحلة تتبلور رؤية الشاعر الحروفية كمفتاح أو طلّسم يتيح له تحقيق انتقالات واستحالات داخل النص دون الوقوع تحت سلطة الرقيب، وسوف نتوقف عند آثار هذه المرحلة في غضون المراجعة. فمجموعة (جيم) دالة على(جثة) وعلى (جندي) الذي هو الآخر دالة الحرب وآلتها وضحيتها. تلك الحرب التي قرضت ما ينيف على مليون انسان، مليون من القتلى والجرحى والمعوقين ، وملايين الأرامل والأيتام والمشردين، وأكثر منه حالة الدمار النفسي والمادي التي فتحت الحياة العراقية على السريالية واللامعقول. أما المجموعة الثانية فهي(نون). ثالثا: تضمّ المرحلة الثالثة مجموعتي الشاعر [أخبار المعنى 1996/ النقطة 1999] وهي إن انسجمت مع مرحلة اللامعقول السابقة لها، فأنها تمثل تصعيداً خطراً، بدل الانفراج والهدنة التي تعقب الحروب الطويلة عادة. انها رصاصة الرحمة التي تخلّص الجريح أو العليل من ألمه. الاضطراب يتحوّل إلى فوضى، والحرب الاقليمية إلى كارثة إنسانية وعقوبات دولية. فقد كان الحصار تجربة صعبة وغير مسبوقة لا قبل للانسان العراقي بها، مسخت أنماط الحياة وقلبت سياقاتها كما أنها جرّدت وجود الدولة من أي معنى حقيقي غير ماكنة لتفريخ الارهاب وزيادة المآسي والكوارث فكان انعكاس كل ذلك على أنماط  الفكر والحسّ والسلوك. على مدى ثلاثة عشر عاماً أنبت الحصار عدداً كبيراً من الأمراض والوفيات والحياة دون الإنسانية، ولكن إلى جانب ذلك، حقول متنوعة من الأسئلة الملغزة لم تستطع ماكنة الدكتاتورية منعها تماماً فظهرت بصيغ وتساؤلات باطنية أو غير مباشرة، ويتجلّى هذا في دلالة العنوان (أخبار المعنى) المبني على استعارات مبهمة، وصولاً إلى (النقطة) التي تفترض اكتمال المعنى أو الحصول على أجوبة (وهمية/ غيبية) من حيث لم يكن شيء. وإذا اعتبرنا النون نقطة نهاية لمرحلة الجيم (الجثة، الجندي) فهذه النقطة المعلنة هي بيان وداع الشاعر لأرض الكوارث والبابليات والعاشوراء إلى (حاء) حياة وحرية. رابعا:  تضم هذه المرحلة الانتقالية (البينية) مجموعة [حاء/2002]. وهي القصائد المكتوبة في الأردن أو تحت التأثيرات المتعلقة بها. وما تمثله من حساسية بالغة على الصعد النفسية والسياسية والتراثية. والحاء دالة تنفتح على دلالات لا نهاية لها مستمدة من التاريخ والتراث والواقع والذات مرجعيات ساندة لها. وتبقى هذه الحاء محط استلهام واستدلال واجتهاد القارئ والناقد يجد فيها كل منهم ما يبحث عنه. لكن الدلالة الرئيسة في هذه المرحلة هي تحرر الشاعر من وصاية القطيع وحريته في اتخاذ قرار حياته ومصيره بمحض إرادته وقناعته الخاصة، فهو منذئذ، غير مشمول بتلبية القرارات التي تصدر هناك. خامسا: مرحلة المنفى الأسترالي وما تمخّض عنها منذ وصول الشاعر إليها. وترتبط بها جملة قصائد متفاوتة في التقنية والتوجّه والانفعال، تكاملت بصدور مجموعته (ماقبل الحرف.. مابعد النقطة) 2006.

 

النون : أيّ سرّ في هلالكِ وهلاكك ؟

**************************

تمثل النون الدالة الأكثر خصوبة في حروفية أديب كمال الدين لقدرتها على التشتت والتشظي والانفجار وتكوين مجرات جديدة. ومثلما تعددت دوال عشتار وعشتروت وأفروديت وفينوس في الثقافات القديمة بين الحبّ والخصب والحرب والجمال. تنفتح دالة النون على متوالية من دوال. لذلك تكتسب هذه المجموعة مستويات غير منتهية من معاني ودلالات. تتوزع الذاتي في تجربته الحسية اليومية والعام أو الموضوعي في العلاقات العامة والعموم أو المجرد في التجربة الذهنية والوجودية.

 

إشكالية المرأة في القصيدة

****************

 قررتُ أن أهجوك / فمدحتُ نفسي.  

أديب كمال الدين

أعظم ما يمنحه الحبّ/ هو البغض. 

سعدي يوسف

المرأة هي منفى الرجل الأول، منها يولد، ويقضي كلّ حياته يحلم ويشتاق بالعودة إليها. يعتقد الرجل أن المرأة هي الفردوس الذي أخرج منه آدم، ولذلك لا يدّخر وسيلة للتعبير عن حاجته الأزلية ومرضه المزمن بها. لكن المرأة التي تآمرت مع الأفعى للإيقاع بآدم، تصدر عن نرجسية عالية ونزعة عارمة للسيطرة والتدمير. شعور المرأة بكونها خالقة للحياة يحفّز نزعتها الساديّة لتأكيد هيمنتها وسلطتها على الإنسان الذي يتمرد عليها أو يسعى لترويضها في طاعته ، والحدّ من طاقتها التدميرية غير المحدودة. ولم يستطع الشرق الوصول إلى حلّ يؤسس لعلاقة متكافئة بين الجنسين ، كما في الغرب. فبقي كابوس المرأة يطارد ذاكرة الرجل، وترسخت صورة الحبيبة القاتلة [عبد الواحد المحامدي في (أشعار الجرح الخامس)]، واقترن الحبّ بالبغض [سعدي يوسف]، والغزل بالشتيمة [صلاح نيازي في (وهم الأسماء)] والولادة بالموت [عبد الوهاب البياتي]. اقتران صورة المرأة والفردوس في المخيلاتية الشرقية انعكس على أرض الواقع بصور أخرى مثل ، المرأة هي الحياة. ولا حياة بلا امرأة. وبالتالي، فالمرأة هي مصدر السعادة، وهي مصدر الشقاء. المرأة الجيدة هي التي تخلق حياة سعيدة ترفل فيها العائلة بالحبّ والنجاح ، والمرأة المدمرة هي التي تجعل بيت العائلة يفور بأسباب الشقاء والخيبة والبغضاء ، ومعادل ذلك هو الحظ. الرجل المحظوظ يؤتى امرأة صالحة. وقد أشار القرآن الكريم بما يدل على ان الطيبات للطيبين والخبيثات للخبيثين. والعودة للمرأة في صورة منفى/ ملجأ، حبيبة/ قاتلة من الصور الشائعة في الأدب العربي، سيما في مواجهة الكوارث أو القهر والكبت المثلث (سياسي/ ديني/اجتماعي) وشواهد ذلك لا تحصى سيما في الأدب الستيني عامة. وبالتالي فهو يحاكي الدلالة الذاتية لصورة نون (النسوة)، أحد مستويات الخطاب في القصيدة.أما الدلالة الأخرى فهي ترجمة شهقات سجين ينوء تحت سلطة قاهرة، لا يملك إزاءها غير الصراخ والاستهجان تارة والتوسّل تارة أخرى. فالنون/الامبراطورة ليست امرأة تقليدية أو ما بعد حداثية اكتشفها الشاعر في مراهقة متأخرة ، انما هي القدرالذي يقاتل الشاعر للانفلات من قبضته أو الانتصار عليه. وهي ترجمة للصراعات الحادة التي تكتوي بها ذات الشاعر، وهي صراعات مركبة متعددة المستويات والاتجاهات ، تدفعه للبحث باستمرار عن صيغ وأساليب جديدة لترجمتها والفكاك منها. تمثل القصيدة فيها وثيقة تحرير ذات الشاعر من هم اللحظة الوجودية. وقد اتخذ المرأة دالة ثانية، حقيقة أو قناعاً، أو كلاهما، مشتقة أو مرتبطة بالنون. فالمرأة لدى الشاعر هي الصوت الآخر الذي يقاسمه خطاب القصيدة غالباً، يضعها في متناول يده، يصوغها كما يشاء، يبادلها الدور، والتوترات النفسية ودراما الشعر.كما أنها تمثل جانباً من لعبة المراوغة التي اعتاد الشاعر مراودتها لتضليل القارئ والتنفيس أو الكناية أو القناع. وهي في النونيات، كما اتضح، امرأة زرقاء: [تحبينني بالسنسكريتية/ وأحبك بالعربية] وهي إمبراطورة، يؤمن الشاعر أن عرشها يقوم على فراغ(!):

[الفراغ سيد العرش ونحن عبيده]. والفراغ، المرتبط بصورة الكأس/ النون، وبالاستعارة، الوهم/ الخرافة / الضلالة. ونتيجة المواجهة غير المتكافئة بين الطرفين يلجأ الشاعر للسخرية المرّة من  إمبراطورة النص، وما يعتقده فضحاً لتفاهة الأسس التي يقوم عليها عرشها:

ليس للعبتكِ نهاية

وليس لخيالكِ بدء

وأظن أنك ستنهين عبثكِ العظيم

بأن تطلقي عليَّ الرصاص

وأنا أضحك من الضحك .

*

أيتها الإمبراطورة ..

أنا الصعلوك الذي سيقود كلّ لغات الأرض

ليتآمرعلى عرشكِ ويسرق كنوزه

وينسفه

ثم بهدوء يجلس بوّاباً

يحرسُ ممراتِ العرشِ من العابثين!

 

 

 

خطاب المواجهة

***************

مصيبتي انني ألتقي بقاتلتي كلّ يوم

أتبسّم لها

مفتوناً بجمالها الغامض

وأعطيها السكين

لتذبحني من الوريد الى الوريد

دون أن أتفوّه بكلمةٍ واحدة .

  تقوم فكرة القصيدة على مواجهة غير متكافئة بين قوتين متقابلتين [انسياقاً مع خطاب الغزل الاستعاري التقليدي بين عاشق فقير وأنثى غنية متسلطة] يسميها (إمبراطورة). ولكن الشاعر، الذي يمسك بصولجان القصيدة، مهما تردى في حالة الضعف والخذلان والموت.. يبقى هو قبطان الرحلة الموجه لدفة المواجهة/ الصراع/ الحياة وذلك من موقع استعاري آخر، الشاعر الذي يخلق [القصيدة] " ألفي الذي كتب كلّ شيء‍‍‍‌‍!". فالصراع/ المواجهة يدوران أساساً داخل [قصيدة/ ملحمة] يكتبها الشاعر وليس الملك أو الامبراطور، الواقع تحت رحمة الشاعر ومصيدة كلماته، وبالتالي، فما يبدو مهزوماً وخاسراً أبدياً ليس الإنسان وانما القوة الغاشمة بمختلف تجلياتها، وهذا هو سرّ الشاعر/ الحقيقة/ جلجامش، المتنبي وليس سيف الدولة، الأفشين أو الإمبراطورة . ولا يتردد الشاعر في الانقلاب من قمة الضعف إلى قمة القوة ، كما في مطلع القصيدة الحافل بالنرجسية المبالغة وداء العظمة باعتباره العارف بكلّ شيء، العارف بحقيقة الكذبة/ الوهم/ الفراغ/ العبث:

لكلّ مَن لا يفهم في الحرف أقول :

النون شيء عظيم

والنون شيء صعب المنال

انه من بقايا حبيبتي الإمبراطورة

ومن بقايا ذاكرتي التي نسيتها ذات مرّة

في حادث نونيّ عارٍ تماما ًعن الحقيقة

ومقلوب ، حقا ً، عن لبّ الحقيقة

وهكذا اتضح لكم كلّ شيء

فلا تسألوا ، بعدها، في بلاهة عظيمة

عن معنى النون !

 فالضعف تحول إلى قوة، والعدو إلى حبيبة، والراهن إلى ذاكرة ماضوية. ثم سرعان ما ضاق الشاعر باللعبة من أساسها ليوهمنا أن كلّ شيء (عار عن الحقيقة ومقلوب!) ملغياً المعنى كله بطريقة مفذلكة عبر اتهام القارئ بالبلاهة (فلا تسألوا بعدها في بلاهة عظيمة عن معنى النون!) مما يمثل قمة التوتر النفسي المنفتح على حالة واضحة متداخلة ومتشابكة من الحيرة والارتباك الذهني التي تكتنف جوّ القصيدة. وتتكشف بعدئذ ثنائية المعادلة وتتضح جدلية الأشياء والمفاهيم، قوة مبنية على خوف، وهيمنة رهينة بالخضوع :

  أرجوكِ

أسرعي في قتلي ..

فنزفُ الحروف يوميا

يصيبُ قلبي بفقر الدم .

 فالامبراطورة في القصيدة محارِبة تتغذى على الدم لتستمر في الحياة: [تقتل/ تذبح/ تطلق الرصاص]. أما الشاعر فيبقى أرفع من المستوى الوحشي في التعامل ، ويرتضي الموت - فلسفياً- على المعاملة بالمثل، لذلك كانت أداته الأولى والأخيرة – حرفه- دالة العقل والفكر والحضارة. وكما كانت الدمعة في البدء حاضرة في استقطار الحرف/ النون السماوية، تعود في نهاية المواجهة بهدوء صوفي عميق: [دمعتي حجر]، [دمعتي اله]. وتنتهي المواجهة بهذه الكلمات، المعبرة عن هدوء وتوازن نفسي عميق دون الشعور باليأس أو الهزيمة، حاكماً عليها باللعنة (سحقا) والضياع، ليودع بعدها ملحمة (النون) بلا رجعة ولو إلى حين :

سحقاً لكِ أيتها الضائعة

سحقاً لنونك

سحقاً لنقطتك .

ويمكن تلخيص جدلية المواجهة كالتالي :

أولا: إنّ الشاعر هو خالق [القصيدة]، خالق [الإمبراطورة] بخضوعه أو وقوعه في أسرها، خالق [قوتها وجبروتها] بضعفه، خالق [الوهم] من خلال إيمانه أو تصديقه له. ثانيا: لا يني الشاعر يبين حالة عدم تكافؤ معادلة المواجهة بين الطرفين [إمبراطورة/ حارس] والمحسومة راهنياً وظاهرياً لـ(هـ)ـا، الطرف المقابل، وتاريخياً ومنطقياً للشاعر/ الإنسان. ثالثا:  يتأرجح موقف الشاعر/ الإنسان بين ترويض [الإمبراطورة] وممارسة دور العاشق تارة وعندما يحتدّ به اليأس إزاء غرورها وعجرفتها يقوم بتدمير و(نسف) كل شيء، من حبها وناطحات سحابها ورمز جبروتها، رافضاً قبول ضعفه المفروض عليه. رابعاً: لا يستمرّ الشاعر في ممارسة دور العاشق والمتمرد وانما يتخذ مع حركة الصراع/ المواجهة/ القصيدة للتبلور في صيغة القوة الكامنة والحقيقية [نونكِ سحر، وألفي زلزال] فالزلزال قوة وجبروت ودمار قائم على الحركة والكبت والاحتراق والانفجار:

 حبّكِ ناطحة سحاب

حلمتُ بها

وخططتُ لها وبنيتها طابوقة طابوقة

وحين أكتمل البناء العظيم

نسفتـُها من الأعماق .

 

بين القصيدة والملحمة والدراما

*********************

 لقد تحوّلتْ نقطتكِ إلى نشيد

 وهلالكِ إلى ملحمة

 ونونكِ إلى مسرحية كبرى.

 ثمة عرى وثيقة تربط النص الشعري (نون) بأنساق كتابية أخرى كالملحمة - تاريخيا- وخصاص الدراما.  فقد جاءت القصيدة على هيأة مقاطع، تسهّل عملية الانتقالات النفسية والفكرية وتغير أساليب الخطاب باستمرار داخل النص، مما لو جاءت في صيغة نص مستمر طويل دون استراحات أو فواصل، ويمكن منح المقاطع صفة - المشاهد- المتتالية في عرض مسرحي أو فيديوكليب، لتحقيق معنى معين. أي أن المقطع/ المشهد لا يتضمن معنى كاملاً، وانما جزءاً منه، على اعتبار أن  المقاطع المختلفة تؤدي بقسطها وصولاً لتحقيق المعنى الكلي في ذهن/ القارئ/ المشاهد. كما نجد غلبة اسلوب الحوار على لغة القصيدة ، بين متكلم ومخاطب. مما يجسد حالة صراع ونمو درامي داخل النص. وهو وإن ورد في إطار غزلي تقليدي فأن أيديولوجيا الخطاب وتمحوره يحافظ على نسقه ، وليس من العسير خلع قناع المرأة لاكتشاف شخصية الجنرال داخلها، في موازاة شخصية (الجندي)/ العاشق. كما لا تخفى دلالات تأنيث الجنرال واستخدام مفردتي (ملكة/ إمبراطورة) في النص. يضاف إلى ذلك النفس الملحمي/ الشعري الطويل، مما يعكس طول العملية التي استغرقها اكتمال المعنى في النص . وليس الاقتراب من/ أو الاقتران بالملحمة والدراما هنا حالة مستغربة، فالشعر العراقي الراهن خلال العقود الثلاثة الماضية هو شعر (الجندي) ، والنص الملحمي هو الصيغة التقليدية لترجمة صراع الانسان مع الآلهة (المزيّفة) وقوى الطبيعة. ولما كانت صورة الصراع  وأدواته وتقنياته قد تطورت عبر القرون، فإنّ نصّ (الجندي) هو الملحمة العصرية التي تصور صراع الانسان مع النظام السياسي الذي يسلب الإنسان خصائصه الانسانية ويحوّله إلى عبد لرغائبه وشطحاته، كما كانت الآلهة القديمة تمسخ الإنسان وتحيله إلى عبد وقربان يقدم على مذابحها لإشباع جوعها الأبدي وحصولها على الخلود عبر اقتناص حيوات الآخرين.

 

*****************************************

 نُشرت في مجلة المهاجر الالكترونية العدد 13 -  كانون الأول 2005

و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 313

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home