أعباء القصيدة في أشعار أديب كمال الدين: ما للشاعر وما عليه

 

 

 

 

د. صالح الرزوق

 

 

   من بین الشبھات التي تدور حول مجمل أعمال الشاعر العراقي أدیب كمال الدین أنه بدأ مع عالم الواقع وانتھى به الأمر إلى دوائر وھموم الذات، وأنه كان غریبا في كلتا المرحلتین، فقد تعامل مع الأشیاء (وھي نثر العالم في الخطاب الشعري) 1، ثم مع الصورة والانطباعات التي تتركھا في الذھن. وھذا یعني ضمنا أنه استعمل مفردات من غبار وعبارات من لدائن، وبتعبیر الشاعر نفسه كان یتحرك (بخطوات من سكون) كما ورد في (دیوان الأشیاء) 2 .

   وعلى سبيل التوضیح: لم یكن الشاعر يدعم بيت الشعر القصير (في القصائد المبكرة) والمجزأ الذي يحتمل عددا لا نھائیا من المترادفات والطباق وغیرھما من المحسنات (في أخبار المعنى وما بعد) بما یسمیه النقاد العاطفة، الوجدان، الضمیر، أو بیت نار الحساسیة الشعریة الأصیلة.

   ولكن برأيي لا تخلو قصيدة لأديب كمال الدين من هذه البذرة الوجدانیة التي تحاصر العقل بعدد من المعاني، حتى لا تترك أمام العین من فرصة للإبصار، لیس لأنھا عین ضریرة، ولكن لأن عالم الأشیاء الصغير والضیق دائما یتسع باشتقاقات لیس لھا مدلول دنیوي، ولیست ھي بعوز لرصید من دیالكتیك الواقع، وإنما ھي في حالة صعود أو معراج من (مقام أدنى) وھو (المدلول) إلى مقام أعلى (وھو المعنى) 3. وبھذا الخصوص تتحول القصیدة إلى أنشودة مفتوحة على الطبیعة والحیاة من طرف، وعلى الذات من طرف آخر.

   وھنا، وھذا ھو الغریب في الأمر، نحن باستمرار نتابع المعاني وھي تعبر بالاتجاھین مثل تیار متناوب، یضيء على التزامن :

1 - الأساطیر الطبیعیة لبلاد ما بین النھرین، بكل ما تنطوي علیه من حزن وموت وفناء، ثم جفاف كوني، ھو في حالة حرب أزلیة مع مفھومنا للخصوبة وللعماء المائي وللفیضان.

2 - وأساطیر الذات، وربما لنكون أشد تواضعا، التجارب الذاتیة والتي لھا طابع شمولي وجدلي، وتوقیع ذات دامیة منھمكة في نضال عسیر، كما أنھا تمر في مرحلة اشتباك مع عناصرھا الأولى، النفس والأفكار والجسد.

لقد توزعت هذه التجربة الشعریة الطویلة على هموم اجتماعية ولغوية مريضة في مستوى أول، ثم ھموم اجتماعیة فنية تعبر عن نفسھا بشكل منفصل عن الواقع، ومتمفصل مع صوره أو تعبیراته. ولقد انقسمت إلى تجربة عشق فوضوي للحیاة، ثم تجربة رفض أودیبي ومنھجي لھا، وربما رفض عصابي ومأزوم، وناره تحت الرماد، حیث حریق اللغة والعلاقات مع أخطاء الذاكرة ومع الأواصر البارة بشروطھا ومیثاقھا. وهي تحتل بالمنطق مرتبة رمز معاصر يقود حتما إلى الموت.

   أما بالنسبة للتصوف الذي يوظف الشاعر مفرداته الخاصة في أكثر من مناسبة، فھو یبدو لي أقرب إلى أنه إشاعة، أو وجبة محضرة في مطبخ مختلف. ولماذا لا نتحلى بالجرأة ونقول : إنھا نفس الظاھرة التي یعزوھا بوفون إلى الأسلوب ، باعتبار أن الرجل ھو أسلوبه، بمعنى أنه تكنیكه.

   لقد كانت الغاشیة الصوفیة، وھي التي تتحمل أعباء معنى أھل الباطن وأھل الظاھر أو عالم الثبوت وعالم الغیب، متنحیة من مجمل الصورة، وكان یعوزھا في ھذه الحالة ما یزید على نصف العناصر التالیة : 1 - شدة الوجد، 2 - تجربة الاتحاد، 3 - الدخول في غیبوبة السكر، 4 - صوت الھاتف الإلھي، 5 - الاستفاضة بالكلام بلا قیود (4). فالمتصوف، في النهاية، ھو مشروع لنبي صغیر لم ترسلھ إلینا السماء. وهو يجمع في بنيته بين أساليب الأنتلجنسيا وواقع الإنقلاب الشعبوي. وكان روح ميثاقه مع الدين ينقض التعبير السنيّ للسلطة، وربما لهذا السبب دفع الثمن مثل أي مشروع ثوري مولود قبل الأوان (والعبارة الأخيرة للمرحوم فائق المحمد). لقد كان التصوف يضغط لتعديل التصور الإسلامي الأصولي للحياة والطقوس، فالطريق لديه كما ذكر الحلاج أن " تدع الخليقة لتكون أنت هو، وهو أنت من حيث الحقيقة ". وبهذا الصدد يقول هادي العلوي : إنهم ألغوا الوسائط واتصلوا بالسماء رأسًا، ثم حذفوا مبدأ خاتم الأنبياء الذي اعتبره ابن سبعين تضييقا للواسع (5). وحتى اللحظة الراهنة تتبنى الطائفة الأحمدية في الكويت هذه الآراء.

   غير أن أديب كمال الدين اعتمد على أسلوب المناجاة ولغة التنكيل بالوجه المأساوي والجاحد للبشرية. وحتى لو أنه أقل راديكالية من معلم الأجيال ورائد الحداثة الشاعر عبد الوهاب البياتي، كانت أظافره، لم لا نقول سكاكينه، تستهدف الصيغة الفنية وأساليب الخطاب معا، لينعي إلينا طبيعة العلاقات االغامضة بين الوجه والقناع، ثم بين الوجدان الرومنسي الرقيق وخطاب الثورة الدامي.

   ومن هنا كان اهتمامه بصعود الحرف (مجد الحروف كما ورد في قصيدة البحر منفردا – ص 16)، ثم سقوطه المدوي (وعودته إلى التراب الذي تكوّن منه، كما يقول في قصيدة المتبرقع – ص 17) 6. بعكس المتصوفة الذين اعتبروه ستارا يحجب المعنى. فقد أكد ابن عربي في فتوحاته المكية أن الحروف تعبير عن الخلق والخالق في نفس اللحظة، وهي تنقسم بمصادرها إلى منشئين: مائي وناري، وباتحادهما ينشأ الهواء الذي يدل على النفس، وعلى الحياة الحسية التي تحرك كل شيء. وهي أيضا جامعة للوجود المطلق الذي لا قيود له. ولهذا السبب كانت حروف المعاجم تسمى كذلك. لقد عجمت على الناظر إليها معناها. (انظر الجزء الأول) 7.

ومما لا شك فيه أن هناك أكثر من علاقة جدلية بين اللغة والأشياء. إنما ليس على النحو المبالغ فيه كما لدى زكي الأرسوزي، الذي يعتقد أن لكل حرف معنى يرتبط بمصدره 8، ولكن حسب مبدأ ياكوبسون: إن الطريق في الحروف يمتد من الصوت إلى المعنى 9.

وبهذه المناسبة يودع أديب كمال الدين في مناجاته مع الحروف دموعا وآهات حرّى، فيقول :

 أعرف يا صديقي الحرف، أنك ستموت الآن . 10.

ثم يخلع عليه هذه المواصفات القصوى: الأنقى من الوردة، الطيب، موجة أقمار الطفولة، الصغير والجميل، 11.

وأغلب الظن أن الشاعر كان يوظف الحروف بطريقتين:

الطريقة الدائرية: صوت شفوي في البداية ثم حلقي في الوسط وشفوي في النهاية، (على سبيل المثال: كهيعص)، وهذا يتطابق مع معنى الدائرة كشكل هندسي مغلق ومتأزم، ومجال ثقافي محدود بالإدراك، وفضاء له نشاط حدسي يتوازى مع تصميم القبة السماوية.

والطريقة الرموزية العامة التي يعلن عنها الشاعر بصراحة حين يقول: إن نقطة أشعاره (مطر)، وحروفها (بحر وحب) – ص 53 .

الشيء بالشيء يذكر.

وردت مفردة نقطة في مجموعة (أربعون قصيدة عن الحرف) 18 مرة ربما للإشارة إلى العلاقة بين محيط الدائرة (التجربة أو الموضوع أو الصورة) ومركزها (الإنسان أو الذات أو النفس الكلية)، وكأنه ينقل لنا رسالة ابن عربي: إن الإنسان هو روح الله، وله رمز نقطة مطلقة لا تقيدها الدوائر. وإن أصل هذه الفكرة يعود إلى (المذهب الذري) الذي يرادف عند علماء المسلمين معنى (الجوهر الفرد) والكثافة (انعدام الفراغ في الداخل). وكان وراءها تخيلات نصف علمية لها ضرورات إيمانية، لتبجيل الخالق، وليس ضرورات خطاب اجتماعي تحليلي متعقل، لذلك غابت عنها (الصفات) لا سيما أن الله ليس كمثله شيء، ولم تتدرج من المحسوس إلى المعقول، وخاطرت بالمنهج في طريق الخيال والصورة، ثم المجازات والاستعارات (كما ذكر حسن مروة في معرض حديثه عن المعتزلة - انظر النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، ج 1، 1980، ص 728 – 729).

بالمقابل ورد حرف الباء (6) مرات، والحاء (4) مرات. وهما حرفان خافتان (شفوي ولساني)، ولهما معنى عاطفي مضمونه (حب)، أصغر مفردة ذات معنى في اللغة العربية (12). على أية حال لم يكن الشاعر مهتما بحرف دون آخر. وقد توزع مخطط حروفه في مجموعة (أربعون قصيدة) على النحو التالي: الباء (6) مرات، الحاء (4)، الدال (4)، الألف (3)، الواو (2)، الخاء (2)، الراء (1)، السين (1)، النون (1)، الميم (1)، التاء (1)، الغين (1)، الهمزة (1). وكما هو واضح إن الفونيمات القريبة في نطقها من مقدمة الفم وذروة اللسان تبلغ 17 مرة، مقابل 11 تكرارا لفونيمات موزعة على ما تبقى من مناطق. وهذا دليل آخر على أن القصائد ليست معدة لاحتفالات جماهيرية ولا لأغراض التحميس، ولكنها مكتوبة بوحي من الوجدان والتأمل الذاتي الرقيق والشفاف.

 

لقد لعبت الحروف في قصائد أديب كمال الدين دور الخلايا النائمة، فاستحق عليها لقب أمير الحروف (أو الحروفي). إنها مشروعه الذي ينطوي على المعاني المؤجلة والمفردات الغائبة. وهي الصورة المثالية والهوية الناقصة التي يبحث عن المتبقي منها، وعن نصفها الآخر، ضمنا اكتمالها، ولكن أبدا ليس جوهره الواحد.

لقد كانت الحروف لدى المتصوفة هي سرير بروكست الذي تختنق فيه الرسالة. ولكنها في شعر أديب كمال الدين هي نقطة الإرتكاز لتكنيك التوسع، أو فنية الخروج والتبصر. فهو بعد أن تنبأ للحرف بالاحتضار الوشيك، استدرك وقال:

 

انظرْ هذه شمسنا لم تزلْ تشرق

رغم أنها بحجم حبّة قمح

لا تستسلمْ

تمسكْ بحلمكَ وإنْ كان خفيفاً كالغبار

أرجوك

ال... ن ... ج ... دة ! – ص 9 (13).

وهنا أجد تناصا غير مباشر مع يانيس ريتسوس مؤلف (الأنشودة الرومية) الذي يقول فيما يشبه ترتيلا لجوقة مستترة :

تلك الأشجار لا ترتاح تحت سماء أضيق،

تلك الحجارة لا ترتاح تحت الخطوات الغريبة،

تلك الوجوه لا ترتاح إلا للحق – ص 9 ( 14).

 

**

من ناحية أخرى، استوعب أديب كمال أديب الدين دروس المحنة الخاصة جيدا، والتزم بقوانين الاغتراب، واحتفظ بفاصلة واسعة عن صور هذه المرحلة العصيبة، ولا سيما الاجتياح الثقافي. ثم إنه التزم بمفردات ليس لها وجود على خشبة المسرح من واقع هو أحد عناصره ومكوناته. أقصد مفردات حرب الخليج الأولى والثانية، التي ضربت رقما قياسيا في عدد الكلمات النارية، مثل: النابالم، القذيفة، الانفجار، ألسنة اللهب، وسوى ذلك، وسواه. بكلمة مختصرة: كان يكتوي بـ (وجع البعاد) وليس بالشوق للحضرة الإلهية. وكانت أسماء العلم لديه تتوارى خلف ضمائر غير مباشرة (تحديدا: أنا وأنت)، وفوق ذلك لم تترك بغداد وأسماء شوارعها ومعالمها الأساسية الأخرى أية علامة واضحة. وكان يكتفي بالإشارة إلى الرموز المنزلية الصغيرة (على طريقة هاشم شفيق في أقمار منزلية)، ثم إلى بعض العلامات الفارقة، ومن أهمها: جلجامش كأصل ملحمي للفاجع الذي نعاني منه، ومدينة سدني التي يتوزع مصيرها بين الشقاء والموت (أو كما يقول الشاعر: التي تركض من الفجر إلى الفجر ... والتي تركض مرة إلى البحر، ومرات إلى الموت – ص 23 – قصيدة قطارات سدني) 15.

وإن هذه االمفاهيم الحزينة والبائسة، الناجمة (غالبا) عن فصل الذات لنفسها عن موضوعها (كما يقول لاكان)، أو للانفصال المريب بين الأفراد ونمط الإنتاج، كانت حاضرة أيضا في مجمل قصائد أديب كمال الدين الذي لخص الأزمة بقوله:

 خرجتُ من الحرب

أجر هزيمتي النكراء. (ص 31 – شجرة الحروف).

 ثم يتابع حتى يقول :

لك المجد يا إلهي

خلقت الموت ليكنسنا في هدوء مريب ( ص 24 – تناص مع الموت) 16.

وكأنه يعيد صياغة ما ورد على لسان سيدوري (أول سيدة رأسمالية في التاريخ المكتوب) حين قالت لجلجامش :

إن الحياة التي تبغي لن تجد

فالآلهة عندما خلقت البشر قدّرت الموت عليهم (17) .

  وهو عندما يلغي الحدود الدلالية بين دوائر الحرب الخاسرة والموت، يفرض على الحاسة الشعرية أعباء ذات – مضمون، وأعباء منطق – صورة، وإلى حد بعيد ضرورات ألم وجودي لا دال عليه بغير ماهيته. وكان هذا يحدو بالشاعر إلى تقديم الدلالة على البنية، وإلى استبدال القصيدة بتقنيات (الإنشاد)، حيث أن الضمير الفني يشتق اللغة من عناصر الطبيعة الحرة المعطاء: الماء والهواء والنار والتراب. وبذلك يتحقق أول تعارض أساسي مع التصوف، أقصد التلازم الطردي بين اتساع الرؤية والعبارة.

إن الدينامو الأساسي في الأناشيد هو العاطفة، وبها يتم إصلاح العلاقة الخاطئة بين الخيال والمحتوى، وهذا يأتي ضمن صلاحيات القطاعات المعرفية، حيث يمكن لهفوات في الترتيب أن تضبط الإيقاع والحركة، وأن تطابق بين االثابت والمتحول. وعلى الرغم من انتماء فن الإنشاد في الشعر إلى الحوار هو، كذلك، خطاب تجزيئي مفتوح على عناصر الطبيعة المقهورة، وليس بمقدوره أن يفرق بين المادة والجوهر، لأن في كل منهما بذورا صامتة .

لقد ارتدى أديب كمال الدين عباءة شكسبير في هذا التردد الواضح بين الأحلام الفابية والواقع القاسي، مثل الشخصيات المصابة بالذهان والتي وصلت إلى مشارف الجنون في هاملت وعطيل وماكبث وغيرها. وإنه يذكرنا أيضا (من الألف إلى الياء) بمحمد الماغوط الذي أتقن فن البكاء، ورفع الستار على أول ميثاق له مع الشعر بمجموعة لها عنوان أسود، ولا تنقصه الدموع، هو (الفرح ليس مهنتي).

لا شك إن الفرح ليس مهنة أديب كمال الدين. وكما ذكر في قصيدة أغنية سوداء القلب – ص 28، إنه يكتب (قصائده كي لا يبكي) 18.

وبفحص ذخيرته من المفردات يتأكد لنا ذلك. فقد وردت لديه (في باقة عشوائية من مجموعته (أربعون قصيدة عن الحرف) مفردات هدامة بمعدل 8 مرات (وهي النار والرياح)، ومفردات شريرة بمعدل 5 مرات (هي الغراب والأفعى)، مقابل 4 مرات لكلمات أصلية وأساسية (هي الأرض والتراب). ولو لا مفردات أخرى خصيبة مشتقة من بقايا التراث التموزي لشعراء الحداثة مثل: النسر، الفجر، الينبوع، وماشابه، لكان المشهد العام قريبا من بيان الحداثة رقم (1) . وهذه إحالة لطبيعته الأوديبية والمأزومة، ثم الدموية والاستفزازية.

وينسحب ذلك على التراكيب، التي لا تستعمل أنا الإنابة (وهي عند المتصوفة مرادف لضمير المتكلم في الحديث القدسي)، وتركز على متوالية من الأفعال المتعدية وحروف النداء وأدوات التسويف ، كما يتبين لنا من الخطاطة التالية :

 

1 – اللازمة أ (حرف تسويف) ← الإخبار (فعل) ← المناداة (اسم) ← اللازمة (حرف تسويف).

2 – اللازمة ب (حرف نفي) ← الإخبار (فعل) ← المناداة (اسم) ← اللازمة جـ (أداة تشبيه) ← اللازمة ب (حرف نفي)، ... إلخ.

وبالاستطراد نستطيع أن نعدّ في نفس المجموعة 5 افتتاحيات فقط بضمير المخاطب، مقابل 18 بضمير الغائب، و17 بضمير المتكلم. وهذه قرينة لا تقبل الشك أنه يتحاور مع نفسه في مونودراما خيالية طويلة، دون الوصول إلى مرحلة التخاطب (بمعنى أن المرسل موجود والمرسل إليه غائب).

**

لطالما كان التفرد والاعتزال والاغتراب من العلامات المريضة التي حملت أوزارها الحداثة في مطلع عهدها . فمحمد الماغوط يقول مرارا :

لا أحد في البيت

لا أحد في الطريق

لا أحد في العالم ( من: الفرح ليس مهنتي).

وأعتقد أنه كان يقف في صف واحد مع علي الجندي الذي يقول أيضا:

لا روح في الشارع إلا أنا (من : الراية المنكسة).

ومنذ مطلع الألفية الثانية قال جبران (نقلا عن ثابت ومتحول أدونيس) : أفضل ما استطيع فعله وأنا وحيد . ج3 – ص 203 .

أنا لا أحد سواي.

هذا، بالضبط، ما يقصده أديب كمال الدين في بكائياته وهي ترثي الحرف، وتشجعه على النهوض في نفس الوقت. لقد كانت لديه قيود منظورة وكوابح منعت القصيدة من التحول إلى شاهد على مرحلة البناء والتطوير. بصراحة : لم تكن الرياح تجري لديه باتجاه المستقبل. وكان تكنيك صوره بفحواه يستند على الأصول المريضة للواقع المتردي، فالشمس ليست لاهبة، ولكنها ليمونة ذابلة وبحجم حبة قمح. لقد ساعد منطق (النظارة السوداء) الشاعر على كتابة نعوة لكل من رموز الحرية في العالم أمثال لوركا والنفري، ولم يساعده على استيعاب (أو توقع) مصير الاستعمار في أمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا وإيران وغيرها، وغيرها ..

وأعتقد أن هذه الظاهرة هي القاسم المشترك لكل أبناء الجيل السادس (الذين باشروا بالكتابة في مجالات الشعر والنثر عام 1960 وما بعد)، وأخص بالذكر منهم غادة السمان مؤلفة (ليل الغرباء)، التي ذرفت دموعها في ثنايا روح ضائعة ومفجوعة ومستلبة . إنهم (جيل القدر) كما يقول المربي الكبير (مطاع صفدي)، وهم أيضا من مهّد للهزيمة وحمل أعباءها على الصعيد الفني والاجتماعي 19.

***

أخیرا، أعتقد أن أدیب كمال الدین شاعر مخلص لتقالید أفراد الجیل الوسیط في العراق (20) . فقد كان یبحث عن صوتھ الخاص والمتفرد وھو یشق طریقه الصعب بین تراث البیاتي، بكل ما یحمله من علامات شكلیة على تصوف موضوعي وغیر عرفاني، ومتأصل برومنسیات الإیدیولوجیا القھریة. ثم تراث السیاب، الابن البار لمدینة البصرة، والذي حمل على ظھره أعباء تحدیث الشعر العربي بالانطلاق من ھموم سیاسیة لھا خلفیات مع وجدان مأزوم ومعصوب، وجدان تموزي مریض یعبر عن المستقبل الداعي لحداثة ترفضھا شروط مجتمعاتھا.

لا شك أن الأجراس، في قصائد أدیب كمال الدین الأخیرة، تقرع. إنھا تعلن الحرب الطاحنة ضد ماضیھا من كل النواحي ..الشكل والمضمون، المفردات والإیقاع، ثم النسق والمعنى. وھذا بحد ذاته نقطة انعطاف تحتاج لمزید من التأمل ومزید من التقدیر.

ھوامش :

1 – انظر ص 11 من كتاب (اخبار الحلاج)، تصنيف علي بن أنجب الساعي الهنداوي. دمشق. دار الطبيعة الجديدة. 1997 .

1 - انظر مقالة مشاریع جدیدة لخزعل الماجدي المنشورة في الطلیعة الأدبیة، نیسان 1979، ص 117 . وفیھا یقول : إن أدیب كمال الدین ینشغل كلیا بعالمه الخاص، بھ والذي یبدو متدفقا كثیر التفاصیل،  إذ سرعان ما تندفع القصیدة عنده إلى استطرادات كاملة....إلخ.

2 - المرجع السابق نفسھ ص 138.

3 – انظر قصیدة موت المعنى لأدیب كمال الدین، صحیفة المثقف الإلكترونیة، الخمیس 1 كانون الثاني، 2009 . وھي منشورة أیضا في مجموعته (أخبار المعنى)، الصادرة عن  دار الشؤون الثقافیة العامة ببغداد عام 1996.

4 – انظر: شطحات الصوفیة لعبدالرحمن بدوي، ص4 . مكتبة النھضة المصریة . 1949

5 – انظر مقدمة هادي العلوي كتاب أخبار الحلاج الصادر في دمشق عن دار الطليعة الجديدة عام 1997 . ص 11 .

6 – ص 16 و17 من مجموعة أربعون قصيدة عن الحرف الصادرة عن دار أزمنة بالأردن عام 2009 .

7 - الفتوحات المكية لابن عربي / ج1 .

8 – انظر زكي الأرسوزي : في فلسفة اللغة العربية / مجلة الشرطة/ عدد 31 / أيار 1968 .

9 – انظر رومان ياكوبسون : محاضرات في الصوت والمعنى. ترجمة حسن ناظم، علي حاكم صالح، منشورات المركز الثقافي العربي في بيروت 1994 .

10 – ص 7 . أربعون قصيدة عن الحرف.

11 – ص7، 9، 15 من أربعون قصيدة  عن الحرف على التوالي، ص 30 من شجرة الحروف.

12 – حركة أعضاء النطق في كلمة حب من الخلف إلى الأمام. ونحن ننطق الحاء برفع اللسان أولا، ثم الباء بإطباق الشفتين.

13 – أربعون قصيدة عن الحرف.

14 - الأنشودة الرومیة لیانیس ریتسوس، ترجمة بشار عباس. دمشق 1989.

15 – مجموعة أربعون قصيدة عن الحرف.

16 – من مجموعة شجرة الحروف الصادرة في الأردن عن دار أزمنة عام 2007 .

17 - ص 79 من ترجمة طه باقر الصادرة في بغداد . مع تعديل طفيف بعد المقارنة مع ترجمة فراس السواح.

18 – مجموعة أربعون قصيدة عن الحرف.

19 – انظر كتابي (المأساة في الأدب) الصادر في دمشق عام 1992، والذي يتحدث عن أثر الهزيمة على شكل ومضمون الكتابة العربية .

20 - كما أرى إن الشعر في العراق، بعد الرواد الكبار، ینقسم إلى جیل مؤسس وفي مقدمتھ یأتي السیاب والبیاتي ونازك الملائكة، ثم أفراد الجیل الأول ومنھم سعدي یوسف وعلي جعفر العلاق وصادق الصائغ، إلخ، وبعد ذلك الجیل الوسیط ومن بینھم سلام كاظم وفاروق یوسف وصاحب خلیل إبراھیم وأسعد الجبوري وكمال سبتي،

•    للمقالة جزء آخر، قيد الإنجاز، يقارن بشكل عام بين معنى الحداثة والنكسة لدى المتصوفة ورواد الشعر الحديث.

يتبع .......

 

أيلول 2009

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home