مملكة أديب كمال الدين "الحروفية":

هوية وبصمة

 

رشا فاضل

 

   لا يُذكر اسم الشاعر أديب كمال الدين إلا وذُكرت معه الحروف التي أصبحت لقبه وبصمته الخاصة في المشهد الشعري العراقي والعربي على حد سواء، ولم يكن ذلك وليد الصدفة ولم يتكرر عشوائياً في منجزه الشعري بل كان مشروعا (حروفياً) جاداً وضعنا أمام تجربة فريدة من نوعها من حيث الوسيلة التعبيرية عن ثيمة النص الشعري الذي يؤول رؤاه من خلال (الحرف) الذي لم يكن وسيلة الوصول إلى الغاية بل كان الوسيلة والغاية معا. وهو اشتغال صعب من الناحية اللغوية والشعرية إذ يغلق الأبواب والنوافذ أمام الشاعر ويحدد أدواته التعبيرية في النص الشعري الذي هو بالأساس نص مفتوح على رؤى مختلفة متشابكة مع الحياة وتفاصيلها يضاف إلى ذلك تماهيه مع بقية أنواع الفنون من تشكيل وموسيقى وغير ذلك، مما يزيد من حاجته إلى استخدام رموز متعددة للوصول إلى الغاية – الثيمة الشعرية، وقد تنازل أديب كمال الدين عن كل مغريات العالم الخارجي عن مملكة الحرف مجازفاً بخياره الوحيد بلا منازع (الحرف)، ليكون سلاحه وأداته وغايته ووسيلته في مجمل، إن لم يكن، في جميع أعماله الشعرية التي تندرج تحت عناوين حروفية مثل (جيم)، (حاء)، (شجرة الحروف)، (أربعون قصيدة عن الحرف)، ودواوين أخرى، فأصبح الحرف ملمحاً مهماً من ملامح منجزه الإبداعي بل أصبح بصمته وهويته ليكون شاعراً حروفياً بامتياز.

ويصرّ الشاعر أديب كمال الدين على المضي في تحدّيه بالتجذيف بالحروف في يمّ الشعر ماضياً في رهانه منتجاً أكثر من 8 إصدارات شعرية مؤثثاً عالمه الخاص بتقنية شعرية قوامها الحرف والنقطة، وما إصداره الأخير (أربعون قصيدة عن الحرف) إلا نتاجاً لهذا الاشتغال على مدى عمر من الشعر إذ إن هذا المشروع (الحروفي) لم يكن وليد قصيدة عابرة أو ديوان بل كان مشروعاً مستنداً على رؤى مستقبلية تجعل من الحرف القاسم المشترك لمجمل دواوين الشاعر وتهيّئه في الوقت ذاته ليكون صالحاً للخوض في غمار تطور الحياة ومفرداتها التي لا تنتهي بالشعر بكل تأكيد، من هنا كان اشتغاله بحرفية و"حروفية" عالية نتلمسها بوضوح في ديوانه الأخير الذي يصرّ فيه على العوم في بحر القصيدة عارياً من كل أسلحته وأدواته إلا الحرف والنقطة، رهانه الأول والأخير.

   وتأتي قراءة هذا الديوان في سياق مكمّل لما سبقه من دواوين للشاعر أديب كمال الدين إذ لا يمكن الإدعاء إنه ديوان منفصل ومستقل، فالحرف هو القاسم المشترك الذي يآلف بين النصوص في مجمل الدواوين والقصائد. ولابد من الإشارة إلى أن وجود الحرف كأداة رئيسية محركة وفاعلة في النص لم يضعفه ولم يسقطه في دائرة التكرار والملل والتوقع ولم يكسر أفق المتلقي وتأويله الذي بقي مفتوحاً على دلالات واسعة بل إن ذلك أظهر تمكّن الشاعر من أدواته الشعرية في الانزياحات والصور الشعرية المبتكرة، ولابد من الإشارة أيضاً إلى انه لم يعد إنتاج نصه وفق طقوس وصور شعرية متكررة بل إن هذا الاشتغال على الحرف دون سواه كان سبباً في تفرّد الشاعر ليس في أسلوبه فحسب بل حتى في قالب القصيدة التي يكتب وإيقاعها الداخلي الذي يُظهر الحرف/ البطل بصور شتى في كل نص، فنجده حيناً ظل الشاعر الذي يتشبث به ويمنحه صوته وحنجرته التي تعبت من الأنين:

 

إلهي،

أحببتكَ أكثر مما أحبّكَ الأنبياءُ والأولياء.

فهم أحبّوك

لأنّكَ أرسلتهم بمعجزاتِ النارِ والنور.

أما أنا فأحببتك

لأنّكَ أوّلي وآخري

وظاهري وباطني،

لأنّكَ سقفي الوحيد الذي يقيني 

من المطرِ والجوعِ والصواعق،

من الوحشةِ وانزلاقِ الأرضِ والذاكرة.

ولأنّكَ الوحيد الذي يستمع

إلى دموعي كلّ ليلة

دون أن يتعب

من أنين حرفي

وتوسّلِ نقطتي.

 

   الحرف هنا وسيلة وغاية فهو الوسيط بين العبد وربه ينقل انكساراته وأنينه وفي الوقت ذاته يشارك فيها كمحور أساسي قائم بالفعل ومتلقيه، ويتكرر ذلك مع اختلاف ثيمة القصيدة التالية ليظهر لنا مهارة الشاعر في الانتقال بأدوار (بطله) متحولاً إلى شخصية مكافئة في حضورها لصوت الشاعر داخل النص:

 

ستموت الآن.

أعرفُ، يا صديقي الحرف، أنكَ ستموت الآن.

لم تعد نقطتكَ الأنقى من ندى الوردة

تتحمّل كلّ هذا العذاب السحريّ

والكمائن وسط الظلام

والوحدة ذات السياط السبعة.

لم تعد، أيّها البسيط مثلي

والضائع مثلي

والساذج مثلي،

تتحمل وحشةَ هذه الرحلة التي لم نهيئْ

لها أيّ شيء

ولم يخبرنا أحد

عن مصائبها التي لا تنتهي.

انتظرنا – أنا وأنتَ – طويلاً سفينةَ نوح.

جاء نوح ومضى!

لوحّنا له طويلاً

بأيدينا

وقمصاننا

وملابسنا

ودموعنا الحرّى.

لوحّنا له بيتمنا الأبديّ

وبضياعنا الأزليّ.

لوحّنا له بطفولتنا العارية

وبشمسنا الصغيرة التي تغيّر طعمها

وأصبحتْ بحجمِ ليمونةٍ ذابلة.

لوحّنا له بكلّ شيء يُرى

وبكلّ شيء لا يُرى.

لم ينتبه الرجلُ إلينا

كان طيّباً ومسالماً

ومهموماً بسفينته وابنه وطيوره.

وكنّا لا نطلب شيئاً سوى النجدة.

النجدة.

 

 

   ولكن القصيدة لا تبقى أسيرة المونولوج الداخلي بين الحرف والشاعر بل تخرج من دائرة هذا الحوار الذي تؤسس عليه بنية شعرية تنطلق منها ثيمة القصيدة المتمثلة بانتظار الخلاص مع إفادة الشاعر من الموروث الديني كجزء مهم من المنظومة الثقافية والمتمثل بسفينة نوح والخلاص المستحيل الذي يأتي ولا يأتي، فيرتمي الحرف على ضفاف اليأس وهو يطلق آخر ما في جعبته من ضوء، لكنه سرعان ما يسترد قيافته وسطوته وسلطته في القصيدة التالية ليأخذ دورا جديداً ومغايراً:

 

المبحر منفرداً

(1)

أيّها الحرف

سيحاربك القرصان الأحمر،

القرصان الذي قوّض العرشَ وسلّمه للرعاع،

لأنّ في قلبكَ موجة لأقمار الطفولة.

وسيحاربك القرصان الأزرق،

القرصان الذي أدخل كلَّ شيء في دوّامة الموت

بعد أن قتل إخوته

وباعَ أبناءه في سوق العبيد،

لأنّ في قلبكَ موجة من شموس.

وسيحاربك القرصان الأصفر:

قرصان المجانين والمخنّثين وآكلي جثث الموتى.

وسيحاربك القرصان الأسود:

قرصان الكَفَرة الفَجَرة.

وسيحاربكَ قرصان الريح

ذاك الذي يغيّر وجهته

كلّما غيّرت الريحُ عنوانها.

(2)

نعم،

ذلك مجدك أيّها الحرف.

فالقراصنةُ كلّهم يجيدون كراهيتك

لأنّكَ اقترحتَ نقطةً للجمالِ والحبّ

وحاولتَ أن تؤسس

- ولو في الخيال-

بحراً جديداً

لا يجيد القراصنةُ الإبحار فيه.

نعم،

ذلك مجدك

أيّها المبحر منفرداً

إلاّ من نقطته: خشبته العارية التي يتقاذفها الموج

إلى أبد الآبدين.

 

  ومنذ العنوان تُفتح أمامنا مغاليق النص، فالذي يُبحر لوحده مستنداً إلى قوة ذاتية تمكّنه من مواجهة مخاطر هذا الإبحار وهذه القوة يمتلكها الحرف بالتأكيد حينما يقف بوجه السلطة ويرفض أن يكون صدى لها بل يأخذ موقف الند الذي يجبر السلطة على ملاحقاته ومطاردته بكل ما أوتيت من نفوذ وفي ذلك ترميز وإشارة للكتاّب والشعراء الذين لم يحوّلوا قصائدهم ونصوصهم إلى أداة يتقربون فيها للسلطة أو يتاجروا بالحرف على حساب الشعر وصدقه.

   يصرّ الشاعر في هذه المجموعة أن يستمر في عملية استبطانه للحرف من خلال تداعيات كثيرة وتضادات، فنجده بعد تمجيد الحرف الذي لا يذعن للسلطة واغراءاتها ويصرّ على ركوب موجة التحدي والمواجهة نجده في نص آخر ينحو منحى مغايراً فيتخذ الشاعر دور الراوي العليم ليصف الحرف وهو يبيع نفسه في سوق السلطة:

 

حين أتوا به من الصحراءِ إلى الملك

أُعجِبَ به الملكُ جدّاً
إذ لم يرَ قرداً

يرقص من قبل

بهذه الخفّة

وهذا الاحتراف!

ولذا أصبح تسلية الملك الأولى

صباحاً ومساءً

مساءً وصباحاً

بل صار الملكُ يصحبه

ليقدّم رقصته

أمام زوجاته البدينات

أو ضيوفه الإمّعات.

 

   وبين حاء الحب والحرب تبرز ثيمةُ الموت التي تتكرر في أكثر من نص، ولعل ما يميزها هنا هو زاوية الحدث الشعري التي يؤسس عليها الشاعر نصه فنجد تحول الحروف إلى كائنات حميمية له تخاف عليه وتستشعر أحزانه كأنها أم رؤوم:

 

حاء  باء

حينما متّ

لم يشأ أحدٌ أن يخبر الحروف

بالنبأ الأليم

عدا الحاء الذي أعلمه قلبُه بالنبأ

والباء الذي خَطَرَ له خاطرٌ في المنام

فأصرّا أن يرافقاني إلى مثواي الأبدي

في أقصى قارّاتِ الماءِ والمساء

باكيين

مذهولين

كمركبِ لاجئين

يغرقُ في بحرِ الظلمات.

نعم،

فالحاءُ رفيقُ طفولتي المُحنّطة

بالبردِ والحرمان

وشبابي الذي يشبهُ جَمَلاً تائهاً

في الصحراء.

والباءُ رفيقُ شيخوختي التي بددتُها

على الشاطئ البعيد

أتأمّل زرقةَ البحر

وأكاذيبه

أعني قصائده العارية التي لا تكفّ

عن الموتِ والهذيان.

 

   إنّ هذا الاشتغال المتنوع في المحاور في قصائد هذه المجموعة يظهر بوضوح مهارة الشاعر أديب كمال الدين في توظيفه للحرف الذي جعل منه فاعلاً ومفعولاً، وسيلةً وغايةً في الوقت ذاته دون أن يسقط في التكرار بل إن ذلك كان محفزاً لابتكار صور أخرى بثيمات أفرزتها الغربة كان الحرف فيها يمارس حريته ككائن حر يمدّ جناحيه على مديات واسعة من البوح في صور شعرية تأخذ القارئ دون أن يدري لمملكة الحروفية.

*****************************************************

أربعون قصيدة عن الحرف- شعر: أديب كمال الدين- دار أزمنة للنشر والتوزيع- عمّان 2009

نُشرت في موقع عود الند العدد 40: تشرين الأول/10/أكتوبر 2009.

كما نُشرت في مواقع كتابات والنور والمثقف وعراق الغد بتاريخ 17- 10- 2009

ونُشرت كذلك في صحيفة المؤتمر بتاريخ 22- 10- 2009

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home