هاملت أديب كمال الدين

 

 

 

 نور الحق إبراهيم

 
 

 

 

  كل الطرق تؤدي إلى أديب كمال الدين! فبعد أن قابلته مصادفة على طريق الحب في مدينة الحروف, واستمعت إلى قصيدته المغربية على شاطئ أسترالي ساحر, صادفته مرة ثالثة وهو يحاول أن ينبش قبرا كنسيا أو يشق نفقا سريا في قلعة ملكية بالدانمرك شهدت مأساة شاب نبيل وفتاة عذراء, وكان قد شيدها شاعر ملهم من إنجلترا.

  حاول الشاعر العراقي أديب كمال الدين عبر قصيدته "محاولة في هاملت" أن يعالج داء الشاب بواسطة عقار فعال وإن كان من أعشاب الوهم الممزوج بخمر اليأس, وذلك على طريقة أبي نواس الذي يهرب من مصيبة إلى غيرها, يعالج سقوطه فوق الصخر بالقفز إلى الهاوية, يداوي جرحا بكأسين من الخمر, فإن تقيح الجرح تضاعفت الكؤوس, وهكذا, "داوني بالتي كانت هي الداء", فلا الجرح يلتئم ولا الدن يفرغ!

  رغم أنها طريقة محفوفة بالمخاطر, إلا أن هاملت كان قد تعود على الأهوال بما فيها شبح أبيه حتى ألفها واستساغها, واختلط عليه كبد الداء بمرارة الدواء. فليظهر شبح جديد مكان الشبح القديم, وليعالج القادم ما تركه الرائح من مخلفات بغيضة لم تذرّها الرياح.

  للحصول على العقار, يبعث هاملت صديقته أوفيليا من قبرها ويجردها من أكفانها تحت ضوء القمر وينفخ فيها من روحه المعذبة ما يجعلها بشرا سويا فائق الإغراء الجسدي والمعرفي بحيث تستطيع أن تجيب على أسئلته الحائرة, وهو غير مصدق رحيلها السريع ولا قدرتها على الجواب, لكنها محاولة على كل حال. وقد يكون الأمر على العكس من ذلك, فبينما كان آدم في قمة التوحد وغفوة الفقد مطرقا الرأس إذ يصحو على مظهر جميل لشبح لطيف أو طيف رشيق فراح يستظل بغيمة براءته ويمطره بالسؤال. يمكن أن يحدث ذلك واقعيا لمثل هاملت المشوش فكريا ونفسيا دون أن يناقض المنطق.

  على عادته, قسم الشاعر قصيدته إلى مقاطع, رصد في المقطع الأول مجمل الأسباب الظاهرية للمأساة, وهو لا يرصدها رصدا تقريريا كي يقدمها لعشاق الأخبار, بل يتدفق بها في شكل طوفان من الأسئلة الحائرة المتلاحقة ليعبر بواسطتها عن قلق هاملت وحيرته إزاء الأحداث الشريرة والمؤسفة التي حدثت في محيطه من قتل أب واغتصاب عرش وخيانة أم وانتحار حبيبة, أدت بمجملها إلى تشويه الحياة وقيمها الجميلة.

"أوفيليا،/ يا غيمة البراءة،/ أخبريني كيف اجتمعت الدنيا في جسدك/ ثم ضاعتْ في الماء؟/ أخبريني كيف قـُتِلَ أبي/ وكيف أباحتْ أمي طيورَ طفولتي للثعبان؟/ كيف قادني الشبحُ إلى الشبح/ والموتُ إلى الطوفان؟".

  أسئلة محيرة مقلقة لنفس هاملت, تـُصور هول العبث الموجود في الدنيا, وتبحث في أسبابه وكيفية حدوثه والغاية من وراء ذلك. واستخدام علامة الاستفهام "كيف؟" لا يقصد بها الكيفية دائما, بما يتضمنها من تحسر وتوجع قاتل, بل يقصد بها الغاية أيضا, "لماذا؟", لماذا حدث كل ذلك؟ لمَ كل هذه البشاعة في الدنيا؟ ليس ثمة سؤال واحد عن العلاج, وكأنها مسألة فلسفية ميتافيزيقية مغلقة, أو أنها أعراض مرض خبيث لا دواء له.

  العجيب أنه لم يجد من يناقشها ويطرح عليها هذه الأسئلة سوى أوفيليا البريئة المشكوك في براءتها في نفس الوقت. نحن نعلم أنها بريئة وهاملت يعلم أنها كذلك وإن كان قد شك طوال حياتها في قدرتها على الاحتفاظ ببراءتها. لكنه الآن يخاطب أوفيليا أخرى, بعثها له الشاعر من جديد من مرقدها.

  لماذا بعثها وراح يسألها؟ هذا هو الدواء الذي يصفه له الشاعر الطبيب, طبيب النفس والروح. وذلك من واقع ندمه المحتمل على شكه فيها طوال عمره من غير مسوّغ قوي! كان وهي على قيد الحياة يتساءل أحيانا بينه وبين نفسه, تحت وطأة عذاب الضمير, ما ذنب هذه المسكينة؟ لماذا أرهقِـُها بالشك والجنون. هذا ما يمكن أن نستنتجه من موقفه المتضارب تجاه الحياة والموت, والجمال والفضيلة, ورعاية جانب الصداقة والمودة واكتوائه من هذا الجانب وغيره.

  لذا, أول سؤال يطرحه على الفقيدة العائدة هو: "كيف اجتمعت الدنيا في جسدك/ ثم ضاعتْ في الماء؟". ضياع جسدها غرقا يعادل ضياع الدنيا بأسرها. كل جمال في الدنيا, كل شعور جميل بالحب, غرق في الماء مع ذلك الجسد الناحل الرشيق, واستدعى الفقد المروع قيادته نحو المفقود. شبح أبيه الراحل قاده إلى شبح حبيبته. موت القيم والروح قاده إلى طوفان هذه الأسئلة الهائمة حول الجسد, المقتول تارة بقطرات السم أو الغريق تحت الماء, الملوث بجراثيم الخيانة تارة أخرى, المعتدى عليه في كل الأحوال بالخناجر والسيوف المادية والمعنوية.

  من خلال الجسد يتعمق الشاعر في الأحاسيس والمشاعر, فنرى هاملت في المقطع الثاني وهو كمن يغتنم فرصة لقاء نادر قد يكون قصيرا, ويستدرك ما فاته من لذة, محاولا استكشاف تضاريس جسد بض نحيل لم يحظ باكتشافه, نراه يبكي أمام/ فوق هذا الجسد الذي سرقوه منه واغتالوا فرحته به كما سرقوا ثوب طفل يتيم في يوم عيد واغتالوا فرحته بهذا الثوب. أي يد سارقة فعلت هذا وحوّلت جسدا مقمرا إلى مرثاة العمر ومأساته؟ فليبك فوق هذا الجسد ما شاء, وليتأمل في أعضائه ما شاء, وليتعرف من خلاله على جوانب المأساة ما شاء!

"أوفيليا/ جسدكِ المقمر مرثاةُ عمري/ إذن دعيني، مثل طفل يتيم سرقوا ثوبَ عيده،/ أبكي عليك/ دعيني أتعرّف إلى جسدكِ البضّ/ لأعرف سرّ الجنون والهذيان/ دعيني أتعرّف إلى جبينك/ لأعرف سرّ المطر/ دعيني أتعرّف إلى أصابعك/ لأعرف سرّ الفرح/ دعيني أتعرّف إلى بطنكِ النحيل/ لأعرف سرّ الطفولةِ والطمأنينة".

  لعل هنا مقارنة خفية بين جسد أوفيليا وجسد الملكة جرترود, فالجسد المقمر في سماء الملك وسماء هاملت الذي يمتزج فيه روحيْ الاثنتين معا يكمن فيه سر المأساة, والجسد البض الذي أغرى كلوديوس كما أغرى ابن أخيه يكمن فيه سر الجنون, والبطن النحيل الذي أنجب طفلا يائسا يبكي فوق مثله الآن وينشد المواساة أمامه يكمن فيه سر الطفولة والطمأنينة. كأن الشاعر هنا يصرخ بلسان الطفولة المعذبة على غرار صرخة المثل الشعبي: "جات الحزينة تفرح ما لقت لها مطرح".

  وهذا ما نجد له ظلالا في المقطع الثالث وهو يتحدث عن جمال أسطوري لكن لأنه بحجم الأسطورة, ولتكن أسطورة "سيزيف", يعذب عاشقه أشد العذاب, بشكل يومي متصل, يقوده إلى منافي الكلمات حاملا صخور الهذيان التي يصعد بها إلى قمة القلعة ويقذف بها على الكل بمن فيهم أوفيليا الرقيقة متلبسا الجنون محتميا به.

  يود أن يبتهج بشهد الرضاب, لكنه يجده رضابا كالصاعقة التي لا تبهجه بقدر ما تبهج الساحر الشرير, كساحرات "مكبث" القبيحات وهن يتنبأن بالمستقبل تحت الصواعق والبرق والأمطار. تسقط صاعقة منها على رأس هاملت فيقترب من ساحة مكبث الذي قتل بطموحه ملك استكتلندا واستولى على عرشه وهاملت يتمنى أن يقتل ملكه, ملك الدانمرك, في أقرب فرصة, وأن يقتل نفسه هو إن أمكن بعد أن كان ما كان. تداعت الأفكار إلى عقل هاملت فأعادته إلى لب المشكلة.

"أوفيليا/ جمالكِ الأسطوري عذّبني كلّ يوم/ حتى قادني إلى منافي الكلمات/ ورضابكِ أبهجني مثلما يبتهج الساحرُ بالصاعقة/ فضميني قبل أن تهلك آخر قطراتُ دمي معك/ ضميني قبل أن يأكلني الماء".

  أديب كمال الدين هنا مثل نزار  قباني لم ينس ذلك الصراع العنيف بين الجمال والقبح في نفس هاملت, وقد كان سببا قويا من أسباب عذاب الأمير وقلقه. بينما قباني يشير إلى الصراع بأسلوب واضح, "وجهك فاتن, لكن في الهوى/ ليس تكفي فتنة الوجه الجميل", لجأ كمال الدين إلى الطبيعة القاسية, الصاعقة, في تصوير شدة مرارة الرضاب, وأنه يمكن أن يكون كالعلقم.

  هاملت هنا يفترض أن أوفيليا بعثت ملاكا, فيحتمي بها منها ومن نفسه, يريد مساعدتها وهو الذي طالما تجاهلها وشك في قدرتها حتى على المساعدة في مأساته, يطلب منها الآن أن تعينه وأن تبدد لديه مسوغات الانتحار.

  لكن أوفيليا لم تنس أن هاملت قد قتل أباها بولونيوس, وإن كان على سبيل الخطأ, وقد ساءها سخرياته المريرة منها ومن بنات جنسها, بحيث كان لا يتورع عن استعمال الكلمات البذيئة الخادشة للحياء. ما الذي يضمن لها أنه تغير وصار إنسانا آخر؟ ألم يساهم في تصاعد جنونها وفي غرقها؟ كيف يزعم أنه عاشق ثم لا يعنيه من أمرها شيئا؟

  أسئلة كثيرة كانت تجيش بصدرها هي الأخرى, لا يعلم عنها هاملت شيئا ولم يتعب نفسه في الإجابة عنها, وكأن المأساة هي مأساته وحده, وعلى الدنيا السلام. كيف لم يدرك مشاعرها ولم يلحظ تغيرها؟ كم تغيرت هي الأخرى وأثرت فيها الأحداث بشكل عميق فجرى في دمها أخلاق المترفين, بحيث يمكن أن تنتقم على نحو فظيع.

"مدّت أوفيليا يدها إليّ/ لكنْ ما أن قبّلتُ أصابعها المترفة/ حتّى تحوّلتْ إلى خناجر وشتائم/ ما أن قبّلتُ صدرها الفاتن/ حتّى خرجت المردةُ والشياطين/ وأحاطتْ بي من كلّ جانب/ وما أن قبّلتُ شفتيها/ حتّى خرجت الأفعى إليّ/ فسقتني السمّ/ لأموت إلى الأبد".

  مات على يد الطبيبة, طيف الحبيبة. لحق بها حزنا على فراقها. مات وما هو بميت. مات للأبد وعاد بنا الشاعر إلى أصل المأساة, موت الخير وتوالي الشر في الدنيا وعدم انتهائه, وتقرير مريع لصحة شك هاملت في المرأة وفي الدنيا العابثة. حتى النوايا الطيبة يمكن أن تؤدي بصاحبها إلى الجحيم.

 

نص القصيدة:

محاولة في هاملت

شعر: أديب كمال الدين

 

 

  

1.

أوفيليا،

يا غيمة البراءة،

أخبريني كيفَ اجتمعت الدنيا في جسدِك

ثمَّ ضاعتْ في الماء؟

أخبريني كيفَ قُتِلَ أبي

وكيفَ أباحتْ أمي طيورَ طفولتي للثعبان؟

كيفَ قادني الشبحُ إلى الشبح

والموتُ إلى الطوفان؟

 2.

أوفيليا،

جسدُكِ المقمرُ مرثاةُ عمري

إذن دعيني، مثل طفل يتيم سرقوا ثوبَ عيده،

أبكي عليك

دعيني أتعرّف إلى جسدكِ البضّ

لأعرف سرَّ الجنونِ والهذيان.

دعيني أتعرّف إلى جبينك

لأعرف سرَّ المطر.

دعيني أتعرّف إلى أصابعك

لأعرف سرَّ الفرح.

دعيني أتعرّف إلى بطنكِ النحيل

لأعرف سرَّ الطفولةِ والطمأنينة.

3.

أوفيليا،

جمالُكِ الأسطوريّ عذّبني كلّ يوم

حتّى قادني إلى منافي الكلمات

ورضابُكِ أبهجني مثلما يبتهجُ الساحرُ بالصاعقة.

فضمّيني قبلَ أنْ تهلكَ آخر قطرات دمي معك،

ضمّيني قبلَ أنْ يأكلني الماء.

 4.

مدّتْ أوفيليا يدَها إليّ

لكنْ ما أن قبّلتُ أصابعها المُترفة

حتّى تحوّلتْ إلى خناجر وشتائم،

ما أن قبّلتُ صدرَها الفاتن

حتّى خرجت المردةُ والشياطين

وأحاطتْ بي من كلّ جانب،

وما أن قبّلتُ شفتيها

حتّى خرجت الأفعى إليّ

فسقتني السمّ

لأموت إلى الأبد.  

 

************************

أديب كمال الدين -  لنقطة - (ط1 بغداد 1999) ط2 عمّان- بيروت, المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2001.

 

 

* نور الحق إبراهيم- شاعر وكاتب. من مواليد المدينة المنورة بالمملكة العربية السعودية عام 1964. حاصل على الماجستير في الإعلام من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1992. أصدر ديوانه الأول "اعتراف" عام 2003. أصدر ديوانه الثاني "حقل السكر" عام 2008. فاز بجائزة الرئاسة العامة لرعاية الشباب في المسابقة الثقافية المفتوحة للبحث والتأليف حول "أثر وسائل الإعلام في توجيه الشباب" سنة 1987. أصدر كتابين في المجال الإعلامي سنة 1989. عمل في حقل التعليم مديرا ومعلما خلال الفترة 1987- 2007. ساهم في الكتابة الصحفية ونشر بعض أعماله على الشبكة العنكبوتية.

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home