حروفيات فلسفة المعنى

 

قراءة في قصائد ( أخبار المعنى )

 

                                                      

   د. قيس كاظم الجنابي

 

 

                             ـ1 ـ

  سبق للشاعر أديب كمال الدين أن أصدر أربع مجموعات شعرية منذ العام 1976 . اثنتان منها تركّزت حول الحرف ؛ وهما : ( جيم ـ 1989) و(نون ـ1993) . إذ وظّف الشاعر الحروف بدلالالتها الرمزية والصورية (البصرية ) للوصول إلى مضامين خاصة تنطلق من مؤثرات صوفية مع استفادة جلية من تكرار بعض الحروف أو حرف معين كالجيم والنون مثلاً ، فراح يمزج بين مدلولي الحرف المظهري والمعنوي للحصول على استجابة القارئ كما فعل في بعض الألفاظ مثل ( الرنين ، الحنين ، الجنون ) (1). وفي هذه المجموعة الشعرية (أخبار المعنى ) (2) وهي السادسة في تسلسل مجموعاته ثمة محاولات لتطوير تجاربه السابقة من خلال دلالات المعنى وصلته بـ ( الحروفية) التي التزمها وحاول استخدامها وسيلة لتغليف الالفاظ بمعان غير مباشرة حيث التخفّي وراء الرمز والإشارة والتلاعب بالألفاظ والحروف .

والحروفية هذه التي تتبناها فرقة  تقوم على تأويل الحروف عبر دعاوى رمزية وسفسطات خلابة المظهر ، تهتم برمزية الحروف وقيمتها العددية ذات الدلالة السحرية تمادت في تأويل القرآن إلى حد قلما أبقى على معانيه الاصلية! وكانت في الحلول قوية الشبه بمذاهب الصوفيين (3).الذين سبقوها وخاصة مذاهب المهتمين بدلالات الحروف من امثال الحلاج وعبد الكريم الجيلي وابن عربي، فضلاً عن المهتمين بالسحر والروحانيات من أمثال البوني في كتابه (مشارق الأنوار ). وقد قامت في البدء حول تفسير بعض الحروف التي بدأ بها بعض السور القرآنية ، وكان الشاعر أديب كمال الدين قد اهتم في مجموعته (جيم) بدلالة ( كهيعص ) (4). ومن هنا انطلق في قصائد ( أخبار المعنى ) نحو بيان (فلسفة المعنى) مقترباً من عملية التأويل التي تبحث عما وراء النص، أو ( ما وراء اللغة) عندما يصبح الشاغل الأول التفكير في معنى الوجود (5).

أما كيفية التعامل مع تلك الحروفيات ، فإنه يستعير الكثير من أدوات اللغة لدى النفريّ في (المواقف والمخاطبات ) وأبي حيان التوحيدي في ( الإشارات الإلهية) والحلاج في ( الطواسين) و(المناجيات ) وابن عربي في الكثير من كتبه ورسائله ، مع استفادات أخرى من أدب العراق القديم ، وبالذات ملحمة (جلجامش) وبحثه عن الخلود.

                                (2)

تشكّل دلالات الحروف مفاتيح لاكتشاف المعنى  لدى الشاعر عبر اللعبة اللفظية التي اختطّها لنفسه ، وان بقيتْ تحمل معها طريقة الحروفيين في تحميل دلالات الحرف معاني أخرى تختلف من لفظة إلى أخرى ، كما كان النفريّ يصرّح في ان ( الحرف دليل العلم والعلم معدن الحرف )(6). فراح يبحث عن ماهية المعنى ، ومعنى المعنى. لكنه في حقيقة الأمر لا يدخل في هذه اللعبة ، بقدر ما يمر عليها ظاهرياً حين يحاول أن يجعل نصوصه متصلة بها باطنياً للتعبير عن موقفه من الحياة وحركة الوجود وطبيعة الأشياء ، بصفة الشاعر مكتشفاً للاشياء و(لأسرار)المعنى، أو (أسرار) الخلود كما كان جلجامش يحاول، فكان أن فاز بخلود الذكر وفناء الجسد، فهو حينما يحاول الكشف عن دلالة الحرف (س) يتوصل إلى انه (سين القتل) أو (سين السيف) في قصائده:(موت المعنى ، نسيان المعنى ، كاف المعنى) .ولأنّ (سين ) هو اله القمر عند العراقيين القدامى فانه يصبح (سين) الساعة أو (سين) الشمس أو الآن (هس) في قصيدتي : (شمس المعنى، زمن المعنى) . وهذا يذكرنا بقول ابن عربي عن السين(7):

في السين أسرار الوجود الأربع

                                                   وله التحقق والمقام الارفعُ

أما حرف (الباء) فانه سرّ الوجود ، لكونه ينبع من فكرة تلخيص القرآن الكريم بسورة الفاتحة ، والفاتحة بالبسملة ، وبالبسملة بالباء ، والباء بالنقطة، فهي بالتالي (( رمز للتعين الأول ، الذي يشكّل وسطاً بين الواحد والكثير . أما نقطة الباء فتشير إلى وجود العالم اي الموجودات .ووقوعها تحت الباء تمثيل لتبعية الموجودات للتعين الأول . وهي رمز الإنسان الكامل عند الصوفية" (8). لهذا جاءت( الباء ) لدى الشاعر (لها شكل الماء)، فكانت تعبيراً عن ديمومة الحياة في قصيدة (أنثى المعنى ). فهي (لها شكل الكاف ، وأوعية اللام / ولها دائرة الميم الحمراء ، ونون الخالق ) في قصيدة (صراخ المعنى) . ثم يحاول أن يوصل بين (كاف) الكينيونة التي تبعث الحياة في كلّ شيء من خلال قدرة البارىء على خلق الأشياء عبر لفظة (كن) ،وبين (ب) العبودية رمز الطاعة والاعتراف بتلك الكينونة فيقول:

 

معجزتي الكاف وشعبي الباء

أشعاري الكاف وشمسي الباء

وبكيتُ : تذكّرتُ بأنّ الباء ستسبق كافي

 

وهذا يذكّرنا بقول ابن عربي عن الباء (9):

سرّ العبودية العلياء مازجها

       لذاك ناب مناب الحقّ فاعتبروا

أليس بحذف من (( باسم )) حقيقته

      لأنه بدل منه فـذا وزروا

 

حيث يصل بها إلى مرحلة الفناء في قصيدة ( باء المعنى ) حينما يقول :

في باءِ القِبْلةِ قرب حروف الذهب الأعلى ..

أم في باء خرابي حيث الموت له عينان ؟

    فالانطلاق نحو كينونة الوجود من أجل التوحد بها هو ما يبحث عنه الصوفي، لهذا حاول الشاعر أن يتمسك بنقطتها في قصيدة (اله المعنى) لأنها رمز للإنسان الكامل الذي يبحث عن الفناء بطرق مختلفة، فهو مرّة فناء في الذات ، وأخرى فناء من أجل الحرية (أو الحق أو الرأي) أي الفناء من أجل حرية اطلاق المعنى. فالمعنى الذي يراه هو المعنى الذي يتجرد من (رمح المعنى) بصفته من معاني الحرف هو حد السيف ، لهذا يقول في قصيدة (أخبار المعنى ) :( معناك : اسمك : من أنتِ ؟ أميم المعنى أم باء البلوى أم راء الرغبة أم فاء الفتنة ، شين الشهوات ؟)

لأنّ لغة الشاعر المدعو ( ألف دال وياء وباء ) في قصيدة (ألف المعنى ) محاصرة . ولكنه يظل يبحث عن حريته عبر (ر) التعويذة و(ب) الأرجوحة، وعبر (ح ، ر ) الحرية في قصيدة (راء المعنى)  و(ح ، ق ) الـ ( حق ) في قصيدة ( حوارية المعنى ) ليزيح عنه ( رمح ) المعنى الذي ظل يقلق عليه حريته ثم يتكرر ذلك في قصيدتي: (دال المعنى ، خيانة المعنى ) لينتهي عند أبواب ( حرية وحق ) المعنى.

    ومن الحروف الأخرى التي تأخذ اهتماماً خاصاً من لدنه حرف ( ن ) الذي كرّس له مجموعته السابقة ( نون ) ، والتي تعني ( الحوت ) أو ( الجوف ) كما ورد ذلك في قصة النبي يوسف ( عليه السلام ). وهي أيضاً ( نون المجهول )، و (نون) النور رمز الحق تعالى (10) حينما قال :

 

بائي باءُ الغدر ونوني نون المجهول

أتفيّأ موتي منتظراً

حبراً من نور

 

وهي بمعنى (الدهر) في قصيدة (نسيان المعنى) حيث يقول :

 

يا نون

يا سين القسوة ، ياء اليم

* قال الأول : يسأل أحد عن معنى النسيان؟ لماذا؟

* قال الثاني: عبث عبث.

* قال الثالث: هي ذي .. الكأس.

* قال الرابع: كن فيكون.

* قال الخامس: معناه الدهر.

 

وهذا يذكرنا بقول ابن عربي عن دلالة النون حينما يقول: ( أولاً دلالة النون الروحانية، المعقولة فوق شكل النون السفلية، التي هي النصف من الدائرة. والنقطة الموصولة بالنون المرقومة ، الموضوعة أول الشكل ، التي هي مركز الألف المعقولة) . ثم يخلص إلى انها ( بهذا الاعتبار، تعطيك الأزل الإنساني ، كما أعطاك الألف والزاي واللام في الحق ) (11). فالأزل والدهر مترادفان .

                                  (3)

أما المعنى ودلالاته فقد أشار إلى مضافات عديدة  كلها تصب في (فلسفة المعنى)، ومنها ( لغز المعنى، رمح المعنى، اضاءة المعنى ، فراغ المعنى ، ماضي المعنى ، سرّ المعنى ، رأي المعنى ، دال المعنى ، نسيان المعنى ، أسماء المعنى ، عري المعنى ، زمن المعنى ) ثم (اللامعنى ) و( ومعنى المعنى) من خلال استخدام الإشارة والتلميح كما فعل مع رمز ( الهدهد) في قصيدة ( أخطاء المعنى) حينما قال: ( وأيقظني هدهد رأسي). فأشار إلى هدهد سليمان الذي جاء حاملاً معه نبأ جديداً في قصيدة ( حوارية المعنى)، وهو يأتي  بمعنى الرقيب في قصيدة ( صراخ المعنى ) لأنّ للهدهد رمزاً خاصاً، وهو الشيخ المرشد حامل رسالة الحق (12) . أما الطائر فهو وسيلة للذهاب إلى الموت في قصيدة ( مخاطبة المعنى ) مع انه رمز البعث والخلود (13) عند المتصوفة . فالتلاعب في المعنى عبر حركة الحروف ينتج لدى الشاعر فلسفة خاصة . ):                       

لذا راح في قصيدة ( نسيان المعنى ) يكتب ( سفسطته ) وعناءه  ويناقش ذلك في ( باب المعنى ).وهذا يعني الدخول في دائرة التلاعب بالالفاظ ، للابتعاد عن المباشرة حينما كان يبحث عن ( رمز المعنى ) أو (سرّ المعنى) ليكشف عبر ( ك ) الكشف عن الأسرار في قصيدة ( وصول المعنى ) حينما يردد : ( رجعَ الرأسُ إلى جسدي، قال أنا المعنى، فبكيت ). فظل يدور في متاهات دلالات المعنى حيث يخرج مهزوماً أمام ( القدرة على الكشف عن الأسرار ) في (اللامعنى) لأنه بات مخذولاً مطعوناً في السرّ ، منتصراً في العلن ، أي ثمة معادلة بين الظاهر والباطن تتأرجح على لعبة المعنى هذه التي تتجسد في حرية المعنى في قصيدته ( خيانة المعنى):

 

وضع المعنى الرأسَ على الرمح

ومضى يحمله في الطرقات

وسط صهيل الناس

 

وهذه الحرية ظلت تدور في دائرة ضيقة عبر مرادفاتها المحدودة حتى ينتهي به الأمر عند ( موت المعنى) في ( ياء المعنى ) ، حينما تقترن الجثة بـ ( جيم ) المعنى

 

سقطتْ جثة موتي، ألقيتُ

القبض عليها..

كنتُ سعيداً أتبرأ من تهمة قتلي.

 

ثم ينتهي به المطاف عند الفناء في جسد الحرف ، كما يفنى الصوفي حين يوحد وجوده مع الله ، لأن الفناء في الله هو غايته .

                                  - 4-

قد يطول الحديث بنا في تفسير وقراءة حروفيات الشاعر والتي يمكن النظر اليها على انها تأسيسات قديمة سبق للشاعر أن رسّخها عبر مجموعتيه ( جيم) و(نون) ، ثم تعمّق في تجذيرها في (أخبار المعنى ) فاستطاع أن يخترق جدار المألوف ليؤسس مشروعة الشعري على ركائز تمتلك شرعية التواصل ، والقدرة على التجديد بالمقارنة مع جيله ( السبعيني ) . فهو يستفيد من معطيات الأدب الصوفي ( شعره ونثره ونظرياته ) ومن معطيات ( الحروفية ) ، وأدبيات كتب التنجيم والسحر ، لأنه ينحو باتجاه النثر الصوفي المكثف الممتلىء بطاقة روحية تتعمق في أستبطان المعنى بقوة تمتلك مسوغات نفاذها إلى بواطن الأشياء ، وهو يفعل ذلك في قصائد لها نمط الشعر الحديث وتستظل بفيض من تواصله الوجداني مع أدعية واشارات ( الحلاج والنفريّ وابن عربي والتوحيدي ) وغيرهم ، وخصوصاً في قصائده التي تميل نحو السردية المكثفة مع منح الذات حرية الاندلاق في آنية التوحد الذاتي وهو يلتصق مع دلالات ورموز متفجرة جعلت قصيدته تمتلك مبررات تفردها بالمقارنة مع ( جيلها) الشعري . وهذا بحد ذاته يشكل مرحلة متقدمة في الاكتشاف بالنسبة لشاعر مثل أديب كمال الدين ، وخاصة في قصائده ( موت المعنى ، أخبار المعنى ، أنا وأبي والمعنى ، دال المعنى ، رومانسية المعنى، وصول المعنى).

 أما ما سواها فهي قصائد مكمّلة لها ، وخاصة وانه يفترض ـ دون أن يصرّح ـ ان مشروعه هذا هو المشروع واحد متكامل ، لا تفصل بين أجزائه ( المفردات والعنوانات ). وهو كثيراً ما يستدرجنا عبر لعبة المعنى إلى التحاور معه ، مع انه يوظف الحوار داخلياً عبر نزوع درامي نابع من كينونة الوجود ذاتها التي يحاول توكيدها من خلال دفاعه عن سر الاكتشاف وسر الخلود ، وسر امتلاك ناصية الحرية ، فهو يبحث عن كنه الحياة عبر كنه الحرية ذاتها ، فالمعنى لديه تحرر في الانطلاق ؛ تحرر جامح داخل حقيقة هذه الكينونة ، ولأنه يلعب في تفاصيل ( الكلام ) فانه يتلاعب في تفاصيل المعنى ذاته عبر لغة مكثفة مغطاة بمجموعة من الأغلفة والرموز ( الصوفية والحروفية ).

وحين نستذكر التجارب التي تحاول أن تطرح تفردها الخاص بها ، ومنها تجربة السياب في قصيدة ( الشعر الحر ) ، فانه لابد ان نفترض بأن هذه التجربة لدى أديب كمال الدين هي جزء من مشروعه الشعري الذي يجاهد في تطويره كما يفعل علي الطائي في ( القصيدة الادائية )

مثلاً ، وهي ليست قفزا على قوانين ونظم (شعرية) القصيدة. أي انها حفر في مكان اشتغاله الذي بدأ به بعد أن تجاوز به قاموسه الشعري في مجموعتيه ( تفاصيل ، ديوان عربي )، ولا يمكن مقارنتها بالقفزة الشعرية الكبيرة التي أنجزها السياب ، ولأن أرض الشعر تعيش حالة تذبذب وانغمار في تلمس سطح الأشياء والتجارب والمرئيات والمفارقات الساذجة في إضحاك الاخرين ، فإنّ هذه التجربة تشكل قفزة نوعية في ميدانها ، لأنها تؤسس لمعطيات جديدة تخدم مسيرة الشاعر ، بالرغم من كونه لا يعد مكتشف جنس أدبي جديد أو قصيدة لها قوانينها الجديدة المبتكرة كما فعل السياب ذلك. لكنه يعد مكتشف طريقه خاصة به في كتابة القصيدة، وهي طريقة، ربما، ستشكل ظاهرة لها خصائصها في القصيدة العراقية. 

 

الهوامش

******************

(1) راجع مقالنا : الصورة المرئية للحرف / أديب كمال الدين من ( جيم ) إلى (نون ) ، جريدة العراق ( بغداد ) ع ( 5413) في 1994/1/13.

(2) صدرت عن الشؤن الثقافية العامة بغداد – 1996.

(3) راجع : جولدتسيهر ، العقيدة والشريعة في الإسلام : ص ص 243- 244

(4) يقول اليافعي في دلالة حروف ، ( كهيعص) (أما قوله كاف فهو الكافي وأما الهاء فهو الهادي وأما الياء فهو الذي يأوي وأما العين فهو العالم وأما الصاد فهو الصادق فمن صحب كافياً وهادياً ومؤوياً وعالماً وصادقاً فلا يضيع ولايخشى ولايحتاج إلى الزاد والراحة ). اليافي ، روض الرياحين ، بهامش قصص الانبياء للثعلبي المعروف بـ (العرائس ) : ص ص 141 – 142 .

(5) راجع مصطفى الكيلاني ، في ( الميتا – لغوي ) والنص والقراءة : ص 4 .

(6) النفري ، المواقف : ص 117 .

(7) ابن عربي ، الفتوحات المكية : السفر الأول / ص 317 .

(8) د. سعاد الحكيم ، المعجم الصوفي : ص 181 حرف (ب).

(9) الفتوحات المكية : س 1 /ص 321 .

(10) راجع : التعريفات ، للجرجاني : ص 134 .

(11) الفتوحات المكية : س 1 /ص 239 .

(12) د. عاطف نصر ، شعر عمر بن الفارض : ص 116 .

(13) راجع : د. عبد الرحمن بدوي : تاريخ التصوف الاسلامي : ص 49 .

وفقا لما جاء في سورة : البقرة / 260 .

آل عمران / 49 .

الملك / 19 .

 


الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home