(نقطة) البداية والنهاية

 ماذا عن خصوصية الأفق الشعري؟

 

 

هادي الربيعي

 

 في مجموعته الشعرية (النقطة) أكّد الشاعر أديب كمال الدين أنه قد أنجز من التفاصيل في بناء تجربته الشعرية مايكفي لأن نقول إنه قد كوّن أخيراً أفقه الشعري الخاص، الأفق الذي يخشى الآخرون الاقتراب من سماواته ليحلّق هو وحده فيه بحيوية خارقة ليتفرّد في عالم شعري متميز بخصوصية الرؤيا الشعرية، وخصوصية الأدوات التي تنير الوهج المتواصل في هذه الرؤيا. ويمكن لأديب كمال الدين أن يرفع اسمه من أي عمل شعري يكتبه لنعرف أنه يعود إليه، وهذا الرهان الصعب على نحت بصمات أصابع خاصة، في عالم يموج بآلاف الشعراء استطاع أن يحققه الشاعر بدأب الصابرين الطويل على طريق تجربة محفوفة بالمخاطر، نادرة المرجعيات، مجهولة النتائج والنهايات.

     والمجموعة الشعرية (النقطة) هي البؤرة الأكثر توهّجاً التي انعكست عليها خلاصات تجارب الشاعر المهمة وهو يواصل استغوار تفاصيل الحروف وأسرارها الخفية معتمداً على مرجعيات إسلامية يأخذ منها الجوهر الذي يتسق مع قصديته، والاتجاه به نحو معمارية شعرية حديثة، ولكنك تستطيع أن تلمح في أجوائها أشباح الماضي التي لا تتعدى فاعليتها الإشارة إلى ترابط روحي يعوق كحاضر غائب داخل كيانات شعرية تستلهم الحروف لتعبر عن روح العصر الحاضر بكلّ الخراب الذي ينطوي عليه، وبكلّ مافيه من متناقضات. وحين أقول قصديته فإنني لا أعني رغبته الخاصة، وإنما أعني مجرى تطور وعي الشاعر المنصهر في مجرى تطور أدواته الشعرية الذي يصبّ في نهاية الأمر في مجرى وعي المتلقي.

والشاعر أديب كمال الدين يعلن من خلال (النقطة) انحيازه التام إلى العالم الروحاني، العالم الذي ينسحق تحت وطأة المعطيات الحضارية الجديدة تحت شتى الذرائع والمسميات لتبقى الحقيقة الوحيدة التي تؤكد أنّ كلّ إنجازات الحضارة في شتى ميادين الحياة، وعلى ماوصلت إليه من تطور مذهل لم تستطع أن تتوصل إلى إسعاد البشر. فعلى امتداد الخريطة الأرضية هناك دائماً نيران تنتشر في كلّ مكان،  ومدافع تقصف في كلّ مكان، وطائرات تلقي قذائفها في كلّ مكان، وانتهاكات إنسانية تجري في كلّ مكان، فأين يكمن الخلل في كلّ هذا الخراب الأرضي: هل هو في المنجز الحضاري الذي جاء أصلاً لتغيير حياة الإنسان إلى ماهو أفضل؟ أم يكمن في مَن يستخدم هذا المنجز الحضاري ويمرره لغاية في نفس يعقوب؟ وهنا نتوقف عند الخلل الحاصل في مايمكن أن أسمّيه (المسألة الكبرى). وفي ضوء هذه المسألة، يمكننا أن ندرك أنّ السبب في كلّ مايحدث هو اختلال التوازن بين ماهو مادي وماهو روحي. فقد تضخّم الجانب المادي على حساب الجانب الروحي مئات وربما آلاف المرات لنشاهد انحسار الجانب الروحي إلى الدرجة التي بدأ يفقد فاعليته في مجرى الأحداث الإنسانية.

 (النقطة) هي لحظات الوجد الأسمى، هي لحظة انهمار الحروف وتوحّدها لتكون كائناً واحداًً، هي جوهر الوجود في ذروة سمّوه ،هي الأسرار المتجمعة داخل بؤرة  متوهجة واحدة، هي وضوح الوضوح وسرّ الأسرار. ولكي نعرف حجم هذا الكائن الهائل في طلاسمه، يكفي أن نشير إلى من يؤكد في المراجع الإسلامية العديدة، أنّ سورة الفاتحة هي قلب القرآن الكريم وأنّ (بسم الله الرحمن الرحيم) هي قلب سورة الفاتحة، وأنّ حرف الباء هو قلب - بسم الله الرحمن الرحيم- وأنّ النقطة هي قلب الباء، وبهذا المعنى تكون النقطة هي بؤرة الإشعاع الالهي الكامن في أهم كتاب مقدس هبط إلى الأرض .

 ومن جانب آخر فإنّ هناك روحانيين أفنوا حياتهم في استغوار أسرار الحروف الإلهية التي ترد في مقدمات بعض سور القرآن الكريم وقد توصل  بعض من هؤلاء إلى حقائق مذهلة عن حيوات أخرى لا نعرف عنها شيئاً وكواكب أخرى مأهولة مازالت مجهولة لدينا وأسرار روحية أخرى يصعب تصورها وعلى الرغم من كلّ ما تحويه هذه الأسرار من غرابة تثير الذهول، فإنّ بعضها يقترب من التفسير في ضوء معطيات النظريات العلمية والحديثة وبعضهم لايزال ينتظر زمن هذه الأسرار الهائلة ولكن كل هذه الحقائق  الخارقة التي تقع في جانب  البناء الروحي للبشرية، هي حقائق مهملة وعديمة الفاعلية والتأثير، لأنها حقائق لا يعرفها الاّ بشر معدودون. ولأنّ البشر بصورة عامة وتحت وطأة ظروف سياسية ونفسية واجتماعية يصوغها العصر أمامهم لا يتاح لهم إدراك وتطوير قابلياتهم الروحية بما يتناسب وحجم التطور المادي الهائل الذي يهيمن على حياتهم، وربما كان هذا مقصوداً، فإنّ القوى الإمبريالية العالمية طوّرت هي الأخرى أساليبها للتوغل داخل أعماق الشعوب، فبدأت تبتكر الوسائل الأحدث تطوراً وباستخدام أحدث تقنياتها لإحداث الانهيارات من داخل أعماق هذه الشعوب للإبقاء على حالة اللاتوازن التي تهيمن على حياة البشر. ولو وقفنا لنتأمل ما يحدث فوق  بعض بقاع الأرض، وأخضعناه لتأملنا الطويل وحساباتنا الموضوعية لوصلنا إلى أن هناك من يعمل على إبقاء هذه الخلخلة الروحية داخل تشابكات وتعقيدات العصر لإفراغ القيم الروحية من فاعليتها وتأثيرها.

(النقطة) بهذا المفهوم تتجاوز كونها مجموعة شعرية تشير في توهّجها إلى معاناة تجربة شعرية أصيلة لتنطلق إلى فضاء أكثر رحابة وشمولية، وتتحول إلى صرخة احتجاج وإدانة في وجه العصر السائر بلا جوهر إيماني عميق  يسند خطواته. إنّ صخرة واحدة قد لا تستطيع أن تصدّ مجرى سيل جارف، ولكن الشاعر وهو شاهد هذا العصر الذي لا يكتفي بوقوفه شاهداً، لابد له أن يرفع هذه الصخرة ويضعها في مجرى هذا السيل الهائل. وحسبه في ذلك أنه لم يكتف بالوقوف وأنه أنجز ما عليه، وحسبه أن يشير إلى ما ينطوي عليه هذا السيل الهائل.

أجل.. لقد انتهى زمن الأنبياء وهذا ما يدركه الشاعر جيداً، ولكن ما زرعه الأنبياء على هذه الأرض مازال مؤهلا ًلأن ينعطف بالبشرية الانعطافة الحاسمة التي تتجه بها إلى مسرى التوازن الروحي الذي يستطيع أن يصعد بالقيم الروحية من أدنى المنخفضات إلى السمو الكامن في الأعالي.

 

*********************************

نُشرت في صحيفة الزمان اللندنية – العدد 950- 23 – حزيران – 2001

و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 207 -209

 


الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home