قراءة في شعر أديب كمال الدين:

 

إغراء الحرف في ديوانين

 

 

                                       فيصل عبد الحسن                                       

 

  الحرف يتحول الى طاقة شعرية تلك هي ميزة الشاعر أديب كمال الدين. هي ميزة حقا ولكنه يتحول بمرور الوقت الى سور حصين لا يمكن اختراقه او محاولة الوثوب من فوقه، والشعر كطاقة عاطفية وصورية تجمع كل مايحرك ردود الأفعال عند المتلقي وتجعله يطوف بهذا الحصن المنيع ليجد منفذا فيه، فإن نجح في ذلك استطاع أن يشعر بمتعة الشاعر وهو يكتب قصائده الحروفية، وان لم ينجح أغلق دواوين الشاعر وقصائده المنشورة في الجرائد هنا وهناك ، وقطع وصاله بالشاعر وتقطعت الوشائج التي يحاول الحرف أن يبثها هنا وهناك.

الحرف في ديوانه (جيم) المنشور عام 1989 يأخذ بعداً فلسفياً والصورة التي تبينها الكلمات تنقلك الى الحلاج وتحيلك الى صوفية مغرقة في التأمل، والى متاهات الروح الغارقة في عتمة البحث عن أجوبة لأسئلة فلسفية استطاع الحرف أن ياخذ بناصيتها ليحولها ضمن النبض الشعري، ربما سبقه في هذا المضمار الرسام الروسي مارك شاجال حين حاول البحث عن هيئة الأشياء برسومات قريبة الشبه بمخلوقات سماوية طائرة أو مخلوقات لها شيئيات الأشياء بحدودها الخارجية، والتي نتوقعها  لها، وبالرغم من ان الشاعر يستعمل القلم والكلمة، الا انه يعطي  الحرف لوناً يستطيع أن يبث في المتلقي البهجة  والحزن، فعنوان مجموعته  (جيم) يشيع في ذاكرتنا  أشياء كثيرة. أتذكر انني حين قرأت  الديوان  كمخطوطة عام 1987 اعتقدت ان (جيم)  تعني "جثة" هائلة، تمتد اطرافها في أعماق الارض ورأسها يضيع فوق السحاب. جثة هائلة، تقف هكذا مثل شجرة ميتة، رسمها مارك شاجال  عام 1900  في قريته  الروسية.

   و( نون)  ديوانه الذي صدر عام  1993  ذلك الحرف الراقص، الذي يذكرنا بكل أفراح العالم ابتداءً من فرحة جدنا آدم بحواء وتلك اللذة الهائلة التي شعرها بعد الخلق وهو يمسها مساً دقيقاً دفاقاً بمشاعر لا يمكن وصفها، ذلك الحرف " نون"  الذي فيه تجد كل إحباطات الحب وخسائره، يبقى حرفاً راقصاً منتزعاً ممن قميصه الفلسفي الذي حاول الشاعر أن يستره به في مقدمة الديوان:  ( نون والقلم ومايسطرون ) صدق الله العظيم. 

بالرغم من ذلك القميص الذي حاول الشاعر أن يوهمنا به، بقي حرفاً ضاجّاً بالحياة، باحثاً عن كينونته الخاصة  في جسد امرأة، في شفتيها، في لمسة حانية من يديها، في نظرة  موتورة  من نظراتها. ويمتد حرف الألف ليأخذ دوراً أكبر مما رسمه له الشاعر في ديوانه (جيم) اذا كانت الكلمة هي البدء الحقيقي للخليقة  فالشاعر يجتزىء من هذه الكلمة  حرفاً، ويحاول أن يجعل له حياة خاصة  تتمرد على الشاعر في الكثير من الأحيان مثل موسيقي يترك عمله في أوركسترا عالية، وحين يبحث عنه أصحاب الشأن يجدونه في عرس شعبي، يحاول أن يعبر بآلته عن فرح الناس وينقل لهم لذة الفن.

  حرف  الباء  المبثوث في ديوان " نون"  روح معذبة يضع فيها الشاعر كل مأساة الأنثى الخارجة  عن الطوق في المجتمع  الشرقي. هي ميتة منذ زمن بعيد ولكن روحها اللائبة تنتقل مع الحرف الرمز، محاولة أن تبثّ حياتها في السطور، وتنتقم لطموحاتها وحياتها وأسباب وجودها  التي ألغيت منذ زمن بعيد. (الباء) حرف معذب عند الشاعر يبحث عن لذائذه التي فقدها في العالم الآخر، وبالرغم من أن الحرف فقد ورعه الفلسفي، إلا انه تحوّل الى مدمن مات ودُفِن الى فرع شجرة كروم، منها تسكر روحه، وفي الليل يبحث عن أشيائه التي فقدها في الحياة  ولم يستمتع  بها الا بمقدار.

 الحرف عند الشاعر أديب كمال الدين روح معذّبة تبحث وترقص وتبكي وتسأل  هذا وذاك عن أشياء أصبحت بعيدة  المنال، كما ان الحرف عنده إغراء للآخرين للكتابة عنه حتى آخر الزمان.

 

 


الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home