الشاعر أديب كمال الدين في (نون)

تجلّيات النقطة في غموض الهلال!

 

 

 

عدنان الصائغ

 

 

 

 

لكلّ مَن لا يفهم في الحرفِ أقول:

النون شيء عظيم

والنون شيء صعب المنال

إنه من بقايا حبيبتي الإمبراطورة

ومن بقايا ذاكرتي التي نسيتها ذات مرّة

في حادثٍ نونيّ عار تماماً عن الحقيقة

ومقلوب، حقاً، عن لبّ الحقيقة

وهكذا اتضح لكم كلّ شيء

فلا تسألوا، بعدها، في بلاهةٍ عظيمة

عن معنى النون!     

 

مثلما يحاول الحداد أن يضع الحديد الساخن فوق السندانة، ويبدأ الطرق عليه ليصنع منه الأشكال التي يبغيها، يحاول الشاعر أديب كمال الدين أن يضع الحرف فوق سندانة المعنى ويبدأ عملية الطرق بتـناغم متصاعد حتّى يحصل على شكل القصيدة التي تشكل بالتالي عالمه الخاص. وهو منذ دواوينه السابقة (تفاصيل) و(جيم) وصولاً إلى ديوانه (نون)  يسعى إلى استلهام الحرف العربي، وتوظيفه في القصيدة  توظيفاً جديداً، يأخذ من التراث جذوره الصوفية ومحاولات المتصوفة في التأكيد على بواطن الحرف وما ورائياته، كما عند ابن عربي والنفريّ والحلاج والسهروردي، كما يأخذ من الحداثة  شكلها الجديد في رسم القصيدة صورياً،  بالاعتماد على طاقة الحرف في التوصيل والايحاء والصيرورة:

 

 واأسفاه

كلمة تكسّرتْ بهدوء

فرأيتُ الواو تنأى عني

والسين تسوّف أزمنتي،

الهاء تنظرُ إليّ دون ملامح

والفاء تجلدني بالسياط

وتضع على جراح ظهري الفلفل

والنقطة تسخر مني في ألمٍ عظيم.

 

 في قصيدة أخرى تحت عنوان (خطاب الألف) يمازج الشاعر أديب كمال الدين بين أبجدية اللغة وحروف المرأة المعشوقة تمازجاً روحياً:

 

 يا نوني، ها أنتِ كبرتِ وتعبت

يا نقطتي وهلالي..

وفي موضع آخر يقول:

وعدتني الكافُ بلقائكِ يا نون النأي

ولأنّ وعد الكاف حقّ مابعده حقّ

فإنني فرح بالانتظار

رغم انّ دمي يدمدم

وحروفي تسّاقط من نافذة القصيدة.

 

 

 يرى الناقد د. حاتم الصكر أنّ الشاعر أديب كمال الدين يخرج بهذه المجموعة من النصوص إلى فضاء النثر مستفيداً من طاقته الشعرية الكامنة، ساحباً معه وعيه الحروفي الذي يستند فيه وعبر ما كتب قبل هذا العمل من الإيحاءات الشكلية والجوهرية للحرف العربي في عمقه الوجودي: حرف يلتفّ إلى نفسه ليعمل في حقل شاسع محاوراً نفسه، ومسرّباً إلى قارئه شحنةً من المعرفة واللذة وشيئاً من ألم المواجد التي تنطوي عليها هذه الحروف القائمة على رؤوس الهم الموضوعي والشكلي. في الديوان نون تكرر نفسها وتحيط واو الجماعة، باستدارتها وعمقها واحتضانها النقطة أسّاً لكينونة الخلق ومنطلق خطه الموغل في الصيرورة:

 

 إذا ضاعت النونُ منّي ذات يوم

فمن الذي سألتجيء إليه؟

سألتُ الأبجديةَ جميعها حرفاً حرفاً

فلم تعطني جواباً شافياً

إلاّ النقطة باركتني

وقالتْ: إذا خانت النون فعليك بي

أنا نقطتها 

أنا سرّتها

أنا فحواها

أنا ذكراها الضائعة.

 

 إنّ نون أديب كمال الدين هي ليست فقط نون النسوة، كما يرى الناقد محمد الجزائري، بل هي تتماهى في ذات الشاعر، وتخلق استحالاتها من خلال استخدامات الشاعر المتعددة  لها على مستوى الديوان والقصيدة والجملة والحرف. لكنه ـ  أي الجزائري ـ  يعود إلى القول: إنها حالات الاستكناه لذاتية الحروف، الدال فيها يمتد إلى عمق العلاقة التقابلية العشقية .. لذا تبدو النون، مثل تجلّيات في النص، مكمّلاً تكون، للمرأة المعشوقة و محاوراً تكون للحروف الأخرى. وهكذا تتأسس مخاطبات هذا الكتاب الشعري في فن الهوى على غنائية لا تحفل كثيراً بالترميز أو الغموض أو التشظيات الكلامية. من هنا فالكتاب الشعري (نون) مكان أليف لكائنات أحبها أديب كمال الدين في استعاراتها ومجازاتها ودوالها.  إنها جمع النساء والحروف كذلك، أشكالا وعلاقات أمزجة و فيوضات عاطفية. (نون) يُقرأ لوضوحه ويتكىء على غزل في المرأة، وعناق في الشوق، وعذابات الفراق والاختلاف، والإزاحة.

 

**************************************

 

 نُشرت في صحيفة (آخر خبر) الأردنية 21 آذار - مارس 1994

و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 329 - 331

 

الصفحة الرئيسية