أديب كمال الدين... يبحر بحروفه بحثاً عن الحرية والحياة

 وديع شامخ

 

 

  بعد أربعين عاماً من الحريق

لم تعد أصابعه تقوى على رمي الحروف

ولم يبقَ لديه مكان لإشعالِ الحرائق.

في تلك اللحظة

في تلك اللحظة فقط

عرفَ قيمةَ الكتابة

وبدأ يكتبُ الشعر

حرفاً فآخر!

 

أسئلة مبكّرة

    في ليلة عمّانية  شتائية ماطرة وبتاريخ 20 /  2 /  2003  أقيمَتْ أمسية لتوديع  الشاعر أديب كمال الدين وهو يشدّ الرحال إلى أستراليا. ورغم  المطر الشديد، فقد ملأ الحضورُ المكانَ حتى أن القاص العراقي عبد الستار ناصر -مقدم  الأمسية-  كان مبهوراً من الحضور اللافت لأصدقاء ومحبّي أديب، الذي يفترض وفق المفهوم السائد للتصوف أن يكون قد قضى الشطر الأعظم من حياته "معتكفاً في زوايا التكايا وصوامع الشيوخ"، لكن الحال ليس هكذا بالنسبة لأديب كمال الدين، فقد تناوبنا – د. ناظم عودة، رعد كريم عزيز، د. هاشم حسن، هشام العيسى، عبد الغفار الصائغ، عمار المطلبي، وأنا -على قراءة شهادات ومقالات عن تجربة أديب شاعراً وإنساناً. ولكن الهاجس الذي تلبّسني هو مدى قدرة الشاعر على المضي في تجربته الحروفية في أستراليا.. كان سؤالي للشاعر: ماذا ستكتب في أستراليا؟ الحروف أيضاً؟  أما مللتَ من هذا الحفر والبذار والسقي في جوف الحروف وفم النقطة؟ بعبارة أخرى: هل تواصل الرحيل مع مخلوقاتك الحروفية أم انك ستكون مع موعد جديد مع تجربة أخرى؟

كلّ هذه الهواجس كانت تتلبسني وأنا أتابع ما ينشره أديب ولمدة أربع سنوات حتى جاءت مجموعة "ما بعد الحرف.. ما قبل النقطة" المنشورة عن دار أزمنة مؤخراً لتؤشر قدرة هذا الشاعرعلى  مواصلة الحرث والبذر في حقول الحروف دون  ترهل أو تكرار. فهل كانت حروف الشاعر "قطة بسبع أرواح" يستعيد عافيتها وحياتها شعراً كلّما أراد ومتى ما أراد في أيّ مجموعة؟! أم أن الشاعر يصطفي مجموعة من النصوص الحروفية من بين نتاجه الشعري الذي  يكتبه في كلّ مرحلة، للدلالة على اخلاصه لحرثه الأول" الحروفي"؟

 قريباً من الصوفية!

    كلّما اتسعت رؤية الشاعر عن الحياة المكتوبة والمعاشة  والمحلومة شعرياً ضاقت الهوة بين الشعر كتجربة جمالية وإنسانية وبين التلقي المنتج،  فتجربة أديب الثرّة والتي امتدت إلى ما يزيد عن ثلاثة عقود قد أوهمت الكثيرين بشباكها على مستوى التصريح، والمفهوم القسري المتأتي من جاهزية اطلاق الأحكام القيمية.

   فأديب يطارد القصيدة بمغزيين: أحدهما مشترك مشاع لكلّ شاعر وهو اللغة بمفرداتها القاموسية، وآخر بدلالته الرمزية بكلّ تمثلاتها وصولاً إلى تحقيق الجمالية  كبعدٍ موازٍ لغائية الشاعر الكلّية. ولكن الآخرين يبحثون دائماً عن ما ترسخ  من  تجربة أديب بوصفها صوفية المعنى والمبنى. ومن خلال متابعتنا لأديب الشاعر والإنسان- وعذراً من البنيويين لحضور المؤلف هنا بشخصه- وجدنا أديباً  قد أخلص لتجربته الحروفية التي يستعيد فيها ظلالاً بعيدة لتجربة العرفانيين الصوفية، ويقترب كثيراً من أسئلة الوجود الإنساني الغائص في عمق الذات والمحسوسات..  أديب يصوغ بحروفه جملاً شعرية ذات كيان إنساني حسّي، مرتبط تماماً بمجسّات اليومي والعادي والمألوف، القصصي، الحكائي: الحكايات المثلومة كأفق الحياة المجعدة، والحياة المقوسة، والحياة المقعرة والمحدبة.. حكاياته مترابطة، ذاهبة إلى المعنى تماماً، تحمل رسالة واضحة،... لا أثر فيها لصوفية مستترة خلف حجب الحقيقة تناغي المطلق وتعني المتحوّل المؤود دائماً، وبرغم ما يشيعه الشاعر عن استخدامه المفرط للمعجم الحروفي المقترن بالدلالة الصوفية والدينية والميثيولوجية والصوتية، الاّ ان المدرك لما وراء هذه اللعبة سيجد انّ الشاعر يتكلّم بوضوح لا لبس فيه عن الإنسان، الذي يُقوّس أحياناً، أو يتقوّس إرادياً.

   حروف أديب كمال الدين هي نسخة عن معنى وجود الكائن  ومعنى آخر لماهيته. أديب ليس صوفياً يرتدي خرقته ويصرخ في الطرقات، ولا فيلسوفاً، ولا حروفياً مجرداً، ولا طلسميا أو مُطلسِماً.. إنه شاعر أوهم الكثيرين بأنه درويش، ولكنه من أشدّ الناس تعلّقاً بالحياة ومن أشدّ الناس شبقاً بالحرية وبالمحسوس والمادي، وهذا من أهم "الأقنعة" التي ارتداها الشاعر..ويبدو أن هذه اللعبة "لعبة التواري" والتوازي" قد أُعجِبَ بها أديب وصارت قاموساً له. لكن من ناحية أخرى، نرى ان من المغالطات القرائية أن تُقرن تجربة أديب بأيّ شاعر من المتصوفة وذلك  بحسب رأي الناقد ناظم عودة ف " النصّ الصوفي يمتاز بجملة من المحددات النوعية، فهو نصّ مكاشفات، يؤمن بقدسية الحرف إلى الحدّ الذي يجعله متحداً بالذات الإلهية، وعلى هذا الأساس فسّر ماسينيون قصة شغف الحلاج بالحروف وإعطائها دلالة حدسية، يقول ماسينيون: توسّم الحلاج منذ وقت مبكر أنّ التوحيد لا يكون حقاً إلاّ إذا كانت صيغته هي تلك التي نطق بها الله نفسه. ومن هنا أراد أن يشعر بالنبض القدسي للحرف. والنصّ الصوفي أيضاً نصّ ملهَم في بعض التجارب الصوفية كتجربة ابن عربي الذي يدعي أنه مؤلف ملهم وأنه يصدر فيما يكتب عن إملاء إلهي لا عن تقليد للغير أو تفكير شخصي. والنصّ الصوفي سرد لنمط من العلاقة المفارقة للواقع، فالمتصوفة يعتقدون أنّ الحقيقة محجّبة عن الواقع، وهم وحدهم القادرون على نزع ذلك التحجب عن الحقيقة، ومن ثمّ عن المعنى. النصّ الصوفي نصّ شوقيّ لعلاقة وجدٍ بين الأرض والسماء، بين الإنسان والإله. النصّ الصوفي نصّ القلق النفسي المتأزم بالمفهوم السيكولوجي، فهو يبحث عن وسيلة لتطهير النفس القلقة، يقول الحلاج: يا أهل الإسلام أغيثوني، فليس (أي الله) يتركني ونفسي فآنس بها، وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها، وهذا دلال لا أطيقه.  ولكن نصّ أديب كمال الدين صوفيته صوفية شعرية  كما ان  التجربة الصوفية  تجربة فردية باطنية، وهي لا تخضع للتعريف المنطقي الذي يراد له أن يكون جامعاً مانعاً، بل تبدو التجارب الصوفية وكأنها جزر منعزلة ليس بينها رابط بسبب أنها تجربة فردية، لهذا فإن الذي يطرح تعريفاً لمصطلح صوفي ينطلق من تجربته الروحية الخاصة به. مما لا يجعل تعريفه متطابقاً أو مماثلاً لتعريف غيره".

  وبعيداً عن اللوثة الأدونيسية!

     يعتبر أديب واحداً من الشعراء الذين تفرّدوا عن شعراء  جيل السبعينيات الذي كان ذو طابع صاخب في تجاربة الشعرية والنظرية بينما ظل أديب بعيداً عن التنظير وهرطقة وحطام اللوثة الادونيسية التي دمغت بعض تجارب شعراء جيله، فهو نظرياً ووفق الحسابات التاريخية لمفهوم تاريخ الأدب يعد شاعراً سبعينياً وما عدا  هذا الخانق  النظري النقدي فأديب  شاعر رسالة، إشتهر بتركيزه على جمالية الحروف مستثمراً  طاقات الحروف  المتعددة الرموز والمستويات هي:"المستوى الدلالي، الترميزي، التشكيلي، التراثي، الأسطوري، الروحي، الخارقي، السحري، الطلسمي، القناعي، الإيقاعي، الطفولي":

 أنا النقطة

عرفتُ الحقيقةَ وعجنتها بيدي

قبل أن يصل الإنسان إلى الكلمة

وقبل أن يصل إلى القمر

وقبل أن يبتكر المقابر الجماعية

بل انني عرفتُ الحقيقةَ عاريةً

عري هابيل وقابيل

فأعطيتها ملابسي المثقوبة

ورعبي الذي اتسع فشمل آسيا الطغاة

                              وأفريقيا المجاعة

                             وأمريكا الأعاجيب.

  

أنا النقطة

أنا مَن يهجوكم جميعاً

أيتها الحروف الميتة

سأهجو نفاقكم وسخفكم

سأهجو أكاذيبكم وترّهاتكم.

    يقول الدكتور عبد الإله الصائغ في دراسته: " أديب كمال الدين ومشاغله العتيدة": استطاع الشاعر أديب كمال الدين خلق شعريته الخاصة من جهة التعامل الدؤوب مع الحرف والنقطة حتى أنسن الحرف وأنسن النقطة! فأنت لا تقرأ حرفاً خالصاً كما تراه أنت أو أنا!! وانما تقرأ الحرف كما يراه الشاعر! وليس ثمة سوى التشفير أحيانا والتماهي مع الحرف أخرى وتمجيز الحرف ثالثة في فضاء لانهائي تتوحد فيه الأصوات والمرئيات والمشمومات والمجرات والحبيبات حتى يعسر وضع حدود بين المحدودات! إذن (الحرفنقطة) باختصار واتساع شديدين عالم القصيدة والقصيدة أيضاً عالم الحرفنقطة! ذلك ما تؤسسه جلّ قصائد أديب منذ ديوان عربي! يمكن للقصيدة هنا أن تطوِّع عالم الحرفنقطة فتخلِّق منه كلّ مفردات القصيدة وأعني كلّ مفردات التجربة الشعرية لدى أديب! كيف؟ نعم كيف؟ الجواب هو مقترن بطقوس الرؤية لدى الرائي! الحرف كلّ شيء وكلّ شيء الحرف! السماء حرف والأرض كذلك! القتلة حروف والمقتولون حروف! الحبيبة الطاهرة حرف واللعوب الغادرة كذلك! الثنائيات حروف الليل والنهار، الموت والحياة، الإبداع والاتباع! ليس ثمة مشكلة على مستوى الرؤية! ولكن كلّ المشكلة في مشغل القصيدة! أن تحوِّل المحسوس مجرداً والمجرد محسوساً! أن تؤنسن مفردات الطبيعة أو تعيد مفردات الإنسان إلى الطبيعة!!  أن تتصبب عرقاً وأنت تكابد موسيقا الحروف كي تكون موسيقا القصيدة! أن تدخل بهاء المجذوبية بوعيك وأن تدخل وعيك بمجذوبيتك! هذه مشكلات اعتيادية في توليف الشعرية الجديدة التي تتنزه عن الانتماءات المغوغأة للمدارس أو المذاهب أو الأجيال أو البيانات! لاشيء يشغل بال القصيدة عند أديب! لاشيء يشغل باله يقينا ! نعم المتلقي (وهو ضالة المنتج بوصف المتلقي هو المستهلك الوحيد) المتلقي قارئاً سامعاً لا يشغل بال القصيدة عند أديب! تجنيس القصيدة لا يشغل بال القصيدة! ما يشغل بال القصيدة هو الحرفنقطة! لقد ملأت الحروفية حياة الشاعر الشعر وباتت شعريته! فما حاجته إلى السطوع وهو محترق؟ إلى الشيوع وهو مختنق؟ بعبارة مختزلة لقد غرّقت الصوفية الجديدة تجربة أديب! الصوفية ليست قصيدة ولا جلباباً ولا بياناً ولا صلاة! الصوفية تشترط أن لا تشترط سوى الزهد بكلّ شيء سوى المعشوق! فإذا كان المعشوق حرفاً فما حاجة العاشق للآخر إن لم يكن حرفاً!!

 المعنى الشعري وقصيدة النثر

    كثيرا ما عُرفت قصيدة النثر وكأنها "وثبة إلى المجهول" –حسب تعبير أنسي الحاج- أو كأنها مُلزمة بشروط "الإيجاز، التوهج، المجانية"- حسب سوزان بنرنار-  أو غائرة في مستويات ومجاهيل اللغة  الغامضة، ولكن الشاعر مارس شكل قصيدة النثر  أسلوباً  للتعبير عن تجربته الشعرية، وقد أخلص أديب لهذا الوهج الجديد لتطور تاريخ النوع في القصيدة العربية الحديثة. وكأن القصيدة عند أديب تسعى إلى تقديم  شعر المعنى بالدرجة الأولى، وان استخدم الشاعر صوراً واستعارات وتقنيات متعددة للوصول اليه  عبر هندسة ومعمار واضحين.  فتراه غير مكترث بلعبة اللغة، ولا بمتاهات تجارب الحداثة وما بعدها. وهو وفيّ للتفاصيل التي تقود إلى المعنى، وإلى أخبار المعنى، فلا محتجب ولا محجوب. الصورة واضحة وقد تكون شديدة البساطة أحياناً وشديدة البريق ، ويمكن حصر قصيدة النثر عند أديب بكونها وفقاً لتصنيف خزعل الماجدي:

1.    تعتمد على الاقتصاد اللغوي ولا تهدر كثيراً طاقاتها اللغوية وهي قصيدة معنى بالدرجة الأولى.

2.    لا تحفل كثيراً بالسرد أو الدراما وإن استخدمتها فسيكونا وسيلة عابرة.

3.    الوحدة العضوية أساسية فهي قصيدة تنمو بوضوح ودقة ولا مجال فيها للحذف أو الزيادة.

4.    تتبع نسق القصيدة الموزونة إلى حد كبير.

    كما ويغرف الشاعر من معين لا ينضب  من المصادر،  وكما يذهب الشاعر سركون بولص  إلى "إن قصيدة النثر هي التي تستغل وتغرف من كلّ الروافد ومن كلّ الأنهار ومن طرائق الكتابة المقالية وتغرف من الكتابة الدينية ومن النص الصوفي ومن العلم ومن السينما والباليه والرقص وربّما هذا الذي يشكل إيقاع قصيدة النثر. فالشاعر عندما يكتب يكتب بكلّ حواسه وبكلّ معرفته ولا يكتب مثل الشاعر التقليدي الذي يحاول أن يطربنا ويهزّنا أو يحاول أن يقنعنا بفكرة سياسية أو أيديولوجية،  فالشاعر الآن الذي يقف في مركز الكون وفي مركز التجربة الحياتية حينما يكتب تكون السياسة والايديولوجية والموسيقى وكلّ الفنون مصبوبة في نظرة ورؤيا وفي موقف حسي وهدفه في النهاية أن يدخلك في هذا الحقل من الطاقة الحية وفي هذه العاطفة المطلقة كما قال عزرا بأوند أنه "لا شيء غير العاطفة". والعاطفة هنا بمعنى (Passion)  الوجد الوجودي والكوني فالشاعر هو كائن يحترق كي تبرز هذه الطاقة ولكي يكون وقوداً لهذه العاطفة ولهذا الوجد. وأنا لا أجد أي شيء يمكنه أن يقنعني بأن قصيدة النثر مجرد شكليات أو مجرد تقنيات أو ضرورة تاريخية كما يتحدث عنها النقاد أو كتقليد سخيف لقصيدة الغرب. فهذه القصيدة هي الضرورة وكان الشاعر العربي يتطور نحوها على الإطلاق منذ القرآن الكريم. وتكاد أن تكون كلّ الكتب الدينية مكتوبة بالنثر وهي الكتب التي لم تزل تهز البشر.

 خاتمة

    كما انّ تجربة أديب الشعرية لا تتلخص في الحروفية فقط، بل امتدت إلى ولوج عوالم شعرية قوامها مختلف تماماً عن التجربة التي تستند على الحرف ظهيراً استعارياً وجمالياً لها وقد عبّر الشاعر عن هذه العوالم في العديد من النصوص عبر تجربته الشعرية المنشورة ومنها هذه القصيدة وبهذا يكون استفسارنا في مقدمة المقالة عن الجديد في رحلة أديب الشعرية قد وجدنا له جواباً شعرياً في عدد من القصائد التي نشرها مؤخراً  في موقعه الالكتروني  www.adeebk.com

 

   تحت عنوان: قصائد جديدة  ومنها قصيدة: "القليل من التراب":

(1)

سيبقى القليلُ من الأكاذيب

وترّهاتِ مدائح الشعراءِ للملوكِ الظَلَمَة

سيبقى القليلُ من مواعظ المدرسين المرتشين والزوجات الغبيّات

والقليلُ من الأوامرِ الإدارية بالتعيينِ والفصلِ والطرد

والقليلُ من التقارير السرّية

ومقالاتِ الشتمِ والتهديدِ والوعيد

سيبقى القليلُ من بياناتِ النصرِ المزيّفة

ومن نياشين العسكرِ وأوسمتهم الملطّخةِ بالدم

سيبقى القليلُ من عظام العشاق

وقلوبهم التي حطّمها الفراق

وسيبقى القليلُ من جمالِ الجميلات

والقليلُ من العري عند البحر وفوق السرير

والقليلُ من الليلِ والفجرِ، والماءِ والهواء

والقليلُ من الأحلام والدموعِ والهلوَساتِ والكوابيس

والقليلُ من صيحاتِ مشجّعي كرةِ القدمِ ومصارعةِ الثيران.

(2)

سيبقى القليلُ من ذكرياتِ الطفولة

وصور العيدِ غيرِ السعيد

وأحلام البلوغ ورسائل الحبّ وصور العائلة

سيبقى القليلُ من صيحاتِ الأوركسترا

والقليلُ من قصائد المللِ والعتابِ والانتظار

والقليلُ من ملابسِ المهرّجِ والطبّالِ والراقصة

والقليلُ من دموعِ اللاجئين

ومراكبهم الصدئة التي تغرق كلّ يوم

في محيطاتِ الله

سيبقى القليلُ من وصايا الله.

 (3)

نعم

كلّ شيء سينقلبُ إلى تراب

وسيبقى، أيضاً، القليلُ من التراب!

 

   اذن، فالشاعر عبر خطابه الواضح يريد أن يتخلص من وهم الحياة المستعادة شعرياً أو المحلومة أو المرسومة سلفاً بدلالات ومؤطرات جاهزة، ليصل إلى حوار صريح مع الله ليعتقه من سلاسل وأصفاد المسلمات اليقينية وصولاً إلى لحظة هاربة من يد القدر.. التحرر من الطوفان والنار والعبودية. يقول أديب في قصيدة (الأعزل) المنشورة في مجموعة: ( ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة):

 إلهي

سأخرج إلى الشارع

لألتقي بذئبك

أما ملائكتك ذوات الأجنحة البيض

فأن قلبي الجريح

لم يعدْ يحسن الانصات

إلى رفيف أجنحتها.

إلهي

أعذرني

واعذر لغتي العارية

ذلك ان كائناً أعزل مثلي

لا يستطيع أن يتحمل كلّ يوم

تراجيديا نوح

وغرابه وحمامته وطوفانه العظيم

لا يستطيع أن يتحمل نارَ إبراهيم

وحفلة الرعب التي ألقاه الكفرةُ فيها

راقصين مبتهجين

ولا يستطيع أن يفعل كما فعل يوسف الصديق

أن يواجه أسطورة العذاب

لذلك الطفل الذي عاش في البئر

وفي القصر وفي السجن

وفي العرش.

إلهي

أرسلْ إليّ ذئبك

فربّما يجفّف الموت

مستنقع حياتي إلى الأبد

وربّما يكون فم الذئب شجاعاً

بما يكفي لإنهاء

حفلة الطوفان والنار والعبودية.

%%%%%%%%%%%%%%%%

أستراليا- بيرث

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home