أديب كمال الدين حرف غرّد في منفى

صالح الطائي

 

  

بعد أن أتيح لي الإطلاع على الأعمال الكاملة للشاعر العراقي الكبير أديب كمال الدين، بتّ على يقين تام أن الحرف كائن خرافي يمتلك سطوة جبارين ممكن أن تسحر شاعراً ليعشقه إلى حد الجنون .. ممكن أن يتحول من إشارة بكماء إلى ليلى ربة العشق.. ممكن أن يتحول إلى طوبة فخارية تتراص مع بعضها لتبني بقايا روح أنهكها سفر السنين الطوال في أرض الغربة، حيث يبدو الحرف مخنوقاً لأنه في أرض غير أرضه ويعيش مع قوم من غير جنسه لهم حرفهم وإشاراتهم.

ليس من الطبيعي أن يتعلّق الشاعر بالحرف إلى درجة الهيام، وليس من الطبيعي في زمن اللاحب أن يتلذذ الشاعر بكلمات التغزل التي يطلقها على الحرف، ليتحول الحرف من مجرد انحناء إلى أنحاء ومسافات وبحار  وأنهار وهضاب ووديان وجبال.

 الحرف ليس جميلة الجميلات إلا لدى سيد الحروف الذي أوقف نزيف قلبه على الحرف وحده متجاوزاً كل ما تعارف الشعراء على التغنّي به.

أديب كمال الدين المسافر أبداً والسائح في أرض الغربة عقد مع الحرف معاهدة تشبه زواج النصارى لا انفصام لها ولا طلاق فيها .. الحرف نفسه تعلّق بأديب وذاب في كيانه، وتعشق بكينونته فأصبح الحرف أديباً وأصبح أديب حرفاً، ومحيت الحدود وتاهت المسافات، ليولد نبع صاف رقراق عذب يجري يتيماً في صحراء التيه يبحث عن المفقودين الذين أنهكهم العطش، ليسقيهم شربة قصيدة ونبض حكمة وبعض بقايا الروح، وقليل من غبار وطن.

 حينما يتحول الحرف إلى جورية لما تتفتح بعد، يبقى عشاق الورد ينتظرون تفتحها ليمتعوا ناظرهم بألوانها، ويطربوا حواسهم بعطرها وقد يقطفها أحد قساة القلوب ليهديها إلى عزيز، وربما لهذا السبب عيّن أديب كمال الدين نفسه ناطوراً على حقل الورود، وأخذ على عاتقه فتحها حتى قبل أوان تفتحها ليدوم عطاؤها ويفوح ضوع عطرها.

عشق الحرف يعني محاولة جادة لنقد الذات .. يعني البحث عن ذات بمواصفات تتمثل فيها قمة الآدمية بعد أن تحول الكثير من الآدميين إلى وحوش كاسرة، أو ربما هو محاولة حثيثة لأنسنة وحشية الإنسان؛ التي خرجت عن طورها، بعد أن فقد الإنسان إنسانيته تحت وطأة المتغيرات التي فرضت عليه قسرا فسلبت أعز ما يملكه ويرغب بالدفاع عنه: الحرية.

انطولوجيا Ontology كمال الدين في تعامله مع الحرف تحاول أن تدخل الحرف إلى عالم الميتافيزيقا وتسحبه من واقعيته إلى ما وراء الطبيعة وكأنّه من خلال كل تلك الدواوين التي أصدرها عن الحرف، وجد للحرف أكثر من طبيعة، بعضها خافٍ عن الآخرين ولكن ليس بنفس الطريقة التي طرح من خلالها  الفيلسوف الفارابي مشكلات الانطولوجيا في كتابه "الحروف"، فلكل منهما منهجه الخاص، ومنهج أديب كمال الدين وإن لم يكن فلسفيا بحتا إلا أنه ابن الفلسفة الشرعي الذي رضع من أثداء المعرفة وترعرع في مواطن الجمال. 

إن دراسة الحرف تبدو حسب قناعتي أحد أكثر المحاولات جدّية لتفسير العلاقة بين الوجود والماهية، لا لتفضيل أحدهما على الآخر ولكن لترجمة المعاني بأسلوب حروفي غاية في الدقة، يختصر الرؤى، ويخلق رؤى جديدة فيها من السحر والشجن ما يلهيك عن تتبع سقطات الحياة التي أتعبتك.

حينما تصاب الروح بالقشعريرة تبحث عن ظل وارف تخبئ همومها تحته عسى أن تتساقط كما البرد، ولهذا جاهد أديب كمال الدين ليحوّل الحرف إلى ذلك الظل الوارف في صحراء حياتنا، فيخلصنا من عنف الصراع من أجل البقاء إلى الصراع من أجل الحب بكبرياء. عنفوان الأشياء الذي يجرح كبرياء المرء يتحوّل إلى وطن حينما يسيطر الحرف على المعنى، وحينما يتحول الحرف إلى قضية. ومتى ما كان الإنسان صاحب قضية يصبح للحياة طعماً آخر غير طعمها المألوف، طعماً نابعاً من ذات الإنسان التي كان يبحث عنها.

عديدة هي الطرق التي يوظّفها الإنسان في بحثه عن ذاته، ولكن الذين يبحثون عن ذات الحرف لتعشق ذاتها أقل من قليل، وذلك لأن مأساة الحرف التاريخية أن جميع الذي عشقوه، أشقتهم الحياة، على خلاف الذين لا يعرفون يشمّون عطر الحرف؛ أولئك الذين أسعدتهم الحياة.

 

 

 

 

وَجْدُ أديب بالحرف يكاد يشبه وَجْدَ الحلاج والجنيد البغدادي؛ وهو الذوبان بالمعشوق حتى الثمالة، عشق أديب للحرف جعله ينظر إليه وكأنه ينظر إلى نفسه في مرآة الحياة، وجعل له قدرة إعادة التكوين، إعادة الصياغة. الصائغ المبدع يمكن أن يصنع حروفاً من ذهب تتزين بها الجميلات، ولكن نادرا ما تجد شاعراً يصنع حروفاً من سحر تزين عقول الناس.

الحبر الذي يخط الحرف قد يعطيه لوناً ولكنه يعجز عن أن يعطيه معنى، أما أديب كمال الدين فالحرف عنده أبجدية من الألم، أبجدية من الشمس. وربما لهذا السبب قرّر أديب أن يصبغ ليله باللون الأبيض بعد أن أقلقته كوابيس الصحوة التي يحلم فيها أن تصبح النقطة بحراً ويصبح البحر سفينة، تصبح النقطة وطناً، ويصبح الحرف سماء، تصبح النقطة سلاماً ويصبح الحرف حمامة، تصبح النقطة دمعة ويصبح الحرف عيناً، هكذا هي أبجدية الحروف المريرة لدى أديب، ليس مجرد حروف تبكي من الألم لأن نقطة النون ليست في المنتصف.

 أديب أتعبته الغربة ولذا بات يحلم أن تكون النقطة وطناً والحرف سماء بعد أن عايشها وهي تتحوّل إلى رصاصة وإلى أسطورة وإلى حرب والى موت، وفي هذه المعادلة غير العادلة بقي طوال حياته ينتظر الفجر ليهرب:

بعدَ سبعين عاماً

من تسلّقِ جبلِ النفي والمنفى

والوعدِ والوعيد،

من تسلّقِ جبلِ الحرمانِ والدخان،

من تسلّقِ جبلِ العبثِ الأكبر...

 

هكذا عرفت أديب كمال الدين، وهكذا عشقت حروفه، التي علّمتني أن احترم الحرف مثلما أحترم الجمال، ربما لأن الإنسان يجد الجمال في الحرف أو يقينا، يجد نفسه، من يدري؟

 للمرّة الثانية خلال أسبوع واحد، أعدت قراءة مجموعة أديب كمال الدين الجديدة "في مرآة الحرف" الصادرة عن دار ضفاف البيروتية منضوية على خمسين مقطوعة تتغنّى بالحرف والحرف وحدة، وهي التي جاءت بالتسلسل (19) من بين المجموعات التي أصدرها الشاعر، وفي كل مرّة أجد هوساً وهياماً بالحرف يخترق حجب الروح ليتحوّل إلى إيقونة عشق من نوع خاص يحمل روح المعنى ولذا أجدني مع كل قراءة يزداد تعلّقي بالحرف، وقلقي وخوفي منه وعليه.

صديقتي الأديبة وفاء عبد الرزاق تقول: إن المجداف يترجم لغة الماء للضفاف. وأنا أقول: إن الحرف يترجم لغة الإنسانية للعقلاء فقط، ولاسيما بعد أن وجدت فوضوية الحرف تتحوّل لدى أديب كمال الدين إلى نسق حياتي غاية في الدقة، تَضمرُ فيه النقاط السوداء، وتتضخّم فيه الشموس التي تحوّله إلى قناديل فرح في يوم عيد. وهنا هنا فقط، أيقنت وأدركت أنْ ليست تجارة تلك التي تربط أديب بالحرف فالحرف لدى أديب قصة عشق تصعد مع نسغ حياته وتنزل رطباً جنياً في عذوق برحي ومكتوم وتبرزل.

 

************************

        *  في مرآة الحرف : شعر: أديب كمال الدين، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2016

     

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home