سفر الذات في شعر أديب كمال الدين وتداعيات البحث عن المعنى الجمالي

 

أسامة غالي

 

 

 

قدّم النقاد دراسات عدّة حول شعر أديب كمال الدين من بينها دراسة الناقدة الدكتورة أسماء غريب تحت عنوان: (تجلّيات الجمال والعشق عند أديب كمال الدين) والتي صدرت عن منشورات ضفاف/2013/ تحمل في تضاعيفها رؤية نقدية مغايرة تتسم بالتداخل المنهجي بين النقل والعقل والتصوف وان ادعت الناقدة بعد ذلك توحّد القراءة عبر المنهج التفكيكي الجمالي الذي وجدته حسب قولها: ( يمكّن الباحث أكثر من غيره على التركيز على البنية الجمالية في نظرتها الشمولية وفي ما تحويه من علاقة بين الفكر والواقع ، وبين الواقع والعالم ، وبين العالم والكون، وبين الكون وخالقه ما دام هو وحده المتفرد بالجمال المطلق). وبذا تضع القارئ إزاء ثلاث تصورات تشكل بنية الدراسة ومادتها (الفكر/الواقع/العالم) وتشخّص سفر الذات الشعرية لأديب كمال الدين وترحاله بين تلك المسافات المتباينة في ماهيتها وصورها ، رغم انها تؤكد ثمّة تعالقات نفسية وروحية تمتد بين العقل والروح والمجتمع تنبعث من جمالية المُبدئ لها واستجماعها في الكون أو الكونية بوصفها الابستمولوجي.

بعيداً عن إشكالية المنهج وما كُتب عنه من ملاحظات نقدية ، يتجه المقال نحو تتبع سفر الذات للشاعر مقاربة له مع ما موجود من انساق متعارف عليها في الحاضنة الصوفية، فالتصوف يعتمد على ركيزتين أساسيتين (السفر ـ المحو /البوح ـ الصحو) وبين هاتين الركيزتين يتجلّى المعنى الجمالي لدى الشاعر العارف بكونية الأشياء وتجاذباتها الروحية، تعرض أسماء غريب لقطات من السفر الشعري لأديب كمال الدين وهو يبدأ من النقطة متخذاً الليل رداء الخلوة مع الحبيب المطلق، تاركاً (وراء ظهره كل علم وصورة، وصرف عنه كل شيء حتى يتمكّن من رؤية النزول الرباني، أي أن العارف حينما يقف الليل بين يديه، عليه أن يلبس خرقة الجهل (قميص الله) لذا فلا معلوم في هذه الوقفة الا الجهل الذي هو الحجاب الادنى لله) وهذا المعطى الذي وضعته الناقدة مقدمة لاستجلاء المعنى من قصيدة : (مددتُ يدي إلى الله/ إلى ما شاء الله/ وإذ نظرَ إليّ برحمته التي وسعتْ كلَّ شيء) على أنها تمثل مشهد التعرّي عن الزمان والمكان وشمول الشاعر بالرحمة الالهية لاستشعاره الجهل ـ  بات يؤكد حالة الشهود للجمال وتجلّياته في أفق النفس ومحو جميع الصور العلمية  حيث تقول الناقدة (الجهل الذي هو الحجاب الأدنى لله متى تجلّى في حضرة الليل أو حضرة السكون الذي يصبح فيه العارف طوع الشهود الوجداني غير ملتفت إلى علم أو إلى  صورة حتى لا يأخذه البلاء الذي هو حرمان العارف من الله ومن مجلسه ورتبته ونوره).

 

 

 

  ثم تبدأ الناقدة في استعراض ملمحين بارزين في شعر أديب كمال الدين (النقطة/ الحرف) وتتفحّص طبيعة حضورهما في النص من منطلقات عدّة بحثاً عن المعنى الكوني و الجمالي المختبئ خلف الرمز والإشارة الا أنها تكثّف الرؤية الصوفية في تنقيب مستجدّات المعنى الجمالي عند أديب كمال الدين وما أضفاه من لمسات تغاير السائد مقارنة مع (النفري) صاحب المواقف، وتكشف أيضاً عن تكريس الشاعر لتلك الثنائية الرمزية (النقطة/الحرف) على انها بوح مختنق بين سياقات اللغة القاصرة عن إيفاء المعنى، كما أن الناقدة تؤكد قابلية (النقطة /الحرف) على اختزال كم هائل من الحقائق الوجودية ، فالنقطة ـ فلسفياً ـ هي بداية الخط ، والحرف يعد تعبيراً آخراً عن تكرار تلك النقطة في تشكلات عدة يقتضيها التنوع والتفاوت في الجمال المشهود، والذي ينعكس بصورة دائرية تتمركز في قطبها الذات معلنة عن سفر غير متناه، كما أنها من وجهة أخرى تمثّل (مركز الكون وكونها كامنة في الحقيقة المحمدية والباء العلوية) وهذا ما حدا بالناقدة إلى أن تتساءل عن صيرورة هذه النقطة بحيث تصبح أديب كمال الدين نفسه على غرار ما أثر في التراث الصوفي.

لم تقف أسماء غريب عند الكشف عن تعالقات الحرف والنقطة فحسب بل تجاوزت ذلك إلى التنقيب في مواقف أديب كمال الدين الشعرية والإعلان عن رحلة مستديمة ، ،كي تُقرر بعد ذلك ثبات خطابه الثقافي ولغته تبعاً لثبات كلمة القرآن التي استمد منها رحيق تجربته الروحية والشعرية ، فها هي تعيد قراءة قصيدة (موقف الحجاب) مقاربة مع أسلوب النفري ـ غير القار ـ في صياغة إشعاره ومواقفه، حيث تقول: (موقف الحجاب عند أديب كمال الدين، لا يعني  أبداً أنه محجوب إثناء الوقوف في الحجاب بل العكس من ذلك، فهو في هذه الحالة مشاهد لحقيقة الحجاب ..) وهذا يعني أنها تغاير بين نوعين من الحجب، فثمّة حجاب أصغر تحتمل الناقدة أن الشاعر قد تجاوزه بوصفه (الحجاب بالخلق) وثمّة حجاب آخر هو (الحجاب بالحق)، مفيدة هذا التصنيف من إجابة النفري  وتضيف عليها بأن (الحجاب الحق هو حجاب من حجب بالخلق، لأنّ ذلك يعني أنه حينما ترد على هذا المحجوب الأنوار فانها لا تمحو سوى حجب الخلق باعتبارها ظلم تتجلى بالنور أما الحجب بالخالق فهو ليس بحجب حقيقي لان النور لا يمحي النور أبداً)، ومع هذا كله بقيت الناقدة تسكن منطقة الحيرة في البت بما يعنى وراء (الحرف والنقطة) بشكل نهائي، وهي تثير هاجس السؤال عما يلوح في أفق الشاعر من حدام مع الثقافي الراهن من جهة والنفسي الذي تجاوز أطر التنظير الصوفي من جهة أخرى كي تضع رؤيتها النقدية باحتمالية تحفز القارئ على استجلاء الغائب الذي لم يكتشف بعد في شعر أديب كمال الدين..

 

****************************************

 

  تجلّيات الجمال والعشق عند أديب كمال الدين) تأليف الدكتورة أسماء غريب، دار ضفاف للنشر،

 بيروت، 2013

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home