الدكتورة أسماء غريب وتجلّيات أديب كمال الدين

 

 

 

 

 

[قراءة في كتاب (تجلّيات الجمال والعشق عند أديب كمال الدين) تأليف الدكتورة أسماء غريب،

 

دار ضفاف للنشر، بيروت، 2013]

 

 

 

 

الإنسان كل إنسان تقوده مجموعة عواطف متشابكة محكمة الصنع معقدة التكوين غريبة الأطوار تستفزها الغرائب وتدهشها العجائب فلا هي طوع أمر الإنسان ولا له قدرة محاربتها بالنسيان؛ تقوده في مجاهل التكوين، وتأخذه إلى حيث لا يهدأ ولا يستكين، مرة تثيرها الدهشة بالكامل، ومرة تثير فيها مكمنا يرتبط بوقع ذاكرة غائرة في أعمق أعماق الروح، تتماهى مع البوح وترنو للسكون، وفي كليهما تجد غايتها ووسيلتها، وعلى مر التاريخ كانت للشعر سطوة عليها ترقى إلى درجة السحر الأسود تتنقل سطوته من حالة الاندهاش البسيط إلى حالة التفاعل الكامل لدرجة نسيان الموقع والمركز وفي تاريخنا القديم أن شاعرا قرأ قصيدة لأحد الخلفاء استغرقته تلخيص كيانه كله في أن يصبح مطية للشاعر يركبه ويجول به حول كرسي الخلافة لأنه لم يجد فيما يدخره من حيل ما يمكن أن يرد على القصيدة بمستواها أي معادلا ماديا لها.

 

لم نعد في عصرنا المعاصر نهتم كثيرا بما يقال ولاسيما بعد أن نقلت لنا الحضارة بآلاتها وأساليبها كل كلام الكون وجمعته لنا نتحكم به بلمسة زر لدرجة مقدرتنا على ترجمته من أي لغة أخرى إلى لغتنا المتداولة دونما عناء. ولذا من المدهش أن تجد بيننا من يولى الكلام اهتماما بمستوى أن يتابع أدق التفاصيل ويبحث في أدق الجزئيات عما لا يمكن رؤيته بالروح المجردة بل بالعقل المكبر مئات المرات، فأي هوس يدفع إنسانا ما للبحث عن أمواج طيف إنسان آخر في زمن الزلق هذا؟

 

تلك هي الدكتورة أسماء غريب فارسة كلمة النقد التي تبدو من بعيد وكأنها تحمل سيوفا ورماحا لمطاردة هاجس السؤال وهاجس المعنى أملا في أن تشعل فتيل اللماذا في كتابها الرائع (تجليات الجمال والعشق عند أديب كمال الدين) ولكنك حينما تلج عالمها المليء بالدهشة لا تجد أثرا للآلات الحادة الجارحة، ولا تجد مكانا لروح الكراهية التي تدفع المرء عادة إلى خوض حروبه الشريرة بل تجدها فراشة خرجت من شرنقتها لتتحول إلى منقبة آثار تحمل في يدها إبرة صغيرة تنقب بها بصبر وتأن لا حدود له في أطلال وأنقاض وخرائب وقلاع وسوح حرب تاريخ أديب كمال الدين هذا الشاعر المشاكس حد التوحش الهادي حد النسيم العذب المزموم كشفاه صبية المنتشر كريح عاتية الصلد كجلمود صخر حطه السيل من عل المتمرد الذي لا يبقى بيديه قيد مهما كان محكما، والبسيط الذي يمكنك تقييده بنسمة ريح، هذا الشاعر الذي أدمن جمع التناقضات والمتناقضات ليحولها إلى أحرف ملونة بألوان قوس قزح تعطي لقصائده نكهة الشهقة وتمنح حروفه عزف الرعشة، رعشة الخوف مما يختبئ خلف دياجير الظلم، الخوف من الجنيات التي كانت تكلمنا عنها جداتنا في الصغر، رعشة الجوع والحرمان والشبع والبطر مع  قليل من الحب وكثير من الألم.

 

 

كانت عباراته التي حوتها أعماله الممتدة على طول وجه التاريخ تتفلت من يديها.. تتقافز كشياطين زرق أو كملائكة سحرهم عالم العرفان فتحولوا إلى فقاقيع من دهان أبيض يعطي للكون سمة السلام والخلود حتى مع تلك النار المتأججة في صدره وزوابع الحزن التي بلغت حد الطوفان، فالطريق إلى الجمال(1) يمر عبر صور النقطة والحرف. وبنية الصّور الوصفيّة وظاهرة التواصل الحسي(2) تتيه مع صور المرأة والمرأة والحرف والمرأة والنقطة، وصولا إلى دلالة الألم والصليب والموت(3) حيث تسترد تلك الصور المرعبة التي رسمها الشاعر في قصائده للحظات الألم حد تمني الموت كالمستجير من الرمضاء بالنار، لتنتقل بعد ذلك إلى الصوت الحروفي(4) ذاك الذي كتب عنه النقاد ولا زالوا منشغلين بمتاهاته السردية التي لم يهتدوا إلى معرفة خرائطها الجينية بعد ليتمكنوا من  معرفة أصلها الغائر في عمق عذابات النزوح القسري أو الهجرة نحو اللاقرار؛ حيث تتخلف الذكريات في محطات السفر، ويسافر المرء مجردا من تاريخه كصفحة بيضاء لا يخدش وجهها سوى صوت الآهة والأسف.

لقد تمكنت الناقدة الدكتورة أسماء من تجاوز عقبات أديب كمال الدين وتعرجات حياته القاسية فأوصلت لنا صورا موناليزية البسمة ارتسمت في خيالنا وكأنها قصائد غزل لم يقلها عشاق عذرة في خيامهم، ولم يمر بها مالك بن الريب وهو يخب بحصانه نحو وادي الغضا باحثا عن لحظة الاستشهاد.

......................

 

الهوامش

(1) عنوان الفصل الأول من الكتاب

(2) عنوان الفصل الثاني من الكتاب

(3)عنوان الفصل الثالث من الكتاب

(4)عنوان الفصل الرابع من الكتاب

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home