قراءة في مجموعة (الحرف والغراب) للشاعر أديب كمال الدين

*********************************************

حين طار الغراب ولم يرجع !

*****************

 

 

 

أسامة غالي

 

 

 

 


احتفى المنجز الشعري (الحرف والغراب) للشاعر العراقي المغترب أديب كمال الدين الصادر عن منشورات الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان  2013،ـ بمجموعة قصائد ذات مضامين متنوعة، تمّ اختيار عينة منها لأجل الوقوف على البعد البنائي للنص في ضوء قراءة تاؤيلية ..


ابتدأ أديب كمال الدين ديوانه بقصيدة (الغراب والحمامة) والتي جاء عنوانها من حيث انتهى العنوان الرئيس للمجموعة (الحرف والغراب) وهذا يجعل القارئ يتساءل حول ترتيب القصائد بهذا الشكل فكان من المفترض منطقياً أن يضع قصيدة (قال الحرف: ما معنى النقطة) في بداية المجموعة الا أنّ ما يبدو من هذه المخالفة هو هدم للتسلسل المنطقي كي يعي القارئ بدءاً أنّ المجموعة تخضع لعنصر المفاجأة، وتشظية التصورات الأولية كي تصنع فضاءً فوضوياً لكل ما يقدم عليه القارئ …

 
حين طارَ الغرابُ ولم يرجعْ


صرخَ الناسُ وسط سفينة نوح مرعوبين.


بدأ الشاعر قصيدته (الغراب والحمامة) بهذا المقطع وهو يكرّس مفهوم الزمن للدلالة على وجود ترابط بين الأحداث ، وكأنّ الاجراء والفعل لا ينتج الا عن فعل مقارب له في الزمن/ حين طار الغراب/ صرخ الناس/ بالإضافة إلى أنّ التفاعل يتم بتعاقب وتوالٍ وليس بانبثاق عرضي كي يدخل الشاعر العنصر التاريخي في إنتاج النص /حين عادت الحمامة/صرخ الناس/، كما وأنّه يؤثث فكرة الفهم الكلي بجعلها تنفتح على عالم الأشخاص الفرديين ، حيث يصيّره انتقالاً وإعادة معايشة للعالم كما يجده شخص آخر في الخبرة المعاشة نفسها] ينظر: فهم الفهم، مدخل إلى الهرمنيوطيقا، د. عادل مصطفى، دار رؤية ص143[ حيث يقول:


وحدي وقد كنتُ طفلاً صغيراً-


رأيتُ جناحَ الغراب،


أعني رأيتُ سوادَ الجناح،


تفترض القراءةُ أنّ ديوان (الحرف والغراب) لأديب كمال الدين يشتمل على عنصرين رئيسين (الرؤية، والاجراء) وتكرّس هذين العنصرين جرّاء تجربة الشاعر الطويلة، تمثّل العنصر الأول بين قراءاته و تأمله، والآخر جرّاء تزاحم واحتدام خارجي تتجلّى انعكاساته المحزنة والمفرحة على حد سواء في أفق الذات الشاعرة ، ما دعا أديب كمال الدين أنّ يتحرك شعرياً إزاء بناء نصّ تتراكم فيه الوحدات القيمية على أنّها أمثولاً لفعل خارجي هادف تارة وعبثي تارة أخرى:


ضميرُنا المُستتر،


ضميرُنا السكرانُ ليلَ نهار،


ضميرُنا الذي يصحو


كي يواصلَ فوراً سكرَه وشتائمه


وفكاهاته التي تشبهُ طيوراً ميّتة،


حتّى ينام في آخر الليل


سعيداً كيتيمٍ طُرِدَ من الملجأ


مفترشاً الرصيفَ أو الحديقةَ العامّة،


وقنينةُ الخمرةِ قربَ رأسه


تحرسُه بشخيرِها العميقِ من الكوابيس.


في الوقت الذي ينطوي النص على بناء فكري فوضوي أقرب منه إلى بناء منطقي متراتب حيث أنّ أديب كمال الدين نأى بقصائده عن النمط التراتيبي التقليدي للأفكار والرؤى وسعى إلى خلق مسافات متناقضة ومتباينة في النص،

ينتظرُ حبلَ الموت


كي يلتفَّ على الرقبة،


بهَلْوَسَته الحكيمةِ وبحكمته المُهَلْوِسة،


قَتَلني رمياً بالرصاص


وأنا في سنِّ العشرين!


كما أنّ صياغة الأحداث تتم بسرعة تتناسب ومجريات الواقع الخارجي المزدحم بتتابع الأحداث واندماجها، وكذلك عمل الشاعر على تبئية الثقافة المغايرة بإدراج النصوص التي تحمل سمة الخروج عن السائد الاخلاقي والديني والثقافي في سياق يلغي الفهوم والإسقاطات الأولية فتتحول إلى رؤية أو مُثل فاقدة للإجراء وبالتالي لا تعدو كونها أفكاراً كلّية تنساب مع واقعيات متنوعة ومختلفة وباجرائها يتحدد قبولها أو رفضها مقاربة مع الانتظام واللاانتظام أو الالتزام واللالتزام ،


ستحكين الحكاياتِ - ما أجملها!-


إلى شهريار المحدّقِ في شفتيّكِ مدهوشاً.


ستدّعين أنَّ حروباً عظيمةً نشبتْ،


وسفناً محمّلةً بالذهب


غرقتْ في أعالي البحار،


وملوكاً صُلِبوا ثُمَّ قاموا من الصلب،


وشطّاراً حكموا أزقّةَ بغداد،


وعشّاقاً جنّوا من العشقِ والحبّ،


ونساءً مارسنَ السحرَ والجنس.


وبذا يسعى أديب كمال الدين نحو إيجاد ثابت نصّي مقارنة بالمتغير الإجرائي الذي حدا به إلى منطقة التلقي والقراءة كي يشتغل القارئ على تقطيع وتقسيم الانبساط الحاصل في المعنى ويجعله ماثلاً بصورة جزئية غير قارة تتبدل وتتحول مع كل فعل قرائي جديد بالإضافة إلى أنّه يترك في النص إمكانية مقاربة ما ينجز مع ما يعيشه الشاعر نفسه ، وعلى هذا يمكن أن نصف نصّ أديب كمال الدين على أنّه يتموقع بين مستويين من الرؤية التأويلية، أولها تعمد على تجاوز حرفية الواقع الخارجي وشخصنة المعنى إلى حيث المحاكاة بنمط كلّي عام لا يشير إلى المؤلف على الإطلاق بل إلى الحياة ذاتها بكل ما تتصف به من تاريخية وزمانية] ينظر: فهم الفهم، مدخل إلى الهرمنيوطيقا، د. عادل مصطفى، دار رؤية ص140[ ، وثمة رؤية مغايرة تستند في تخومها على نزعة سيكلوجية تجعل من المؤلف جزءاً رئيساً في عملية الفهم والتأويل، فبين هاتين الرؤيتين يتجاذب نصّ أديب كمال الدين، فلا يغادر تجربته المعاشة مطلقاً ولا يعمد إلى انحباس النصّ داخل تلك التجربة، وهذا التواشج بين الرؤيتين يتشكل عبر القدرة الكتابية للشاعر وإمكانيته في خلق سياق مغاير يتحوّل التناص عنده إلى انتاجية جديدة:

 
سيزوركَ هذا الصديقُ كاللصّ


في آخر الليلِ والبرد


وهو يحملُ موتاً خَفيّاً بين أضلاعه.


ستقولُ له كلَّ نون


وستسحرُه بالحروفِ وأسرارها


وستدهشُه بكهيعص ويس وطسم وألم.


ستنتابُه الحيرةُ وقتاً طويلاً


وسيذكرُ في لحظةِ صدقٍ أثيرة


أنّه قد رأى ذاتَ يومٍ سفينةَ نوح،


من جانب آخر تجد الشاعر يضمن التناص في شعره أدوات التشبيه والتي لا تقتصر وظيفتها على المستوى النحوي والبلاغي في التقريب أو المماثلة بل تعمد إلى تحويل وفصل النص عن مرجعياته الأم ..


سيبكي عليكَ، إذنْ، أخوتُك:


إخوةُ يوسف


مثلما سيبكي الشيخُ الكبير


والمرأةُ التي جُنّتْ بحبّك


والنساءُ اللواتي قطّعنَ أيدهنّ.


حتّى الذئب سيبكي عليك!

 

 

 

*****************************

(الحرف والغراب)، شعر: أديب كمال الدين، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت - لبنان 2013

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home