أديب كمال الدين: أخلصتُ للحرف حتى أصبح بصْمَتي الشعرية

أربعون عاماً من كتابة الشعر و19 "مجموعة حروفية"

 

 

 

 

حوار : عدنان حسين أحمد

 

 

ينتمي الشاعر العراقي أديب كمال الدين إلى جيل السبعينات من القرن الماضي. بدأ مشروعه الشعري بكتابة قصيدة التفعيلة ثم تحوّل إلى قصيدة النثر. نشر على مدى أربعة عقود ونيّف 19 مجموعة شعرية. تُرجمت قصائده إلى عدة لغات عالمية من بينها الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، ونال جائزة الإبداع عام 1999 في العراق. ولمناسبة صدور المجلّد الخامس لأعماله الشعرية الكاملة، كان لنا معه هذا الحوار.

حوار: عدنان حسين أحمد

- كيف انبثقت في ذهنك فكرة النص الحروفي، وهل تعتقد أنها ماركة مسجّلة باسمك أم أنّ هناك آخرين كتبوا هذا النمط الشعري من دون أن يتعمقوا فيه؟

* هناك بالطبع مَن كتب النصّ الحروفي  مِن الشعراء لكنهم إقامتهم كانت عابرة أو مؤقتة فيه. أما أنا فقد كانت إقامتي فيه أبدية! هكذا كتبت أكثر من 23 مجموعة حروفية. نشرت منها- ولله الحمد- 19 مجموعة والباقي يصدر قريبا إن شاء الله.  وتمّ النشر خلال أكثر من أربعين عاماً في كتابة الشعر، أذكر منها على سبيل المثال: (نون)، (النقطة)، (حاء)، (مواقف الألف)، (شحرة الحروف)، (الحرف والغراب)، (أربعون قصيدة عن الحرف)، ( رقصة الحرف الأخيرة)، (حرف من ماء).

إنّ حروفيتي في أصلها قرآنية. فالحرف العربي حامل معجزة القرآن الكريم ولابد لحامل المعجزة أن يكون له سره أيضاً. كما أن الرحمن أقسم في مطالع العديد من سور القرآن الكريم به، لكنني حين تأمّلت في الحرف العربي خلال رحلتي الشعرية الطويلة، وجدت أنّ للحرف العربي ما يمكن تسميته ب(المستويات). فهناك المستوى التشكيلي، القناعي، الدلالي، الترميزي، التراثي، الأسطوري، الروحي، الخارقي، السحري، الطلسمي، الإيقاعي، الطفولي. هكذا وعبر كتابة المئات من القصائد الحروفية التي اتخذت الحرف قناعاً وكاشفاً للقناع، وأداةً وكاشفةً للأداة، ولغةً خاصةً ذات رموز ودلالات وإشارات تبزغ بنفسها وتبزغ باللغة ذاتها، عبر هذا كلّه أخلصتُ للحرف حتي أصبح  بصْمَتي الشعرية والفنية والروحية التي بسسببها اهتم النقد بي ودرسني وأعطاني ألقاباً مثل (الحروفي) و(ملك الحروف) و(شاعر الحرف) و(شاعر الحرف والنقطة).

- أربعة عقود ونيّف من السنوات تفصلك عن ديوانك الشعري الأول "تفاصيل" 1976، ما حجم التبدّل الذي تلمسه أنتَ في القصيدة التي تكتبها الآن؟

*  مرت قصيدتي بمراحل عديدة منذ صدور مجموعتي الأولى (تفاصيل) عام 1976 لعل أهمها، أولاً، هو تحوّلي من كتابة قصيدة التفعيلة إلى كتابة قصيدة النثر. إذ كانت مجاميعي (تفاصيل) و(ديوان عربي) و(جيم) و(أخبار المعنى) قصائد تفعيلة. وبصدور مجموعتي (نون) بدأت رحلتي مع قصيدة النثر وتواصلت حتى الآن.  ثانياً، صدور أكثر من مجموعة ذات ثيمة محددة كما في مجاميعي : (أخبار المعنى) و(مواقف الألف) و(أشارات الألف) و(حرف من ماء).   وفي كل تفاصيل رحلتي الشعرية، فإنني حين أكتب نصّاً جديداً أخضعه بصرامة إلى مسألة القاموس الخاص، والاقتصاد في اللغة، والنمو العضوي للقصيدة.

إن أيّ شاعر مبدع ومتميز وخلّاق ينبغي أن يمتلك قاموساً شعرياً خاص به. ومن دون هذا القاموس يكون الشاعر عبارة عن درهم ممسوح لا تعرف ملامحه حقاً. امتلاك القاموس الخاص لا يتمّ بالتمنّي والترجّي بل بالمكابدة الروحية والإبداعية، والتبحّر في قراءة الشعر قديماً وحديثاً، غرباً وشرقاً ودراسته وتأمّله. ويأتي عبر تراكم كمّي ونوعي عند الشاعر بحيث إن قصائده تلد قاموسها اللغوي بنفسها وتبدعه وتشير إليه بفرح حقيقي وزهو مبارك.

ثمّ تأتي مسألة الاقتصاد باللغة. الشاعر الذي يجيد استخدام المفردة بطريقة مبدعة دون تعسف ولا تحجّر هو شاعر حقيقي وليس مفبركاً.  وهذا يتطلّب منه معرفة حقيقية بأسرار الصورة الشعرية وتفاصيلها. فيعرف متى يحذف الصورة المهلهلة أو الضعيفة أو المقحمة دون مسوّغ فني  أو يعيد كتابتها إلى أن يكون وجودها ضرورياً لجمالية القصيدة.

 وأخيراً هناك مسألة النمو العضوي، حيث ينبغي للشاعر أن يراقب بوعي دقيق وصارم مطلع القصيدة ونهايتها التي ينبغي أن تحتوي ضربتها الشعرية معالجاً الاستطرادات داخل النص بالحذف أو إعادة الكتابة لتكون القصيدة في نهاية الأمر كتلة متماسكة متراصّة من المطلع إلى الخاتمة، كتلة متماسكة متراصّة بحيث إذا حذفتَ منها مقطعاً اختلّت وارتبكت وإذا أضفتَ إليها مقطعاً اختلّت وارتبكت أيضاً.

- يتكئ بعض قصائدك على الآي القرآني الكريم، ويعتمد بعضها الآخر على قصص الأنبياء ومروياتهم، ناهيك عن هيمنة الجانب الصوفي. لِمَ كل هذا التركيز على الجوانب الدينية والصوفية والروحية في كتابة النص الشعري؟

* كما ذكرتُ لك فإن حروفيتي قرآنية. القرآن الكريم نبع  روحي  وإنساني وثقافي عظيم.  ومن هذا النبع شربت روحي ماءَ الطمأنينة وارتوت قصائدي من ماء السؤال في رحلتي الحياتية المغتربة منذ يومها الأول إلى يوم يُبعثون. وفي التصوف وجدت الروح ملاذها في عالم مُسِخ الإنسان فيه أو كاد.  الرحلة صعبة جداً والطريق طويلة كأنها لا تنتهي لمن عرف أسرار عالمنا هذا الذي تحكمه الكراهية لا الحب، والتطرف لا الوسطية، والعنصرية لا الإنسانية، والحرب لا السلام.

- تحضر الكثير من الحوادث التاريخية في نصوصك الشعرية وكأنك تسعى لكتابة قصائد ميتا سردية. هل تؤكد لنا هذا الهاجس أم تنفيه جملة وتفصيلا؟

* بالطبع هذا أمر أنفيه تماماً. لست مؤرخاً  أو مؤرخاً شعرياً ولا أحاول أن أكون ذلك.

- بعد حوالي خمسة عقود من كتابة الشعر كيف تكتب القصيدة، هل تأتي إليك سلسة مطواعة أم تذهب إليها لتفكّ أسرها بعد حهد جهيد؟

* تأتي غالباَ سلسلة مطواعة كما ذكرتَ في سؤالك الجميل. وهذا متأتٍ من عمق الخبرة الكتابية التي تحققت لديّ مع اتساع التجربة الروحية، ومعرفة أسرار الشعرية وتفاصيلها الكثيرة. لكن يحدث أن تولد إحدى قصائدي من النوع الذي يحتاج إلى  نحت متواصل فيها. وهذه الولادات قليلة جداً.

 

- من شطرِ أغنية لنجاة الصغيرة أو جملة مشرقة لماركيز تبدع نصًا شعريًا، هل ما تحتاجه هو الصعقة التي يسري تيارها في الكلمات والصور الشعرية لتنتظم في نص شعري لا يفارق الذاكرة بسهولة؟

* الشعر شرارة تومض في العقل، في أشدّ مناطقه عمقاً وظلمةً، هكذا تبدأ استجابةً لأغنية عذبة أو لدمعة حرّى أو لموقف مخيف أو لكلمة جارحة أو لمشهد مثير أو لذكرى مؤلمة.  ويستطيع الشاعر المبدع أن يتلقّف هذه الشرارة المباركة أو الملعونة  أو الجريحة أو المعذَّبة في أيّ وقت ليشعل بها ذاكرته التي تشبه حطباً جاهزاً للاشتعال فتنثال عنده الصور والكلمات انثيالا.

- كيف تفسر هذا الاهتمام النقدي الواسع بتجربتك الشعرية التي كتب عنها كثير من النقاد العراقيين والعرب والأجانب؟ ما حجم الإضاءات النقدية التي قدّمها الباحثون والدارسون والنقاد؟

* وجد النقاد في تجربتي تجربة  شعرية جديدة مختلفة فاهتموا بها في زمن قلّت فيه التجارب الشعرية الحقيقية.  فصدر 11 كتاباً نقدياً عنها  كتبتها أسماء نقدية لامعة مع مئات الدراسات والمقالات التي كتبها كتاب عراقيون وعرب وأستراليون وباكستانيون وإيرانيون وإيطاليون. وناقشت ولله الحمد 13 جامعة عراقية وجزائرية وإيرانية وتونسية رسائل دكتوراه وماجستير تناولت تفاصيل هذه التجربة، فلله  الحمد على عظيم نصره.

 

^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^

أديب كمال الدين شاعر، ومترجم، وصحفي من العراق مقيم حالياً في أستراليا. ولد عام 1953 في محافظة بابل. تخرّج من كلية الإدارة والاقتصاد- جامعة بغداد 1976. كما حصل على بكالوريوس أدب انكليزي من كلية اللغات- جامعة بغداد 1999، وعلى دبلوم الترجمة الفوريّة من المعهد التقني لولاية جنوب أستراليا 2005.

أصدر 19 مجموعة شعريّة بالعربيّة والإنكليزيّة، كما أصدر المجلّدات الخمسة من أعماله الشعرية الكاملة. تُرجمتْ أعماله إلى العديد من اللغات كالإيطالية والإنكليزية والفارسية والأوردية والإسبانية والفرنسية والكردية. نال جائزة الإبداع عام 1999 في العراق. واخْتِيرَتْ قصائده ضمن أفضل القصائد الأستراليّة المكتوبة بالإنكليزيّة عاميّ 2007 و 2012 على التوالي.

صدر 11 كتابا نقديّا عن تجربته الشعريّة، مع عدد كبير من الدراسات النقدية والمقالات، كما نُوقشت العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه التي تناولت أعماله الشعريّة وأسلوبيته الحروفيّة الصوفيّة في العراق والجزائر والمغرب وإيران وتونس.

*************************************

نُشر الحوار في صحيفة الشرق الأوسط بـتأريخ 6 مايو - أيار 2019 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home