قراءة نقديّة  لوصايا أديب كمال الدين الشعريّة

في نصّه ( تسع وصايا لكتابة القصيدة)

د. أحمد جار الله ياسين

 

 

 

1.

القصيدة الطويلة مُملّة.

لا تكتبْها

إلّا إذا أردتَ أنْ تكتبَ عن الرحلةِ كلّها:

رحلة كلكامش مثلاً.

والقصيدة القصيرة تشبهُ عودَ الثقاب

فقرّبْ سيجارتَكَ منها

قبلَ أنْ تُشعلَ عودَ الثقاب.

2.

القصائد السيّئة كالأصدقاء الحمقى.

حاولْ أنْ تلغيها مِن الذاكرة

قبلَ أنْ تُسطّرها على الورقة. 

3.

إذا كتبتَ قصيدةً عن المطر

فاحذرْ أنْ تكتبها

ما لم تكنْ روحُكَ -

قبلَ جسدكَ -

قد تبلّلتْ بالمطر.

4.

لكلِّ قصيدةٍ شمسٌ.

(هل تعرفُ ذلك؟)

ولكلِّ قصيدةٍ منفى.

(هل تُصدّقُ ما أقول؟)

لذا دمدمْ قصيدةَ المنفى

وأنتَ في الوطن.

ودمدمْ قصيدةَ الوطن

وأنتَ في قطارِ الجنّةِ الذاهبِ إلى جَهنّم.

5.

وبمناسبةِ ذكْرِ جَهنّم

فاكتبْ ما استطعتَ عن جَهنّم الأرض

لأنّها اتسعتْ الآن

وكادتْ تلتصقُ بجَهنّم السماء.

6.

إذا كنتَ تحبّ البحر

وتريد أنْ تكتبَ عنه،

فلا تأخذْ صورةً معه

وأنتَ ترتدي الملابسَ الرسميّة

كما يفعل المُغفّلون

بل اذهبْ إليه عارياً

تماماً كهابيل وقابيل.

7.

الشعراءُ المُؤدلَجون مُضحكون

لأنّهم يكتبون طوالَ العمرِ قصيدةً واحدة،

قصيدة تستعينُ بكلِّ الكناياتِ والاستعارات

لتثبتَ أنَّ الطغاة،

رغمَ كلّ أنهار الدمِ التي فَجّروها،

كانوا مجرد حمامات سلام.

8.

إذا كنتَ شاعراً فكنْ عاشقاً

حتّى تكتمل عندكَ قصيدةُ الجنون.

9.

المرآة تشبهُ المرأة

لكنَّ المرأة لا تشبهُ المرآة

إلّا إذا قبّلتَها.

هكذا هي القصيدة.

(تسع وصايا لكتابة القصيدة: أديب كمال الدين)

يتناول النصّ جوانب مهمة من طقوس كتابة القصيدة وأسرارها الجمالية والفكرية في سياق من التوصيات الشعرية التي غلب عليها ظاهرياً طابع التبسيط الفني  في الطرح والمقترحات، فضلاً عن خضوعها لرؤية ساخرة ذات أبعاد رمزية شفافة فيما وراء تلك المظاهر الفنية، وهذا ما يجعل ذلك التبسيط يمتاز بما يمكن أن نسمّيه بالمخادعة الفنية التي تقرّب القارئ في القراءة الأولى من منطقة الاستقبال السلس للمقترحات التي تبثّها الوصايا بنوع من الاسترخاء، وتشجّعه على قبولها لكنها في الوقت نفسه تقترح عليه سراً مناطق أخرى محمّلة بالأبعاد الدلالية المكثفة التي- ربما- لو اقترب منها قارئ غير نخبوي لاستعصى عليه الدخول فيها ، ومن هنا فإنّ هذه الوصايا بهذين الخيارين الموجهين نحو منطقتين للتلقي،  يمكن أرسالها إلى كل مَن يهتم بالشعر: قارئاً أو كاتباً أو ناقداً أو غاوياً .. مع توافر امكانية التفاوت في التلقي بين مَن يقف عند حدود البساطة، ومَن يحاول الحفر فيما وراء هذا الحدود غير مكتف بخديعة التبسيط الفني التي أوقفت المتلقي الأول عند الطبقة الأولى من النص:   

1.

القصيدة الطويلة مُملّة.

لا تكتبْها

إلّا إذا أردتَ أنْ تكتبَ عن الرحلةِ كلّها:

رحلة كلكامش مثلاً.

والقصيدة القصيرة تشبهُ عودَ الثقاب

فقرّبْ سيجارتَكَ منها

قبلَ أنْ تُشعلَ عودَ الثقاب.

التوصيف الأول يتناول القصيدة الطويلة التي يصفها بالمملة من جهة عدم انسجامها – ربما – مع طابع الشعر الذي يميل إلى الايجاز والاختصار ويبتعد عن سمات  الاسهاب والسرد والتفاصيل التي تتطلبها بنية القصيدة الطويلة ، لكن لأن النص ليس من مهامه بيان هذه التوصيفات النقدية التي يمكن أن يقوم بها الناقد فإنه ينحرف بالسياق نحو مثال مقترح للقصيدة الطويلة يتضمن الإشارة إلى رحلة كلكامش،  وهنا يمكن للقارئ العادي أن يتوقف تلقيه عند حدود الأخذ بالمثال، لكن القارئ النخبوي يعلم أن اقتراح هذا المثال ليس اعتباطيا لطوله الفني فحسب بل لأنه نص فني شعري رفيع لا يشعر معه القارئ بالملل لاغتنائه بالخصائص الاسلوبية العالية والمواقف المدهشة والأفكار العميقة والرموز وكلها خصائص تبعد القارئ عن الشعور بفكرة الاستطالة في البناء .. ثمّ يتحول النص مباشرة إلى تناول القصيدة القصيرة عبر تشبيه فني جديد مستلّ من الحياة اليومية ، تكون فيه القصيدة (عود ثقاب) والرغبة بكتابتها أشبه بـ (السيجارة) ولأنها نص قصير لا يحتمل الخطأ أو الاسترسال أو أية ثغرة فنية فإن الاقتراب منه يشبه اقتراب السيجارة من عود الثقاب .. فأما ستنجح محاولة الاقتراب أو تفشل.  والمعيار في ذلك هو القدرة على تحديد موعد الاقتراب (الرغبة) من القصيدة القصيرة (عود الثقاب) حسب ما تتطلبه الفكرة أو الموقف الشعوري لأن الشاعر اذا اقترب بعشوائية من هذا النوع القصير فإنه قد يحترق سريعاً.

2.

القصائد السيّئة كالأصدقاء الحمقى

حاولْ أنْ تلغيها مِن الذاكرة

قبلَ أنْ تُسطّرها على الورقة.

أما القصائد السيئة فنياً أو التي لم ترقَ إلى مستوى فني عال فانها في الوصية مثل ( الأصدقاء الحمقى) أي أنها لا تضيف شيئاً إلى مسيرة الشاعر أو سيرته الابداعية وتشغل ذاكرته بما لا يغنيها إبداعياً وفكرياً.

3.

إذا كتبتَ قصيدةً عن المطر

فاحذرْ أنْ تكتبها

ما لم تكنْ روحُكَ -

قبلَ جسدكَ -

قد تبلّلتْ بالمطر.

المطر يمثّل عالماً شعرياً خصباً في فضاء الأدب ولا يمكن أن تجد شاعراً تكتمل شعرية رؤياه من دون أن يقع في غرام المطر، لأن المطر شعري بذاته فهو انزياح غير عادي عن المناخ العادي للسماء بشمسها الساطعة المألوفة التي تكاد تشبه النثر، ولا يخلخل بنيتها الصافية سوى نزول المطر ومن ثم فإن المطر عند الشعراء يرتبط بالجانب الروحي والشعوري من بنيتهم النفسية الإبداعية التي تختلف عن البنية النفسية العادية ،  وما البلل الذي يشير إليه النص هنا سوى هذا الارتباط الذي أشرنا اليه بمرجعيته التي تؤكد إدراك الشاعر بوعي أو غير وعي أن المطر هو شعر السماء بالمقارنة مع نثرها/ الشمس.. ولذلك الكتابة عن المطر تستدعي التماهي مع شعريته روحياً قبل التلاقي معه ببلادة  جسدياً.

4.

لكلِّ قصيدةٍ شمسٌ.

(هل تعرفُ ذلك؟)

ولكلِّ قصيدةٍ منفى.

(هل تُصدّقُ ما أقول؟)

لذا دمدمْ قصيدةَ المنفى

وأنتَ في الوطن.

ودمدمْ قصيدةَ الوطن

وأنتَ في قطارِ الجنّةِ الذاهبِ إلى جَهنّم.

كل قصيدة هي عالم خاص بذاته لذلك لها شمسها / بمعنى أن لها من الفكر والأسلوب ما يضيء جوانبها المعتمة ويسهم في نمو مكوناتها الفنية الأخرى ويأخذ بيد القارئ نحو جمالياتها الساطعة ويمنحها عمرا فنيا اطول .. ولكل قصيدة ايضا ما تخفيه وتخبئه في ثناياها تماما كالمنفى الذي يخبيء للقادم اليه كرها أو طواعية كثيرا من المفاجات والأسرار ، لكن إذا كان الرحيل إلى المنفى كرها واجباريا وكان المنفى نفسيا وليس واقعيا وأقرب للاغتراب في فضاء الوطن فإن البوح بأسرار هذا المنفى غير مقبول علنا. والأجدر بالشاعر أن يدمدم بمكنوناته النفسية حول ذلك الموضوع .. بدل الجهر بها لأن الوطن الذي ينفي ابناءه نفسيا وهم فيه ويزجّهم في متاهة الاغتراب النفسي رغم عدم مغادرتهم حدوده .. هو وطن مخيف يجبر الشعراء على الصمت أو الجهر لكن ليس بلغة تصدح عاليا بل بلغة تدمدم قصيدتها احتجاجا فلا تسمعها سوى الذات وكأنّ القصيدة هنا هي امتداد لقصيدة الخوف التي شاعت في الأدب العربي بفضل إبداع السلطة السياسية في الترهيب والتخويف .. واذا كانت الدمدمة .. حلا وسطا بين الصمت والجهر فإنه حلّ قاسٍ جدا لأن القصيدة التي لا يسمعها سوى شاعرها تذبل وتموت سريعا ..واذا سنحت الفرصة للكتابة عن الوطن وكانت الكتابة في المنفى- الذي قد يمثّل جنّة بالقياس إلى ما في الوطن من معاناة أو اضطهاد -  فإن هذه القصيدة كونها ستحمل هم الوطن البعيد لا يمكن ايضا الجهر بها من شدة الاحساس بالخيبة أو الحزن أو إدراك أن الوطن الذي نفارقه إلى المنافي كرها أو طواعية يبقى الأجمل في الذاكرة، وحين يأتي مثل هذا الاحساس فإن المنفى سيكون جهنم أخرى قطارها ( الجنّة ) أو قطارها فكرة العثور على الجنّة في المنفى بديلا عن وطن أشبه بالجحيم. لكن المأساة تكون لحظة طغيان الشعور بالغربة والحنين إلى الوطن على ما فيه من سلبيات وحينذاك سيكون المنفى جحيماً آخر يغاير الفكرة التي حملها معه المنفي في قطار الرحيل الذي تصور أنه القطار الذي سيقوده إلى الجنّة أو أنه الجنّة نفسها التي كان يحلم بها...

5.

وبمناسبةِ ذكْرِ جَهنّم

فاكتبْ ما استطعتَ عن جَهنّم الأرض

لأنّها اتسعتْ الآن

وكادتْ تلتصقُ بجَهنّم السماء.

ولعلّ الاحساس بجحيم الوطن والمنفى معا في لحظات معينة  هو الذي يؤسس للوصية الخامسة التي تحثّ الشاعر على الكتابة عن جهنم الأرض التي يسودها الشر والفساد وسفك الدماء ومن ثم فإنها أمست موضوعاً مثيراً للشاعر كي يدوّن شهادته عما يدور في جهنّم الأرضية.

6.

إذا كنتَ تحبّ البحر

وتريد أنْ تكتبَ عنه،

فلا تأخذْ صورةً معه

وأنتَ ترتدي الملابسَ الرسميّة

كما يفعل المُغفّلون

بل اذهبْ إليه عارياً

تماماً كهابيل وقابيل.

أما الكتابة عن البحر بما يحمله من إرث رمزي هائل في الذاكرة الشعرية العربية والعالمية فإنها موضوع آخر لا يمكنأان تغفل عنه الوصايا وهي تقترح موضوعات للكتابة أمام الشعراء لكن الكتابة عن البحر تستلزم التجرّد من النظر اليه برؤية عادية تكتفي بالتقاط صورة للذاكرة معه بزي رسمي يشير إلى عادية تلك الرؤية وسذاجتها وسطحيتها .. إن الكتابة عن البحر تستدعي التجرّد من ( الملابس الرسمية ) برمزيتها السابقة والذهاب اليه عارياً والعودة إلى الفطرة الأولى للرؤية البشرية التي اندهشت حين رأت البحر أول مرة ومن خلال أنموذجين للبشر الأول ( هابيل وقابيل ). واستدعاء هذين الأنموذجين معا هنا ليس للغرض السابق فحسب بل هو مقترح شعري غير مباشر لإمكانية التصالح بينهما من دون إعادة إنتاج قصة الحسد والكراهية التي أدّت إلى مقتل احدهما في المرجعية الدينية لقصتهما ، فهي دعوة للتسامي فوق ما حدث وإعادة تشكيل للمشهد النساني بين طرفين يمكنهما التصالح والتفاهم والتشارك في التمتع بجماليات الكون ومنها البحر حتى لا تتسع مستقبلاً مساحة جهنم الأرضية التي حذّر منها الشاعر في الوصية الخامسة والتي بدأت لحظة قتل هابيل لقابيل .. واستمرّت حتى يومنا .. وشوّهت جماليات الحياة : البحر / المطر / الوطن.

7.

الشعراءُ المُؤدلَجون مُضحكون

لأنّهم يكتبون طوالَ العمرِ قصيدةً واحدة،

قصيدة تستعينُ بكلِّ الكناياتِ والاستعارات

لتثبتَ أنَّ الطغاة،

رغمَ كلّ أنهار الدمِ التي فَجّروها،

كانوا مجرد حمامات سلام.

الوصية السابعة ساخرة جداً تعرّي زيف الشعراء المؤدلجين الذين يزورون الحقائق خدمة للطغاة وهنا يعلو صوت الشاعر ويكون أكثر وضوحا في التحذير من الانجرار وراء مثل هؤلاء واتخاذهم أنموذجاً وقدوةً  عند الشعراء المبتدئين والنقاد الانتهازيين .. فالطغاة هم السبب الرئيس دائما للخراب الذي يعاني منه الانسان - كما في الوصايا السابقة - منفياً أو مغترباً أو مقتولاً.

8.

إذا كنتَ شاعراً فكنْ عاشقاً

حتّى تكتمل عندكَ قصيدةُ الجنون.

ولأن الجنون قريب جداً إلى عالم الشعر كونه منفلتاً من اشتراطات الوعي والعقل فإن له قصيدة ايضا لا يمكن الوصول اليها الا بالرقي في معارج الجنون الشعري وأعلاها العشق الذي ينتشل الذات من حدودها ليزجّها بشعرية في فضاء ذات أخرى تستقطبها نفسيا وروحيا وعاطفيا وعبر طقوس تفوق حدود العقل والمنطق وتجعل من حياة العاشق نفسها شعرية بذاتها لانزياحه فيها عن حدود الحياة العادية .. فتراه يتصرف بشعرية في القول والفعل وما مجانين العشق الذين عرفناهم في التاريخ  سوى دليل على ذلك الأمر .. ألم يقطع فان كوخ مثلاً  أذنه من أجل امرأة طلبتها منه ؟ ألم يكن هذا السلوك شعريا بذاته لأنه انزاح عن نثرية السلوك العادي؟

9.

المرآة تشبهُ المرأة

لكنَّ المرأة لا تشبهُ المرآة

إلّا إذا قبّلتَها.

هكذا هي القصيدة.

وفي النهاية فإن القصيدة تتطلب من الشاعر أن يصدّق ما يراه قلبه لا ماتراه عينه .. فالمرأة التي تظهر في المرآة هي التي تستحق التقبيل وليست المرأة التي تقف أمام المرآة فهذه واقعية يمكن لمسها والوصول اليها .. فتبرد حرائق القصيدة سريعا .. وتهدأ عاصفة الروح .. أما المرأة التي تظهر في المرايا فإنها امرأة تبقى بعيدة عن اللمس والوصول .. وهي مَن يبقي الرغبة محتدمة والروح عاصفة والقصيدة مكتظة بالحرائق ولا يمكن للشاعر الا أن يقبل بالحد الأدنى من التواصل معها عبر قُبْلة على زجاج المرايا  في الواقع  لكن  بطعم شفة في الخيال الشعري .. فهكذا هي القصيدة توهمنا بالوصول لكنها تبقى بعيدة حتى لو أنجزنا آلاف القصائد والدواوين، ذلك أن الشعر لا يكتمل أبداً .. ولا ينتهي .. لأن مادته الكلمات ..الدوال .. ولكل منا مدلولاته الخاصة بخبرته وتجربته وتأويله .. ولذلك تستمر إعادة إنتاج الكلمات / الدوال / القصيدة إلى ما لا نهاية.

********************

د. أحمد جار الله ياسين : ناقد وأكاديمي عراقي

 

***************************************************************

نُشرت المقالة في جريدة الزمان بتاريخ 25 آيار -  مايس 2015   العدد 5111

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home