ما بين السطور:

 قراءة في كتاب الناقد رسول بلاوي (آليات التعبير في شعر أديب كمال الدين)

د. صالح الرزوق

 

 

في شعرية أديب كمال الدين عدة خصال، إن التقت ببعض المفاصل مع شعر الرواد، ممن جاء بعد الكلاسيكية الجديدة، ولا سيما الثنائي المعروف: السياب والبياتي فهي تنفرد أيضا بعدة خصال، وفي مقدمتها الانهمام بالذات ( بتعبير فوكو الذي ختم به حياته بعد فترة المرض والشيخوخة)، وربط التفسير الوجودي بخلفياته الإيمانية التي تسببت الحروب والنكبات بضياعها وتحولها من قيمة إلى معيار. ومن واقع إلى أحفورة.

ويأتي كتاب رسول بلاوي الصادر عن دار ضفاف بعنوان ( آليات التعبير في شعر أديب كمال الدين) ليتعامل مع هذه الشعرية من جوانبها كافة: ولا سيما جدلية الظهور والاختفاء. أو بتعبير أوضح ديناميكية الكلمات في تأسيس المعاني.

ولتحقيق هذه الغاية يقسم كتابه إلى فصول، ليس حسب الموضوعات، ولكن حسب الدوال. ويبدأ من المفردات. أو الإدخالات المعجمية entries.

ويرى أن لها دورا لا يمكن التغاضي عنه في نقل ثم تحميل الدلالة. فما بالك وأن الشاعر لا يوفر مناسبة ولا قصيدة دون الإشارة للنقطة والحرف ( فهي هويته الأسلوبية كما يقول في المقدمة - ص٧). إنها المكونات الفعلية للكلمة والعبارة. وفي خاتمة المطاف البنية. وهي ليست حاملة للمعنى فقط. ولكنها القطار الذي ينقل الأسلوب ويحدد له علاقاته. بمن يتصل وكيف؟..

لقد بدأ رسول بلاوي في الفصل الأول بتحليل الألفاظ الأساسية في قصائد الشاعر.لأنها تعكس جانبا أساسيا من شخصيته ونمط حياته ( ص ١٥).   

إن الكلمة كائن حي وهي تتحدد من خلال قيمتين: طريقة إدراك الذات لمعناها، وسياقها العام. وكما تفضل الباحث للكلمة صوت ومعنى يصعب الربط بينهما ( ص١٦). والكلمة في الشعر تعني اكتشاف معنى جديد يتجاوز ما ورد في المعاجم لتصل إلى السياق بكل ما يحمله من إيحاءات.

ودائما في هذا المجال تطيب لي الإحالة إلى هيدغر. حيث أن الإدراك له سياسة تفاعلية. فنحن ندرك ما هو موجود بذاته، ونضيف له طريقة فهمنا للموضوع.

وكما يقول جون ماكوري: إن أي مقاربة للواقع هي إدعاء بالمعرفة ( ص ١٨٢)*.

ولذلك إن العائلة اللغوية التي يشير لها الباحث ( ص١٧) يمكن أن تتألف من طبقات. لكل طبقة قارئ بمرجعية مختلفة. فالموت يدل على العدم أو على التحول والغياب فقط.

والدليل على ذلك في قراءة الباحث لمعنى وصور الموت عند أديب كمال الدين. إنه يمر بعدة أشكال وأطوار. وهو لديه ليس دائما أسود ينم عن غياهب القبور. وبكل بساطة قد يحمل نفس المعنى الذي خصص له دستويفسكي جزاء هاما من حياته. إبتداء من المساكين وحتى الزوج الأبدي. 

قد يدل على الحرمان والقهر والعذاب. وتستطيع أن تفهم ذلك لو ربطت خلفيات الشاعر بالمعاني العريضة والأساسية للتصوف. 

د. رسول بلاوي

وفي شعر أديب كمال الدين تحويل من سياق لسياق، يستبدل فيه الرموز بالمعاني. فتجربته ليست عابرة للذات ولكنها عابرة للموضوع. إنه لا يستهدف في إعادة صياغة نظرية التصوف طبقة الأعماق، ولكن طريقة تصوير وإعادة تركيب الواقع في القاع النفسي من حياته الفردية. وهذا ينقله من مجال عيون الحكمة في التصوف إلى المكابدات الروحية مع ذهنية الواقع أو التصوف النضالي كما كان لدى أغناطيوس دو ليولا مثلا. وليس كما هو عند ابن عربي.

فتشابه المفردات مع ابن عربي لا يعني بأي شكل من الأشكال إعادة تسويق. وإنما هناك تبديل في القيمة والمعايير.

وللتوضيح يكفي أن تقارن بين جان جاك روسو وقراءة دريدا له. إن المسألة أقرب ما تكون لبحث عن طريقة إثبات أو البحث عن برهان يؤكد على الافتراض ولكن ليس النظرية.

وحول هذا الموضوع يقول الباحث: إن الشاعر كمال الدين يستعمل اللفظة بعدة مرادفات. فالموت قد يعبر عنه بالضريح والكفن والقبر. أي كل ما يبرز جانب القضية من الظاهرة. وكل ما يعبر عن التفاصيل الواقعية  دون فلسفة أو موقف فكري وعقائدي (ص ١٨).

وهذا يقوده للبحث في طرق استعمال الأسماء المكنية. حيث يكون الدال هو الجزء والمدلول هو الكل. ويصدق ذلك أكثر ما يصدق على الربط بين المرأة والمرآة. 

فهما وجهان لعملة واحدة ( ص ٢١). ولكن لا يفوت الباحث أن يشير إلى عدم طمأنينة الشاعر لهذا التماهي حين يردف: إنه لا يحب مرايا النساء (ص ٢٣).

وأستطيع أن أرى في ذلك عدم ثقة متبادلة بين الثابت والمتحول في المعاني والبنية. فالشاعر كما رأى الباحث يربط أيضا بين المرآة والبحر. وهذا هو بيت القصيد. إن مرآته لا تحاكي الصور ولكن تعيد رسمها وتركيبها. وهذا يبرر لماذا المرآة تارة بحر وتارة امرأة. إنها تنظر إلى سيكولوجيا المرأة وليس إلى وجهها ولا شكلها. فسيكولوجيا الأعماق تكون مضطرمة ومتبدلة مثل أمواج البحر المحيط الذي هو الحياة حين تبتعد عن الاستقرار في المكان وتتحول إلى عذاب وهجرة وشك.

ولو عدنا إلى كتاب الدكتور علي الشرع عن (القصيدة القصيرة في شعر أدونيس) نلاحظ كيف أن الصور الساكنة تحتاج لسطوح عاكسة كالزجاج والبحيرات والمستنقعات الراكدة والأنهار قليلة المياه. 

وكل هذه المفردات لا تنمو أوراقها على شجرة المعاني في شعر أديب كمال الدين. إن مراياه ليست متقابلة وهي مهشمة وتتساقط مثل أوراق الشجر. ولذلك تقترب من معنى ودلالة الموت والتخلي.

وهذه الكلمة الأخيرة بحد ذاتها ملتبسة. فهي تتخلى عن المكان لتعيش في حالة وجودية خارجه. بعيدا عن الواقع الفاسد وقريبة من تمكين المعنى. 

وهذا برأيي آخر معقل للذات التي لا تستطيع أن تتصل. التي تعاني من فروض السياق. وتحاول أن تبتكر له صيغة بديلة.

غلاف الكتاب

ومن خلال هذه الدينامية - تحريك المعاني- ينتقل الباحث ليهتم بالسفر (ص٢٤) فهو رمز مباشر واستعارة تامة الأركان تشير مع الحركة إلى الشقاء والغربة. وقد كان البحث موفقا حينما تكلم عن الموضوعين. فالسفر هنا يرتبط ارتباط تلازم مع الجحيم ( ص٢٤). وخيبات الأمل ( ص٢٥). أما الغربة فهي مأساة ( ص ٢٧). وأحيانا استبعاد وقهر. ولذلك للموضوعين دالة المنفى. 

وإذا تغنى الشعر الحر في العراق بآلام المنفى بكل ما تحمله من إيحاءات ( الغربة بعد السفر القسري) فإن الرواية والقصة تكلمت لاحقا عن المعاناة والتفكير بمتلازمة هي من قبيل تناذر مرضي ونكوص أو تثبيت وهي ظاهرة العودة.

ولكن أدبيات كمال الدين لا تشير إلى حق العودة. فهو يرثي الوطن المستباح ويهجو عذابات التغرب. ويحارب الحنين للماضي بالتنقل المحدود، وتجد ذلك في رموزية السندباد. أو في بعض الرحلات الشخصية التي هي محطات استراحة وعزاء ومنها قصيدته عن رحلته إلى الأردن ( سلاما عمان).

إن سندباد كمال الدين على خلاف مع صوره عند خليل حاوي والبياتي وبقية هذه القافلة من الإيديولوجيين. فهم كانوا يبحثون عن فانتازيا الدولة التي تتساوى فيها الصور مع المفاهيم. حيث تتم المصالحة بين الأفراد والنظام. ولكن كمال الدين لا يبدو مهتما بصراع الإيديولوجيات. ويقرأ التاريخ على أنه تعبير عن تزامن الذات. وبتعبير أوضح: على أنه صياغة للتجارب الشخصية ولا سيما السقوط والفاجع.

إن السفر في قصائد الشاعر انتقال بين أمكنة موجودة وليس بين أجزاء عالم افتراضي ويوتوبيات ونظريات. ولذلك يمكن أن تفهم منه دالة الغربة أو المنفى ( خارج المكان)، ودالة الاغتراب ( داخله).

وكما أشار الباحث، في قصائد كمال الدين تقليب لصفحات من دفتر الأحوال الشخصية. وبنفس اللغة المشحونة التي يستعملها عبدالحكيم قاسم في القصة. غالبا يتكلم عن نفي الوضع الوجودي. وعن الآلام النفسية المبرحة التي يتآكل بها ببطء وبسادية غريبة كأن المنفى عدو يتشفى منه وليس صديقا يضمد الجراح.

ولذلك توافرت في قصائده خصائص أدب المنفى التي يجملها الناقد حمزة عليوي في ثلاث خصال هي بالترتيب وعلى التوالي:  جماليات المكان الغائب. ظروف الفترة التي فرضت عليه النزوح. ثم المعنى النفسي والمعرفي لكليهما، أي محور المكان ومحور الفترة الزمنية.

ومن هذه الفكرة يجد الباحث ضرورة لمناقشة توظيف أسماء العلم والشخصيات. هل ألحق تبدل المكان تبدلا في المعنى وأساليب الشرح والتحميل ( بمعنى الإسقاط). 

 ويبين أنه لم يوظفها بشكل تضمين او اسقاط ولكن بشكل استدعاء لإضافة عمق معرفي للحالة الوضعية (ص ٩٤). ومن حسن الحظ أن الاستدعاء هو لون من ألوان التناص أيضا. إنه جزء من ماكينة الواقعية الإسمية حيث كل الأفعال والدلائل تحتل مرتبة صفة أو نوع. 

وإن تاريخ الأدب العربي يزخر بتعريف المعارف. بمعنى إعادة بلورة وضعها في شبكة العلاقات. فهي إما أنها تتفاعل بينيا أو داخل البنية نفسها (بالمعنى التطبيقي الذي يتكلم عنه هيرل في دراساته عن التكنولوجيا). وللتوضيح كانت الأمثولة عند أديب كمال الدين ولو أنها من المدونة النصية كالقرآن والسنّة . لكنها تنظر للتفاصيل بمنظور ذات. إنها تحاول أن تقرأ الحكمة أو الينابيع (بلغة صدقي إسماعيل) لتكشف عن المغزى. وهذا يتطلب منها استعمال إحدى أهم الحيل الفنية عند العرب وهي (المقلوبات). وأفهم من هذا المصطلح تحويل الشعور أو ثقافة التمكين إلى اللاشعور أو ثقافة مقتضى الحالة.

إن استدعاء الشخصيات في شعر كمال الدين له قيمة قضائية. ومستوى تحقيق. فهي تنتقل من المثول إلى التمثيل. والفرق بين الحالتين مثل قراءة معروف الأرناؤوط للتاريخ في عمله اليتيم (الملحمة الكبرى لسيد قريش) وقراءة زكريا تامر أو نجيب محفوظ أو حتى جرجي زيدان. فالتاريخ في الحالة الأولى إعادة تدوير بلاغي وعاطفي للمدونة بينما في الحالة الثانية هو نقض ونفي أو اختلاف.

لقد كانت الشخصيات المعروفة في قصائد الشاعر موضع النقد والهجاء أحيانا أو موضع الرثاء. وهي أشبه ما تكون بما فعل لاكان مع أستاذه فرويد. لقد أعاد تأويله وليس إنتاجه. وكما تفضل الناقد بالقول : كان يستثمر الينابيع ص ٩٥. ويحيل إليها لدرجة التماهي ص ٩٩ وليس التكرار أو النسخ.

وهذا يفتح الباب أمام الناقد لتحليل معنى ودلالة الألوان. فيرى أنها أكثر الأشياء في حياة الإنسان خصوبة وجمالا(ص ١١٣). وهي تحدد إحساس الشاعر وعلاقات الصورة الفنية بالعاطفة.

ويرى أن اهتمام الشاعر باللون يتدرج من حيث الأهمية من الأسود، مرورا بالأبيض والأحمر والأخضر والأزرق وانتهاء بالأصفر.

ولا شك أن للألوان دلالة ولكنها ذاتية. ولا يمكن أن يدل اللون الواحد على نفس المعاني في كل الأطوار. وأعتقد أن اللون الواحد حمال أوجه. فالذي يدل على السلام قد يتحول لاحقا ليدل على الخراب والفاجع. ولنأخذ اللون الأزرق على سبيل المثال. يعتقد الباحث أنه يدل على السكينة والوقار والحكمة (ص ١٢٦)، ولكن فاتته الإشارة لمعناه السياسي الأممي.

إن معاني الألوان متضاربة ومتداخلة. وأصلا يوجد خطأ تقني في تصنيفنا لها. فما يعرف بالألوان الحارة كالأحمر هو في الطيف من الألوان الباردة. وهذه إحدى أبسط مبادئ الفيزياء العامة.

وعموما يوجد تداخل يدعو للارتباك بين هذه المعاني. فقائمة الممنوعات أحيانا تسمى اللائحة السوداء. وأحيانا في حالات خاصة تدعى اللائحة الزرقاء. وفي الأدب والفن بالذات يستعمل اللون الأزرق للدلالة على مشاهد فاضحة. من ينسى قصة غراهام غرين: (فيلم أزرق A Blue Film). 

وقل نفس الشيء عن الأحمر فهو لون الثورة. وقد يعني ممنوع الدخول أو الوقوف. وهو لون الحزب الشيوعي. وأكاد لا أجد علاقة تبادلية بين هذه الحقول. ودلاليا توجد هنا حقول متنابذة فما يرمز للثورة والحرب والدم لا يتساوى مع ما يرمز للتحذير والنفي.

ومع أن الناقد لم يدخل في هذه التفاصيل وتوقف عند حدود المعاني الخاصة لم ينس أن يبين الفرق بين الذوق الكلاسيكي والتجربة المعاصرة. فالمعاني المادية والمباشرة تحولت إلى رموز وإسقاطات. والألوان منها. فهي صفة حركية ومتبدلة كما يقول (ص ١٣٠).

وأرى أنه مصيب في هذه الملاحظة. فالتجريد تأويل للنفي. به يقاوم الإنسان قوى الطبيعة الغاشمة. ولم تتساو المعاني مع الخبرات إلا في أطوار السبات. حينما عادت الحياة للانطباق على الذات. بمعنى حينما أصبحت مصادر الدهشة في داخل الذات البشرية. وليس في الواقع.

يبقى أن أشير أن دراسة رسول بلاوي تلتزم بمبدأ التوضيح. يعني قراءة القصائد وإعادة تقديمها للقارئ بطريقة مبسطة. دون أن تسقط في مطب الشرح الذي لا يضيف شيئا للقصيدة ولكن يزيد من عذابه ومعاناته. 

فهي قراءة إبداعية. وتساعدنا على اكتشاف جماليات القصائد.  

 

***********************

* الوجودية- ترجمة إمام عبدالفتاح إمام. عالم المعرفة. ١٩٨٢.

* آليات التعبير في شعر أديب كمال الدين/ تأليف د. رسول بلاوي، منشورات ضفاف، بيروت 2015

* نُشرت في جريدة العالم البغدادية ، بتاريخ 4 آذار - مارس 2015

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home