بنية الخطاب الحجاجي

 

 في ديوان (في مرآة الحرف) للشاعر أديب كمال الدين

أ.م.د. رحاب لفته حمود الدهلكي

أ.م.د. بيداء محيي الدين ميو

كلية التربية الأساسية / الجامعة المستنصرية

  

الحجاج وبلاغة الخطاب :

     يتشكل الحجاج عن طريق تقنيات وأساليب تخاطب المتلقي عن طريق الإقناع بمنفذ عقلي مرتبط بالأدوات الخطابية اللغوية وغير اللغوية، فيحاول المتكلم التأثير في سلوك المتلقي وإقناعه بوجهة نظر معينة، لهذا تؤدي الانشطة الفكرية دوراً بارزاً في السلوك والاعتقاد بتضافر أدوات النص اللفظ والمعنى ، وبالتالي يكون الخطاب الحجاجي ناجحاً في تحقيق اهدافه الموجهة، بحكم انه يسعى إلى توظيف مختلف وسائل الاثبات توظيفاً ذكياً ، بحيث يتلقاها السامع على أساس انها مفاهيم صادقة عن الواقع ، فهذا النمط من الخطابات خطاب غائي موجه غايته إقناع المتلقي بما يحمله من أفكار، وما يعرضه من مواقف ومن ثم أحداث أثر واضح في السلوكيات والتصورات ([i]) .

  ووضح بيرلمانوتيتكاه الحجاج بأنّه " درس تقنيات الخطاب التي من شأنها أن تؤدي بالأذهان إلى التسليم بما يعرض عليها من أطروحات أو تزيد من درجة ذلك التسليم " ([ii]) ، وبذلك يكون الخطاب الحجاجي موجّه للتأثير في آراء المستمعين بوسائل مختلفة ، مستنداً إلى " البحث في المماثل والمعقول والمحتمل ، وذلك في حال ما إذا كان هذا الأخير يفلت من كل الحسابات الحتمية " ([iii])، فيمكّنها القول إن الخطاب الحجاجي المتناغم خطاب قائم على نوع من التوافق والتناسب بين اجزاءه ، إذ يبدو للمتلقي أن لا خلل في البناء الهيكلي ولا تناقص بين الأفكار والمفاهيم ، وهذا ما يخوّل قبوله بالدرجة الأولى إضافة إلى أن انسجام آفاق كل من مرسله ومتلقيه يومئ بتحقيق الأثر الحجاجي أثناء العملية التواصلية ، كما يعمى اداء الوظيفة الإقناعية بأقل جهد فكري ممكن ، وقد أشار أدونيس إلى أن " البلاغة تهدف إلى أمرين : الوضوح ( الإرتجال ) والتأثير ( النفع ) "([iv]) ، فكلاهما يحتاج إلى استمالة المتلقي بطرح الحجج عليه ، لإحداث التأثير ، فضلاً عن ان كل خطاب أدبي يشغل حيزاً من الحقل التواصلي ، وكل نص أدبي يعني تواصلاً بين المرسل والمرسل إليه ، لذا قيل : "إن نظرة البلاغة للنص الأدبي بوصفة نشاطاً تواصلياً بقصد التأثير ، وما يترتب عن ذلك من عناية بالمقاصد والمقام ، وغيرها من العناصر التي تكفل نجاح الخطاب ، أكسبها بعداً تداولياً ومقامياً " ([v]) .

    فإذا كان التأثير هو الشكل الحجاجي وغاية الخطاب المنشودة فإن آلية التواصل بينهما تبقى الوظيفة الأسمى في المجال الحجاجي ، لأن الأفكار المطروحة يُراد منها التأثير في مراعاة المقام ، وكل تغيير لن يحدث ما لم تتوافر آليات الخطاب المنسجمة مع المقام للكشف عن السياق البلاغي  الذي يحمل في مضمونه تمركزاً منطقياً يتجه نحو الإقناع بنظرته الخطابية التي تتجه نحو الإقناع والكشف عن آليات التأثير .

1-   آليات الاقناع في الخطاب الشعري :

    يتركّز الخطاب الحجاجي على تقنيات للوصول إلى اكتشاف الأبعاد الاقناعية ، عن طريق أدلة اقناعية مستنبطة من المنطق معتمدة على المقاربة التي حددها بيرلمانوتيتكاه ، بدراسة أساليب التواصل أي الوسائل المستعملة قصد التأثير ، ويمكن أن ندرسها على الشكل الآتي :

أ‌-      السلم الحجاجي :

    تشكّل مفهوم الحجاج عند ديكرو بارتباطه بالسلم الحجاجي كونه يمثل فئة حجاجية موجهة بوساطة علامات لسانية ( الروابط الحجاجية ) التي تربط بين فعلين كلامين داخل القول الواحد ، وحد الروابط والانتقال يتم عبر عملية استدلالية " تقوم على الانتقال من المعنى إلى المعنى أو من الدلالة الوصفية إلى الدلالة العقلية ، فالأولى دلالة مطابقة والثانية دلالة مستلزمة([vi]) .

     ويستعين الشاعر بالعديد من الحجج التي تتفاوت تبعاً لقوة أو ضعف الموقف مما يتيح للمتكلم من إلقاء حجة ليتصنع المتلقي بها شيئاً فشيئاً سواء استعان بروابط أم بدونهما  ولكن تبقى مهمته الاساسية هي اقناع المخاطب بحجة.  ولتوضيح ذلك نستعين بقصيدة (جرعة زائدة من الألم) حيث يقول : ([vii])

ربعُ أغنية،

نصفُ رقصة،

ثلاثةُ أرباع جسد؛

ذلكَ هو سرّي الذي أضاعَ الطريقَ إلى الأبد.

*

ربعُ امرأةٍ أو طفل،

نصفُ رجل،

ثلاثةُ أرباع قارب؛

تلكَ أسرةٌ سعيدة

غرقتْ توّاً في بحرِ الظلمات.

*

ربعُ فرات

نصفُ إله،

ثلاثةُ أرباع أسطورة؛

تلكَ بابل التي بلبلت التاريخ

وهي تبحثُ عن أبنائها مُثيري القلاقل والفِتَن.

*

ربعُ عاشقة،

نصفُ مجنون،

ثلاثةُ أرباع سرير؛

تلكَ قصّة حُبّ كاملة

يتداولها زوّارُ مواقعِ الإنترنيتِ بالملايين

على أنّها قصّة آدم وحوّاء.

*

ربعُ حرف

نصفُ نقطة

ثلاثةُ أرباع صرخة؛

تلكَ قصيدةٌ حروفيّة

انتحرَ شاعرُها البارحة

بعد أن تناولَ جُرْعَةً زائدةً مِن الألم.

     فالشاعر يستعير العديد من الصور الحجاجية التي تتفاوت فيما بينهما من القوة والضعف، وكل قول يرد يمثل درجة معينة من السلم يلزم عنه ما يقع تحته  إلى أن نصل إلى النتيجة التي تكتمل عندها الصورة فتمثلت بــ ( الضياع ) ، الذي وقع في أعلى درجات السلم ، بوصفه الحجة الاقوى للمتكلم ، ويمكن أن نوضحها بالشكل الآتي :

الخروج من الجنة = الإنتحار

فقدان التاريخ

الغرق في بحر الظلمات

ضياع الطريق

    وهذا يسمح لنا بالقول إن الوظيفة الحجاجية للمجاز لا يعني سعيه إلى إقناع عقل المخاطب بدعوى ما فقط  بل تعني سعيه إلى بلوغ النفس، وجعلها تقتنع بهذه الدعوى وتتبناها، ووفقاً لذلك يبدو إن المجاز أنجح وسيلة للتأثير في النص "وتمكين المعنى في القلب" ([viii]) ، ولا بد من التوضيح بأن السلم الحجاجي لا يتمّ بوساطة التفات بين القوة والضعف ، وإنما يتشكّل من خلال الروابط والعوامل الحجاجية ، ويمكن توضيح ذلك بقول الشاعر في قصيدته ( المرأة ذات الشعر الطويل ) : ([ix])

اختفىَ الحرفُ في الرمال

وربّما في البحر

وربّما في اللامكان

لكنّه تركَ لي نقطةً غريبة

نقطة تنظرُ إليَّ بعينين مليئتين بالألم.

    يقوم الشاعر بإيراد الحجة الاولى المتمثلة بإختفاء الحرف ثم يقوم بحصر وتقييد تلك الحجة بإيراده للعامل (ربما) ، وتكراره مرتين لغرض تأكيده للمتلقي بما يمثله كونه رافداً من روافد الاقناع في مقام دون آخر وهو ملائم لمتلق دون غيره ؛ لتكون النتيجة متمثلة بالرابط (لكنه)، في قوله (ترك لي نقطة غريبة) في كناية عن الامل المصحوب بالألم ، ويمكن تمثيلها بالسلم الحجاجي الآتي :

ترك نقطة مليئة بالألم     ن= الامل المصحوب بالألم

لكن

 اختفاء الحرف

  وهذا التوجه نحو النتيجة المضادة بعد لكن ؛ جعل الحجة أقوى قياساً لما قبلها ، ولا شك في أن المجاز الذي استخدمه الشاعر كان له الدورالكبير في الاقناع فهو يؤدي وظيفة نفسية في الوقت ذاته مستهدفاً نفس المخاطب وانفعاله ، وفي موضع آخر يقول : ([x])

طوال حياتي

كنت انتظرُ الفجرَ لأهرب

لكنني انتظرتُ الهروبَ طويلاً

لأنَّ الفجرَ كان يقضي معي

حكماً بالسجن المؤبّد .

     يحاول الشاعر إثارة المتلقي بالمبالغة في الوصف ، فيصوغ هذا المعنى في حجج مثلت أقوالا استعارية يمكن ان نمثلها بالسلم الحجاجي الآتي :

ن= الفجر مسجون مؤبد (في كناية عن الضياع)

انتظرتُ الهروبَ طويلاً     

لكن

انتظر الفجر لأهرب

   فالمتلقي وهو يحاول فهم الصور البلاغية السابقة يحولها إلى قياسات مضمرة يتولى هو نفسه الكشف عن مضمراتها  أو كما أسماه عبدالله صوله ( المحل الشاغر ) وجعل مدار الحجاج عليه([xi]) ، نتيجة لتفاعل الذوات الحجاجية في بنية الخطاب ، وما يشي به هذا التفاعل من حركيات وجدليات دائبة تسعى إلى البرهنة واثبات الفاعلية ، فيضحى النص الحجاجي مداراً لتوالد الاتساق الثقافية المتسمة بالانفتاح الدلالي اللامتناهي ، مما يجعل " القصيدة نصاً غير مغلق على جهازه اللغوي " ([xii]) .

2-   حجاجية الاستعارة :

     تمثل الاستعارة طاقة حجاجية للقول ، فالاستعارة نمط من المجاز اللغوي الذي هو صيغة من صيغ الاستدلال تتبادل معه الادوار ، لهذا نجد ( ميشال لوقرن ) : يميز بين نوعين من الاستعارة احدهما حجاجية والأخرى شعرية ، فيقول : " وهكذا نجد في مقابل الغاية الجمالية للاستعارة الشعرية مطمحاً اقناعياً للاستعارة الحجاجية"([xiii]) ، فالاستعارة الحجاجية تحتاج فعلاً إلى الظهور بمظهر البداهة العقلية، فكان الكلام يستدعيها ضرورة ويقتضيها اقتضاء بشكل عفوي لا تصنع فيه ولا تكلف، وما يهمنا كونها " تهدف إلى احداث تغيير في الموقف الفكري أو العاطفي للمتلقي"([xiv]).

      وبهذا يمكننا القول إن الاستعارة الحجاجية تمثل الأكثر انتشاراً لإرتباطها بمقاصد المتكلمين وسياقاتهم التخاطبية والتواصلية لما تحدثه من تغير في الفكر والموقف ، ونلاحظ كثرة استخدام شاعرنا للاستعارات كحجج في الكثير من قصائده، رغبة منه لإقناع المتلقي الذي يتضح من خلال تدخل آليتي الادعاء والاعتراض اللتين تميزان الحجاج ، ويتضح ذلك في قصيدته (حين وضعت البحر في قلبي):([xv])

حينَ وضعتُ البحرَ في قصيدتي ،

بكتْ قصيدتي

لأنَّ البحرَ لا يكفُّ عن الصخبِ

والتعرّي والهذيان .

وحينَ وضعتُه في حقيبتي ،

بكتْ حقيبتي

لأنّه كُثِبَ عليَّ الرحيل :

رحلة الليلِ ورحلة النهار ،

رحلة المجنونِ ورحلة الفيلسوف ،

رحلة المنفيَّ ورحلة المَلْهوف ،

رحلة كلكامش ورحلة أنكيدو ،

رحلة الحرفِ ورحلة النقطة .

لكنْ ،

حينَ وضعتُ البحرَ في قلبي ،

ارتبكَ قلبي

لأنَّه كُتِبَ عليَّ الرحيل إلى الجنَّة

بسفينة الغرقى والمفقودين.

    إن استدعاء الشاعر ( للبحر ) هو تصوير مجرد يؤدي وظيفة المستعار له ، بوصفه شخصاً يمثل المستعار منه ، فحاول الشاعر إثارة المتلقي بالمبالغة في الوصف ، فيصوغ هذا المعنى مصدراً بأقوال استعارية يمكن ان نمثلها بالسلم الحجاجي الآتي :

ن= الرحيل ( الموت )

وحين وضعتُ البحر في قلبي

                لكن

وحين وضعته في حقيبتي

حين وضعتُ البحر في قصيدتي

فاستطاع الشاعر ان ينزاح عن رؤيته الذاتية في ظل التشكيل الاستعاري التشخيصي، وإن يجعل الرحيل هو البؤرة المركزية المتسلطة على النص الذي ساقه من خلال حجج استعارية قائمة على التناقض لتقودهم إلى الهاوية ، إذ شبهها بسفينة الغرقى والمفقودين ليحقق الشاعر من خلالها فعالية أكبر ليحاجج على صدق دعوته، وإن شئنا قلنا " لا حجاج دون مجاز " ([xvi]) ، وفي موضع آخر يقول الشاعر في قصيدته ( جراحة اسطورية ) ([xvii]):

 

كانَ لي قلبان.

ماتَ أحدهما

لأنَّ كلبَ الدهرِ قد عَضّه مُبكّراً

أو لأنّه سقطَ مِن درجِ الطفولةِ البريء

أو لأنَّ قطارَ الحرمانِ سحقهُ دونَ رحمة.

والثاني كانَ مُتورّماً

بالحزنِ الأسود

والقلقِ الأزرق

والعبثِ الأصفر.

    لجأ الشاعر إلى التشكيل الاستعاري المكني الذي حمل بعداً تشخيصياً قائماً على العلاقات المتباينة لا على مستوى الاحداث والافعال فحسب بل على مستوى الأفكار والمواقف ، تحققت من خلال الروابط الحجاجية المتمثلة بـــ ( لأن ) ليربط بين الوسيلة والغاية فيكرره لأكثر من مرة قاصداً تأكيد الحدث، ويربط بين الاسطر بعلاقات تتابعية تمثلت بالرابط الحجاجي ( الواو ) الذي اسهم في تنامي النص وتطور دلالاته إلى علاقات ترابط السابق باللاحق وإسباغ عناصر حجاجية جديدة بتوظيف الصفات ( الأسود ، والازرق ، والاصفر)، فأكسبت النص طاقة حجاجية وقدرة اقناعية ، لما تحمله تلك الصفات .

    وعليه يمكن القول إن الاستعارة التي يوقظها الشاعر في نصوصه هي من أكثر الصور فاعلية ، فتمكن من خلالها اقناع المتلقي بفكرته ، مما سمح للبيان بأن يمثل ضرباً من ضروب الاستدلال التي من قبيل التخيلات غايتها الإقناع ، لذلك فالشاعر تمكن من توظيف كل آلياته الحجاجية من أجل جلب المتلقي ودفعه لتبين افكاره ومواقفه ، فالتعبير الاستعاري اتخذ شكلاً اقناعياً أسهم في انتاج الخطاب وتأويله .

حجاجية السرد الشعري :

    لعلنا في النسق الثاني من البحث نحاول جاهدين دراسة بنية الخطاب الحجاجي في البنية السردية داخل الصورة ، وإظهار مدى فاعلية الحجاج في السرد ، لأننا نرتئي غياب معالجة هذا المحور في أغلب الدراسات الحجاجية ، ألا وهي قدرته على ان الخطاب الحجاجي الشعري يمتلك خاصية حجاجيّة تميزه عن بقية الاجناس الأدبية التي باقتحام عالم المتلقي والتأثير فيه واقناعه بفحوى رسالته إبّان اعتماده التكثيف والايحاء والرمز عناصر تشكيلية تفنّ ابعاد الخطاب الشعري وتلملم شتاته افكار منحته ، وليس ببعيد عن الاذهان أن المنهج الحجاجي قد تمظهر في شكل آليات اقناع مقعّدة ومستقرّة بحثياً على مستوى اللسانيات أو البلاغة المعاصرة ، بيد اننا ارتأينا أن ندعم بحثنا هذا بآليات إقناع جديدة تنطلق من كون الخطاب الأدبي ولا سيما الشعر خطاباً حوارياً تتداخل فيه الاصوات وتتعدّد بإحتدام الصراعات التي تنساب منتج الخطاب ، لذا  فمجال الحجاج انما هو الحوار والخطاب حيث تظهر وجوه استعماله ، وتتجلى طرائق اشتغاله([xviii]) .

إذ يخرج الشعر من دائرة الغنائية إلى حيز الحكي / القول ومن التشكيل الجمالي للمفردة أو الجملة إلى قدرة النص الشعري على استنطاق منتجة وتحميله رؤى وأفكاراً ذاتية وعبر ذاتية .

     إنّ الخطاب الحجاجيّ " خطاب غنائيّ موجّه : غايته القصوى إقناع المتلقي بما يحمله من أفكار وما يعرضه من مواقف أو اغرائه بهذه الافكار وتلك المواقف والبحوث ..... أثراً واضحاً في المتلقي "([xix])، وهو ما يتضح في نماذجنا الشعرية التي اتخذ منها شاعرنا ميدانا لطرح موقفه من الوجود والحياة معتمداً آلية السرد بنية حجاجية من خلال خلق بنية حوارية متخيلة بين الشاعر والحرف ، كما في قصيدته ( ما قاله الحرف للشاعر )([xx])  :

قال الحرفُ لشاعرهِ :

أعرف أنّك خلقتَ النقطة

كي تنقذني من سَأَمي ، وحشةِ ساعاتي

ومِن موتي اليوميّ

....

لكنّ النقطةَ تُقْلِقُني دَوْماً ،

ترقصُ لي ، تُفرحني حيناً ،

.....

قال الشاعر :

أعرفُ ذلك يا حرفي ، أعرف .

أضافَ الحرف :

النقطةُ تُبكيني ، تُربكني

....

فإذا تركتْني ضعتُ

كما يضيعُ الخاتمُ وفي البحر .

....

أجابَ الشاعرُ وهو يغالبُ دمعتَه :

قدَركَ النقطةُ يا حرفي .

ارسمْها غُصنَ زيتونٍ

فإذا النقطةُ أضحتْ

حَمامتكَ البيضاء ... "

 لقد أدّت هذه المقاطع السردية استراتيجية حجاجية من خلال عملية التواصل " فحيث يكون التواصل يكون الحجاج ، والعكس صحيح " ([xxi])، وبما إن الحوار هو من أهم أشكال التواصل  بل هو من أهم " أشكال التعبير اللفظي ، وهو المجال الطبيعي الذي يقع فيه الحجاج " ([xxii]) ، فقد شكّلَ بتوظيفه داخل الخطاب الشعري / السردي – علامة دالّة على دور الحوار في تحقيق الانسجام الحجاجي إيّان تضافره مع التقنيات الحجاجية المكوّنة للنص الشعري ، ففي المقاطع الشعرية السابقة وسواها، كما في قوله :([xxiii])

" قالتْ : لمن تُلوّحُ وتصرخُ وترقص ؟

قلتُ لها : للبحرِ ، أعني للشمس .

ضحكتْ وقالت :

الشمسُ لا تفهم هذا ([xxiv])

وحوارية بين العاشق والنهر :

"قالَ العاشقُ السكران:

أنا مَصْدومٌ، مَخْذولٌ حدّ اللعنة

وأريدُ أن أنتحر الآن.

هل سيكونُ الموتُ غَرَقاً

موتاً سهلاً وسريعاً؟

فأجابَ النهر:

ادخلْ رأسَكَ في مَوجي

كي تصحو مِن خمرتِكَ السوداء.

الموتُ سرٌّ أعظم.

ولأنّكَ في مُقتبلِ العمرِ

فلا طاقةَ لكَ

بتحمّلِ سرِّ الموت الآن".

فمن خلال النصوص الشعرية هذه وسواها* تتمظهر لعبة التفاعل السياقي من خلال التبادل الحواري في الكشف عن الانساق المضمرة التي يختزنها النص ، وهذا من شأنه خلق قوة حجاجية على مستوى التكنيك الفني بجعل الآخر / الطرف المتحاور بينهم في تعضيد رؤية الطرف المحاور والابلاغ عن مكنوناته الزمنية الذاتية محققاً وظيفة اقناعية ، ومن الملفت للنظر أن الاقناع في نصوص شاعرنا الشعرية لم يكن مقصوداً لذاته ، وإنما أوتي به لاخفاء سمة أسلوبية ذات طبيعة تشفيرية / رمزية هدفها البوح الذاتي الذي قد يكون وسيلة لإقناع الذات الشاعرة نفسها لا الذات الأخرى .

    إنّ الخطابات الأدبيّة ذات النفس السردي  التي تتحمل في تركيبها طابعاً حوارياً تشي بضرورة استظهار العلاقة الجدلية بين الحوار وما يكتنفه من حجاجةاقناعية فإنَّ " أي تحليل للمحاورة " لا يمكنه الاستغناء عن نظرية الحجاج ، لأنّه يصادف على الدوام وقائع تنتمي للحجاج ، بل إنّ المجال المثالي لاشتغال الحجاج هو المحاورة "([xxv]) ، وهذا ما يقودنا إلى التصديق  لأن الحوار قائم على الحجاج ، الذي يتوخى الاقناع وإبلاغ المتلقي بفكرة أو رؤية " إنّ ما ينشأ من إقناع بين أطراف الحوار يعود إلى الكفاية الحجاجية حيث إنّ حضور الكفايات لدى أطراف الحوار يعطي دفعاً لعملية التفاعل التواصلي "([xxvi]) إنّ الكفايات الحجاجيّة تزيد الخطاب الشعري تأثيراً وإقناعاً ، وهذا ما يمنح الخطاب فاعلية وقوّة ، الأمر الذي يجعل النص الشعري أكثر قبولاً واقناعاً للمتلقي ، فيغير من قناعاته ويوهمه بمصدر قوة قوله ، فالنص الحجاجي " حوار مع المتلقي ، حوار يقوم على علاقة ما بين مؤسس النص ومتلقيه وتبقى الخاصية التحاورية هامة وأساسية في تأكيد حجاجية النص إذ تجعله بشكل ضمني أو صريح موضع رؤى متباينة متناقضة " ([xxvii]) .

     لقد عمد الشاعر إلى عقد حوارية بوليفونية ذات منحى صوفي فيه استنطاق للذات الغائبة/ المضمرة إبّان تعدديّة صوتية تجسد أقطاباً متنافرة سعياً وراء خلق بنية خطابيّة حجاجيّة ترتكز على المحاورة والجدل ، وهذا ما نلمحه في قصيدته ( الحرف يدمدم شيئاً ) ، فهناك حوار ( العاشق السكران مع النهر ) ، وحوار( الشاعرة الشابة مع الشاعر الكهل ) ، إذ قالت له : ([xxviii])

قالت الشاعرةُ الشابّةُ للشاعرِ الكهل:

ستموتُ قريباً

وسأسرقُ قصائدَكَ ورموزَكَ وحروفَك

وسأسرقُ ثيابَكَ أيضاً.

قالَ الشاعرُ الكهل:

حروفي لا تُسْرَق.

فالقاصي والداني يعرفُها باسمي.

وثيابي ثيابُ عابرِ سبيل

حيكَتْ من صوفِ الحرمان

لا مِن ذهبِ الدنيا أو ذهبِ السلطان".  ([xxix])

وقول الجسد للروح :

" سأقتصُّ منك ،

سأعذّبك بنار الشهوات

وأنين الحسرات

وستنهارين .

...

ضحكت الروح

وقالتْ للجسدِ المتفاخرِ كالطاووس :

أنا أقوى منك

فأنت تهرمُ في كل يوم

وأنا أتجدّدُ أبداً كالضوء " ([xxx]) ،

وقول النقطة للحرف :

"تعبتُ من هذي الرحلة حدّ الإعياء.

كنتُ أريدُ الموتَ لأنجو

لكنّي لم أنل الموتَ كما خطّطتُ لنفْسي.

وكنتُ أريدُ المجدَ سريعاً

فأنكرني شِعْري عندَ صياح الديك.

........

لم يجب الحرفُ كما فعلَ النهر

أو الشاعرُ الكهل

أو الروح

بل دمدمَ شيئاً في سرّه،

شيئاً يشبه: الكلُّ فناء

أو الكلُّ هباء!

 

 

     لقد تكوّنت هذه القصيدة من لوحة استمدت عناصر تكوينها الجمالي من عذابات النفس الانسانية ، ورحلتها غير المتناهية في غياب المجهول بحثاً عن الذات.  إنّ تقطيع القصيدة على مشاهد أربعة قد أسهم في تضافر أكثر من تقنية بنائية لتشكيلها وتثبيت حجاجيّة خطابها إبّان الاتكاء على مسرحة الشعر ومشهديته من جهة بتوظيف التجزئة المقطعية  التي يمثل كلٌّ منها مرحلة ذاتية عاشت اختلاجاتها نفسُ الشاعر ، وعبّرت عنها في ثنائيات متضادة (العاشق السكران O النهر )، و ( الشاعرة الشابة O الشاعر الكهل )، و ( الجسد O الروح)، و ( الحرف O النقطة )، إذ انبنى الخطاب الحجاجي في تتابع خطي قائم على ذكر الحجج المقترنة بنتائج متخيّلة ذات ابعاد زمنية مستقبلية ، كما هو موضح فيما يأتي:

العاشق السكران     النهر

حجة1مصدوم   حجة1       الموت سر أعظم

حجة2  مخذول   حجة2       وإنك في مقتبل العمر  

النتيجة    الانتحار   النتيجة       لا طاقة لك

الموت غرقاً            تحمل سرّ الموت الآن

 

الشاعرة الشابة الشاعر الكهل

حجة1      ستموت قريباً                          حجة1      فالقاصي

                                                                والداني يعرفها باسمي

النتيجة     سأسرق قصائدك ورموزك               حجة2      ثيابي ثياب عابر سبيل

    سأسرق ثيابك                         النتيجة       حروفي لا تُسرق

 

 

 

الجسد                                            الروح

حجة1        فاللذة أكبر في زمن                   حجة1        أنت تهرم في كل يوم

                العري الأكبر                        حجة2         أنا أتجدد

النتيجة         سأقتص منك                        النتيجة         أنا أقوى منك

               سأعذبك بنار الشهوات

                وستنهارين

النقطة                                                   الحرف

حجة1       كنت أريد الموت لأنجو                         هو محور هذه الأصوات

حجة2       كنت أريد المحل سريعاً                         النتيجة      الكل فناء

حجة3      كنت أريد أن أقهرك أيتها الروح                             الكل هباء

النتيجة     تعبت من هذه الرحلة حدّ الاعياء

    نلاحظ من هذه الخطابات أن الحجج قائمة على أماكن السلالم الحجاجية ، حيث إنها تبدأ بالتصعيد شيئاً فشيئاً ؛ لتصل إلى النتيجة المبتغاة  أو بالعكس .

    نرى شاعرنا يطالعنا بالنتيجة قبل الحجج معتمداً ( السين ) الدالة على الاستقبال تارة           متلائمة بخطيّة الزمن السردي ما بين الحاضر والمستقبل والعودة إلى الماضي ثم الرجوع إلى المستقبل أو الزمن الحاضر  ليكسر رتابة السرد المشهدي / الحواري فضلاً عن الروابط الحجاجية ( كي – ولكن ) التي عكست حلقة وصل حكائية ، إذ وقفت إلى جانب (ضمير الأنا)/ السرد بصيغة المتكلم  الذي شكّل حضوراً مهيمناً في النص الشعري الأمر الذي يشي بحضور ( أنا الشاعر )، وما كل هذه التعددية الصوتية أو تنافر الأضداد إلا هي أصوات متصادمة في ذات الشاعر ومتناقضة غير مستقرّة تقودنا إلى نتيجة حتمية قد آمن بها شاعرنا وهي : ( الكل فناء أو الكل هباء !).

    إنّ ( حجاجيّة السرد ) قد تمظهرت في السرد المشهدي ، السرد الذي يتضمن الحوار أيّاً كان نمطه ، وتشكّله ، ولا يخلو السرد من ميكانيزمات حجاجية تراءت لنا من خلال الزمن السردي عن طريق المزاوجة بين زمنين ( الماضي / الحاضر ) ، كما في قصيدة ( قلب الطفل ويقين الطائر ) ، إذ يقول :([xxxi])

"مُنبهراً كنتُ ومَدْهوشاً

بما كتبَ صديقي الشاعر

عن نبي الطوفان.

لكنّي صُعِقتُ

بل زُلزِلتُ

حينَ عرفتُ بأنَّ صديقي الشاعر

قد سرقَ العنوان

ونبضَ الحرفِ الهائم

من كتابِ الصوفيّ جلال الدين".

 

 

وهو في الزمن الحاضر يواشج شاعرنا بينه وبين العودة إلى الماضي ، فيقول :([xxxii])

"في جوفِ الليل

وفي الجهةِ الأخرى من العالم،

طرقتُ بابَ الصوفيّ جلال الدين،

قلتُ له:

إنَّ صديقي الشاعر

قد سرقَ منكَ العنوان"

 ....

 

"فربّتَ على كتفي وقال:

لو أنّه

عرفَ كيفَ يصل إلى قلبِه،

أعني إلى قلبِ الله،

لما اضطَرَّ إلى سرقةِ العنوان

ولكانَ مِن الناجين

معَ نبي الطوفان".

 

زاوج الشاعر بين زمنين في هذا النص الشعري ، ليوشّح نصه بمصداقية أكبر وقوة اقناع تحوي بعداً حكائياً ذا طبيعة حجاجية بانتقال الشاعر إلى زمن الصوفيّ جلال الدين  والتجاوز معه، وفي ذلك ما يؤكد التوجّه العرفاني لدى شعرنا ، وولعه بالغموض والايهام ، وفي هذا ما يلائم الحجاج ، إذ انه يجد " في الغموض أرضية خصبة لأنّ الحقيقة عندها لن تكون واحدة أو لا يمكن الحسم في شأنها فيكون الالتجاء إلى التأثير والاقناع وتبرر المواقف بديلاً عن برهنة شكلية صارمة ..."([xxxiii]).

    إنّ رحلة الشاعر إلى الصوفي ( جلال الدين ) ، وهو ما أسماه بـــ (الجهة الأخرى من العالم) باعتماده التشفير والتلميح الترميز عوضاً عن التصريح والإبانة بالاشارة إلى الزمكانية التي عبّرت عن زمن المتصوف ومكانه ، قد اكسب النص الشعري غاية حجاجية من خلال الموازية رؤية الراوي/ الشاعر ، وبين رؤية الحكاية / القصة التي تضمنها النص الشعري ، وكأنما شاعرنا يكتفي بدور الناقل المتصدي لأفكار غيره ، وهو يعمد إبّان التوجه الحجاجي إلى إظهار غاية وعظية نفعية دينية بالحجة المذكورة لإقناع المتلقي ، وهذا ما يؤكد أنّ شاعرنا قد قصد " استعمال التلفظ السردي في صياغته النصية هذه أسلوباً من أساليب الاقناع " ([xxxiv]) .

    ولم يغفل شاعرنا عن توظيف تقنيات زمنية أدت غايات حجاجية كما في قوله : " بعد أربعين عاماً من النفي المنظم " وهي مملة تؤكد ( حذف الزمن ) واختزاله بهذه العبارة المركزة الموحية الكاشفة عن غربة الشاعر المكانية واغترابه الفكري ( النفي المنظم ) .

     لعلّنا لا نغالي إذا قلنا إنّ شاعرنا أديب كمال الدين قد وظّف السرد " في حدّ ذاته لأداء غايات حجاجية "([xxxv])، وما يدعم قولنا هذا هو ذلك التلازم الهيكلي بين الحجة والنتيجة التي جاءت – في نماذج من قصائد الديوان – أشبه بالخاتمة التي يخلص إليها الشاعر مضمناً إياها عبراً تأمليّة في الوجود والحياة والموت ، سواء أكانت بصوت الشاعر أم بصوت راوٍ آخر هو بالنتيجة يجسّد انشطار ذات الشاعر وتشظيها .

    في ( ثلاث صور للبحر ) يسرد الشاعر يومياته إبّان رسمه ثلاث صور للبحر تجسيد حجاجية الرؤية الشعرية عند شاعرنا، وما هذه الصور إلّا انعكاس لرؤيته الذاتية ، ويمكن عدها موجهاً حجاجياً ؛ لأنها " تكشف عن علاقة المتكلم بكلامه ، وتوضح بشكل جلي موقفه من ملفوظه . وهي على هذا الأساس تمثل أساس التوجيه الحجاجي ومناط اشتغاله " ([xxxvi]) .

 تمثل الصورة الأولى السعي وراء الوهم والتخيل :([xxxvii])

"على صفحةِ البحرِ الهادئةِ حدّ الموت

رسمَ القمرُ صورتَه البيضاء

كاملةَ العُري.

ذهلتُ وأنا أقفُ على الشاطئ

إذ رأيتُ حرفي مَرسوماً على صورةِ القمر

بكاملِ البهجةِ والعُنفوان.

فسارعتُ إلى دخولِ البحر

لأقبّلَ حرفي المُقمر،

لكنني،

وا أسفاه،

غرقتُ في الخطوةِ الأولى".

     وفي الصورة الثانية كان الغرق أيضاً مصير الشاعر :([xxxviii])

 

"في اليومِ الثاني،

ذهبتُ إلى البحر

فرأيتُ الشمسَ بكاملِ أنوثتِها

وهي تسكبُ لونَ حرفي الأحمر

على زرقةِ البحر.

لوّحتُ للشمسِ بيديّ

ثُمَّ صرختُ مُهَلِّلاً بها

.....

واقتربتْ منّي إحداهنّ،

قالتْ: لمَن تُلوّحُ وتصرخُ وترقص؟

قلتُ لها: للبحرِ، أعني للشمس.

ضحكتْ وقالت:

الشمسُ لا تفهمُ هذا...

فانحنيتُ للشمس

وقد امتزجَ دمها بالبحر تماماً ،

فالتفتُ مرّة أخرى

وأنا أبحثُ بعينين دامعتين عن الطريق .

هل كان طريق النجاة أم كان طريق الغريق "

وفي يومه الثالث ([xxxix])

 

في اليومِ الثالث،

ذهبتُ إلى البحر.

لم أجد القمر،

لم أجد الشمس،

ولم أجد المرأة.

بل وجدتُ البحرَ كما هو

دونَ زيادةٍ أو نقصان!

هل كانَ أسْوَد؟

نعم.

هل كانَ أحمر؟

نعم.

هل كانَ أزرق؟

نعم، نعم، نعم.

ثُمَّ التفتُ فوجدتُ البحرَ قد أحاطَ بي

وهو يحاولُ أن ينتزعَ حرفي مِن يديّ،

أعني قصيدتي مِن يديّ

وأنا أجلسُ وحيداً فوقَ سريري الضيّق،

في غرفتي الضيّقة،

أجلسُ مَذهولاً كإلهٍ غريق.

 

    إنّ تجسد الشاعر مفهوم الغرق في ثنائية متلازمة :

الانسان

 

( البحر O القمر )              ( البحر O الشمس )        ( البحر O المرأة )

الخطاب من خلال رسمه صوراً للتيه ، تيه الذات وانجرافها وراء مقاصد دنيوية . إنَّ هذه الثنائيات تمثل العمق والاتساع والبعد المكاني والمجهول كلها إشارات توحي بدلالات رمزية استعان الشاعر فيها بموجهات حجاجية ، فاختيار شاعرنا لهذه الجمل " الحاملة للبعد توجيهي ، وحرصه على تضمينها لخطابه ، ... ينبغي التعامل معه بوصفه جزءاً لا يتجزأ من العملية الحجاجية " ([xl]) ، يمكن عدّ هذه الموجهات عاطفية ، " التي تعبر عن عواطف المتكلم وأحاسيسه ومشاعره فيما يقول "([xli]) ، فضلاً عن " العديد من التعابير الذاتية التي تكشف عن مدى الانخراط العاطفي للمتكلم في محتوى ملفوظه " ([xlii]) ، هو ما انكشف للقارئ إبّان جدليّة البحر، والتي اقترنت بجدلية الألوان ( الأسود ، والأحمر ، والأزرق ) ، وهو في ذلك يعبّر عن وحدته وعزلته وعدم تماهيه مع الوجود على الرغم من سعة ما حوله، وهو لم يبتعد عن توظيف موجهات حجاجية اثباتية من خلال استعمال (العوامل الحجاجية) التي من شأنها تحويل الطاقة الحجاجية للملفوظ من طريق تقييد إمكانياته الحجاجية، وتوجيهها وجهة محددة من دون سواها ، وذلك بتضمين ملفوظه أحد أفعال النفي ( وجد ) ، في قوله :

 ( بل وجدتُ البحرَ كما هو ) ، أو استعمال ( النفي ) :

( لم أجد القمر ، لم أجد الشمس ، ولم أجد المرأة )

  هذهِ الموجهات الحجاجية إلى جانب سلسلة المتتاليات السردية المتمثلة بالأفعال الكلامية القائمة على الاخبار والتقرير والخطابات المباشرة ، والأساليب الطلبية كالاستفهام والنفي ... فضلاً عن الروابط الحجاجية قد تماهت ضمناً في تشكيل الخطاب السردي الحجاجي ولا سيما التحاورات التي تُعد جزءاً من الخطاب الأدبي في السرد القصصي ... وهي تحاورات تسهم بشكل كبير في انسجام النصوص السردية وأدائها لمقاصدها ... ([xliii]) .

    فقد حققت حضوراً مهيمناً في المرونة ( الحجاجية / والسردية / والشعرية ) ، لأنها وشمت النص الشعري بمسحة سردية غلب عليها توالي الافعال الحكائية / الحديثة ، أي التي تصوّر الحدث في مقابل غياب الوصف- إلى حد ما - وهذا ما يعطي لتلك النصوص الحجاجية خاصية حركيّة هدفها الاقناع ، وتغيير الرواسب الفكرية في ذهن القارئ / السامع أو أسلبتها أو دحضها .

     إن معالجة السرد حجاجياً لم يكن أمراً هيناً ولا سيما أنّ نصوص ديوان شاعرنا الشعرية ليست جميعها ذات نفس سردي ، فكان الانتقاء وسيلتنا للوصول إلى مرامي غاياتنا ، ولم يقتصر السرد حجاجياً على الحوار أو الزمن أو المكان أو الحدث ، بل كـــذا الشخصية (الراوي – الشاعر ) ، والشخصية / المتحاور معها في توظيف فعل القول ( قال ، وقلت ، وقالت ، ... )، أو من خلال السؤال :

" سألني الغرباء ذات حياة :([xliv])

ما تقولُ في نَفْسك؟

قلتُ لهم: لقد غلبتْ نقطتي حرفي.

فبكى مَن بكى

ودمدمَ مَن دمدم

وادّعى مَن ادّعى

وضحكَ مَن ضحك

وذهل مَن ذهل

وارتبكَ مَن ارتبك.

وماتَ مَن مات".

وقوله : ([xlv])

" احتجَ شاعرٌ ما على الحرف .

قال : ما لكَ والحرف ؟

....

ما أنتِ إلّا كارثة

أخطأ اللغويّون فسمّوها: المرأة،

وأخطأ الشعراءُ فسمّوها: المرآة،

وأخطأ الحُروفيّون فسمّوها: النقطة!

...

علامَ، إذنْ، تتمسّك بالشِّعْر:

هل ستخلقُ حرفاً جديداً

أم ستضيفُ هذياناً جديداً إلى السابقين؟

 

    لعلّ هذا النص الشعري قد توافرت فيه – إلى حد ما – الروافد أو الانظمة الحجاجية التي تتحكم بقوانين الخطاب الحجاجي / ( الشعري – السردي ) من روابط حجاجية لــ إذن ، ....، وموجهات حجاجية ( تقريرية ، أو اثباتبة ، أو عاطفية ، ... ) ، بتوظيف أساليب الاستفهام ، والنفي ، والاستثناء ، .... والاخبار ، ثم باعتماده بنية التكرار ، التكرار الحرفي ( الواو ) ، والتكرار اللفظي ، والمرأة ، والتكرار في الفعل ( مات ، ودمدم ، وضحك ، وذهل ، .... ، ) وتكرار الجملة / ( دمدم من دمدم ) ، ( ضحك من ضحكك ) ، .... فبنية التكرار في هذا النص وسواه قد كان لها تأثير بالغ في " الاضطلاع بدور حجاجي هامّ " ([xlvi]) .

   إذ إنّ التكرار في أكثر من موضع " يُعد من أفانين القول الرافد للحجاج المدعّمة للطاقة الحجاجية في الدليل أو البرهان لما له من وقع في القلوب "([xlvii]) .

    إنّ تكرار شاعرنا أديب كمال الدين عباراته الشعرية يؤكد موقفه الحجاجي بازاء ما يقوله، وهو يضمنه في مقولية السرديّة ليضفي عليها طابعاً جدلياً قائماً على ذكر الحجج ودحضها بحجج أخرى مرتبطة بنتائج تشي بخلاصة تجربة الشاعر وعشقه للآخر غير المتناهي التائه في دوامّة الكون .

    نأمل ألّا يكون ربطنا بين السرد والحجاج / أقحاماً ولكنه تجوّز منا لإضافة قانون حجاجي آخر إلى جانب قوانين الخطاب الحجاجي تسعى إلى رفد بنية النص الأدبي بميكانيزمات حجاجية جديدة تضاف إلى ما هو متعارف عليه في الدراسات الحجاجية .

 

والله الموفق

الباحثتان

 



[i]- ينظر الحجاج في الشعر العربي القديم من الجاهلية الى القرن الثاني الهجري بنيته واساليبه ، د.سامية الدريدي ، دار الكتب الحديث ، ط1 ، 2008م : 41 .

[ii]- الحجاج مفهومه ومجالاته ، دراسات نظرية وتطبيقية في البلاغة الجديدة ، اشراف : د. حافظ اسماعيلي ، عالم الكتب الحديث ، اربد – الاردن ، ط1 ، 2010م : 1/495 .

[iii]- المصدر نفسه .

[iv]- الثابت والمتحول ، بحث في الإبداع والاتباع عند العرب ، أدونيس دار الساقي ، بيروت ، لبنان ، ط7 ، 1994م : 3/133 .

[v]- الابعاد التداولية لبلاغة حازم من خلال ( منهاج البلغاء وسراج الادباء ، مشروع قراءة ، د. مصطفى الغرافي، ( بحث ) ، مجلة عالم الفكر ، مجلة دورية محكمة ، تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، المجلد40 ، العدد : 2 ، الكويت ، 2011م : 266 .

[vi]- ينظر : خطاب المناظرة في التراث العربي الاسلامي ، عادل عبد اللطيف ، اطروحة لنيل الدكتوراه ، كلية الآداب ، مراكش ، 2003-2004م : 65 .

[vii]- ديوان في مرآة الحرف ، أديب كمال الدين ، منشورات ضفاف ، لبنان ، ط1 ، 2016م : 102-130 .

[viii]- الايضاح في علوم البلاغة المعاني والبيان والبديع ، الخطيب القزويني محمد بن عبد الرحمن جلال الدين ، تحقيق : ابراهيم شمس الدين ، دار الكتب العلمية ، ط1 ، 2003م : 221 .

[ix]- الديوان : 96 .

[x]- المصدر نفسه : 65 .

[xi]- الحجاج في القرآن من خلال أهم خصائصه الاسلوبية ، عبد الله صوله ، دار الفارابي ، بيروت – لبنان ، ط2 ، 2007م : 222 .

[xii]- الزمن وتفكيك الوحدة الإيدلوجية للنص ، جمال الدين الخضور ، دار الحصاد للنشر والتوزيع ، دمشق ، سورية ، ط1 ، 1995م : 107 .

[xiii]- الاستعارة والحجاج ، ميشال لوقرن ، تر : طاهر عزيز ، مجلة المناظرة ، ع4 ، 1991م : 89 .

[xiv]- ينظر دراسات في الحجاج ، قراءة لنصوص مختارة من الادب العربي القديم ، سامية الدريدي ،عالم الكتب الحديث ، الاردن ، ط1 ، 2009م : 110-111 .

[xv]- الديوان : 130 .

[xvi]-البلاغة والاتصال ، جميل عبد الحميد ، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع ، القاهرة ، 2000م : 166 .

[xvii]- الديوان : 87 .

[xviii]- الحجاج والخطاب ، د. بكر العزاوي ، مؤسسة الرحاب الحديثة ، بيروت – لبنان ، ط1 ، 2010 : 35 .

[xix]- الحجاج في الشعر العربي بنيته واساليبه ، د. سامية الدريدي ، عالم الكتب الحديث ، إربد ، الاردن ، ط2 ، 2011 : 35 .

[xx]- الديوان : 89-91 .

[xxi]- الخطاب والحجاج : 12 .

[xxii]- المرجع نفسه : 53 .

[xxiii]- الديوان : 93 .

[xxiv]- المصدر نفسه : 106 .

* ) ينظر : المصدر نفسه : ( 116 ، 118 ، 137 ) على سبيل المثال .

[xxv]- بلاغة الاقناع في المناظرة ، عبد اللطيف عادل ، دار الامان ، الرباط ، ط1 ، 2013 : 114 .

[xxvi]- الحوار وخصائص التفاعل التواصلي دراسة تطبيقية في اللسانيات التداولية ، الدار البيضاء ، المغرب ، ( د . ط ) ، 2009 : 8 .

[xxvii]- الحجاج في الشعر العربي : 28 .

[xxviii]- الديوان : 107 .

[xxix]- المصدر نفسه : 107-108 .

[xxx]-  نفسه ، 108-109 .

[xxxi]-نفسه : 116 .

[xxxii]- نفسه ، 116 -117 .

[xxxiii]- الحجاج في الشعر العربي : 62-63 .

[xxxiv]- تداولية الخطاب السردي دراسة تحليلية في وحي القلم للرافعي ، محمود طلحة ، عالم الكتب الحديث ، إربد، الاردن ، ط1 ، 2012 : 112 .

[xxxv]- المرجع نفسه : 113 .

[xxxvi]- حجاجية الاسلوب في الخطابة السياسية لدى الامام علي ( رضي الله عنه ) ، د. الزماني كمال ، عالم الكتب الحديث ، اربد ، الاردن ، ط1 ، 2016 : 205 .

[xxxvii]- الديوان : 92 .

[xxxviii]- المصدر نفسه :93-94 .

[xxxix]- نفسه : 94-95 .

[xl]- حجاجية الاسلوب في الخطابة السياسية : 205 .

[xli]- نقلا عن حجاجية الاسلوب في الخطابة السياسية : 208 .

[xlii]- ينظر : المرجع نفسه : 92 .

[xliii]- تداولية الخطاب السردي : 119 .

[xliv]- الديوان : 140 .

[xlv]- المصدر نفسه : 146-148 .

[xlvi]- الحجاج في الشعر : 168 .

[xlvii]- المرجع نفسه ، 168 .

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home