جولة في الأعمال الشعرية الكاملة لأديب كمال الدين

 

قصائد من نسيج وحدها مكتوبة بتقنية السهل الممتنع

عدنان حسين أحمد

 

 

 

 صدر عن "منشورات ضفاف" ببيروت المجلّد الأول من الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر أديب كمال الدين. وقد ضمّ هذا المُجلّد خمس مجموعات شعرية وهي "نون"، أخبار المعنى"، "جيم"، "ديوان عربي"، "تفاصيل"، إضافة إلى "آراء في التجربة" و "سيرة الشاعر الذاتية والإبداعية". 


وجدير ذكره أنّ الشاعر أديب كمال الدين قد أنجز حتى الآن 19 مجموعة شعرية منذ عام 1976 وحتى الآن. وقد حظيت تجربته الشعرية باهتمام نقدي واسع على الصعيدين العراقي والعربي إضافة إلى بعض الدراسات النقدية باللغة الإنكليزية مثل دراسة الشاعرة والناقدة الأسترالية جود أكولينا، والدكتورة آن ماري سميث، والدكتور هِثر تايلر جونسن وغيرهم من النقاد والباحثين المنهمكين في الكتابة عن المشهد الشعري العالمي. ولتأكيد صحة ما نذهب إليه نقول بأن عدد النقاد والأدباء والدارسين الذين ضمّهم فصل "آراء في التجربة" قد بلغ 40 ناقداً يتوفر معظمهم على رؤية نقدية ثاقبة أسهمت في تحليل هذه المجموعات الشعرية الخمس، ووقفت عند أسباب نجاحها وتميّزها ضمن المشهد الشعري لـ "جيل السبعينات" من القرن الماضي كما اصطُلِح على تسميته آنذاك.


وبما أنّ كمال الدين قد اختار التسلسل المقلوب لمجلّده الأول حيث بدأ من المجموعة الخامسة "نون" نزولاً بـ "أخبار المعنى"و "جيم"و "ديوان عربي"، وانتهاء بالمجوعة الأولى "تفاصيل" فسنكون مضطرين لاتباع هذا التسلسل الذي ارتآه الشاعر مُخالفاً فيه توقعات قارئه وناقده على حدّ سواء.


لا يمكننا، بطبيعة الحال، أن نتوقف عند المجموعات الشعرية الخمس وذلك لتنوّع ثيماتها وأغراضها الشعرية وإن كان الحرف المتوهج محورها الرئيس، والنقطة المضيئة فنارها البارز الذي يستقطب المغامرين الذين يبحثون عن أرض عذراء، لكننا سنؤشر في الأقل على أبرز المحطات التي تخللت تجربة الشاعر على مدى أربعة عقود أو يزيد.


منذ مجموعته الشعرية الأولى التي صدرت عن "مطبعة الغرّي" بالنجف عام 1976 كان الشاعر أديب كمال الدين يكتب نصاً شعرياً متماسكاً تتسيّد فيه الحبكة، وتتضح فيه وحدة الموضوع الذي يخلو من الزوائد والترهلات اللغوية التي تُثقل كاهل القصيدة المبنية بناءً رصينا.
إنّ منْ يُدقق في النص الشعري الذي يكتبه أديب كمال الدين سيكتشف من دون لأيْ أو عناء المنحى القصصي "السردي" الذي يُهيمن على جسد القصيدة برمتها، فلا شيئ خارج السياق المُنساب الذي يُذكِّرنا دائماً بتقنية "السهل الممتنع" التي تُشعِر القارئ بأنها مُتاحة للجميع لكن القادرين على الأخذ بزمامها قليلون وأنّ تأثيرهم يكاد يمتد إلى كل قارئ مُرهف يُحب الصورة الشعرية، ويطرَب لإيقاعها الموسيقي الغامض الذي يلامس شِغاف الكائن البشري الذي تشذِّبه الثقافة القولية وغير القولية في آنٍ معا.

سنكتفي بالإشارة إلى مقطع واحد من "قصيدة حُبّ" المنشورة في مجموعة الشعرية الأولى حيث يقول:

  "حُبّي

 من أجلكَ قد غنّيتُ حروفاً لا تُوصَف

 وحروفاً تشكو لونَ الليل وتمشي كالأطفالِ المسرورينْ

 وحروفاً تهمسُ للصيفِ، الماءْ

 وحروفاً تُعزَفُ للأسفار

 أو تُعْزَف حين يشيبُ الوردُ، الكاسْ

 وحروفاً أقدمُ من أصواتِ الطيرْ

 من ذاكرةِ الأنهار".


تأتي أهمية هذا المقطع لأسباب عِدّة أبرزها أن الشاعر أديب كمال الدين قد وظّف الحرف أول مرّة، وكرّره سبع مرّات في عموم القصيدة وكأنه يوحي لنا منذ البدء بأنه سيؤسس لهذا المشروع الشعري الحروفي من دون أن تفقد قصيدته أي مقوِّم من مقومات النص الشعري المُتعارَف عليها عند مجيايليه أو أقرانه من الشعراء العراقيين والعرب على وجه التحديد.
يتصف النص الشعري لأديب كمال الدين بوحدة الموضوع الناجمة عن خريطة القصيدة أو شبكتها الداخلية التي يرسمها في ذهنه أول الأمر قبل أن يجسِّدها على الورق بصيغة صور شعرية سلسة تنساب في أذن السامع مثل موسيقىً شعرية أخّاذة. لنمعن النظر في المقطع الآتي من قصيدة جنّة الفراغ" التي يقول في مطلعها:

 

 "مِن المؤكّد أنّي أحببتُكِ

  لكنْ من المؤكد أيضاً

 أنّي أتعالجُ الآنَ من مرضِ حُبّكِ

  بأقراصِ النقاط

 في مستشفى الحروف!".



لا يخرج هذا المقطع الشعري عن إطار الحُبّ والمستشفى. وبما أنّ الشاعر قد قارن الحُبّ بالمرض، وهي مقارنة دقيقة على وفق الموروث العربي الذي يربط درجات الحُبّ بالتعلّق والولع والحزن والحرقة والتفكير وصولاً إلى مرحلة الهُيام والجنون والذوبان الكلي بالمحبوب. ففي هذا المقطع ثمة مُحب ومحبوبة وقصة حُب مؤكدة لا يرقى إليها الشك ألبتّة حيث يتعالج المُحبّ من مرض الحُب لكن ليس بأقراص الحبوب وإنما بأقراص "النقاط" في مستشفى "الحروف". وعلى الرغم من أنّ الشاعر قد لوى عُنُق المقطع الشعري في البيتين الأخيرين بطريقة فذّة إلاّ أنّ وحدة المقطع واضحة جداً، وأن الفكرة قد اكتملت إلى درجة الاكتفاء بحيث انغلقت على نفسها ولم تعد تحتمل الحذف أو الإضافة او التعديل.

 

ان هذا الهاجس الحروفي الذي سوف يترسخ رويداً رويداً في تجربة الشاعر أديب كمال الدين هو الذي جعلهُ يغرّد "خارج السِرب" بحسب توصيف الناقد حسن ناظم لتُصبح "الحروفية" علامة إبداعية تُحيل إلى أديب كمال الدين حصراً وتحمل بصماته السريّة التي لا تتطابق مع بصمات أي شاعر آخر مهما بلغت درجة إبداعه الحروفي هنا أو هناك. وإذا كان البعض قد صنع حديقة حروفية فإن أديب كمال الدين قد خلق غابة من القصائد الحروفية المشوّقة ذات الأبنية الهندسية الرصينة التي تُذكِّرنا بالتُحف المعمارية ولا تُحيلنا إلى أنماط الأبنية السائدة والمكرّرة التي تُسقطنا في دائرة التشابه المُمِّلة.

يؤكد الناقد محمد صابر عبيد بأن قصيدة الشاعر أديب كمال الدين "تراهن على البساطة لا التعقيد" لكن معظم النقاد الذين تأمّلوا قصائد كمال الدين، وأطالوا النظر فيها، وحلّلوها توصلوا إلى أنها "من نسيج وحدها"، وأنها سهلة ممتنعة بامتياز وقلّما يجاريها شاعر آخر حتى وإن أتقن فنّ التقليد أو أصبح صدىً لأصوات شعرية واضحة المعالم تركت بصماتها على المشهد الشعري المحلي أو العالمي.

لنقتبس مقطعاً من قصيدة "جنّة الفراغ" ونرى كيف يَحْبِكُ كمال الدين صورته الشعرية "البسيطة" التي تخلو من عويص الكلام وحوشيه حيث يقول:

 "صارَ اللقاءُ بكِ

 يُشبه مشلولاً يريدُ أنْ يتسلّق نخلةً باسقة"

 

 ولو أمعنّا النظر في مفارقة المشلول الذي يحاول أن يتسلق نخلة عيطاء لاكتشفنا جودة صياغة هذه الصورة الشعرية التي تجسّد التناقض الظاهري الواضح بين الشلل من جهة والعلو الشاهق لهذه النخلة من جهة أخرى والمُحب الهيمان الذي يريد أن يتسلقها بغية اللقاء بمحبوبته. ولكن ربّ قائل يقول إن كمال الدين قد استعمل في ديوانيه الأولين "نون" و "أخبار المعنى" بعض الكلمات القديمة الميتة التي عفا عليها الزمن مثل "افرنقعَ" و "احرنجمَ"، وهذا تساؤل مشروع لكن جوابنا عليه أن الشاعر قد أحيا هاتين الكلمتين من موتهما وبعث فيهما حياة جديدة. نقرأ في البيت الآتي:"افرنقع غيمُ شتاء الروح"، وكلنا يعلم أن معنى هذا الفعل هو التفرّق والتنحّي والتبدد أو العَدْو الشديد حينما يكون الإنسان أو الحيوان موّليا. وربما يستعملها الشاعر بصيغة "افرنقعوا عني" أي ابتعِدوا عني. أما الاحرنجام فتعني الاجتماع، أي عكس التفرّق مثل "احرنجمت الإبلُ" كما تعني الرجوع عن الأمر أو الشيئ الذي أراده الإنسان أولاً ثم عكف عنه لاحقاً.
كثيرة هي القصائد المكتفية بنفسها في هذه الأعمال الكاملة سواء أكانت هذه القصائد طويلة جداً، أم متوسطة الطول أم وامضة تشبه إلى حدٍ كبير قصائد "الهايكو" اليابانية. لنترك الحكم النهائي للقارئ وهو يتلقى هذا النمط التنويري المكثف:

 

 "الموتُ خرافة

 والحبُ أسطورة

 وأنا أؤمن بهذه الخرافة

 وأتجلّى في تلك الأسطورة".


يلعب الشكل دوراً مهماً في مجموعة "أخبار المعنى" التي قدّمها كمال الدين إلى دار الشؤون الثقافية للنشر عام 1992. والشكل هنا مخالف لما اعتاد عليه القارئ العربي الذي يقرأ قصيدة نثر تغطي القسم الأيمن من الورقة لكن كمال الدين قدّم لنا نصوصاً تغطي مساحة الورقة كلها وكأنك تقرأ نصاً مجتزءاً من رواية أو قصة أو مقالة وهو ما دأب عليه بعض شعراء السبيعينات في محاولاتهم الدؤوبة لتجديد شكل القصيدة العربية التي تتغيّر في بعض الأحايين لكنها سرعان ما تعود إلى شكلها الجنيني الأول.


كثيرون أولئك الذين كتبوا عن المنحى الصوفي في شعر أديب كمال الدين لعل أبرزهم الدكتورة بشرى موسى صالح التي قالت بما معناه أن التجربة الصوفية قد منحت كمال الدين "مقترحات حرفية وأسئلة قصوى عن الحرف وقدراته التي لا تُحدّ". ومن يقرأ قصائد ديواني "جيم" و "ابن عربي" سيرى كيف وظّف الشاعر أسماء بعينها تحيل إلى المتصوفة أو مواجد المتصوفين في الأقل حيث تتمكز جلّ القصائد على أبي الحيان التوحيدي وإشاراته وأبي العلاء المعري وتجلياته، وابن عربي وكشوفاته التي ألهمت شاعرنا كمال الدين وأمدّتهُ بنسغ فاعل ظلّ يتصاعد في شجرة حروفة التي أخذت تتوهج يوماً بعد يوم.

******************************


الأعمال الشعرية الكاملة: المجلد الأول ، شعر: أديب كمال الدين، منشورات ضفاف، بيروت 2015

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home