سمير عبد الرحيم أغا

 

جماليات التشكيل اللوني في شعر أديب كمال الدين

 


منشورات جامعة ديالى – العراق 2017

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ن والقَلَمِ وَمَا يَسْطرُون.

سورة القلم. الآية 1

 

 

 

 

 

المحتويات

 

المقدمة

تمهيد : معنى الجمالية

الفصل الأول : التشكيل السردي في شعر أديب كمال الدين

الفصل الثاني : جمالية  التشكيل اللوني في شعر أديب كمال الدين

الفصل الثالث: تشكيل الحرف: تشكيل اللون في مجموعة: (أربعون قصيدة عن الحرف)

الفصل الرابع: جمالية التكرار في مجموعة: (أقول الحرف وأعني أصابعي )

الفصل الخامس: جمالية  الصور القرآنية في مجموعة (مواقف الألف)

الفصل السادس: جمالية الرمز في  مجموعة (الحرف والغراب)

الفصل السابع: التضاد اللوني في قصيدة) الغراب والحمامة)

الفصل الثامن: السينما والتشكيل الشعري

الفصل التاسع: جمالية  الحوار في شعر أديب كمال الدين

المصادر والمراجع

المؤلف في سطور

 

 

 

 

المقدمة

 

 

     طرق الوصول إلى النص متعددة ومن أهم تلك الطرق اللغة ، لأنها هي البناء أو اللبنة التي يتشكّل منها النص الشعري والوصول إلى جمالياته، فلكل شاعر لغته الخاصة التي تشكل معجمه الشعري ، وقد مثل الشعر  النتاج الأساسي لأدبية الخطاب العربي على مدى خمسة عشر قرنا ، لعب خلالها دورا رئيسا في تشكيل الثقافة العربية وإثرائها .

   لا تزال قضية الشعر أو جمالية الشعر من القضايا الساخنة التي تثير  جدالا في الساحة النقدية المعاصرة ومن خلال هذا البحث نحاول البحث عن خصائص الإبداع الجمالي وشروط جماليته في الشعر العربي المعاصر، وإن ما يميز الشعراء عن بعضهم البعض هو الجانب الفني أو الجمالي صورة ولغة وأسلوبا وفكرة وخيالا ، وحتى يكون للنص الأدبي صدى وقبولا لدى المتلقي لا بد أن يتوفر على القيم الجمالية والشعرية ، وغايتنا الكشف عن هذه الجماليات التي يتضمنها النص والتي تخلّده. 

كما أن المزج بين الأجناس الأدبية أو ما يسمى بتداخل الفنون الأدبية أو حوار الأجناس أصبح هو الموضة التي نراها اليوم حيث أصبح النص الشعري قصة شعرية يتداخل فيها الإيقاع مع السرد والقصة القصيرة - وأن الفنون من أهم العناصر التي تشكل جمال النص .

 وقد اخترنا الشاعر أديب كمال الدين  إذ يعتبر ظاهرة في حركة الشعر الحديث وحرفا منفردا في مسيرة شعراء الحداثة يعتمد التوسط في حداثته ولديه القدرة على التعدد، وهو موضع اهتمام الكثير من الباحثين والنقاد، حيث تناوله الدارسون من زوايا عديدة ومختلفة وخاصة من زاوية الأسلوب الجمالي . إن  الحرف واللون أهم ما يميز تجربة أديب كمال الدين فنيا وجماليا ،  ومع ذلك فإن شعره لم ينل حقه من الدراسة ولا يزال  نصه الشعري بابا مفتوحا أمام  كل باحث في الإبداع الشعري من خلال ) الجماليات  في شعره ( فهو لا يزال مجالا خصبا وفي حاجة إلى دراسة عميقة ومستفيضة، وللإلمام بهذه المادة كان اختيارنا لدواوينه:) ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة)، (شجرة الحروف)، ( أربعون قصيدة عن الحرف ) أقول الحرف وأعني أصابعي ) مواقف الألف)، (الحرف والغراب) ) إشارات الألف ( ، ) رقصة الحرف الاخيرة) التي رسمت بنية جملته الشعرية والصورية  وكانت فيها مظاهر تشكيلية متميزة ، ومرآة عاكسة لذاته من الوطن إلى المنفى، وهي مصدر ثراء كتابة نصّ مفعم بالمشاعر والأحاسيس  وما يحمله من قيم دلالية.

  وقد قسمنا بحثنا هذا إلى تسعة فصول :

      الفصل الأول خُصّص لدراسة التشكيل السردي في شعر شاعرنا  من خلال التنوع في السرد  في ديوانه (شجرة الحروف)  حيث ناقشت كيف وظف السرد في الشعر وتداخل معه مضيفا  دلالات تشكيلية لشعره.

      وخُصص الفصل الثاني لمسألة جمالية  تشكيل اللون في شعره من خلال ديوانه : (ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة) ووصفه المحسوسات والمعاني لونيا.

      أما الفصل الثالث فقد تناول  تشكيل اللون  في الشعر ، من خلال رصد تشكيل الرسم  في مجموعة : (أربعون قصيدة عن الحرف ) وما تجسّده  اللوحة  في القصيدة  .

أما الفصل الرابع  فقد خُصص لمسألة جمالية التكرار في ديوانه : (أقول الحرف وأعني أصابعي) .

     وتناول الفصل الخامس جمالية توظيف الصور القرآنية في مجموعة: (مواقف الألف) وقد وظف الشاعر الصور القرآنية عبر انفتاح النص الأدبي على النص القرآني

   أما الفصل السادس  فقد خُصّص لمسألة جمالية الرمز و الرمزية في ديوانه : (الحرف والغراب).  والرمز هو طريقة في الأداء الادبي تعتمد على الايحاء بالأفكار والمشاعر ، وقد استمد الشاعر العديد من الشخصيات ووظفها توظيفا رمزيا خدمة للمنحى الدرامي .

    أما الفصل السابع  فقد خُصّص لموضوعة  التضاد اللوني في شعره، من خلال  قصيدة من قصائد ديوانه :الحرف والغراب.  وفيه يتداخل اللونان المهيمنان على الفضاء: الأبيض والأسود ، حيث يعدان من أكثر الألوان المعروفة في ترتيب السلم اللوني وفي التداول والاستخدام  .

أما الفصل الثامن  فقد خُصّص لجماليات السينما في شعره، وتناول قصيدة من ديوانه : رقصة الحرف الأخيرة ، مع قصيدة من مجموعته: شجرة الحروف، عبر توظيف الشاعر الأساليب السينمائية داخل النص المعاصر  كالمونتاج وغيره ، لأن اللغة الشعرية المشتركة مع الفنون تقرأها فتشعر أنك تشاهد فلما .

في حين  تناول الفصل الأخير جمالية  الحوار عند الشاعر.

أخيرا أقول: إن هذا البحث هو بحث في الإضافات التي حاول الشاعر أديب كمال الدين  أن يقدمها للشعر العراقي المعاصر عن طريق توظيفه للفنون شعريا  وهو محاولة لإبراز العناصر الجمالية على المستوى المكاني - التشكيلي - السردي في البناء الشعري وفق المنهج الجمالي.

أرجو أن يكون هذا البحث قد ألمّ ولو بقدر بسيط ببعض الجوانب لجماليات الفنون  في شعر أديب كمال الدين.  حسبنا أننا اجتهدنا وحاولنا ومن الله التوفيق.

.....................................................

ملاحظة : فصول الكتاب التي هي في أصلها قراءات تناولت مجموعات الشاعر أديب كمال الدين  كانت قد نُشرت في الصحافة ومواقع النشر الالكتروني بدءا من عام 2010 .

 

 

 

 

سيرة موجزة للشاعر

 

 

 أديب كمال الدين شاعر ومترجم وصحفي من العراق مقيم حالياً في أستراليا. ولد عام 1953 في محافظة بابل. تخرّج من كلية الإدارة والاقتصاد- جامعة بغداد 1976. كما حصل على بكالوريوس أدب انكليزي من كلية اللغات- جامعة بغداد 1999، وعلى دبلوم الترجمة الفوريّة من المعهد التقني لولاية جنوب أستراليا 2005. أصدر 18 مجموعة شعريّة بالعربيّة والإنكليزيّة كما تُرجِمتْ أعماله إلى العديد من اللغات. نال جائزة الشعر الكبرى عام 1999 في العراق. واخْتِيرَتْ قصائده ضمن أفضل القصائد الأستراليّة المكتوبة بالإنكليزيّة عاميّ 2007 و 2012 على التوالي.

صدرت عشرة كتب نقديّة عن تجربته الشعريّة، مع عدد كبير من الدراسات النقدية والمقالات، كما نُوقشت العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه التي تناولت أعماله الشعريّة وأسلوبيته الحروفيّة الصوفيّة في العراق والجزائر وإيران وتونس.

* صدرت له المجاميع الشعرية الآتية:

- تفاصيل ، مطبعة الغري الحديثة ، النجف، العراق 1976 .

- ديوان عربيّ ، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، العراق 1981 .

- جيم ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ، العراق 1989.

- نون ، دار الجاحظ ، بغداد ، العراق 1993.

- أخبار المعنى ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد، العراق 1996.

- النقطة (الطبعة الأولى) ، مكتب د. أحمد الشيخ ، باب المعظّم، بغداد، العراق 1999.

- النقطة (الطبعة الثانية) ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان 2001.

- حاء ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،  بيروت، لبنان 2002.

- ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة ، دار أزمنة للنشر والتوزيع ، عمّان ، الأردن 2006.

- شجرة الحروف ، دار أزمنة للنشر والتوزيع ، عمّان ،الأردن 2007.

- أبوّة Fatherhood ، (بالإنكليزية) دار سيفيو، أديلايد، أستراليا 2009.

- أربعون قصيدة عن الحرف ، دار أزمنة للنشر والتوزيع ، عمّان، الأردن 2009

- أربعون قصيدة عن الحرف، Quaranta poesie sulla lettera  (بالإيطالية: ترجمة: د. أسماء غريب)، منشورات نووفا إيبسا إيديتوره ، إيطاليا 2011.

- أقول الحرف وأعني أصابعي ، الدار العربية للعلوم ناشرون ، بيروت ، لبنان 2011.

- مواقف الألف ، الدار العربية للعلوم ناشرون ، بيروت ، لبنان 2012.

- ثمّة خطأ Something Wrong ، (بالإنكليزية) دار ومطبعة Salmat ، أديلايد ،أستراليا 2012.

- الحرف والغراب ، الدار العربية للعلوم ناشرون ، بيروت ، لبنان 2013.

- تناص مع الموت: متن در متن موت (بالأورديّة: ترجمة: اقتدار جاويد) ، دار كلاسيك ، لاهور، باكستان 2013.

- إشارات الألف ، منشورات ضفاف ، بيروت ، لبنان 2014

- الأعمال الشعرية الكاملة: المجلّد الأوّل، منشورات ضفاف ، بيروت ، لبنان 2015

- رقصة الحرف الأخيرة ، منشورات ضفاف ، بيروت ، لبنان 2015

- في مرآة الحرف ، منشورات ضفاف ، بيروت ، لبنان 2016.

- الأعمال الشعرية الكاملة: المجلّد الثاني، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2016

موقعه الشخصي:      www.adeebk.com

 

 

 

 

تمهيد

 

معنى الجمالية

 

 

 

 

الجمال :

       محاولات تعريف الجمال كثيرة ، فالفيلسوف  توماس اكوانيس  عرّف الجمال بإسلوب مقبول (على أنه ذلك الذي لدى الرؤية له  يسر لمحض كونه موضوعا للتأمل  (1) كما أن الجمال شأن جميع الخصال الأخرى التي تمثل أمام الخبرة البشرية مسألة نسبية ويصبح تعريفها دون معنى أو فائدة بالقياس إلى صفتها التجريدية .وقد سخّر الله تعإلى بإذنه بعض الناس أن يكونوا صناعا للجمال كالمعماري والخطاط والقاص ... الخ. أما مفهوم الجمال عند اليونانيين ، فإنه كان نقطة انطلاق لفلسفة معينة من الحياة .ويرى سقراط في حديثه مع أحد تلامذته أن كل شي ذا فائدة هو رائع جميل (2 ) ويرى أفلاطون أن الخير من أعلى مراتب الجمال ، وأن الجمال الحق هو ما يصور الواقع من خلال مثل الجمال  .

  الجمال في المصطلح :

      كثرت اشتقاقات لفظ الجمال فقد تجد بينها اشتراكا في المعنى ، وقد ورد لفظ الجمال في الحديث النبوي الشريف في قوله عليه الصلاة والسلام (إن الله جميل يحب الجمال .( وقد أورد الالباني نص الحديث الصحيح برواياته المختلفة ،قالوا عن الجمل : إنه الذكر من الابل ، وقالوا : الجمل والناقة بمنزلة الرجل والمرأة .و    الجمال مصدر الجميل والفعل جمل وقوله تعالى: (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ( ، سورة النحل آية  6 أي بهاء وحسن ، وعن ابن سيدة : الجمال الحسن يكون في الفعل والخلق ، وقد جمل الرجل بالضم جمالا ، فهو جميل وجمال والجمال أجمل من الجميل ، ووُصِفت المرأة إذا حسنت بالجمال ، فقيل جميلة وجملاء، ومن المجاز فلان يعامل الناس بالجميل وجامل صاحبه مجاملة ومنه قيل أيضا أصبت بمصيبة فتجمّل : أي تصبّر ، ومن الجمال اشتقت دلالات أخرى لها علاقة بالحسن فيقال جامل الرجل مجاملة إذ بادله الجميل ووصف الاخاء فكان المجامل هو الذي يظهر الحسن والجميل من خلق في تعامله مع الآخرين . وكثرت تعريفات الجمال من خلال النظريات المتعددة التي نظرت إلى مهمة الجمال ومعاييره ، ولهذا وجدنا جان برتملي)  لا يذكر تعريفا محددا للجمال وإنما يكتفي بالقول بأنه فكرة مختلطة غامضة ، وان( فكرة الجمال هي من أكثر أفكار علم الجمال غموضا والجميل شأن الحق والخير يعيش فوق العقل والمنطق والعمل ، تتحول فكرته مع تحول فكر كائن  (3) والجميل شيء لا يمكن أن  يُعرّف..

إن الجمال يتوقف على النسب التي تتوافر في الأشياء  بينما التذوق الجمالي يتوقف على الفرد ، فالتكوين اللوني يحقق توافقا في شيء ما فيؤثر في النفس والعين تأثيرا حسنا وقد حدد بيرك  شروط الجمال في الفن والرسم خاصة والشيء الجميل ورأى أنها تتمثل في النظام والضآلة والرقة والتنوع المفرح والتدرج ين الأجزاء (4) ،  وقد تكون كثرة الألوان وجمال تدرجها وتداخلها سببا في الجمال والحسن وهذا ما نراه في الطاووس إذ يظهر جماله للعيان في تعاريج ريشه وتهاويل ألوانه ..فالجمال مرتبط بالبصيرة وبتقدير مَن يحسّ بجمال الانسجام وتكافؤ خصال الحسن .(5)

الجماليات :

     تعرضت الجماليات لأبحاث عديدة في كل زمان ومكان عبر تأريخها الطويل حتى استطاعت أن تحتل مكانها بين  الآداب والفنون والفلسفة وعلم الاجتماع . إن الجماليات عامة قد تواجدت عبر طريق تأريخي طويل يمثل آلاف السنين في تاريخ تطور الثقافات المختلفة  (5) تفيد الجمالية بمعناها الواسع محبة الجمال كما يوجد في الفنون بالدرجة الأولى (وقد ظهرت الجمالية أول مرة في القرن التاسع عشر مشيرة إلى شيء جديد ليس محض محبة الجمال بل قناعة جديدة بأهمية الجمال  (6) وعندما تشير الكلمة إلى الجمالية  فهي لا تشير إلى الجميل حسب ولا إلى محض الذات الفلسفية لما هو جميل ، لكن إلى مجوعة معينة من المعتقدات حول الفن الجمال ( ولم تكن (الجمالية ظاهرة واحدة بسيطة ، بل مجموعة ظواهر مترابطة تعكس جميعها قناعة بأن التمتع بالجمال يقدر وحده أن يعطي الحياة قيمة ومعنى (7) وأن أرسطو من أكثر المهتمين بمشكلة الجمال سواء كان في ما قدمه أو فيما راجعه من نظريات وأقوال من سبقوه في هذا المجال ، و ظل الحال هكذا حتى جاءت جمالية المذهب الحسي في عصر النهضة على يد (لوك ( وهي جمالية تبحث في اللجوء إلى الموضوعات المثيرة في الأدب والفن وأثر ذلك في النفس .

يقول ( هربر ريد ( الإحساس بالجمال الذي يبدأ أول ما يبدأ بتصور المميزات المادية : الألوان والأصوات والحركات ثم تنتهي بتنظيم هذه التصورات في أشكال وصور متنوعة ممتعة وهي بتعبير آخر تمثل بدايات شعور الإنسان بالجمال والاستمتاع به(8) 

    وهناك من رأى في  الفن والجمال أكثر من مهمة ، فهو ليس وسيلة إثارة انفعال وتعاطف ، وإنما يسهم في تقرير حقيقة.  يؤكد (هربرت ريد) الصيغة المعرفية للفن ويرى أن الهدف الأساسي للفنان مثله مثل رجل العلم الذي هدفه تقرير الحقيقة .كما أن إدخال العنصر الجمالي كعامل تربوي مهم  في منهج تربية النشء .

   وهكذا يكون مفهوم الجمال مختلفا من عصر إلى آخر، من مفكر إلى آخر ، ومن فنان إلى غيره وفق توجهه الفكري والنفسي حتى صار علم الجمال فصلا من فصول الفلسفة والفن في الفكر الحديث .

وقد وجد المضمون الأدبي للجمالية أوضح تعبير لها في علاقتها بالشعر وكان أول عمل مهم للآراء الجمالية في الشعر والأكثر إحالة : الشاعر الانكليزي أدغار ألن بو (1809- 1948) وهكذا أصبحت الجمالية منهجا نقديا له أسسه وقواعده التي يُبنى عليها ومقوماته وتطبيقاته   .

جماليات الفنون :

     لكل الفنون جماليات ومن هذه الفنون ، فنون التصوير الفوتوغرافي ، الرقص ، الرسم ، المسرح ، السينما ، الراديو ، الأدب ، ولكل هذه الفنون مقاييس ومقادير تثبت العلاقة الجمالية الموجودة في هذه الفنون وهناك فنون أخرى .. النحت .. السيرك .. الإعلان . الشعر.. الكتاب ..الخ، رغم أنه ليست هناك تحديدات قاطعة بالنسبة للفنون الجميلة لكن هناك اتفاقا أو عرفا على الفنون التي يشملها هذا التعبير.  فمثلا يرى بعض الجماليين أن باستطاعة فن التصوير الفوتوغرافي أن يشمل العنصر الجمالي على حد تعبير  (يوجاف سيجاتي)  فما يقدمه من صور تحمل وجهة نظر المصور وخاصة في تصوير لوحات الفن التشكيلي بما يمكن من العثور على كثير من الإحساس وعناصر الجمال .

  الجمالية تهتم بجميع الفنون (الأدب ، الموسيقى ، الرسم ، العمارة ، النحت ).  في فن الفيلم نرى أن الصور المتتابعة والمتلاحقة الواحدة تلو الأخرى تختلف وضعيتها هي الأخرى بأمكنة زوايا متعددة ، أضف إلى ذلك فعل التوليف أو المونتاج وهي عملية تلصيق الصورة الواحدة بعد الأخرى ثم إعادة الصورة المنفردة الصغيرة جدا إلى صورة جديدة أخرى هي صورة المشـــهد السينمائي، أما في العمل المسرحي فإن العناصر الجمالية تقع بين العمل المكتوب ونقصد به النص المسرحي وبين العرض الفني الذي يحتوي الأدب المسرحي وفنون أخرى مشاركة تكثر وتقل بحسب الحاجة ووفق متطلبات كل مسرحية.

    أما في الموسيقى فتحتل مكانا كبيرا ومساحة عريضة بين الجماليين بإعتبار مادته من بقية الفنون الأخرى التي لا تزال محط أنظار علماء الجمال  (9) 

ولعل آراء أفلاطون في الموسيقى هي الآراء التي تتسم بالتفصيل والتحديد، إذ كان يرى استخدامها في تحقيق الأخلاق الصالحة. ويرى أفلاطون أن الموسيقى هي أرفع الفنون عامة مستندا في نظرته هذه إلى التاثيرات الناتجة  عن الألحان التي تسير مباشرة إلى داخل الإنسان.

الفن في العصر الحديث يجب أن يلعب دورا في تنمية المجتمع ورقي الإنسان  كما أن تعامل الفنون مع عناصر كثيرة تمثل وسائل تعبير في فروعها المختلفة مثل : الخط ، اللون : الظل ، النور ، المساحة ، العمق ، السطح ، الزوايا المختلفة ، النتوءات البارزة وعدد لا يُعدّ ولا يُحصى ، من عناصر أخرى  كما أن الفن هو التعبير الجمالي عن فكرة أو ذوق معين وهو ميدان جدّ واسع وثري مثل الرسم ، الطبخ ، السينما ، الموسيقى ، فن العمارة ، فنون التلوين ، التصميم ، الخ. والفن الصحيح هو الذي يهيّئ الطلاء الكامل بين الجمال والحق وقد تعددت تصانيف الفنون تعدد  رؤى المفكرين  : الفنون السمعية،  وتضم  فن الترتيل ، الموسيقى ، الغناء ، الإنشاد ، أما الفنون البصرية فتضم فن العمارة ، النحت ،النقش ، الخزف ، الخط ، الزخرفة ، الرسم ، الكاريكاتير ، الرسوم المتحركة ، المسرح ، السينما ، أما الفنون القولية فتضم : فن الشعر ، فن القصة ، الرواية ، الخطابة .

................................................

هوامش التمهيد 

                موسوعة المصلح النقدي / الجمالية ، ت:  د عبد الواحد لؤلؤة ، المؤسسة  العربية للدراسات والنشر 1983

                 فصول  في علم الجمال / عبد الرؤوف البرجاوي بيروت، الآفاق الجديدة 1981

                بحث في علم الجمال، جان برتليمي ، دار النهضة القاهرة ،  1970 ص 10

                الحيوان ، الجاحظ ، ت عبد السلام هارون ، مطبعة الحلبي،  القاهرة 1945  ص 243

                جماليات الفنون ، د. كمال عيد / الموسوعة الصغيرة، بغداد 1980

                 موسوعة المصطلح النقدي ، الجمالية ، ت :د. عبد الواحد لؤلؤة،  المؤسسة العربية لدراسات والنشر ، بيروت ص 20

                جماليات الفنون ، د كمال عيد،  الموسوعة الصغيرة، بغداد  1980

                 فصول في علم الجمال ، المصدر نفسه ص 105

                جماليات الفنون ، د كمال عيد ، الموسوعة الصغيرة ،  بغداد  1980

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصـل الأول

 

التشكيل السردي في شعر أديب كمال الدين

 

 

      حفل الشعر الحديث بالعديد من الظواهر الفنية وقد كان البناء السردي أشد ظهورا . و(تجلى ذلك من خلال دخول عناصر البناء القصصي في بنية القصيدة . على الرغم من وجود عنصر واحد أو أكثر من عناصر القص في النص الشعري) ( 1)

     إن السرد  كظاهرة طغت على الكثير من الشعر الحديث وبرزت في القصائد بأشكال هي أقرب للقصة منها للشعر ، فكل قصيدة تمثل سردا لإحداث سابقة أو حالية وهذا يمثل تداخل أو تمازج بين جنسين أدبين، هما الشعر والقصة ، فيمتلك المبدع فيها  شخصيتين: الشاعر والقاص  في آن واحد، كما أن السرد يقوم  بدور مهم في إثراء تجربة الشاعر الفنية وتماسكها وإن إدراج آلياته في ثنايا النص الشعري يعمل على تقوية بناء القصيدة ويعزز مستوياتها المتعددة تركيبا وإيقاعا ودلالة .كما يُعدّ السرد  مظهرا من مظاهر الهروب من الغنائية الذاتية المنعزلة عن الآخر إلى الدرامية الموضعية وهو ليس من منجزات شعراء الحداثة وإنما هو أسلوب مألوف في التراث الشعري، وهناك نماذج عديدة من الشعر العربي االقديم والمعاصر استخدمت فيه عشرات القصائد الأسلوب القصصي .

       في قصائد أديب كمال الدين الكثير من السرد القصصي فهو شاعر يكتب حرفا وشاعر يكتب معنى  .كما أنه سعى إلى تضمين قصائده  حدثا واحدا أو أكثر. والواقع أن اسلوب السرد القصصي لم يكن غائبا عن نصوص أديب كمال الدين الشعرية فهو يشكل نمطا من أنماط شعريته وآلية من آليات إنتاج إبداعاته وقد تجلّى العنصر السردي في مجموعة غير قليلة من قصائده استندت في بنيتها إلى تقانات السرد المتنوعة من عرض ونمو وحوار ووصف سردي.

  يعرف السرد في الفن الدرامي بأنها الطريقة التي يختارها الراوي ليقدم بها الحدث إلى المتلقي أو هو نقل الحادثة في صورتها الواقعة إلى صورة  لغوية (2)

يقول الشاعر في قصيدة: الزائر الأخير  / ديوان شجرة الحروف:

 

كانَ يجلسُ في الغرفةِ المجاورة

شابٌّ أنيقٌ بثيابٍ سود،

ينظرُ إلى السقف

بعينين فارغتين من أيّ شيء،

ويضع على ركبتيه

كتاباً على هيئةِ حقيبة

أو حقيبة على هيئةِ كتاب.

حينَ ناداني

دخلتُ مرتبكاً

كجثّةٍ تسقطُ في البحر.

قالَ بلغةٍ مُبهمةٍ كلاماً عجيباً

وأشارَ إلى الكتابِ: الحقيبة،

فنظرتُ، وجدتُ فيها إناءً مكسوراً

(كدتُ أغرق بسببه في النهر).

ووجدتُ حجراً

(ضربني به غجريّ فأصابَ قلبي).

ووجدتُ فيها شفتين تضحكان بآلافِ القُبَل.

ووجدتُ كؤوساً من العشبِ والطينِ والجمر،

وحذاءً من الخمر،

وصوراً وتماثيل لأفخاذِ نساء،

ودموعاً بهيئةِ لؤلؤٍ وحروف،

وقصائد بكتْ واشتكتْ وادّعتْ.

وأخيراً أخرجَ لي نقطةً حملتْ

ألوانَ الفجرِ والمغيب.

حَمَلها بيده الصفراء المرتجفة

دون أن ينبسَ ببنتِ شفة.

 

القصيدة تعنى بالحكاية وتقديم الشخصية الشعرية والشاعر هنا أكثر التصاقا ببطله واحتواء له كما أنها قدمت صفات الشخصية ومواقعها من خلال جمل شعرية ، الحدث  مختصر  وهو حدث عن شخصية تظهر للوهلة الأولى هادئة مثقفة ، و يرتبط بشخصية واحدة يجعلها الشاعر مثالا لحاله ، رغم أن بناء الحدث في الشعر يختلف في بنائه عن القصة ويتجسد في شخصية الشاب الأنيق بثياب سود والأناقة صفة للرجل المهذب الراقي - بطل القصة -  الذي بدا  مرتبكا حائرا وإن كانت الأناقة صفته والثياب السود مظهره . يعطي الشاعر صفاته كأنه يحاول أن يوصل للمتلقي أبعادَ هذه الشخصية وهي عنصر أساسي من عناصر القصة . والشاعر يتخذ صوت قاص في رد الإحداث: هو في الغرفة المجارة أطلق عليه (الزائر) الذي يتحدث بلغة مبهمة ، وكتابه وحقيبته معه. إشارات بسيطة تؤدي إلى الربط بينه وبين الشاعر الشخصية المثقفة.  وقد لعب اللون دورا  فاصلا في تجسيد ملامح وحدود  مشاهد القصيدة: القصة .

وهناك أمثلة من هذا النوع كما  في قصيدة : قصيدتي الجديدة / مجموعة: شجرة الحروف:

 

أعطيتُ قصيدتي الجديدة

بأصابع الارتباكِ والرغبة

إلى الحسناء الجالسةِ بجانبي في الباص.

قلتُ لها: ضعيها بين النهدين

لتتعرّفي إلى سرِّ القصيدة

ومعناها الأزليّ.

لم تأبه الحسناءُ لكلامي

وتشاغلتْ بحقيبتها الحمراء

وهاتفها الصغيرِ المليء بالمواعيد.

ثُمَّ أعطيتُ قصيدتي الجديدة

للطفلِ الذي يلعبُ في الحديقةِ العامّة.

قلتُ له: العبْ معها

وَلَكَ أنْ تصنعَ منها لُعَبَاً لا تنتهي

بألوان قوسِ قزحٍ لا حدّ لها.

فصرخَ الطفلُ باكياً

وولّى بعيداً.

ثُمَّ أعطيتُ القصيدةَ للنهر

قلتُ له: خذْها

إنّها ابنتكَ أيضاً،

أيّها الإله المُلقى على الأرض،

باركْ سرَّها

وتعرّفْ إلى معناها الأزليّ

أيّها الأزليّ.

لكنَّ النهرَ ظلَّ يحلمُ ويحلم

محدّقاً في الأقاصي البعيدة

دونَ أنْ يعيرَ كلامي انتباهاً.

وحدهُ الشرطيّ اقتربَ منّي

وصاحَ بصوتٍ أجشّ:

* ماذا في يدك؟

قلتُ: قصيدةٌ جديدة.

* فماذا تقولُ فيها؟

قلتُ: اقرأها لتتعرّف إلى سرِّها ومعناها.

فأخذَها منّي

ودخلَ غرفته السوداء.

دخلَ ليربطَ القصيدةَ إلى كرسيّ حديديّ

ويبدأ بجَلْدِها بسوطٍ طويل

ثُمَّ أخذَ يضربها بأخمصِ المسدس

على رأسِها

حتّى نزفت القصيدةُ حروفاً كثيرة

ونقاطاً أكثر

دونَ أنْ تعترفَ بسرِّها ومعناها.

 

تبدأ القصيدة بصوت الشاعر: القاص  بجملة قصيرة فعلية  (أعطيتُ)  وهي تلخص الحدث تلخيصا تاما ، والشاعر يتنقل بأحداثه بين الحسناء والطفل والنهر في سرد حالته النفسية  في حركة استمرار وحوار ثم يترك الفراغ للقارئ كي يستكمل الصورة في مخيله عبر تداخل الرموز وعرض الحدث . في النهاية تُعذّب هذه الشخصية وتُجلد حتى تنزف  دون أن تعترف .

إن بناء الحدث  وبساطته وتعقيده  راجع إلى ذاكرة الشاعر وثقافته في ضوء واقع ممزق مترد إلا أن الشاعر قام بترتيبه الواحد تلو الآخر في سرد مفعم بالوصف. 

في  قصيدة أخرى  عنوانها : قصيدتي الأزليّة / مجموعة شجرة الحروف/ نقرأ:

  

(1)

هكذا أُلقيتُ في الطوفان:

كان نوح يهيّئُ مركبَه لوحاً فلوحاً

ويُدخلُ فيهِ من كلِّ زوجين اثنين.

كنتُ أصرخ:

يا رجلاً صالحاً،

يا رجلاً مُبحراً إلى الله

خذني معك.

وإذ لم يأبه نوح لصيحتي

تسللتُ إلى المركبِ: المعجزة.

وشاهدتُ مأثرةَ الحمامةِ والغراب

بعدما صعدَ الموجُ بنا كالجبال،

حتّى إذا هدأت العاصفة

وقيل يا أرض ابلعي ماءك،

هبطَ الكلُّ من سفينةِ نوح

فرحين مُبَاركين

إلّاي.

وثانيةً صرختُ بنوح:

يا رجلاً صالحاً،

يا رجلاً عادَ من طوفانه: الجلجلة.

قالَ نوح: مَن أنت؟

قلتُ: أنا الإنسان.

قالَ: مَن؟

قلتُ: أنا المؤمن الضال.

قالَ: مَن؟!

وتركني في المركبِ دهراً فدهراً

حتّى إذا غيّبَ الموتُ نوحاً،

تحرّك المركب

تحرّك بي وحدي

لأواجه طوفانَ عمري

في موجٍ كالجبال،

أنا الذي لا أعرفُ الملاحةَ ولا السباحة

وليس لديّ حمامة أو غراب.

 (2)

هكذا أُلقيتُ في النار:

بعدما أضرمَ النارَ أهلُ أور

لإبراهيم وألقوه فيها،

انتبهوا إليّ.

كنتُ أغرقُ في الدمعِ من أجلهِ.

قالوا: إنّه من أتباعه فألقوه في النارِ أيضاً.

هكذا أُلقيتُ في النارِ أيضاً.

وإذ كانت النارُ على إبراهيم برداً وسلاماً

فإنها لم تكنْ لي

سوى نارٍ من الألمِ والحقدِ والحرمان،

اشْتَعَلتْ

ولم تزلْ تشتعل فيّ

في كلّ يوم

هكذا إلى يوم يُبعَثون!

(3)

هكذا أُلقيتُ في البئر:

ألقاني إخوتي

وعادوا إلى أبي عشاءً يبكون.

قالوا: يا أبانا قد أكلهَ الذئب.

فبكى أبي،

وكانَ شيخاً جليلاً،

حتّى اخضلّتْ لحيته بالأسى والحروف.

لكنّ السيّارة إذ وصلوا إلى البئر

ما قالوا: يا بشرى هذا غلام

بل قالوا: وا أسفاه هذا هلام.

وتركوني في البئر

يمزّقني الظلامُ والخوفُ والانتظار.

 (4)

ربّما سأخرج من البئرِ يوم يُبعَثون

أو ربّما يوم يُقالُ للأرضِ: ابلعي ماءك.

فأخرجُ من مركبِ نوح

أو من نارِ إبراهيم،

وقد أكلني الرعب

ولَفَظَني الموج

وأطفأت المأساةُ عيوني.

 

          قصيدة غنية بالاحداث السردية تتداخل الأحداث فيها دون الاهتمام بالترتيب الزمني ، وتتكون من أربعة مقاطع ، في كل مقطع حكاية أو قصة وحدث متتابع منفصل عن غيره وصولا إلى المقطع الرابع حيث تلتقي الإحداث النهائية كما في الخاتمة السردية .

في المقطع رقم واحد تظهر مساحة الإحداث وترتيبها  على شكل متتالية من الأفعال:  أُلقِيتُ ، كان ، يدخل ، كنت ، أصرخ ، خذني، (كنتُ أصرخُ يا رجلا صالحا) . الحدث الأساسي للقصة هو الحوار بين الشاعر والرجل الصالح ، ورُتّبت الأحداث  من الحدث العظيم لسفينة نوح  بعد ما صعد الموج بنا كالجبال،  وفار التنور ودعا نوح (ع) ربه أن يغرق الكافرين  فقضى الله تعإلى عليهم وأغرقهم. ونجا نوح ومن معه إلا ابنه الذي رفض :( قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ)

 خذل الجبلُ الابن فكان من الهالكين . والحوار هو المحرك الأساسي لشخصيات القصيدة.

         في المقطع الثاني  ينتقل بالحكاية إلى سيدنا إبراهيم (ع) حيث يشترك الشاعر في الحدث من بدايته ( هكذا أُلقِيتُ في النار)،  من حوار بسيط يتفاعل القاص في (بناء سردي مكثف ينتمي بصورة أو بأخرى إلى معطيات الفن القصصي (3)

     في المقطع الثالث :  يستهل المقطع بنفس الاستهلال ( هكذا أُلقِيتُ في البئر ( من خلال توظيف حكاية  (سيدنا يوسف عليه السلام) في أصل قصته الشهيرة  عندما تكالب عليه  إخوته وألقوه في  أعماق الجب ، يمزقه الظلام والخوف والانتظار . وقالوا لأبيه :

قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)  الآية 17  سورة يوسف.

قصة سيدنا يوسف (ع) من القصص العظيمة في القرآن الكريم  وقد وظفها الكثير من الشعراء في قصائدهم سواء بتوظيف سردي أو بتوظيف رمزي كقصيدة : إخوة يوسف لمحمود درويش .

في المقطع الرابع يسرد أديب كمال الدين الأحداث ويربطها  مع المقاطع الأخرى لتخرج النهاية في بعد فني مميز:

(ربّما سأخرج من البئرِ يوم يُبعَثون

أو ربّما يوم يُقالُ للأرضِ: ابلعي ماءك.

فأخرجُ من مركبِ نوح

أو من نارِ إبراهيم،

وقد أكلني الرعب

ولَفَظَني الموج

وأطفأت المأساةُ عيوني).

 

وفي قصيدة (الغريب)، من المجموعة ذاتها، نموذج آخر للشاعر:

 

(1)

توقّفَ الغريبُ، عندَ النبع، وقتَ الغروب،

توقّفَ ليشربَ وحصانه الماء،

فوجدَ عيناً بشرية

ويداً بشرية

وقناعاً من الذهب

وبيضةً من الذهب

وكتاباً كبيراً.

(2)

تأمّل الغريبُ طويلاً في ماءِ النبع

حتّى خاطبه النبع:

أيّها الغريب

اخترْ شيئاً واحداً ولا تزدْ

واعلمْ أنّ العينَ ستجعلكَ ترى الغيب،

واليد ستصنعُ منكَ المحاربَ الشجاع،

والقناع سيجعلُ النسوة

في كلّ زمانٍ ومكان

يتسابقن للقياك،

والبيضة ستصنعُ منكَ أثرى الأثرياء،

والكتاب سيجعلكَ الحكيمَ الأعظم.

ضحكَ الغريبُ من كلامِ النبع

حتّى اغرورقتْ عيناه بالدموع.

وقالَ له: شكراً أيّها النبع

لا أريد العينَ ولا اليد،

لا القناعَ ولا البيضةَ ولا الكتاب.

أنا الغريب،

لا أرضَ لي ولا هدف،

لا وجهةَ ولا رغبةَ ولا قرار.

جرّبتُ الحكمةَ والغيبَ والنساء

واللهو والغنى والحروب.

فلم أجدْ أيّ شيء يعينني

على عذابي المقيمِ وضياعي المكتوب.

ثمَّ صمتَ الغريبُ طويلاً وقال:

أيّها النبع،

هل عندكَ دواء للسأم؟

* قالَ النبع: لا.

وهل عندكَ دواء للغربة؟

* قالَ النبع: لا.

وهل عندكَ دواء للموت؟

* قالَ النبع: لا.

فضحكَ الغريبُ ثانيةً

حتّى اغرورقتْ عيناه بالدموع.

(3)

خجلَ النبعُ من كلامِ الغريب

وصارَ ماؤه يشحبُ شيئاً فشيئاً

حتّى أصبح،

بعد أربعين يوماً،

أثراً بعدَ عَين.

 

هيّأ الشاعر للحدث السردي مقدمة وظف فيها الزمان والمكان فضلا عن عناصر الطبيعة وتقديم صورة عامة للمشهد وصورة البطل أو الشخصية الأولى في القصيدة.

يظهر على هذه القصيدة بساطة أحداثها وترتيبها على شكل مقاطع سردية ثلاثة . وهي حكاية جميلة في سرد متسلسل دون تعقيد. وعن طريق الحوار بين النبع والغريب يجد المتلقي مفاجآت غريبة وكأنها قصص من ألف ليلة وليلة . والبعد الرمزي  لمثل هذه الخيارات  الغريبة واضح، الخيارات التي أُعطِيت له وماذا يمكن أن تصنع  عبر طلبه ، وكأنها طلبات سيرة السندباد الشخصية القصصية المعروفة في قصص ألف ليلة وليلة وقد سُردت بصوت الشاعر  الذي يبحث عن دواء للخلاص من الموت.

 

ومن الديوان نفسه نقرأ قصيدة :( شجرة الحروف)

 

(1)

ليسَ هناك مِن شجرةٍ بهذا الاسم

أو بهذا المعنى.

ولذا أنبتُّ هيكلي العظمي في الصحراء

وألبسته قبّعةَ الحلم

وحذاءَ طفولتي الأحمر

وعلّقتُ عليه

طيوراً ملوّنةً اتخذتْ شكلَ النون

ثُمَّ وضعتُ عليه

بيضةً صفراء كبيرة

اسمها النقطة!

(2)

ليسَ هناك مِن شجرةٍ بهذا الاسم

أو بهذا المعنى.

حينَ هبطتُ من المركبِ الأسود الطويل

رأيتُ الناسَ يحملون أشجاراً:

بعضهم يحملُ شجرةَ الذهب

أو شجرةَ اللذّة

أو شجرةَ الدم.

والآخر يحملُ شجرةَ النسيان

أو شجرةَ الكحول

أو شجرةَ النار.

فمددتُ يدي في قلبي مُرتبكاً

وأخرجتُ شجرةً صغيرةً جدّاً

مليئةً بالشمس

سمّيتها شجرةَ الحروف!

(3)

ليسَ هناك مِن شجرةٍ بهذا الاسم

أو بهذا المعنى.

لكنْ حدثَ أن سُجِنتُ مدى الحياة

ولكي أبدّد الوقتَ في سجني الأبديّ،

زرعتُ شجرةً صغيرةً جدّاً

في الصحنِ المعدني العتيقِ الذي يضع

فيه السجّانون طعامي.

فَنَمت الشجرةُ عاماً فعاماً

حتّى أثمرتْ جيماً مليئةً بالطلاسم

وصيحاتِ الدمِ والحروب

ونوناً مليئةً بآهاتِ العشق

وريشِ المحبّة

ونقطةً قيل إنّها نقطة العارفين.

(4)

ليس هناك مِن شجرةٍ بهذا الاسم

أو بهذا المعنى.

في المركبِ العجيب

أبحرَ جمعٌ مِن الغرباءِ المنفيين،

مِن المتوحّشين والمجانين وأشباه المجانين

ليتيهوا وسط البحر.

فقالَ الأولُ: سنصلُ إلى الشاطئ

حينَ نرى شجرةَ التفّاح.

وقالَ الثاني: حينَ نرى شجرةَ الدنانير.

وقالَ الثالثُ: حينَ نرى شجرةَ الطيور.

وقالَ الرابعُ: حينَ نرى شجرةَ النساء.

ثُمَّ وصلَ الدورُ إليّ

فقلتُ: سنصلُ إلى الشاطئ

حينَ نرى شجرةَ الحروف.

*

حينَ وصلنا إلى الشاطئ

استقبلنا ملكٌ ضخمُ الجثّة

حادُّ النظراتِ، مخيفٌ كاللعنة.

فأعطى الغريبَ الأولَ تفّاحة

وأعطى الثاني ديناراً

وأعطى الثالثَ طيراً

وأعطى الرابعَ امرأة.

ثُمَّ وصلَ الدورُ إليّ

فتجهّم وجهُ الملكِ وصاح:

يا سيّاف اقطعْ عنقه!

*

حينَ تدحرجَ رأسي على الشاطئ

وسطَ صهيلِ الغرباءِ المنفيين،

بزغتْ من دمي المتناثرِ على الأرض

شجرةٌ مليئةٌ بالنورِ والسرور.

أتراها شجرة الحروف؟

 

حاول الشاعر: الراوي أن يوفّر لحدث قصيدته تقنيات سردية منها الاستهلال السردي لشخصية رمزية ذات طابع تنبؤي  .هنا سرد يقوم على حكاية الشجرة التي اهتم بها الشاعر- وأصبحت عنوانا لديوانه-  حتى كبرت وأصبحت رمزا لسيرة الشاعر منذ بداية كتابة الشعر ، القصة سرد  في تصوير لتقديم أكثر من قصة ، وكأن  الشاعر  يتحرك على (بساط الريح)  حيث استقبله  في آخر المطاف ملك ضخم في جزيرة بعيدة، وكانت نهاية تراجيدية لرأس الشاعر المتدحرج على الأرض .

 

 وفي قصيدة  ( ممتع، غريب، مدهش! ( نقرأ:

 

(1)

* ما اسمكَ أيّها الشاعر؟

- اسمي الطائر.

* وبعد؟

- السمكة.

* السمكة؟                                                     

- نعم.

* ذلك مُمتع!

(2)

* ما لون البحر أيّها الشاعر؟

- السفنُ والنساء.

* وما لون الحريّة؟

- الخبزُ والملح.

* الخبزُ والملح؟

- نعم.

* ذلك طريف!

 (3)

* وكيفَ تكتب؟

- أدخلُ في الحرف،

أتمنطقُ  بسرِّ الحرف،

أبكي، أتأمّلُ، أغفو،

أحلمُ، أهذي، أرقصُ، وأموت.

* وتموت؟

- نعم.

* ذلك مُحزن!

 (4)

 * والنقطة، كيفَ تصفُ النقطة؟

- النقطة أمّي وأبي.

* وإذنْ، قضّيتَ طفولتكَ معها؟

- وقضّيتُ صباي وشبابي ودهري الأعمى.

* هل كنتَ سعيداً؟

- نعم،

 إذ عشتُ وسطَ النقطةِ كالسمكة.

وكانت النقطةُ بحراً يمتدّ ويمتدّ

إلى ما شاءَ الله.

* وهل رأيتَ الله؟

- لا.

* لِمَ؟

- لأنّ الله في قلبي شمس تتكلّم.

* الله شمس تتكلّمُ في قلبك؟

- نعم.

* ذلك غريب!

 (5)

* حسناً، وكيف ستموت؟

- إذا تاهَ الطائرُ في أرضِ الله.

* وبعد؟

- إذا تاهت السمكةُ في بحرِ الله.

* وبعد؟

- إذا التقطَ الطائرُ السمكة.

* ذلك مُدهش!

 

يطلق الشاعر: القاص  قصيدته بطريقة حوارية وكأنها مسرحية شعرية  يكون أساس بنائها الحوار وبمقاطع خمسة وصوتين لشخص واحد : صوته الخارجي الذي يتوجه نحو الآخرين والأخر صوته الداخلي غير المسموع . استمد الشاعر أديب كمال الدين عنصر الحوار بصورة تبرز السرد القصصي وخاصة الحوار الذي اشتهر به ما بين الحرف والنقطة بحيث جعل من الحرف والنقطة كائنين يتحركان ويتكلمان ويكشفان السر المعلن والسر المخفي ويحلمان  ببناء مدن ومزارع وجزر وسط البحار .

 

يقول في قصيدة (صبيّ) :

 

 (1)

في الشارعِ المليء بالعماراتِ العالية

هبطَ الطائرُ العملاق.

هبطَ حتّى لامسَ الأرض فهربَ الجمهور،

هبطَ وسطَ دوّامةٍ من الريح.

كانَ قويّاً

يطيرُ بلونٍ أسْوَد،

يطيرُ بجناحين ثابتين من الحديد.

صرخَ الجمهورُ وولّى بعيداً.

لكنّي اقتربتُ من الطائر

- كنتُ صبيّاً بمعنى الكلمة -

لأمسكَ بيدٍ واحدةٍ بجناحِ الطائر

فارتفعَ بي قليلاً

لأسقطَ ، مِن ثمَّ، على الأرض

وسطَ ضحكاتِ الجمهور.

(2)

ها أنذا أعودُ إلى المكانِ ذاته:

الشارعِ المليء بالعماراتِ العالية.

لم أجد الطائرَ العملاق،

لم أجد حتّى اسمَ الطائر،

لم أجد الجمهور،

لم أجد حتّى

ذلك الصبيّ الذي هو أنا.

فارتسمَ خيطٌ من الأسى

على وجهي

وخيطٌ من الدهشة

وأنا أرفعُ يدي

- مثلما فعلتُ قبلَ نصف قرن -

لأمسكَ بجناحِ الطائر،

الطائر الذي أعلمُ علمَ اليقين

أنْ لا وجودَ له أبداً.

 

 إن طريقة العرض هي الطريقة التي يفسح الشاعر المجال بها حيث  يترك للمتلقي فرصة التأويل عن معنى طائره العملاق : يرمز له في صورة الشاعر في صباه  من خلال اللون الأسود ليدل على عمق المعاناة التي يعيشها، أي الشاعر. وقد تحركت قصيدته ضمن مجموعة أفعال لخّصت المحتوى، أفعال مثل: هبط ، سقط، ارتفع، طار ، أمسك، صرخ.

 

ونقرأ في قصيدة ( أحجار) :

 

يوماً ما

قرّرَ أن يذهبَ إليها

لم يعدْ يحتمل سكاكين الفراق

وطعنات الرغبة.

وحينَ دقّ على شبّاكها المطلِّ على الشارع

لم تفتحْ له.

فذهبَ إلى الباب

وهمسَ باسمها الرقيق

فلم تفتحْ له.

حينها رجعَ إلى الشبّاكِ المظلم.

فصارت الأحجار تُرمى على ظهره

حجراً إثر حجر

وهو يدقّ

والأحجار تزداد وتزداد

لتغطّي ظهره وساقيه وقدميه

شيئاً فشيئاً

وهو يدقّ ويدقّ

حتّى اختفى خلف كومةٍ من الأحجار.

 

يبدو أن الشاعر أديب كمال الدين من الشعراء الذي اهتموا كثيرا ببناء الشخصيات في النص الشعري المتداخل مع القصة فهو يولي عناية خاصة وحضورا إضافيا للعديد من قصائده ، وقد اعتمد في السرد طريق الإخبار والعرض  ليطلق قصيدة في شكل حكاية أو قصة جميلة   .

  يركز الشاعر على الفعل في حركة شخصياته:  (يوما ما قرّر أن يذهب إليها ( ثم يتوجه إلى الحدث ( وحين دقّ على شباكها لم تفتحْ له ( (فذهب إلى الباب ( (وهمس باسمها الرقيق). كل هذه الأفعال تدل على سرد قصصي عال بإسلوب شعري متواصل وعميق.

 يقول في قصيدة : (لعبة كبيرة (

 

(1)

حين ذهبتُ إلى ساحلِ البحر

وجدتُها تستلقي عاريةً

بفخذين مليئتين بالرغبة

وصدرٍ إلهيّ عارم

وعينين باتساعِ البحر.

صرتُ أمرّ من أمامها جيئةً وذهاباً

لسنين لا حصر لها.

ثم نظرتُ بعيداً

لأرى غيمةً وسمكةً وطفلاً

يقتربون من المرأةِ العاريةِ ليأخذوها معهم.

بكيتُ طويلاً

لأنّي أنفقتُ دهراً

وأنا أحلمُ بالمرأةِ العاريةِ دون جدوى،

وأكتبُ حروفَ الحُبّ لها دونَ أمل

أو نقطة أمل.

(2)

في اليوم التالي

جلستُ عند الساحل.

وبدأتُ أفكّرُ في الأمرِ مليّاً:

كيف اختفت المرأة العارية؟

ربّما رفعتها الغيمةُ إليها!

ربّما دعتها السمكةُ للبحر!

ربّما أخذها الطفلُ إلى مكانٍ غير بعيد!

(3)

وحين بلغتُ من العمرِعتيّاً

رأيتُ المرأةَ من جديد

تستلقي فوق رمال الساحل

بكاملِ لذّتِها وعُريها.

اقتربتُ منها هذي المرّة

لأراهاوا أسفاه مجردَ لعبةٍ كبيرة

لعبة ملقاة على الساحل،

لعبة لم ترفعها الغيمةُ إليها،

ولم تأخذها السمكةُ للبحر،

ولم يأخذها الطفلُ إلى مكانٍ غير بعيد!

(4)

وإذن، صرتُ أزور البحرَ كلّ يوم

وأنا أدمدمُ بحثاً

عن جوابٍ لما حدثَ لي،

ولمّا ارتفع المدّ، صرختُ:

لم تعد المرأةُ العاريةُ تهمّني

ما يهمّني حروفي التي كتبتُها عنها:

هل سترفعها الغيمةُ إليها

أم ستأخذها السمكةُ للبحر؟

أم سيمزّقها الطفلُ في مكانٍ غير بعيد؟

 

          يقدم الشاعر:القاص بطريق الاخبار الشخصيةَ المحورية : المرأة المجهولة  وعلاقتها بالراوي. حين يذهب إلى البحر يجدها ويصف جسمها إذ تتوإلى السنوات في صور سريالية يبكي عند ضفيرتها، وهذا الحب بلا أمل كحال قصص الحب ومثل هذا النوع من القصائد نجده حاضرا في قصائد أديب كمال الدين . نقطة الأمل التي يحلم بها هي أن يكتب لها قصيدة حب . وتستمر القصة عن المرأة  في اليوم التالي يتحرك الزمن : لقد اختفت المرأة العارية ! حقيقة أم سراب؟ سؤال يفتح المجال للقراء للتحليل والتأويل لمعرفة الشخصية وما حدث لها.

   إن قصائد أديب كمال الدين تتحقق فيها العناصر القصصية بشكل واضح فهي بالإضافة إلى تقديمها نبرة السرد القصصي تميل إلى الوصف المتقن لكل ملامح الحدث وكثيرا ما يعتني بأدق التفاصيل التي تسهم في رسم صورة البطل. ويفيد أديب كمال الدين من تداخل الأصوات في القصيدة إلّا أننا غالبا ما نلاحق تطور الموضوع عبر صوتين هما صوت الشاعر وصوت الحرف وأصوات أخرى، وهو لا يغفل عنصر الحوار وإدارته ببراعة وتكثيف درامي ليرسم ملامح وموقف أبطاله في لحظة شعرية- قصصية.

 ........................................................................

هوامش الفصل الأول

 

 1- تداخل الفنون في القصيدة العراقية الحديثة ، د. كريم شغيدل ، وزارة الثقافة بغداد  ص 85

 2 - الشعر العربي المعاصر : إسماعيل عز الدين ، دار العودة ، بيروت 1981 ص 187

 3  - دير الملاك ، دراسة نقدية،  د. محسن طيمش ، دار الرشيد ، بغداد 1982 ص 27

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

 

 

جمالية  التشكيل اللوني في شعر أديب كمال الدين

 

مجموعة (ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة)

 

 

 

 

 

 

لقد شهدت القصيدة العربية الحديثة في بنائها وتشكيل صيغ تعبيرها  الكثير من التحولات، وإن ( كل التحولات التي عرفها البناء المعماري أو التشكيلي للقصيدة إنما كان مردّه إلى استفادة فن الشعر من الفنون الجميلة الأخرى ( حتى راح الشعر يتداخل معها وينهل من معينها الجمالي والتشكيلي ( 1) .

      العلاقة بين الشعر والرسم تمثل الكثير من الدلالات والرؤى على المستويات التقنية والشكلية ولعبة المعنى والتخيل والتأمل ورحابة الفضاء ، فالصورة المعروفة في الشعر ليست أكثر من لوحات مرسومة بواسطة الكلمات بدلا من الخطوط والألوان  (2)

        إن توظيف اللون في الشعر يحتاج إلى وعي وإدراك طبيعة تشكله في الطبيعة أولا ، كما  إن الشعراء الذين انهمكوا في تشغيل عنصر اللون في قصائدهم  تفاوتوا في درجة اهتمامهم به ) وإن التعبير بالألوان كثيرا ما يكون وسيلة من وسائل التعبير الرمزي لما لها من ايحاءات خاصة  (3)

 

يقول  الشاعر في المقطع الثاني من  قصيدة : أصدقائي الأوغاد والمنفيون والسذج :

 

حينَ جلستُ إلى المرأة،

كانتْ جسداً بَضّاً

من عسلِ الوحلِ وريشِ البومة.

كانتْ ملآنةً بالعُريّ الذهبيّ

وبالعُريّ الفضيّ

وبالعُريّ الأسود.

جاءَ أصدقائي الأوغادُ والمنفيّون والسذّج،

قالوا: ما معنى المرأة؟

وكيفَ يكونُ العريُ أسْوَد؟

 

في هذه القصيدة يدل اللون على قيمة صاحبته والمرأة منفتحة على دلالات ومعان عميقة بالعري الذهبي . وهذا اللون يدل على العلو والعظمة بل هو لون الملوك والسلاطين،  واللون الفضي أقل منه قيمة، ثمّ يدل العري الأسود على مكانة هذا العري. فالأسود لون يهيمن على حياة البشر .وهو الأكثر تداخلا في قصائد الشعراء منذ أقدم الأزمنة في معظم الثقافات وعلى مر العصور والأكثر تشكيلا لقصائدهم وتأملهم مع الأشياء  .

 

ويقول في  مطلع قصيدة: هو أزرق وأنتِ زرقاء، من مجموعة : ما قبل الحرف  .. ما بعد النقطة (

 

أنتِ تشبهين البحرَ في كلِّ شيء.

نعم،

هو أزرق

وأنتِ زرقاء.

هو ساذجٌ أخرق

وأنتِ ساذجةٌ أكثر ممّا ينبغي.

هو صاحبُ المعاني التي تبدأُ بالفِرَاش

وتنتهي بالموت.

وأنتِ صاحبةُ الفِرَاش

هناك يبدأُ معناكِ بالظهور

شيئاً فشيئاً

لينتهي بالغرقِ والموت.

 

يشتغل اللون الازرق عند الشاعر أديب كمال الدين  بالطابع الدرامي وتتجلى فاعلية اللون في مساعدة المشهد الدرامي الشعري على النمو ومدّه بدلالات تصعد عنصر الصراع فيه ، وإن نصّ : هو أزرق وأنت زرقاء ، هو نشيد الرغبة والموت:

في المقطع السادس من القصيدة يقول :

 

أنتِ تشبهينَ البحر

لاشكّ في ذلك!

لكنْ أيّ معنى يختفي خلفَ ذلك البحر،

خلفَ تلك الزرقة العجيبة التي تبدأ

لكي لا تنتهي

أو تنتهي كي تبدأ من جديد؟

خلف تلك المراكب الضائعة

والبحّارة الذين يرقصون أو يبكون

على سطحِ سفنهم المُبحرة أبداً،

خلفَ تلك المدن التي تنتظرهم لتنساهم أبداً،

خلفَ ذاك البياض الذي لا أفهمه،

خلفَ ذاك السواد الذي لا أتقبّله،

خلفَ ذاك الاحمرار الهابط الصاعد،

خلفَ تلك التي تعجزُ عن وصفها الحروفُ والكلمات،

خلف ذكراكِ الحيّة الميّتة،

خلف ذكراكِ المُقدّسة؟

 

     هذه القصيدة متكونة من ستة مقاطع ، في المقطع الأول يقول (أنت تشبهين البحر ( اللون الأزرق يرمز إلى البحر حيث تلعب البيئة والمكان والطبيعة الرمزية دورا مهما في تحديد الدلالة وإشاعة وتوسيع تداولها.

وفي المقطع السادس يردد أيضا : (أنت تشبهين البحر ( البحر في لونه الأزرق، البحر في هدوئه وفي هيجانه، في مدّه وجزره . ألوانه تبدأ ولا تنتهي ..صورة حياة البحر ومراكبه وبحارته وهم يرقصون على سطح سفنهم  وهم يتطلعون إلى لقاء المدن .

       ذكريات الشاعر استكانت إلى المشاهد اللونية في حدودها الوجدانية الشديدة الرقة ، ذكريات الطفولة التي استحالت إلى حسرات ، رحّالة  هاجر في قلب الزمن وعاد إلى موطنه ( لكنْ أيّ معنى يختفي خلف ذلك البحر؟). ينظر إلى البحر مستعيدا حاله عندما كان في بلده يجالس الماضي وتفاصيله ،  ويظهر اللون الأزرق  في بعض المقاطع الشعرية عند أديب كمال الدين مخلصا نقيا يتجاوز فيه  الذات الشعرية .

ونقرأ له في قصيدة : (مطر أسود، مطر أحمر):

 

بعدَ أنْ خرجنا من الحرب

نرتدي معطفَ الرعبِ والجنون

اتجهنا إلى بغداد

يتقدّمنا صاحبُ الجند

مُمتطياً حصانه الأبيض مزهوّاً

ونحن من خلفه نجرُّ أقدامنا جرّاً

حُفاةً، شبه عراة.

قالَ، حينَ ظهرتْ مآذنُ المدينة،

(سأختارَ لكم موتاً جديداً).

فضحكنا

وتساءلَ الشيوخُ منّا

عن الموتِ الجديدِ وَجِلين

أما نحن، خيرة الجند،

فتصوّرنا الأمرَ مزحةً عابرة.

 

      العامل الأقوى في هذه الأبيات هو الحرب ومأساة الموت ، ومصائر الرجال والألم يصرعها ، والمطر الأسود الشهير الذي سقط عى بغداد ، والحاكم الذي دمر البلد وتلاعب بمصير الأبرياء ، ثم يلقى مصيرا بائسا ، وهو يطل من العقدة السوداء التي تطل من وراء الحرب .

يتجلى اللون في القصيدة من العنوان ( مطر أسود ، مطر أحمر ( في لونين  وقد تجلت صفة المطر في  دلالات عميقة وذات تأثير بيّن في شخصية الشاعر وفي تأريخ المجتمع العراقي وبالذات أيام حرب الكويت عام 1991  عندما سقط مطر أسود على بغداد وبقية مدن العراق من الشمال إلى الجنوب  نتيجة حرق آبار النفط ، وعن الحاكم الذي يراهن على النصر بحصانه الأبيض. أما الحقيقة فهي حرب دامية  حرب غير متكافئة  أصبح فيها  الدم  مطرا غزيرا.

لقد تكرر اللون الأسود والأحمر في قصائد الشاعر أديب كمال الدين بصورة مباشرة أو غير مباشرة  كما في قصيدة : حصانان أسود وأحمر.

 

 1.

كنّا نجلسُ عاريين في الصحراء

حينَ اقتربَ منّا حصانان أسْوَد وأحْمَر.

فقمتِ بعينين دامعتين

وقبّلتِني القُبْلَة الأخيرة.

فدُهِشتُ

ثُمَّ امتطيتِ الحصانَ الأسْوَد

وقلتِ بصوتٍ مُرتجفٍ: وداعاً.

فذُهِلتُ.

لكنّي قلتُ لنفْسي:

سأمتطي الحصانَ الأحْمَر

إنْ عصفَ بي الشوق

وعذّبني الحُبّ.

هكذا اقتربتُ من جسدِكِ العاري

لأقبّلَ شفتيكِ وثدييكِ

ولأراكِ تختفين مثل سهمٍ في الصحراء.

2.

مرّت ساعاتُ الذهول

ساعة إثر أخرى

وأنا أنظرُ إلى جسدِكِ العاري

يمتطي الحصانَ الأسْوَدَ ويختفي في الأعماق.

ثُمَّ سرعانَ ما عصفَ بي الشوق

وعذّبني الحُبّ

فالتفتُ إلى حصاني الأحْمَر

لم أجده.

ووجدتُ الشمسَ تغيبُ على امتدادِ الصحراء

مثل أسدٍ أحْمَر.

 

     الشاعر يدعو إلى أن يأخذه الشوق ، أي أن ينقذه فيطير في السماء هازجا كالسحب بحصان أسود ، واللون الأسود موجود في فصيلة الحصان كما الأحمر والأبيض إلا أنه يقول وداعا للشوق ويمتطي حصانا أحمر. هذا تعبير عن امتلاك لوني وهنا يغدو الحب أقوى من الموت ، ونلحظ هيمنة الأسود والأحمر على كل الألوان والمواقف والأحداث .

     إن استخدام اللون هنا في النص ليس للون فقط بقدر ما هي سلطة وتحكم لنظريات وقوانين اللون تتحدد بموجبه حدود الموصوف بصفة لونية ذات أداء دلالي . واللونان الأسود والأحمر يلعبان دورا اساسيا في انطلاق الألوان الأخرى وقاعدة مركزية تشع منها قيم ودلالات في المعنى الشعري.

الأخضر يحضر هو الآخر ليشارك في حفلة اللون الإبداعية، كما في قصيدة:

امرأة بشعر أخضر :

 

1.

لخمسين عاماً

كانَ يرسمُ اللوحةَ ذاتها، لوحة الموت:

امرأة دون عمر مُحَدَّد

تسوقُ سيّارةً سوداء،

سيّارة مُسرعة

تسوقها امرأةٌ عارية.

عبرَ نافذة السيارة

ترى ثديي المرأةِ عاريين

وترى شعرها أخضرَ منثوراً

وترى ملامحها الساذجة.

خلفها توابيت،

توابيت مَن؟

السيارةُ مُسرعة

والرسّامُ مُرتبكٌ

لأنَّ المرأة ذات الشعر الأخضر

بثدييها العاريين،

بعينيها الكبيرتين،

بملامحها الساذجة

تحدّقُ فيه طوالَ الوقت.

هل كانتْ تدعوه؟

لأيّ شيء؟

 2 .

مرّ خمسون عاماً

ولم يكمل اللوحةَ بعد.

لكنّه في صباحٍ عجيب

رأى عبر شبّاكه ما رأى:

آه، إنها شجرة الليمون مثمَّرة، يا إلهي!

بسكّينٍ حادة

قطع ليمونتين من الشجرة

وبسرعة

قطعهما إلى أربع شرائح

وبسرعة

أخذ أنبوبةَ الصمغ

ليضع الصمغ

على الجانبِ الرطبِ من الليمونتين

ثُمَّ لصقهما كعجلاتٍ لسيارةِ الموت.

الآن اكتملتْ لوحته

لم يعدْ ينقص سيّارةُ الموتِ أيّ شيء!

3.

كان فرحاً كطفلٍ، كطفلٍ حقيقيّ

لكنّ وجهه يشحبُ بسرعة

ليصبحَ بلونِ الليمون

فيما كانت المرأة

بشعرها الأخضر المتطاير،

بثدييها العاريين،

بعينيها الكبيرتين،

بملامحها الساذجة

تسوقُ السيّارةَ بسرعة

لتطلق قهقهاتها الفارغة من أيّ شيء!

 

     في هذه القصيدة يتجلى اللون في عنوان القصيدة : امرأة بشعر أخضر، فصفة المرأة في محتوى النص هي الاخضرار. لعل الشاعر أراد بها العنوان والمتن وهذا أبلغ تاثير وما تسرب به الأخضر بكل ما اكتسبه من طاقة لونية ودلالية جراء اشتغاله في منطقة التشكيل والرمز.

        لقد عبر الشاعر في القصيدة عن الرسام الكبير ب (خمسين عاما ( يرسم لوحة للمرأة  وأعطى لسيارتها صفة اللون الأسود وهي عارية وشعرها الأخضر المنثور.  وقد ربط  اللون الأسود بلوحة الموت وهي صورة ماسأوية جعلت الرسام يرتبك. كيف؟  هل لأن المرأة ذات الشعر الأخضر تحدّق فيه طوال الوقت؟ مبدأ الموت مطلق في بداية النص:  إنها الرومانسية الدامية ، ولا يوجد اللون الأخضر في  مكياج النساء،  فأغلب النساء تفضل وتحبّ اللون الأشقر وتفرعاته ، لذلك مرّ من عمر هذا الرسام خمسون عاما ولم يكمل  هذه اللوحة . وفي صباح عجيب رأى. ... إلى بقية الحكاية في القصيدة ، حيث تسوق المرأة ذات الشعر الأخضر المتطاير السيارة بسرعة  وضحكة فارغة وهي تجرّ التوابيت.

 ومن الأخضر ننتقل إلى الأبيض في قصيدة: حمامة :

 

يوماً ما

كانتْ لنا حمامة بيضاء.

أحببناها بشغفٍ،

أحببناها بجنون،

ولأنَّ السماء مليئة بالعواصفِ والصواعق

فقد قُتِلت الحمامةُ فجأةً،

هكذا فجأةً.

فأخذتِ أنتِ ساقَها الجميلة

وأضفتِ لها ساقاً

وصنعتِ منها سريراً للّذّة.

وأخذتُ أنا جناحَها الكسير

وعلّمته الكتابةَ والحروف،

فصارَ يعلّمني الشِّعْر؛

قصيدةً إثر قصيدة

وكتاباً إثر كتاب

حتّى أصبحتُ شاعراً

لا همَّ له سوى الحديث عن الحمامة:

الجناح الذي صارَ حرفاً

والساق التي أصبحتْ سريراً.

 

هذه قصيدة قصيرة تجلى اللون الأبيض فيها في شكل الحمامة  ، واللون الأبيض أكثر الألوان سخاء، وهذا اللون موجود في الحمام أصلا وقد أعطى الشاعر جوهر المعنى متمثلا اللون في إنتاج القصيدة. إن توظيف اللون في الشعر كان دائما بحاجة إلى شاعر فنان يعي خطورة هذا التوظيف في حقل الشعر ويدرك كيف يستغل (5)

     فالشاعر يذكر الأبيض صراحة ثم يعود إليه في السطور الأخرى ويذكر ما يستلزمه نعني الحمامة التي هي بطبيعتها بيضاء، كأنّ هذا اللون قد أصبح حرفَ الشاعر ، وأصبح في لحظة واحدة موضوعا للبصر واللمس والسمع معا. وفي قصيدة ( ألوان) يأخذ الأبيض دورا محوريا، نقرأ:

 

قالَ الطبيبُ الذي يرتدي قميصاً أبيض

وبنطلوناً أبيض

وحذاءً أبيض

- هل كانتْ طفولتكِ بيضاء؟

· (لا).

- هل كانَ شبابكِ أبيض؟

· (لا).

- هل كانتْ شيخوختكِ بيضاء؟

· (لا).

- قالَ الطبيبُ: إذن، ماذا تنتظرين؟

· قالت: (أنتظرُ الموتَ ليأتي ويأخذني

مرتدياً طفولةً سوداء

وشباباً أسْوَد

وكهولةً سوداء.)

مدّ الطبيبُ يده ذات القفّاز الأبيض

إلى الضحية.

فأبعدها الموتُ برفق

كانَ الموتُ يبكي على الضحيةِ بدموعٍ سُود.

لكنّ الضحية نَفْسها

وجدتْ في الأسْوَد،

في آخرِ المطاف،

طمأنينةَ الألوانِ كلّها.

 

    في هذه القصيدة تسيطر أجواء الألوان أحداثا وأشخاصا متمثلة بلونين هما الأبيض والأسود، و يتجلى المعنى الشعري عبر دلالات رمزية كامنة  على الرغم من هيمنة الأسلوب الاستفهامي الهادف والشفاف على مقدرات التشكيل التصويري للنص :

 

ـ هل كنت طفولتك بيضاء؟

ـ هل كان شبابك أبيض؟

ـ هل كانت شخوختك بيضاء ؟

 

(لا شك أن حضور اللون في الشعر لا يتوقف عند حدود التشكيل السيمائي . بل يتجاوز ذلك إلى صوغ نظم جمالية تحدد العلاقة بين النص والعالم (6)

    لقد كانت عتبة  العنوان تشغل المشهد الصوري لمعنى القصيدة وملتزمة بالوضع الشكلي في اللونين الأبيض والأسود ، والطريقة الحوارية التي يرسم بها الشاعر قصيدته بين الطبيب والراوي ( الضحية )  جعلت من القصيدة قصة وحكاية رمزية عالية لعل الشاعر يخاطب الضحية وقد غدت رمة بالية،  يخاطبها كأنها ميتة، واللون يتحكم بمصير الاثنين والمعاناة تبعث حالات البؤس ، هي صورة لونية غارقة بالدموع .

 وفي الديوان  ذاته ( ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة)، نقرأ في ختام الفصل قصيدة : خنجر أسود، صرخة بيضاء:

 

كانَ يتبعها وهي تنتقلُ من شارعٍ إلى شارع،

ومن زمنٍ إلى زمن،

ومن منفى إلى منفى.

كانَ يتبعها دونَ أنْ يعرفَ سرَّها،

دونَ أنْ يصلَ إلى رحيقِها.

مَن هي؟ يا إلهي، مَن تكون؟

لم يكنْ يعرفها أو يعرف سرّها.

فقط

كانَ يعرفُ أنّه جزء منها.

ربّما هي الشمس وهو البحر

أو الأم وهو الطفل

أو الأنثى وهو الذكر.

ربّما هي النقطة وهو الحرف

أو المعجزة وهو النبيّ

أو اللعنة وهو الشيطان.

لم يكنْ يعرفها أبداً.

فقط

كانَ يتبعها

ضائعاً مثل دمعةِ طفلٍ يتيم.

وكلّما اقتربَ من سرِّها،

أو خُيّل إليه أنّه اقتربَ من سرِّها،

التفتَ ليرى خنجراً أسْوَد يثقبُ ظهره،

ويرى صرخةً بيضاءَ تخرجُ من فمه

وتتناثرُ كالزجاج.

 

   يتمظهر العنوان تمظهرا عالي الحضور ويفتح رؤية لونية مشحونة بالسواد وفضاء العنونة يتجلى في بقية عناوين قصائد الشاعر أديب كمال الدين ، فالشخص هنا يتبع شخصية مجهولة لا يعرفها، ربما تكون الشمس،  ربما البحر أو الأم أو.... كان يتبعها  حتى  إذا اقترب منها رأى خنجرا أسود يثقب ظهره وصرخة بيضاء تخرج من فمه. هذه  قصيدة رمزية تجلى فيها اللونان الأسود والأبيض إذ أعطى للخنجر المتمثل بالموت، أعطاه اللون الأسود وفي الوقت الذي يظهر فيه الأبيض لونا مبشرا بالموت كذلك ، فنكون إزاء معادلة شعرية مشتركة وصراع جدلي بينهما لا ينتهي إلا بالموت وهو تعبير انفعالي عصبي فالخنجر هو رمز القتل الرهيب والمساعد له وفي طريقة حمله نقطة سوداء خاصة إذا كان الطعن به من الظهر، ذاك كان السر الكامن في اختيار اللون الأسود للخنجر.

...........................................................................

هوامش الفصل الثاني 

         البنيات الدالة في شعر أمل دنقل : عبد السلام المساري ، منشورات اتحاد الكتاب العرب ، دمشق ، 1999 ، ص 212

          في شعرية الضوء : صلاح صالح ، مجموعة مؤلفين ، دائرة الشارقة ،1997 ص 17- 18

          دلالة اللون في الفن العربي ، د . عياض عبد الرحمن  ، وزارة الثقافة،  بغداد 2003

         السيمائية والعنونة : جميل حمداوي ، مجلة عالم الفكر، مجلد 25 ع 3

         اللون لعبة سيمائية : د . فاتن عبد الجبار ، دار مجدلاوي ، عمان  2010

          المصدر نفسه ص 30

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لفصل الثالث

 

 

تشكيل الحرف:   تشكيل اللون

 

 في مجموعة : أربعون قصيدة عن الحرف

 

 

 

 

 

 كلّنا يعرف أنّ قراءة الشعر نوع من الإبداع، فحين نقرأ شعراً نتمثّل ما فيه من مشاعر وتجارب وأخيلة، وتتفتح لعيون بصيرتنا مجموعة من الصور والمناظر والمواقف التي رسمها) الشاعر ودفعنا على رسمها من جديد لنعايشها بحالة شاعرية وشعورية تكاد تكون قريبة من ذات الحالة التي صادفته عندما كتب قصيدته.  وربما يكون الحال كذلك مع الصور واللوحات وأعمال النحت، التي نتأملها ونحاول أن ندخل عالمها  فهي تجسّم أو تظهر بالخط واللون والضوء والظل. وفي كلتا الحالتين نجد أنفسنا مدعوين للمشاركة في تكوين أو تشكيل بناء خاص انصهرت فيه الألفاظ والصور والأوزان والإيقاعات من ناحية والخطوط والألوان والمساحات والظلال من ناحية أخرى. فالشاعر يستخدم اللغة في تشكيل الصور، والرسام يصنع من اللون والشكل لوحة. وتعد الصورة العتبة المشتركة الأساسية للتداخل والتنافذ بين الشعر والرسم  (2).

      هذا الكلام ينطبق على قصيدة الصورة في مجموعة : أربعون قصيدة عن الحرف للشاعر أديب كمال الدين الصادرة عن دار أزمنة، عمان عام 2009. في المجموعة إنجاز تداخلي تقوم فيه القصيدة بدور آخر يتمثل في اكتشاف شعرية بصرية تنبني على إيقاع الصورة.  وقد استعان الشاعر أديب بطاقات الرسم  كاللون، الفراغ، الظلال، فهناك قصائد اتخذت من اللون عبارةً وعنواناً لها، مثل أغنية سوداء، أحمر ناري، قمر أسود وكلب رمادي. هذه الألوان: الأسود،  رمادي،  أحمر هي تردد لوني يعبر عن الحزن والتمرد والصخب ، (فاللون يعد إحدى الوسائل والأدوات التي يستطيع الإنسان بها التعبير عن عواطفه ونوازعه من خلال اللون ويمكن معرفة شخصية الفرد (3)

       عمد أديب كمال الدين إلى الإيحاء باللون من خلال دال معين، كالإيحاء باللون الأسود على الحزن والعتمة وباللون الأحمر على الدم والثورة. كما عمد إلى استدعاء ألوان أخرى في صوره الشعرية مستثمراً الطاقة الدلالية والايحائية لتلك الألوان. ويُعدّ اللون من أبرز أدوات الفنان التشكيلي لما له من دور في تجسيد اللوحة الفنية لإثارة بصر المتلقي وشحن ذاكرته . يقول في قصيدة: دراهم كلكامش ص 10

 

 تلك التي اسمها الحياة

متلفّعة بعباءةِ السوادِ والحلم،

بعباءةِ الفقرِ والتعاسة

هي مَن أعطاني الدراهمَ التي ضاعتْ سريعاً.

كانَ لقاءً عابراً

يشبهُ حياةً عابرة.

 

ويقول في مقطع آخر:

 

 كلّ درهمٍ كانَ اسمه السعادة.

وكلّ درهمٍ كانَ اسمه العيد

أو الغيمة

أو الشمس

أو البحر

أو قُبْلَة الأمِ متلفّعة بالسواد.

 

إن اللون الأسود هو خلفية هذه القصيدة، هذا الذي يوحي بالحزن والقساوة والتعاسة، وقد وصلت تعاسة حياة الطفل الذي ضيّع دراهمه التي يبحث عنها حتى الموت. هنا يستدعي شخصيات الملحمة الشهيرة: كلكامش وأنكيدو مناجياً بطله كلكامش . وكلمة ضياع تكررت ست مرات في القصيدة مما أغرق النص في سواد أكثر مما ينبغي.

في قصيدة: المبحر منفرداً  ، ص 15

 

أيّها الحرف

سيحاربكَ القرصانُ الأحمر،

القرصانُ الذي قوّضَ العرشَ وسلّمه للرعاع،

لأنّ في قلبكَ موجة لأقمار الطفولة.

وسيحاربكَ القرصانُ الأزرق،

القرصانُ الذي أدخلَ كلَّ شيء في دوّامةِ الموت

بعدَ أنْ قتلَ إخوته

..............
وسيحاربكَ القرصانُ الأصفر:

قرصانُ المجانين والمخنّثين وآكلي جثث الموتى.

وسيحاربكَ القرصانُ الأسود:

قرصانُ الكَفَرة الفَجَرة.

وسيحاربكَ قرصانُ الريح

ذاك الذي يغيّرُ وجهته

كلّما غيّرت الريحُ عنوانها.

 

    في هذا النص تداخلَ أكثر من لون فكأنه لوحة متعددة الألوان: الأحمر، الأزرق، الأصفر ، الأسود ، كلها تحارب الحرف الذي هو هاجس الشاعر الأول ويشكل حضوراً مثالياً في ذهنيته. هي ثورة  الحرف، الإنسان ، الزمن الذي يحاربه كل المتربصين به من القتلة ، الكفرة ، المجانين، المنافقين، وأصحاب الأهواء.   وهو يبحر لوحده مستندا إلى قواه الذاتية فقط،  يحاربونه لا لشيء فقط لأنه اقترح بلدا للحب والجمال. هنا أعطى للألوان صفات مستفيداً من إمكانيات التشكيل المعاصرة دون الحاجة إلى ظهور التشكيل ذاته فالأصفر هو صفة للمجانين وآكلي جثث الموتى، والأحمر الذي قوّض العرش وسلمه للرعاع والأسود صفة للكَفَرة.

 في قصيدة : أغنية سوداء القلب، يقول: ص27

 

توقّف الحرفُ عن النظر إلى المرآة

كي لا يرى المستقبلَ بلا يدين

والماضي بلا أقنعة.

توقّفَ الحرفُ عن إرسال رسائل التهديد إليّ..

 

ثمَّ في نهاية القصيدة:

 

وكانَ الحرف

يجلسُ أمامي مثل نهرٍ    

يدمدمُ بأغنيةٍ خفيفةٍ جداً،

             عذبةٍ

             وسوداء القلب.

 

      من عنوان القصيدة كانت لنا خلفية سوداء ضمنت محتوى النص الذي غلب عليه الحزن والعتامة . والشاعر هنا صبغ الحرف برسائل الوعيد ورسائل الحب، والتذكير بالطفولة صورة سوداء . وقد حقق التوازن في ذلك انطلاقا من فهم جديد للشعر بوصفه أثرا مفتوحا تتداخل فيه الكلمات مع الرسم.

   في قصيدة : (أحمر ناري) يستخدم الشاعر اللون الأحمر عنوانا لها ، وهو لون يشير إلى النشوة والتمرد والثورة، والحياة الصاخبة كما في القرصان الأحمر الذي قوّض العرش.

 

إلّا حينَ يلهج

بأسطورتكِ المعلّقةِ في الأعالي،

ونقطةً لا تجيد

سوى أناشيد الحبِّ بالأحمر الناري،

أعني بالأحمر الممسوس

باللوعةِ والهذيانص 30

 وفي مقطع آخر يقول:

 إلى جفافِ الينابيع

بل ليدفعكِ حيث البئر السوداء

 

    يلبس في نهاية القصيدة قناع الغراب وحيث البئر السوداء وجفاف الينابيع. ولازالت صورة القتامة تتكرر كخلفية لهذه القصيدة، ويدل هذا على التحسر لوطن فارقه الشاعر مفارقة الطير لعشّه. وهكذا أصبحت الألوان مرآة للشاعر وتجواله من الفرح إلى الحزن، من الوطن إلى المنفى.

ونجده في قصيدة (قطارات سدني) يكرر ألوانه:

 

 قطاراتُ سدني

تركضُ من الفجرِ إلى الفجر.

تركضُ مرّةً إلى البحر

ومرّةً إلى الملاهي

ومرّاتٍ إلى الموت.

 

وفي المقطع الثاني يقول:

 

قطاراتُ سدني

تضجُّ بهذيان الدولارات:

دولارات سوداء

أو سُود كما يفضّلُ علماءُ اللغةِ القول.

ولو حضرَ علماءُ اللغةِ إلى هنا

لأسودّتْ وجوههم من الحلم

بالدولارات.ص33


     
في مدينة سدني منفى الشاعر ومستقره، تسير القطارات من الفجر إلى الفجر بدولارات سوداء. هي صورة سوداء أيضا بل أشد عتمة حيث يصف القطارات والناس والدولارات وهي تتطاير من مكان إلى آخر لتصعد في زوبعة من الأوراق الصفراء أو الخضراء. ولم يتحرك قطار الشاعر إلى لون الحياة الصاخبة وهو اللون الأحمر بل إلى وهم الموت في( قطارات سدني) من خلال لوحات فنية تتجلى فيها الكلمات كرسوم وتشكيلات بصرية  وإيقاع لوني متناسق وصياغة شعرية محكمة الأواصر هذا ما جعل خلفية هذه القصيدة مسودّة مصفرّة، لتوحي بهذه الدلالة التي أرادها الشاعر

في قصيدة (اعتذار) يقول:

 

حين ذابَ ثلجُ شتاءِ القصيدة

فاضت الورقةُ البيضاء

بالحروفِ والنقاطص 39

 

ثمّ يقول:

 

وهكذا قبل أن أموت

كنتُ ذكياً بما يكفي لأعتذر للغراب

وأعتذر للشتاءِ وللورقةِ البيضاء

 

      في هذا المقطع بالذات برز اللون الأبيض حيث الثلج والورقة البيضاء، وقد وظّف الشاعر هذا اللون لخدمة المعنى : شتاء القصيدة أو الفكرة التي يحاول إيصالها. .وفي قصيدة (تناص مع الحرف) يتحرك مع اللون الأسود ولا يكف عن التشبث به من بعيد أو قريب، فنجده يختم القصيدة بالمقطع:

 

 وجئتُ أنا

فأمسكتُ بالحرفِ المتفحّم

وكتبتُ قصائدي السود التي لا تكفّ أبداً

عن الرقصِ والهذيان... ص 44

وهي خلفية سوداء من الحرف المتفحم إلى قصائده السود . لقد أكثر الشاعر أديب في قصائد  مجموعته: أربعون قصيدة عن الحرف من توظيف اللون الأسود. وقد انعكس هذا على غلاف المجموعة بالكامل، وقد تستهوي الشاعر فكرة التلوين للتعبير عن حالة التغيير المستمر أو لارتباطه في مخيلة الشاعر بخبرات سلبية متراكمة.
في قصيدة (أعماق):

 

في أعماقي

طائرٌ أبيض

يسقطُ مذبوحاً في أعماقِ المسرح.

وفي أعماقِ المسرح

صراخٌ وأنين وثيابٌ ممزَّقة

 

      يبدأ قصيدته باللون الأبيض وهو لون الحب والسلام والنقاء وهو نقيض اللون الأسود وقد حقق ذلك في طائره الأبيض ولكن هذا الطائر سرعان ما يسقط مذبوحاً.. ويتحول إلى اللون الأحمر/  ينظر إلى طائري المذبوح بعينين دامعتين/ حيث تنقلب الصورة إلى العتامة والموت . وقد تجلى ذلك بدقة في القصيدة ، هنا مفارقة مأساوية تتشكل عبر هذا التضاد اللوني : طائر أبيض/ طائر أحمر. وقد يهيمن لون بعينه على الصورة الشعرية بأسرها ممتداً إلى العنوان كما في قصيدة قمر أسود وكلب رمادي) ص56 )


ربّما أنتِ قصيدة بلا عنوان

أو قصيدة بلا معنى

أو ربّما أنتِ حرف لا يخصّ أحداً سواي.

في آخر المطاف

مشينا معاً في مدينةِ الجوعِ والمزابل الليلية.

كنّا ثلاثة

والقمرُ الأسْوَدُ يحرسنا بعبثه الأسْوَد.

 

ثمَّ يواصل تكملة هذا المقطع بالصور والألوان ذاتها:

 

 ياليتني بقيتُ مخدوعاً من دونِ قمرٍ أسْوَد

وياليتني بقيتُ قمراً أسْوَد

من دونِ كلبٍ رماديّ.

 

     هنا أعطى الشاعر القمر لوناً أسود وهي صفة متشائمة إلى حد ما وكان من الممكن أن يعكس العنوان ليصبح القمر رمادياً والكلب أسود ، لتصبح خلفية القصيدة سوداء أيضا بقمرها وكلبها الرمادي . والرمادي هو لون العنصر الناتج عن الاحتراق ويوحي بمعنى العدمية والانتهاء فضلا عن سمته الضبابية، من العنوان إلى داخل الجوع والموت من هول المفاجأة .... الخ .استطاع الشاعر أن يوظف اللون الأسود بتدرج وأن يغير حاله من حال إلى حال.  ويمتاز أديب كمال الدين بأنه يقيم علاقة بين لونين فيصرّح بأحدهما ولا يصرّح بالآخر بل يتحسسه عبر عنصر ملازم له. يقول في قصيدة : طفلة:

 

مثل ورقةٍ سقطتْ من الشجرةِ اللعوب،

مثل ريشةٍ أُقتُلِعَتْ من جناحِ طائرٍ ما

وجدت الطفلةُ نفسها:

اسمها لا ينطبقُ على ذاكرتها.

 

وفي مقطع آخر يقول:

 

أيّ طائرٍ هو؟

صرخت الشجرةُ باسم الطائر

لكنّ الاسمَ ضاع

في الهواء الأسودِ القاسي.

فالسماءُ كانتْ ممطرةً جدّاً.... ص74

 

     اللون الأسود يضجّ بالدمار الذي كثيرا ما يتكرر عند الشاعر في قصائده ، فالهواء أسود وأضاف له تعاسة أخرى وهي القساوة وربما أراد بها المطر الأسود الذي سقط على العراق أثناء حرب الخليج الأولى ، عندما تشبّعت السماء بالدخان الأسود في ذلك اليوم الممطر . (والصواعق تملأ الأرض / والرعد كان هو الآخر / مبتهجاً حد الجنون). وفي قصيدة (قرد الصحراء) يقول:

 

 وحينَ يصيبُ القردَ الملل  

يُؤخَذُ إلى الغابةِ البعيدة

ليلتقي بأصدقائه القِرَدَة،

فيعرض القردُ عليهم

مزهواً هدايا الملك:

موز ذهبيّ،

تفّاح ذهبيّ،

عرموط ذهبيّ.

تفرحُ القِرَدة

لمنظرِ الفاكهةِ العجيبة.... ص 82


خلفية هذا القصيدة الطفولية هو اللون الذهبي، وهذا اللون كما نعرف يشير إلى المعدن المعروف بلمعانه وهو ليس من ألوان الطيف ويرمز إلى التفاخر والجمال والجاه ، هنا ملك وقرد وصحراء ، ولهذا كانت هي هدايا القرد من الملك عندما يفشل القرد الذي أتى به الملك من الصحراء حيث يعيش الملك، يفشل القرد في إقناع بني جنسه في مضغ الفاكهة وهي الموز الذهبي والتفاح والعرموط : حيث ترمي القردة الفاكهة الذهبية على الأرض وتتسلق الأشجار لتطلق أصواتا منكرة  وتعود إلى الغابة.  لقد كان اللون الذهبي رمز التفاخر للملك وتأكيداً على طبيعة معدن الفاكهة  حيث يرفض إنسان أن يغير واقعه ويأكل غير ما تربّى عليه وهي حكاية وصورة شعرية أنيقة هادئة جاء بها الشاعر ليحقق الترابط الدلالي بين التفاخر واللون الذهبي.

يقول في قصيدة : العلقم) ص87) المقطع الثاني:

 

المشهدُ قاسٍ حتماً.

فكراجُ السياراتِ موحشٌ ومظلم

وأنتَ تهربُ من شمسٍ سوداء إلى شمسٍ خضراء.

ينبغي عليكَ وأنتَ في صميمِ طفولتكَ اليوميّة

أن تخفي أسماءَ أمطاركَ الموسميّة.

 

ويختتم القصيدة :

 

وأنتبهُ للدالِ : دال الطفولة،

دال الأمطارِ الموسميّة،

دال الحبرِ الأخضرِ والشمسِ الخضراء

ولباس الحبيبةِ الأخضر

 

خلفية هذه القصيدة أو المشهد أيضا الأسود،  ابتدأ من العنوان وكراج السيارات الموحش المظلم والشمس السوداء / والبطيخ مرّ كالعلقم / البطيخ صار أكثر مرارة من الموت / والموت اختفى في ماضٍ / يجيدُ لبسَ القناعِ والسير وسط الظلام /. هنا التقاط  دقيق للجزئيات والعناصر المألوفة المكونة للمشهد العام للوحة الفنية.

في قصيدة : بلا عنوان،  يقول في المقطع الثاني:

 

كان المشهدُ رماديّاً.

والقصيدة،

أعني الجملة،

أعني الكلمة،

بحروفها التسعة

عصيّة على الولادة

مادامتْ عصيّة على الوصولِ إلى نَفْسها

في آخر المطاف!

 

خلفية هذه القصيدة اللون الرمادي، وهذا اللون لون البؤس والانتهاء .والقصيدة تبنى هنا على وفق شكل اللوحة التشكيلية . العين تنقل المشاهد ثم تعيد خلقها . وقد تكرر هذا اللون في قصيدة : قمر أسود وكلب رمادي. أما في بقية قصائد المجموعة فتمثل الألوان بشكل آخر غير لفظي كما في قصائد: ذات ربيع، حاء باء، جمجمة، عابر سبيل، طاغية . يقول في قصيدة : طاغية:

 

الحرفُ الذي لا معنى له

سيشعلُ للنقطةِ حرباً لا معنى لها،

حرباً تأكلُ الزرعَ والضرع.

وحينَ يتمّ له ذلك

سيجبرُ الحروفَ كلّها

على المشاركةِ في حربه الغبيّة هذه.

 

      خلفية هذه القصيدة: النار والرماد، في سباق مع حروفه مبالغ في عشقه لها ، والرماد ناتج النار وهو معنى الحرب التي تشعل كل شيء. وفي معنى الحرب التي تأكل الزرع والضرع. حيث الطاغية سقط وسقطت معه رموزه . الشاعر هنا لا يسرد وإنما يؤشر وتأشيراته تعد حاله لواقع منحرف. أما في قصيدة : ذات ربيع ص 93 فنقرأ:

 

ذات ربيع

أقامت الحروفُ معرضاً في الهواء الطلق.

رسمت الباءُ امرأةً عارية

تبيعُ البيضَ في السوق.

ورسمت الحاءُ دماً يتدفّق

وجلاّدين يتقاتلون كالوحوش.


وفي مقطع آخر يقول:

 

ولوّنت النقطةُ مشهدَ الارتباك

حيث يعزّي الأنبياءُ والأولياءُ والشعراء

بعضهم بعضاً

بمناسبةِ حضورِ مشهدِ الجنازة

 

   هنا تسربت مفردة الفنون التشكيلية الرسم إلى الشعر وتداخلت مع بنيته ويتجلى ذلك في استثمار فعل الرسم والمعرض / ذات ربيع / رسمت الباءُ امرأة عارية / ومن خلال هذه القصيدة يتبين التأثير على هذه التبعية بتكرار فعل الرسم أكثر من مرّة وكذلك معرض الرسم في الهواء الطلق.  رسمت الحروف: الباء امرأة عارية ، الحاء دماً يتدفق. كأنّ الشاعر يرسم ما يراه وبشكل إنطباعي . وبتكرار فعل الرسم يتأكد لنا أن الشاعر رسم لوحة تشكيلية من خلال المفردات حتى العنوان يتأكد فيه معنى واسم لوحة "ذات ربيع" توحي أن القصيدة لوحة فنية يرسم بداخلها منظر الربيع ، فالشاعر يجعل القارئ يرسم في خياله الصورة التي رسمتها القصيدة خلفية هذه القصيدة : لون الربيع وهو لون التجدد والانبعاث (الأخضر).

   نأتي إلى (الفراغ) الذي يشكل حيزاً مهماً في اللوحة التشكيلية وكيف وظفه الشاعر أديب في قصائد المجموعة. والفراغ من العناصر الفاعلة في تشكيل اللوحة التشكيلية فضلا عن اللون والضوء والظل والنقطة. ويأتي توظيف الشاعر لعنصري اللون والفراغ في تشكيل لوحته الشعرية باستثمار المعنى الدلالي لهما. يقول في قصيدة : جاء نوح ومضى:

 

النجدة!

نعم، يا صديقي الحرف،

دعنا نصرخ الآن:

ال........ن............ج.............دة!



وفي المقطع الأخير يختتم القصيدة :

 

أرجوك

أنا لم أفقد الأملَ بعد!

أرجوك

ال........ن............ج.............دة!

ال........ن............ج.............دة!

ال........ن............ج.............دة!

 

    يستند الشاعر أديب تشكيل الفراغ محاولا إثراء القصيدة بتنويعات دلالية وإيقاعية فالفراغ داخل الجمل الشعرية يتيح للشاعر التصرّف في عناصر بناء القصيدة . وقد ساعدت التقنيات الطباعية الحديثة  في إظهار هذا الفراغ. ويبدو أن نزوع الشعراء إلى هذا النوع من الكتابة هو نزوع للحداثة، والفراغ في النص الشعري ليس تكوينا أو تأليفا خارجيا (وإنما هو تجسيد لوعي وحركة ولمسار شعري) 4 .

      وتقطيع كلمة نجدة إلى حروف وفراغات وترتيبها بشكل يوحي بالتبعثر والانشطار وترتيب الحروف بهذه الطريقة الأفقية ، وهناك الطريقة العمودية في تأكيد دلالية النص إذ يوحي بتناثر الكلمة وتشظيتها الموتُ الذي ينتظر الحرف مما يجعل الشاعر يلفظ كل حرف طالباً الاستغاثة بصرخة مدوية تتردد في كل سهلٍ ووادٍ ، يستنجد ولكن ما مِن مغيث. وقد توافق هذا الترتيب مع حركة المعنى  إذ يوحي تقطع الكلمة بتقطع أنفاس الغريق طالباً النجدة من سفينة نوح.

     إن مجموعة : أربعون قصيدة عن الحرف هي قصائد كُتبت بجمال الألوان وقدرتها التعبيرية، قصائد جسّدت الأشياء والحياة بالألوان عن وعي قصدي من خلال توظيف شعري في اللوحة التشكيلية سواء من خلال وظيفتها الدلالية المباشرة أو غير المباشرة. وقد سبقني الشاعر عبد الرزاق الربيعي في قراءته اللونية لهذه المجموعة للشاعر أديب كمال الدين عبر مقالته:  (دلالات الألوان في مجموعة: (ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة) فكتب: ( عدد القصائد التي اتخذت اللون عنوانا لها أربع قصائد أما القصائد التي اتخذت اللون كدلالة ومعنى فهي عشرون قصيدة . وقد طغى اللون الأسود على أغلب القصائد إشارة صريحة ، وهذا يؤكد عتمة الاتجاه النفسي للشاعر وحتى (إذا مزجت الألوان الأخرى بالأسود فأنها تقتم وتفقد نورانيتها. (6)

 وحين نذكر أن غلاف المجموعة المطبوع باللون الأسود كاملا لأضفنا عتمة أكثر وأكثر للوحة، وما يؤكد العلاقة أكثر أن كلمة الموت ذُكِرت في 17 قصيدة وهذا يعني نصف القصائد تقريباً. ففي قصيدة تناص مع الموت ذُكِرت كلمة الموت 17 مرّة، وفي قصيدة اعتذار تسع مرّات،  وفي قصيدة  كنتَ سعيداً بموتك خمس مرّات ،  وفي قصيدة عن المطر والحب خمس مرّات، وفي قصيدة معاً على السرير ثلاث مرّات ... إلخ.. ومن أمثلة ذلك :

 

حينما متّ

لم يشأ أحدٌ أن يخبر الحروف

بالنبأ الأليم..... (قصيدة: حاء باء)

كنتَ سعيداً بموتك

حين رأيتُ مشهدَ موتي.............(قصيدة  : كنتَ سعيداً بموتك)

وسيتنفّس معك:

نَفَسَهُ ثقيلٌ أثقلُ من دخانِ الموت............(قصيدة: الشبيه)

 

       لا شك أن (أربعون قصيدة عن الحرف) هو ديوان فريد عن الموت والقصيدة التي تُكتب على أكفان الميتين (7). فخلفية اللوحة : القصائد التي هيمن عليها اللون الأسود  بدءاً من الغلاف إلى  منتصف اللوحة،  صورة الشاعر التي رُسِمت بضبابية معتمة ومن حوله تتطاير الحروف والنقاط وهي تؤدي طقوس الحياة. وهنالك حرف مبحر يلتصق بجانبه يسعى للفرار من اللوحة-الموت تناثر إلى بقايا رماد وأنفاس مثقلة بهموم الغربة.

   لقد وظف شاعرنا اللونَ في تحديد جوانب مهمة من عناصر قصيدته ورسمها بخطوط وألوان وفراغات ومعارض وعبّر بها كما قال هوراس (كما يكون الرسم يكون الشعر)  كما عبّر عنها عِبْر صور ذهنية تثير من خلال التشكيل باللون مزيداً من الكشف عن عوالم الشاعر والنص معاً.

(أربعون قصيدة عن الحرف) أحاسيس مثقلة بالغربة مثيرة للمشاعر ، تملك قدرة فائقة في استنطاق الطبيعة بهمساتها اللونية البالغة السحر وتجسّد براعة الشاعر في توظيفه لهذه المفردات لرسم الصورة الشعرية بطرائق متعددة.

..............................................................

هوامش الفصل الثالث

1-  مجموعة (أربعون قصيدة عن الحرف) للشاعر أديب كمال الدين الصادرة عن دار أزمنة - عمّان 2009

2 - أثر الرسم في الشعر العراقي الحر ، أحمد جارالله ، اطروحة دكتوراه غير منشورة

3 - تداخل الفنون في شعر سعدي يوسف،  رسالة ماجستير غير منشورة ، كلية التربية جامعة بغداد   2008

4- زمن الشعر ، أدونيس .ص  298

5 - نظرية اللون، د. يحيى حمودة . 1981 ص  116

6 - اللون بين الفن والشعر، د. حافظ مغربي مقال منشور في شبكة النت

7 - أربعون قصيدة عن الحرف: "ديوان فريد عن الموت والقصيدة التي تُكتب على أكفان الميتين"، فيصل عبد الحسن، صحيفة أخبار الخليج البحرينية 29 آب 2009   

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الرابع

 

 

جمالية التكرار في مجموعة الشاعر أديب كمال الدين:

(أقول الحرف وأعني أصابعي)

 

 

 

 

  في العصر الحالي أصبح التداخل مع الموسيقى واحداً من الأدوات الرئيسة في بناء القصيدة لدى أغلب الشعراء، حيث أخذوا يسخّرون عدة وسائل لتحقيق الأداء الموسيقي لقصائدهم، ومن هذه الوسائل استخدام التكرار أو تضمين القصيدة إحدى الأغاني أو الأهازيج الشعبية المتداولة، وهي ظاهرة معروفة في الشعر العربي منذ عصر ما قبل الإسلام، إلا أنها لم تتخذ شكلها الواضح إلا في العصر الحديث، وبالأخص في نماذج من الشعر الحر . والموسيقى هي (تحول الصوت إلى إيقاع عن طريق كسر تعاقبه وإقامة التكرارية مكان التعاقب. (1)  وقد جاء توظيف الشعر للتكرار تأثرا ببنية القطعة الموسيقية القائمة على التكرارفهو ظاهرة صوتية تميزت بها القصيدة الحرة، وهو إلحاح على جهة معينة في العبارة يعني بها الشاعر أكثر من عنايته بسواها ، وكذلك يسلّط الضوء على نقطة حساسة في العبارة ويكشف عن اهتمامه بها (2)

إن استثمار تكنيك التكرار في عموم الشعر يجعل منه مكانة دلالية من خلال انتقاء مفردة معينة أو أكثر، وللتكرار دلالة نفسية ( حيث يفرغ الشاعر حاجاته ومشاعره المكبوتة ليعيد التوازن إلى حالته الطبيعية (3) . فوجوده في الشعر إذن لا يبعث الملل والنفور في النفس بل هو طبيعي يرتبط ارتباطا وثيقا ببناء القصيدة  حتى أصبحت بعض التكرارات تأخذ شكل (اللازمة) وهي مظهر من مظاهر الموسيقى وتقنياتها المعروفة. . ولا يخفى ما للتكرار من مزايا فنية عديدة (سواء من حيث تأثيره في المعنى أم من حيث تأثيره في الموسيقى الشعرية فضلا عن الدلالة النفسية التي يستطيع أن يضيفها على القصيدة) إلى جانب أثره في تقوية النغم، (فالشاعر المعاصر حاول قدر الإمكان تجاوز الحدود التقليدية للوزن والقافية، متجها نحو التكرار وسيلة لأغنائها والتجديد فيها ، فالإيقاع الصوتي الذي يخلقه تكرار جرس الحروف والكلمات، تظهر القيمة الفكرية والنفسية التي يعبر عنها من خلال العناية بتكرار لفظة معينة أو مقطع معين .(4)

   (التكرار نمط صوتي يتصل بالذات المبدعة. ويسهم في تلاحم البناء وترابطه ويشكل نغمة موسيقية قوية فهو يعين على تشكيل عنصر التأثير والتأثر. (5) وهو عنصر مهم يسهم في تثبيت الإيقاع الداخلي في فضاء النص الشعري.  ونشير هنا إلى بعض مواطن التكرار في شعراء الحداثة : مثل  قصيدة (حوار) للشاعر صلاح عبد الصبور، فقد كرر(أأنت من سكان هذه المدينة! ( في قصيدته هذه ست مرات مكتفيا في مرتين منها بتكرار مفتتح السؤال ( أأنت ..( مع وضع إشارة الحذف. وقد وظف الشاعر نزار قباني التكرار في أغلب قصائده ومن هذه القصائد قصيدة الحزن حيث جعل جملة (علّمني حبك ( مفتتحا لكل مقطع . إما الشاعر بدر شاكر السباب فقد أعتمد فنيا ومعنويا على التكرار في قصيدته الشهيرة (أنشودة المطر  وقد تكررت كلمة مطر بترتيبية معينة تخدم السياق والمعنى وقد بلغ عدد المكررة فيها كلمة مطر (26) مرة . أما الشاعر محمود درويش فقد وظفه في كل مستوياته ، بدأ من تكرار الحرف وانتهاء بتكرار الجملة مثل قصيدته (أنا آت إلى ظل عينيك ( فقد كرر الجملة الافتتاحية ( أنا آت إلى ظل عينيك ( ست مرات في تضاعيف القصيدة.

   يحاول الشاعر أديب كمال الدين أن يغني موسيقى قصيدته من الداخل، إذ يلجأ إلى تكوين تجمعات صوتية متماثلة أو متجانسة وهذه التجمعات إنما هي تكرار لبعض الأحرف التي تتوزع في كلمات البيت أو مجيء حروف تجانس أحرفا أخرى في كلمات تجري وفق نسق خاص، مما شكل ظاهرة جمالية في مجموعته (أقول الحرف وأعني أصابعي). ومن أهم مكونات البنية الإيقاعية في هذه القصائد ويوظفه بشكل لافت ليقوم بما يشبه التدفق الإيقاعي الخفي بين ثنايا المفردات، كما سعى الشاعر فيه إلى توظيف كل مستوياته بدأ من تكرار الحرف وانتهاء بتكرار الجملة أو العبارة أو بيت شعر أو مقطع ، ذلك أن للتكرار دلالات إيقاعية كثيرة، منها التأكيد على أهمية اللحظة الواحدة وتشظّيها إلى آلاف اللحظات ليسهم في تلاحم البناء و ترابطه. أما مواضع التكرار في هذه المجموعة للشاعر فيمكن أن نجدها في الآتي:

تكرار الحرف:

       كثير ما يظهر في القصائد، وهو من  أبسط أنواع التكرار، لقلة ما تحمله هذه الحروف من معاني و قيم شعورية قد لا ترتقي إلى مستوى تأثير الأفعال والأسماء والتراكيب.  وأمثلة هذا النوع ، في هذه المجموعة كثيرة.  منها تكرار الحرف في قصيدة: ثمة خطأ. يقول في المقطع الأول ص 7

ثمّة خطأ في السرير

وفي الطائرِ الذي حلّقَ فوقَ السرير

وفي القصيدةِ  التي كُتِبَتْ

لتصفَ مباهج السرير

وفي المفاجأةِ التي تنتظرُ السرير

في آخرِ المطاف.

 

ثمّ يعود ليكرر الحرف في المقطع الثالث:

 

ثمّة خطأ في الكأسِ والخمرة

وفي الرقصةِ والراقصة

وفي العُري والتعرّي

وفي وثائقِ التابوت

وفي النشيدِ، والنشيجِ، والضجيج،

والحروب التي أكلتْ أبناءها

أو التي ستأكلهم عمّا قريب.

 ويعود مرة أخرى في المقطع السادس:

 ثمّة خطأ في الحرفِ وآخر في النقطة

وفي ساعةِ الرملِ أو ساعةِ الصخر

وفي الذكرى، والموعدِ، والسكّين

وفي المفتاحِ، وبابِ البيتِ، والمطر

وفي القُبلةِ، وكلمةِ الأسف

وفي رغبةِ شفتيكِ وشفتيّ

وفي كلمةِ: (أحبّك)

وكلمةِ: (وداعاً).

    يكرر الشاعر حرف الجر(في) أكثر من (15) مرة. وقد وظّف الشاعر تكرار الحرف لبيان صورة محتملة في ثبات تأكيد أخطاء في حياتنا، من الحرب، إلى العري، إلى الأسف، إلى فقدان الرؤية، لتضفي على الصورة وصفا داخليا متسما بالقهر من خلال الحرف (في) وهي تشكل أنموذجا يحتذي به في مختلف القصائد فضلا عن ما أفاده التكرار من خلق إيقاع موسيقي داخل القصيدة. والتكرار يحكمه قانونان لا بد من مراعاتهما معا عند توظيفه في النص الشعري . وهما التكرار: إلحاح على جهة مهمة في العبارة يعني بها الشاعر أكثر من غيرها وبالتالي يأخذ بعدا نفسيا  له علاقة بنفسية الكاتب أو الشاعر، كما يخضع للقوانين الخفية التي تتحكم في العبارة وهو قانون التوازن ففي كل عبارة طبيعية نوع من التوازن الدقيق الخفي الذي ينبغي أن يحافظ عليه الشاعر في الحالات كلها.

    وقد يعمد الشاعر في بعض الأحيان إلى أنواع مختلفة من تكرار الحروف كأن يكرر أداة استفهام أو أداة نفي منها تكرار الحرف في قصيدة (زوربا)  ص 20

ستسخرُ.  ممن إذن؟

من الرقص؟

لا.

من الرمل؟

لا.

من الحُبّ؟

لا.

من الحظ؟

لا.

من الخوف؟

لا.

ستكرّرُ لا ولا ألف مرّة

إلى أنْ تنهار فوقَ الرمال

والقلبُ ضاحكاً مثل طفلٍ سعيد

 يصيحُ:  لا.

وأنتَ من خلفه مذهولاً تصرخُ: لا

لا

لا

لا

لا

لا

لا

 

   تنوعت التكرارات في هذه القصيدة، منها تكرار الحرف (لا) (15) مرة وهذا النفي ناتج من رفض وسخرية (زوربا) من الموت ومن الحب ومن الخوف ليصيح : لا ،  حيث يتم تشكيل الحرف بنسق جمالي في شكل عمودي ليقرّ بأهمية التأثير البصري وفاعلية دلالته وتكرار حرف السين (13) مرة، (سترقص إذن يا صديقي /  سيجتاحك الوهم أو الموج/  وسترفع قدمكَ إلى الأعلى / ستبتسم). لاحظ كيف أن (سين المستقبل)  متلاصقة للأفعال المضارعة وهي تحمل زمنها بنفسها. إن الفعل: ترقص الذي ينمّ عن حركة وانفتاح يزيد من تصعيد الحدث وأن زوربا يعود ويبتسم. ويبدو أن هذا التنوع في التكرار قد أغنى الإيقاع الدلالي للقصيدة، فتكرار (لا) و(من)  تأكيد للمعنى الذي يحاول الشاعر إيصاله فضلا عن الإيقاع النغمي والموسيقي .وفي قصيدة (اليد ) يقول في صفحة  32

 

في الطفولة

فتحتُ يدَ الحرف

كي أجدَ قلمَ حبرٍ أخضر

فوجدتُ وردةَ دفلى ذابلة.

وفتحتُ يدَ النقطة

فوجدتُ دمعةَ عيدٍ قتيل.

وفي الحرب

فتحتُ يدَ الحرف

كي أجدَ طائرَ سلامٍ

يرفرفُ فوقَ روحي التي أربكها

مشهدُ الدم،

فوجدتُ حفنةَ رمادٍ

وقصيدة حبّ مزّقتها الطلقات.

وفتحتُ يدَ النقطة

فوجدتُ دمعةَ أمٍّ  بكتْ ابنها القتيل.

 

     لقد تكرر حرف  الفاء  (12) مرّة، وهي فاء العطف مع الفعل (وجدتُ) الذي تكرر ست مرات. في هذا النص نجد طفولة الحرف والنقطة وما بهما من أحاسيس ومشاعر، حيث أثث الشاعر فضاءه بأصابعه التي طرزت جملا ومقاطع شعرية مزجت بين بساطة اللغة وعمق المعنى، عبر شخصيتين رئيسيتين هما الحرف والنقطة، متمثلة في الطفولة والحرب والمنفى، ومن خلال الحرف نستبطن الداخل. وقد رُتّبِت القصيدة في حكاية من ثلاث مقاطع ، وهكذا في بقية القصائد حيث تتكرر الحرف فيها مثل : لِمَ أنت ، مديح إلى مهند الأنصاري ، لم يعد مطلع الأغنية مبهجا، غزال أكل قلبه النمر.

تكرار المفردة :

     وفيها يسعى الشاعر إلى تكرار مفردة معينة في القصيدة ويكون هذا التكرار ناتجا عن أهمية هذه المفردة وأثرها في إيصال المعنى وتأتي مرّة للتأكيد أو التحريض ولكشف اللبس فضلا عن ما تقوم به من إيقاع صوتي داخل النص الشعريومن هذا النوع من التكرار نجده حاضرا في قصيدة : مديح إلى مهند الأنصاري ، ص 88

 

كانتْ حقيقية

شمسكَ أيّها الراحل- الباقي.

ليستْ محاطة بالغبار

ولا معجونة بالأكاذيب.

ليستْ بحجمِ حبّةِ قمحٍ

ولا بحجمِ برتقالةٍ ذابلة.

ليستْ بالتي تنام

ولا تدري أتقومُ غداً

مِن سريرها أو لا تقوم.

ليستْ بالتي تكرهُ ساعاتها

ولا دقّات قلبها.

ليستْ بالتي تلبسُ وجهين

ولا تغيّرُ دفّتها كلّ حين.

ليستْ بالتي تدوسُ على الكواكب الأخرى

إنْ زاحمتها في الطريق.

 

    نلاحظ تكرار مفردة (ليست) خلال أسطر القصيدة، حيث تتكرر ست مرات مؤدية إيقاعا موسيقيا داخل القصيدة فضلا عن الإيقاع الدلالي الذي تؤديه هذه المفردة التي تدخل النفي حول حقيقة شمس الراحل الأنصاري . والنفي هنا رمز ولو رجعنا إلى كلمة ( ليست)  في اللغة العربية لوجدناها : ليس فعل ماضي جامد والتاء هي تاء التأنيث . ومن الأمثله الأخرى لهذا النوع من التكرار قصيدة (لم يعد مطلع الأغنية مبهجا). يقول الشاعر أديب كمال الدين في المقطع الخامس ص 75

كلّ شيء مضى.

سأحتاج إلى كلمةٍ لأصفَ غربتي

وسأخترعها إنْ لم أجدها.

غربتي ليستْ هي البحر،

فالبحرُ، رغمَ وحشته وأكاذيبه ومجونه، طيّبٌ

إذا روّضته أو روّضك.

غربتي، إذن، بدأتْ في الفرات

وغابتْ مع شمسه التي غابتْ

 

ويقول في المقطع السادس ص 75

 

غربتي هي غربةُ العارفين

إذ كُذِّبوا أو عُذِّبوا.

غربتي هي غربةُ الرأس

يُحْمَلُ فوق الرماح

من كربلاء إلى كربلاء.

غربتي هي غربةُ الجسرِ الخشبي

إذ يجرفه النهرُ بعيداً بعيداً.

غربتي هي غربةُ اليد

وهي ترتجفُ من الجوعِ أو الارتباك،

وغربةُ السمكِ إذ تصطاده

سنّارةُ الباحثين عن التسلية،

وغربةُ النقطة

وهي تبحثُ عن حرفها الضائع،

وغربةُ الحرف

وهو يسقطُ من فم السكّير

أو فم الطاغية.

 

    يكرر الشاعر لفظة (غربة).  لاشك أنها غربة الشاعر في بلاد غير بلاده، أحاسيس مثقلة بهموم الغربة.. وقد أسهم هذا التكرار في تعميق  صورة الغربة التي تتحكم بالشاعر بكل أشكالها وصفاتها. إنها غربة الروح والجسد والهجر وفقدان الوطن الحبيب. فالشعر يعاني الاغتراب بالجسد والروح معا بعدما أبى العيش في وطنه تحت حكم الطغاة، ومن الأمثلة الأخرى لهذا التكرار قصيدة ( أقوال ( ص 49

 

قالَ الحرفُ الحكيمُ للنقطةِ الشاعرة:

تعالي إليّ!

فأجابت النقطة:

بل أنتَ تعال إليّ!

قالَ الحرفُ:

إنْ جئتكِ عشقتك

وأصبحتُ ساحراً،

وأنا لا أحبُّ السحر.

فأجابت النقطة:

إنْ جئتكَ ذبتُ فيك

وأصبحتُ نبيّةً،

والنُبُوّة لا تصلحُ للنساء!

 

ثمّ يقول في المقطع الثاني:

 

 قالَ شاعرُ الملوكِ الظَلَمةِ للشاعرِ الفقير:

انظرْ إليّ : لقد ضحكتُ من الملوك

وبنيتُ بدنانيرهم قصراً عظيماً.

 ويقول في بداية المقطع الأخير:

 قالَ الشاطئ للبحر:

أما تعبتَ من السفرِ طوال الدهور؟

أما آنَ لأمواجكَ الزرق أن ترتاح

بين يديّ قليلاً؟

 

      في قصيدة (أقوال) تكرر هنا فعل (قال) أربع مرات، وفي بداية كل مقطع  نرى الحرف ذكرا والنقطة أنثى تهب وترد صدى الحرف مثل ترديدها هل تحبني؟ أنا أحبك أيضا.  محاورة جميلة بين الحرف والنقطة، حيث تهيمن هذا الثنائية على النص وعلى النصوص الأخرى وهي خاصية تتسم بها معظم قصائد أديب كمال الدين، وهما قطبا التحول في الطاقة والدلالة ومنجم موضوعاته.

في قصيدة : صباح الخير على طريقة شارلي شابلن،  يقول في ص 60

 

صباح الخير أيّها الضحك.

صباح الخير أيّتها القهقهة،

أيّتها السخرية،

أيّتها السعادة،

أيّتها الطفولة المتهرّئة،

أيّها الفقر الأسود،

أيّها الغنى الأبيض.

صباح الخير أيّتها الدموع،

أيّها الجوع،

أيّها الحذاء المسلوق،

أيّتها البطالة،

أيّتها المغامَرة،

أيّتها المرأة الجميلة المعشوقة،

أيّها المُتشرّد العاشق.

صباح الخير يا أمريكا الأعاجيب،

أيّتها الرأسمالية البشعة،

أيّتها البروليتاريا الرثّة،

أيّتها الحريّة،

أيّتها العبوديّة،

أيّتها الأثداء والسيقان،

أيّها الحرمان.

 

     تبدأ القصيدة بمنادى وبتكرار خفيف يشبه إيقاظ نائم أو إيقاظ لوجوه عديدة ، يستمر الشاعر أديب كمال الدين في تكرار المفردات في حالة همسات شاعرية رائعة يمتزج فيها الحسي والمعنوي امتزاجا عضويا نابضا بالتوهج الجمالي، فأسلوب النداء له أهمية في هذه القصيدة  حيث تأكيد الانتباه ولفت اهتمام القارئ خاصة وأن المنادى هو كل أشكال السياسة والقهر والحرمان وبطريقة هزلية .. طريقة شارلي شابلن!

وتتكرر المفردة في قصيدة  (ما اسمكَ أيّها الحرف؟) ص 111

 

ما اسمك؟

قلتُ للحرفِ في مساءٍ شديد الظلام.

قالَ: بعد هذي السنين الطوال

والانتقال العجيب

من منفى إلى آخر

ومن شظيّةٍ إلى أخرى

بل من زلزلةٍ إلى أخرى،

وأنتَ لا تعرفني؟

قلتُ، كَمَن يتصنّعُ الهدوء،

لا.

قال:  كيف؟

ألم تكتب المئات من القصائد

لتصفَ الحرفَ وعرشه

وأساطيره وشموسه وفراته؟

ألستَ الذي يُدعى بالحُروفيّ

أو ملك الحُروف

أو النُقطويّ أو الطلسميّ؟

قلتُ : لا أدري.

قال: إذنْ خذْها منّي،

يا شبيهي المُعذّب بالموتِ والارتباك،

أنا الحاء

حلمكَ الباذخ بالحُبّ

أيّها المحروم حدّ اللعنة،

حلمكَ المُتشظّي بالحرّية

أيّها المنفيّ إلى الأبد،

وأنا الباء بسمَلَتك

أعني جمرتكَ التي لم تزلْ

شوكةً في قلبك،

وأنا النون: بئركَ الأولى

وعنوانكَ المستحيل،

وأنا السين:

طفولتكَ التي ضيّعتَها باكياً

مع دشداشتك اليتيمة

ودراهمك السبع على بابِ بغداد

ومحراب بابل.

قلتُ : وماذا بعد؟

قال:  أنا الألف:

جرحكَ الممهور بالدمِ والندم

وأنا النقطة:

نبضُكَ الذي يولدُ كلّ يوم

في ثوبٍ جديد

ورقصٍ جديد

وعُري جديد

وموتٍ  جديد

حيّرَ الأوّلين والآخِرين!

 

   لا يختلف اثنان على هيمنة ثنائية (الحرف والنقطة) على معظم شعر الشاعر أديب كمال الدين فهما مشروعه الحياتي والشعري .وقد تكررت المفردة وتنوعت فمن تكرار (قلت وقال) ليشيرا إلى زمنين ماضيين محاورة بين حروفه الأثيرة في سؤال وجواب، وفي إيحاء دلالي يرمز إلى حوار الشاعر مع نفسه للوصول إلى الحرية والخلاص مما يدل على التحسر على وطن فارقه . فالحوارية هي السمة المهمة في النص الشعري ومنبّه كبير للنص، ويبدو أن هذا التنوع قد أغنى الإيقاع الدلالي للقصيدة.

تكرار العبارة:

     لا يقتصر التكرار على حرف أو مفردة إنما إلى تكرار عبارة معينة في القصيدة ، وربما تكون هذه العبارة هي المرتكز الأساس الذي يقوم عليه البناء الدلالي للنص فضلا عن المهمة النغمية التي يؤديها التكرار وهذا النوع نجده حاضرا في قصائد كثيرة. يقول في قصيدة : ثمة خطأ، ص 7

 

(1)

ثمّة خطأ في السرير

وفي الطائرِ الذي حلّق فوق السرير

(2)

ثمّة خطأ في الأصابع

والشوق

ولحظةِ العناق

ثمّة خطأ في الجسد.

أعني في تفّاح الجسد...

(3)

ثمّة خطأ في الكأسِ والخمرة

وفي الرقصةِ والراقصة

(4)

ثمّة خطأ في السرِّ والقبرِ والمنفى

وما بين الساقين.

ثمّة خطأ في الطائرة

وفي مقصورةِ الطيار

والسنوات التي انقرضتْ فجأةً

دونَ سابق إنذار.

ثمّة خطأ في البحر

والجلوس قرب البحر

(5)

ثمّة خطأ يكبر

وآخر يتناسل

(6)

ثمّة خطأ في الحرفِ وآخر في النقطة

وفي ساعةِ الرملِ أو ساعةِ الصخر

(7)

وأخيراً

وباختصارٍ سحريّ

ثمّة خطأ يشبهني تماماً

مثلما يشبهُ البحرُ نَفْسه.

 

      تكررت عبارة : ثمّة خطأ (اللازمة) في بداية مقاطع القصيدة ، وهي القصيدة الأولى في الديوان، حيث كررها الشاعر عشر مرات، ليأتي هذا التكرار لتقوية الصورة التي تصف هذه الأخطاء ومكان خطورتها. ثمّة خطأ في الحرف وآخر في النقطة ، ليأتي إلى خلاصة تقول: (أخيرا/ وباختصار سحري/ ثمّة خطأ يشبهني تماما). فالنص لا يعالج خطأ واحداً وإنما مجموعة أخطاء، منها نشوة الخمر، نزعة التعري، الموت الأحمر، السنوات التي تتساقط من بين أصابع الشاعر، وهروبه من منفى إلى آخر، إلى آخر الأخطاء التي تكبر وتتناسل.

      يلاحظ أن الشاعر قد عمد إلى أن يأتي بهذه العبارة في بداية المقاطع ليدل على الخطر في ارتكاب الخطأ ، لتكون القصيدة من القصائد الجميلة في المجموعة. وفي قصيدة: سؤال مسدود ، يقول ص 58

 

(1)

كيفَ متّ

أنتَ الذي كانت الحياة كأسك المُفضّل

(2)

كيفَ متّ

أنت الذي اقترحتَ للعيدِ فجراً وأرجوحة

(3)

كيفَ متّ

بأيّ ليلٍ بهيمٍ سقطتَ كنجمةٍ تائهة؟

(4)

كيفَ متَّ،

يا فراتَ الروح

وسينما الطفولة

ومقهى الحلم،

لاذعاً مثل كأس عرقٍ مغشوش

في شمسِ آب؟

كيف متَّ، إذن،

وتركتَ جثّتكَ مرتعاً للطيورِ والكلاب؟

 

     يتوالى تكرار عبارة ( كيف متّ ) في القصيدة وفي بداية كل مقطع من مقاطع القصيدة الأربعة،  إذ  وظف السؤال ( كيف متّ ) بصيغة استفهامية وهذا التكرار الاستفهامي نسج منه الشاعر تجربته الشعرية، فصار الاستفهام هو المحور لهذا النص ، ولعل الاستعانة بالأسئلة وصيغ الاستفهام خاصية بدأت تبرز بشكل ملفت للنظر في قصائد هذا الديوان . وفي قصيدة واحدة هي: العودة من البئر، يمكننا إحصاء أكثر من عشرة أسطر تبدأ ب( لماذا ؟)  وهي صيغة الاستفهام تأتي أحيانا صادمة للقارئ وتثيره ، لكنها في الأغلب تأتي كمخرج متعدد الحالات، وهذا هو سر مهنة الشاعر (لماذا تركتهم يلقونني في البئر؟ / لماذا تركتهم يمزّقون قميصي؟ / لماذا تركتهم يمزّقون قميصي؟ لماذا لم تقلْ أيّ شيء؟). وهي تتحدث عن غدر إخوة يوسف وعن معاناته ، ويكرر الشاعر لماذا، ولماذا سكت يعقوب عن كل هذا الظلم. ويقول في قصيدة : المطربة الكونية  ص 101

1.

 لأربعين عاماً

كنتُ أشكو لواعجَ روحي

وارتباكها الأزليّ

إلى أغنياتكِ المُزهرةِ بالشوقِ والأنين

إلى صوتكِ الذي تحفُّ به

ملائكةٌ من الدمعِ والياسمين

إلى نيلكِ وشمسِ أصيله الغامضة.

2 .

لأربعين عاماً

كنتُ أشكو إليك

3 .

لأربعين عاماً

كنتُ أراقصُ صوتَك

 

     تكررت عبارة  (لأربعين عاماً ) في بداية مقاطع القصيدة الأربع، ولا نعرف ما سرّ تعلّق الشاعر أديب كمال الدين بهذا الرقم؟ فديوانه السابق كان عنوانه: (أربعون قصيدة عن الحرف)،  وقصائد هذا الديوان عددها أربعون قصيدة . ربما استخدم الشاعر هذا الرقم هنا ليشير إلى ذكرى مرور أربعين عاماً على تعرّفه على صوت الفنانة الكبيرة أم كلثوم، إلى صوتها العظيم، صوتها الذي تحفُّ به ملائكة من الدمع والياسمين، وأغانيها ذات الشوق والأنين، وإلى النيل وإلى أغنيتها الشهيرة (شمس الأصيل).

       إن ديوان (أقول الحرف وأعني أصابعي ( للشاعر المتألق أديب كمال الدين هو حقاً (منجم الموضوعات الشعرية التي ينتقيها بعناية فائقة معتمدا على حاسته الشعرية المرهفة (5). وهذا يرجع إلى الانفتاح الواسع لخيال الشاعر على استقبال الفنون ونزوعه الذاتي نحو اكتسابها.  وهذا التنوع والانفتاح هو الذي يبرز الطاقة الشعرية التي ينهل منه الشاعر، فثمة كثافة في قصائده متأتية من كون القصيدة عنده قطعة من حياة بكل ما فيها من مسرات ولوعات وغربة وبُعد.

إن أديب كمال الدين حرف منفرد في مسيرة شعراء الحداثة يعتمد التوسط في حداثته ولديه القدرة على التعدد، في هذا الديوان (أقول الحرف وأعني أصابعي) وفي دواوينه الأخرى، قد نهل فيه من أجناس إبداعية كثيرة كالموسيقى، المسرحية، القصة، الدراما، الفن التشكيلي والتصوير وما إلى ذلك، في بناء نصه الشعري، وبدرجة عالية من العشق والتركيز، تجعل من أديب صوتاً منفرداً، ليكون شاعر الحداثة والقصيدة الحية،  فلغة أديب لغة عملية: إيقاعات بسيطة وعذبة ذات مفردات يومية منتقاة وتجربة شخصية مصوّرة بصور تتلاحق في أسلوب حكائي ليس على لسان الحمامة والثعلب وإنما على لسان الحرف وحبيبته النقطة، و(إن الحرف لا ينتهي، وتأويله شعرا لن ينتهي ( كما يقول أديب نفسه (6).

.................................................................................

هوامش الفصل الرابع  

1- أقول الحرف وأعني أصابعي ، أديب كمال الدين ، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2011

2 - الشعر العراقي المعاصر ، عمران خضير ص  182

3 - قضايا الشعر المعاصر ، نازك الملائكة ، دار النهضة بغداد  ص  242

4 - التكرير بين المثير والتأثر ، عز الدين علي السيد ، ص 84 

5 - التكرار في الشعر الجاهلي ، موسى ربايعة

6 - منجم الموضوعات الشعرية ، عدنان حسين أحمد،  صحيفة القدس العربي ، لندن 7 نيسان 2011 

7-  متعة القصيدة تكمن في كشف أعماق شاعرها ، حوار أجراه ياسر عبد الباقي مع الشاعر أديب كمال الدين ، موقع جدارية 23 آذار 2009

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الخامس

 

 

 

جمالية  الصور القرآنية في مجموعة (مواقف الألف)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

      إن (الصورة الفنية هي قوام البنية العميقة لأي عمل أدبي ولا سيما الشعر منه، فمجمل أجناس الخطاب الأدبي تشترك في مبدأ التصويرية، ولكنها تختلف فيما بينها في استعمال الصورة كمّا وكيفا)(1).  لقد بات (الإيماء بالصورة الشعرية من أبرز خصائص الشعر المعاصر بوصفها فعالية لغوية تخرج اللغة من بعدها الإنشائي إلى بعد مجازي تصوري أو رمزي، بمعنى أنها علاقة لغوية متولدة (2).  والشعر الذي يعتمد الصور هو فعل نفاذ وفعل إضاءة بجوهر الوجود والصور بهذا المعنى (رؤية فكرية وعاطفية في لحظة من الزمن. ولعل هذا ما يرشحها لتكون ( من أخطر أدوات الشاعر بلا منازع) ( 3).

      لقد تعرضت الصورة الشعرية شأنها شأن العناصر الفنية الأخرى إلى تطور في المفهوم والدلالة، فقديما كانت تقف عند حدود الصورة البلاغية المجازية من التشبيه والاستعارة، ولكن مع انفتاح عالم الشعر على المشهد الثقافي للحياة المعاصرة أخذت الصورة تتنوع وتتسع لتصبح أكثر شمولا، فباتت تستمد مصادرها من منابع مختلفة ، ذلك أنها في سعيها إلى التوصيل والتواصل لن تكون عملا فنيا مكتفيا بذاته بل تثرى بالتفاعل والتأويل الذين يعززان دورها في بناء الثقافة (4)  . ولذلك لم يعد (الشاعر المحدث) يستقي من ينبوع ثقافي واحد أو من مصادر معينة كما الحال في العصور الماضية ، فقد عمد الشاعر إلى (التناص) مع الموروث المختلف أنواعه الأسطورية والشعبية والتاريخية والأدبية فضلا عن توظيف تقنيات الفنون المختلفة الأدبية منها وغير الأدبية للتخلص من أسر الغنائية والمباشرة وإثراء القصيدة بأساليب تستقيها من الفنون الأخرى (5).

     لقد استثمر الشاعر أديب كمال الدين جميع هذه الإمكانيات مستعينا بموهبته في تطوير مشروعه الشعري بدافع من هاجس المغايرة فكان خطابه الشعري حافلا بمختلف التقنيات الحديثة وأكثر ما يتجلى في مجال إنتاج الصورة الشعرية من مصادر شتى ، لما لها من دور فاعل في تحويل النبضة الفكرية إلى نبضة جمالية .

ومن خلال متابعة مسيرة تطور الصورة الشعرية في تجربة أديب كمال الدين يمكن رصد تحولات واضحة صاحبت عملية أنتاج الصورة ولا سيما تدرجها، ولعل توظيف (الشعراء المحدثين) لتقنيات الأجناس الفنية يعد أبرز منجزات الحداثة اليوم بحيث يتم تبادل كثير من عناصر هذه الفنون لإثراء النص الشعري ومده بدماء جديدة.  واليوم نحن مع حالة جديدة يتم فيها توظيف الصور القرآنية في النص الشعري، ونحن نعرف أن (التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن الكريم ، فهو يعبر بالصورة المجسمة المتخيلة عن المعنى الذهني والحالة النفسية وعن الحادث الممسوس ، والمشهد المنظور ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها مجسّما الحياة الشاخصة أو الحركة المتجددة فإذا المعنى ذهني هيئة أو حركة وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد. (6(

وسور القرآن الكريم من قصص ومشاهد القيامة هي نماذج إنسانية  المنطق الوجداني مضافا إليها تصوير الحالات النفسية ، وتشخيص المعاني الذهنية وتمثيل بعض الوقائع التي عاصرت الدعوة وهي تؤلف على التقريب أكثر من ثلاثة أرباع القرآن ، وكلها تستخدم طريق التصوير في التعبير، فلا يُستثنى من هذه الطريقة سوى مواضع التشريع وبعض مواضع الجدل ، بهذه الطريقة وظف الشاعر أديب كمال الدين الصور القرآنية في مجموعته (مواقف الألف) الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون ، بيروت 2012 عبر انفتاح النص الأدبي على النص القرآني  ، وهي مناظر شاخصة من صور وظلال ، وإن مصادر الصور الشعرية لهذا المجموعة هي من النبع القرآني بكاملها حيث تتنوع الصور في معظم قصائد المجموعة وقد استعرضها في (55) موقفاً موزعة في قصائد قصيرة وكل هذه القصائد هي صور تستمد من آيات القرآن المعنى والنص والتضمين تتوافر لها الصورة والحركة والإيقاع. وبداية كل القصائد كانت هناك لازمة تصدرت قصائد المجموعة كلها (أوقفني في موقف...  وقال). لقد كانت هذه الكلمات مفتاح هذه النصوص وإضاءة لكل صوت امتلك إشعاعا خاصا للإيحاء بمنابع وآيات القرآن وكان ذلك هو يوم الوقوف والمقصود به هو يوم الامتحان ، كما أنه قد افتتح المجموعة بآيات من السور القرآنية ، وهذا يعني أن النبع قد استقاه من سور القرآن الكريم . ومن القصائد التي ذكر فيها الجنة مثلا قصيدة (مواقف الألف) ص12

 

 كيف سأسقيكَ من أنهارٍ من عَسلٍ مُصفّى،

أنهارٍ لذّة للشاربين

لا فيها لغوٌ ولا تأثيم؟

وكيفَ ستجلس في مقعَدِ صدْقٍ عندَ مليكٍ مُقتدر؟

كيفَ وقد قالَ مَن قال:

يا ليتَ قَومي يعلمون.

فكيفَ سيعلم بكَ قومُك

وهم يجهلون نجمَك؟

 

وفي المقطع الثاني يواصل:

 

ثمَّ انتبهَ إلى دمعتي وقال:

ستصعدُ يا عبدي درجاً،

كلّ درجةٍ بألف،

وكلّ ألفٍ بمائة،

وكلّ مائةٍ بكفّ،

وستحتار أيّها أقرب.

 

في هذه النص الذي يعتبر من أطول القصائد في المجموعة تعطي الصورة إيماءاتها تنوعا ويأتي استدعاء مفاصل الجنة والدعاء والمصير الذي يلفّ العبد حين لا يقود شراعه مبصرا ، وهو (الذي أقرب اليه من حبل الوريد) حتى ينتهي في نهاية معروفة:

مصيري إلى التراب

اذ خلقتَني من طين.

 

ولئن كان أول زاد الأنبياء هو الإيمان بالله ، فإن الشاعر يستعين بكل مفردات وتعبيرات الآيات القرآنية : خلقتني، لا مغيث لها سواي، لذة للشاربين وغيرها من المفردات. وفي نص (موقف  المهد) يقول في ص 19

 

أوقَفَني في موقفِ المَهد

وقال: وضعتُكَ، إذ خلقتُكَ، في المَهد.

وكانَ مَهدُكَ على الماء

يتنقّلُ من نهرٍ إلى نهر

ومن بحرٍ إلى بحر،

والشمسُ تحيطُ به

ثُمَّ تغربُ إلى سوادٍ عظيم

والنجمُ يحيطُ به

ثُمَّ يغرقُ فيه شيئاً فشيئاً،

وأنتَ في المَهد

تنظرُ وتبكي : إلى أين؟

وقلبُكَ فارغٌ كفؤادِ أمّ موسى.

 

تتداعى في هذا النص الصور القرآنية للمهد بمناخ اليأس والتشظّي ، حيث تتجسّد مشاهد قصة  موسى (عليه السلام) حين وصل أخيرا إلى حضن أمه لتطمئن به وعليه . في النص صراع ، صراع الطفل مع البحر ومع الموت. وهناك قلب الأم المتلهف ينتظر ويتأمل ويدعو من الله أن ينقذه:

لتتساءل وتصرخ إلى أين ؟

فهو- أي الشاعر- قد رسم الجدار الفاصل في صورة شعرية بين الحركة والجمود وفق النص القرآني حتى يركب الشاعر غمار الإبحار في نقطة النون.

ويذكر أديب (موقف الصبر)  - ص  24 -  ومن سار عليه:

 

أوقَفَني في موقفِ الصبر

وقال: الصبرُ امتحانٌ عظيم.

فماذا ستفعلُ يا عبدي؟

أعرفُ أنّ كلماتكَ سترتبك

وينهار معناها

مثل جبلٍ من الثلج

وستدمع عيناكَ مثل طفل ضائع

في السوق.

أين منكَ إرادة يوسف الصدّيق؟

وأين منكَ حلم يعقوب

وقد ابيضّتْ عيناه من الحزنِ فهو كَظيم؟

وأين منكَ، قبل هذا، صبر نوح وإبراهيم وأيّوب؟

وأين منكَ صبر مَنْ أرسلتُه رحمةً للعالمين؟

وأين منكَ صبر الأوّلين:

صبر عليّ والحُسين؟

 

      إن التكيّف الدلالالي والإيمائي الذي قدمته القصيدة جعل منها مجالا رحبا لمعرفة ما يلامس القلب من الحقيقة ويكشف ما في جوف القصيدة بطريقة ممتعة ومشوقة مستعينا بكلمة (الصبر). وهي كلمة ترمز إلى امتحان كما ذكرت في القرآن، حين امتحن الله سبحانه وتعإلى نبينا (أيوب) وقد رسمت الصورة على لبس قناع (أيوب) بما انطوى عليه من مستوى إيحائي مواز لنقل التجربة الشعرية، استنادا إلى ما جاء في كتاب الله العزيز:  وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيّوبَ إِذْ نَادَىَ رَبّهُ أَنّي مَسّنِيَ الشّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مّعَهُمْ رَحْمَةً مّنّا وَذِكْرَىَ لاُوْلِي الألْبَابِ . سورة ص، الآيات 41 و42 و 43

والتردد الصوتي:

أين منك صبر ...؟. أين منك صبر... ؟

الذي منحها بمقابل التأكد والإرادة وجعله في امتحان حقيقي وهكذا يستقي أديب كمال الدين من هذا النص ما يناسب ما أراده فهو يشير إلى حزن ودرس الحادث دون الاقتباس المباشر منها .

 

أوقَفَني في موقفِ الحرف

وقال : الحرفُ حرفي والنقطةُ نقطتي.

فكيفَ لكَ أنْ تفهمَ سرَّ خُلودي

وأنتَ الذي يحملُ الموت

في نبضةِ القلب؟

وكيفَ لكَ أنْ تتجلّى في ملكوتي

وأنتَ الذي يبكي على جرعةِ ماءٍ

ورغيفِ خبز؟

وقال:  الحرفُ حرفي

ستجدهُ في كهيعص

وألم وطه ويس وق ون.

 

   لا شك أن هذه الأوصاف للحرف تحفّز المخيلة لرسم صورة أقرب إلى البصر منها إلى الإذن. وكأننا نبصر شخصية الحرف ماثلة أمام أعيننا في لحظة القراءة ولأن قراءة الحرف في القرآن لها دلالة كاملة وليس حرفا مجردا، فالصورة الفنية في شعر أديب كمال الدين هي من التصوير الذي لا وجود له فعليا في العالم الخارجي، بل قد يكون الشاعر استعارها من المظاهر الخارجية مشهدا بالحدس والرؤيا فيصير من خلال عواطفه ومعاناته. وهذه الصور تفيض عن الجمال المبدع الخالق وهو يتجلى في ملكوت الله . ونراه يصوّر الروح في (موقف الروح)  ص 41 ، وهي السرّ العظيم:

 

 أوقَفَني في موقفِ الروح

وقال: هوذا سرّكَ الأعظم يا عبدي.

فأنتَ لن ترى الروحَ حتّى تموت

والروح لن تراك.

لكنّكَ ستتخيّلُ الروحَ وردةً تارةً

ونهراً تارةً أخرى.

وتتصوّرها حلماً تارةً

ووهْماً تارةً أخرى.

وتناديها ملاكاً تارةً

وشيطاناً تارةً أخرى.

وترسمُها سواداً خالصاً تارةً

ووميضاً ساطعاً تارةً أخرى.

 

      تعنى هذه الصور ما يمتاز به شعر أديب كمال الدين من كثافة مقدما شيئا جديدا يستوحيه من صورة مبتكرة أو مستوحاة من نبع  القرآن الكريم وتصوير موهبته وقدرته حيث يجسّد مشاعر حقيقية كاشفا عن علاقات جديدة بين عناصر الصورة وأفكار ومضامين جديدة تستنطق لغة القصيدة. ويصوّر في  (موقف نوح)ص 44 - سفينة نوح وكيف صنعها الخالق، وحمل فيها نوح من كلّ زوجين اثنين:

 

أوقَفَني في موقفِ نُوح

وقال: يا عبدي

أرأيتَ إلى صَبرِ نُوح،

وعذابِ نُوح،

ومحنةِ نُوح،

وسفينةِ نُوح؟

أرأيتَ وقد قامَ بالقومِ ألفَ سنة

إلّا خمسين عاماً

 

 ثم يختتم النص في ص 45:

 

أرأيتَ كيف حملَ نُوح الأمانة

وَصَبرَ وكانَ صبره كجبلِ أُحد

وعبرَ الطوفان

والناس غرقى

في يومٍ كأنّه يوم القيامة؟

 

     لقد صوّر عاقبة مَن عصى وعذابه تاركا للقارئ استكمال الصورة التي ينقلها إلى فكره . وقد أفاد من قصة نوح كما تضمنها القرآن وشكّل فيها صورة جديدة مستمدة من صور القرآن حيث ضمّن القصة مع الإشارة الكاملة إلى تفصيلاتها . وكلها تبين بعض أوجه التناص مع الخطاب القرآني عبر سفينة نوح وكيف حُملت أمته فيها، عبر الطوفان (في يوم كأنّه يوم القيامة)، وكان يوم نصر نوح على القوم الظالمين .وقد تعامل مع المنبع الديني برموزه وشخصياته كقوى مؤثرة كما في قصيدة (موقف عيسى) ص51

 

 أوقَفَني في موقفِ عيسى

وقال: يا عبدي

أرأيتَ إلى مَن كلّمَ الناس

في المهدِ صَبيّاً.

أرأيتَ إليه وهو يقول:

سلامٌ عليَّ يومَ ولِدتُ

ويومَ أموتُ

ويومَ أُبعَثُ حيّاً.

أرأيتَ إليه

وهو الذي أحيا الموتى

بإذني،

وأبرأ الأكمهَ والأبرصَ بإذني،

فأنزلتُ إليه مائدةً من السماء

 

     يصوّر الشاعر قصة المسيح ويربطها بما يعانيه وهذه تشكّل عناصر في الصورة الشعرية وتعبير عن رموزه من خلال هذه الرموز استخدم رمز سيدنا المسيح (عليه السلام)  كدليل العذاب والتعذيب والآلام التي يواجهها الإنسان المعاصر ، ويقابله في ذلك معجزات النبي عيسى التي سخّرها الله له . ونحن هنا أمام مشهد آخر هو أمه (مريم البتول)  حين يقول:

 

وهو الذي حملتْ به مريم

ليكون محبّةً للعالمين.

 

وقد أنار الشاعر رحلة المصطفى الكبرى في قصيدة ( موقف المصطفى) ص 53

 

أوقَفَني في موقفِ المُصطفى

وقال: أرأيتَ إلى مَن رأى

مِن آياتِ ربّهِ الكبرى؟

أرأيت إلى مَن أرسلتُه رحمةً للعالمين،

وختمتُ به الأنبياءَ كلّهم والمُرسَلين،

وجعلتُ له الأرض طهوراً ومَسْجِداً،

وجمعتُ على مائدته

قدحَ الصبرِ إلى قدحِ النصر،

وماعونَ المحبّةِ إلى ماعونِ العِلْم،

وشرابَ الشفاعةِ إلى شرابِ الكوثر؟

أرأيت كيف أسريتُ به

إلى حضرتي الكبرى

مِن سماءٍ إلى أُخرى،

فرأى مِن النورِ ما رأى،

فكانَ قابَ قوسين أو أدنى؟

 

   النص بانبساط فرض نفسه عنصراً دينامكياً يشتقّ صفاته من رفعةِ النبي المصطفى (ص) ليطل على حياة أسمى وأنقى.  وقد انتظم النص في خط متناسق تواصل مع مسار العنوان الذي خضع لنسق عفوي، وهو يتحول من بيت إلى بيت يحكي الخطاب القرآني لصفات وبعض من سيرة المصطفى والخلاص الذي جاء به إلى الناس وكيف أسرى به الله ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ورأى ما رأى في حضرة الحي القيوم.

     إن عملية الإبداع في حقيقتها أشبه بالوجد الصوفي، تظهر من خلالها أسباب التغاير الرؤيوي بين ما هو مرئي ظاهري وما هو غير محسوس، لأن الفن الصوفي والدين يستمدان من مشكاة واحدة ذلك القبس العلوي الذي يملأ قلب الإنسان بالراحة والصفاء والإيمان. وقال الشاعر أديب في قصيدة (موقف العزة ( ص 61

 

 أوقَفَني في موقفِ العِزّة

وقال : أنا العزيز يا عبدي

والعِزّةُ لي وحدي.

فمَنْ نازعني فيها

ألبستُه تاجاً من الذُّلّ

وألقيتُ عليه ثوباً مِن الهوان.

وقال : إنّ أكبرَ اسمٍ لك

هو عبد الله

وأصغر اسمٍ لك

هو عبد الله.

 

   وقال في قصيدة ( موقف الباب ( ص 65

أوقَفَني في موقفِ الباب

وقال: البابُ أبوابٌ يا عبدي.

هناكَ بابٌ للفجر،

وبابٌ للمغرب.

ثُمَّ بابٌ للدمعة،

والصرخة،

والسكّين.

ثُمَّ باب السؤال،

والمُحَال.

ثُمَّ باب الخَمرة.

ثُمَّ باب التوبة.

ثُمَّ باب الجوع،

والفقر،

والحرب.

ثُمَّ باب الموت.

ثُمَّ باب الحِساب،

فالمَسرّة،

فالحبيب.

ثُمَّ باب النجاة.

ثُمَّ باب السَكينة.

ثُمَّ باب السَلام.

ثُمَّ باب الشوق.

ثُمَّ باب الانتظار.

ثُمَّ باب السأم،

فالعدم،

فالعبث،

فالهلاك.

 

       الذات الالهية هي مركز الكون حيث يدور كل شيء في فلكها. وما ذات الشاعر إلا ظله الذي يمتلك تميزا وخصوصية ينكشفان عن طريق المعادلة الآتية، الله ... الشاعر.... القصيدة . فتمثل الوعي الغيري يعمل على تدعيم أجواء القصيدة بالقوة الروحية فتتبلور ملامحها بالإمساك بالعوامل الملهمة وهذا ما عمل على كسر نمطية الولادة. وعلى أوتار المأساة الكونية يعزف الشاعر أديب كمال الدين مناجاته مع الرب، والقوة في النص تجتمع مع الرحمة ، فحينما امتلأت الأرض جورا وظلما جاء الأمر الإلهي بالنهاية خلاصا. وقال في قصيدة ( موقف الماء ( ص 69

 

أوقَفَني في موقفِ الماء

وقال : قِفْ على الماء.

فقد جعلتُ من الماءِ كلَّ شيءٍ حَيّ.

فَوقفتُ.

ثُمَّ قال : امشِ. فمشيتُ.

مشيتُ حتّى الخطوة الثانية

وفي الثالثةِ غرقتُ.

فمدَّ لي يداً من نور

ثُمَّ قال:  امشِ. فمشيتُ

حتّى وصلتُ السادسةَ ارتبكتُ

وفي السابعةِ سقطتُ

حتّى هلكتُ أو كدتُ.

فَمَدَّ لي يداً من قاف

وقال:  امشِ. فمشيتُ.

وفي الخطوةِ الثلاثين

غرقتُ وطافَ جسدي فوقَ الماء.

فقال : انجُ. فنجوتُ.

وفي الخطوةِ الأربعين زُلزِلتُ

حتّى عبرَ جسدي بحرَ الظلمات

قِطَعاً قِطَعاً.

 

     النص مليء بالطمأنينة ، إذ ولد الماء طائرا جميلا دمجه الشاعر في الوعي، وكان هذا مفترق الطرق بين النزوع نحو الرومانسية والخيال وولوج أبواب الواقع. إن الفعل (امشِ ) مارس سطوته على النص، إذ يقدم ضمن إطار الإلهي في خلق الإحساس بفقدان السيطرة بالحياة من خلال فقد الأشياء الجميلة فيها، ويستعلي النص طقوسا تصعده باتجاه الإفادة من صور القرآن الكريم. وفي قصيدة : (موقف الغرق) ص 71 قال :

 

أوقَفَني في موقفِ الغرق

وقال:  يا عبدي

كيفَ تنجو مِن الغرق

والبحرُ قد غرقَ فيك؟

 

يقوم النص على تفاعل  شعريته من خلال تفاعل مجموعة الجزئيات، حتى يتوصل المتلقي إلى شبكة تغذي بعضها بعضا بينهما الحوار ، بعد أن قاد الشاعر فكرة الإنسانية إلى الانكفاء أو الغرق ،  فالحوار أفضى إلى صناعة رموز إنسانية وروحية. وقال في قصيدة ( موقف الأنا ( ص75

 

أوقَفَني في موقفِ الأنا

وقال: يا عبدي كم أذلّتْكَ الأنا!

أناكَ هي ثقبُ روحِك

وأناكَ هي ثقبُ جهنم في جسدِك.

هي مِن يُفسد فيكَ ما خلقتُه

في أحسن تقويم

لتردّه في سرعةِ البرقِ إلى أسفل سافلين.

 

    اعتمد النص في أفق الأنا مع تركيز الشاعر على مزايا ومساوئ الأنا من خلال روحه وتقويمه مع التركيز على الذات الإلهية ، والنص ينبع من ترسيخ العلاقة بين الشاعر والأنا ودلالة الأنا هنا (ثقب في الروح) بل جسدها ، بعبارة أخرى هي (ثقب في جهنم).  وكل مَن يقول: أنا .. أنا .. يفسد خلقته بل أخلاقه الذي خلقها رب العالمين في أحسن تقويم ، وهي استعارات لصور من صور القرآن الكريم من خلال عيني شاعر يمتاز بقوة تشكيل الحرف لصوره الشعرية التي تعتمد على تحريك اللهب الهائل لمفرداته الثرية بمفاصل الحياة. وقال في قصيدة ( موقف البياض ( ص 76

 

أوقفني في موقفِ البياض

وقال: أدهشكَ البياضُ يا عبدي

أم أدهشكَ الحرمان؟

أدهشكَ المشهد

أم أدهشكَ اللون؟

أدهشكَ الدفء

أم أدهشكَ الإصبع؟

أدهشكَ الدمع

فكنتَ على سجّادتي تبكي؟

أم أدهشكَ المصير:

أنتَ كريشةٍ تطير؟

 

       اللون الأبيض يتغلغل في أعماق النص حتى يصبح كيانه المجسد في درجة الصفر، ويكتسب حضورا استثنائيا في ولادة الدهشة  حيث يشتغل في ضدية مع الليل . وقد كان اللون الأبيض هنا دلالة على الخير ، ولها  - أي الدلالة - تشكيل لوحة لونية تثير الدهشة من اللون إلى الدمع إلى المصير. وقال في قصيدة  (موقف السلام ( ص 88

 

 أوقَفَني في موقفِ السَلام

وقال: اعبرْ حاجزَ الظُلْمة،

وهو بسَبْعَةِ أبْحُر.

فَعَبرتُ.

ثُمَّ قالَ: اعبرْ حاجزَ الوحشة،

وهو بسَبْعَةِ أبْحُر.

فَعَبرتُ.

ثُمَّ قالَ: اعبرْ حاجزَ المرأة،

وهو بسَبْعَةِ أبْحُرٍ أُخرى.

فَعَبرتُ.

ثُمَّ قالَ: اعبرْ حاجزَ الناس،

وهو بثلاثةِ أبْحُر.

فَعَبرتُ.

ثُمَّ قالَ: اعبرْ حاجزَ المرآة،

وهو بثلاثةِ أبْحُرٍ أُخرى.

فَعَبرتُ.

 

    النص ينير مفهوم السلام الإنساني، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال تفاصيله وهو يعبر حواجز الظلمة والوحشة والمرأة. .والعبور يتم من خلال أكثر من بحر ، وبالذات سبعة أبحر ، وكذلك يعكس النص إحساسا بمفردات رقمية تتسع فضاءات دلالاتها فتنطلق سيلا من التأثيرات تتساوق مع هموم الشاعر الذاتية في صورة روحية وهو ما يبرر احتلال كل من الشاعر والقصيدة مركز السلام في بنية التراكيب . العبور يمارس عادة في اختراق حواجز عصية ومن بحر إلى بحر وبشكل متسلسل كأنه حكاية من حكايات الوحشة والظلمة، ومن أراد عبور البحر لا بد أن يجتاز هذه العوائق: عوائق معنوية أو مادية متخيلة في صور وتداعيات بارزة.

إن جذور الصورة تجد معادلها من خلال توظيف الصور القرآنية في سلسلة أعمال الشاعر المبدع أديب كمال الدين التي تسهم في تسليط الضوء على الجذور، كما تستأثر تجربة هذا الشاعر برسم خارطة النص بالتشكل مع فضاء الصور القرآنية، وقد عبّر عنها في مجموعة شعرية سابقة هي (نون)، ( التي تجمع بين الدلالي والفني تغري الشاعر في الإبحار في بحر النون والحرف المبارك بالسورة القرآنية.. ولم يكن الشاعر ليحتفي بها لولا يقينه من كونها تمثل امتدادا لحروف أخرى كان لها الحظ الأوفر في بحر اللغة حيث يركب مسيرة الحرف المحفوفة بالأعاصير، متخذاً النبّوة شعاراً والمعجزة شراعاً والنون عنواناً  (7).

لقد استمدت أهمية هذه المجموعة من مضمون الآيات والقصص القرآنية وقد اتخذها الشاعر منطلقا لخوض تجربته في هذا الديوان لتوحي برحلة هي خليط وتنوع من ألوان وأجناس السور وردت مؤطرة بتعبير القرآن الكريم تستثير الذهن من خلال لفت الانتباه إلى جمالية الصور القرآنية بالعبارة الشعرية مع استثارة الفكر وتحفيزه للتأمل في خلق الله

كما أن الشاعر  أديب كمال الدين  قد نبّه إلى جمالية اللوحة القرآنية وما تثيره من إحساس بقدرة الخالق سبحانه في تعدد الصور التي خلق الله منها سلالات كثيرة. وقد تعمّد الشاعر إلى التعدد في الإشارات إلى كل صور القرآن ولو بقصائد قصيرة وهو تنوع مقصود به التشكيل الحياتي للشعر وربطه بالصورة الواردة بالآيات الكريمة . وقد رسم في قصائد هذه المجموعة المتميزة أجواء السور القرآنية من صفة التنوع الشعري من خلال التنوع الدلالي أو من خلال الرمز.  وإن كل المقاطع الشعرية تتراكب مع سير المعاني القرآنية عبر سرد حكائي مفتوح كما يسرد العناصر بإيحاء بسيط في صور شعرية متجسدة ومتخيلة بديعة برع فيها بتلقائيتها وعفويتها هي من جعلت النص تحفة أدبية، وقد مكّن القارئ من ان يتمتع بهذا الحس الديني لدى الشاعر خاصة مع التقائه بالشمولية إضافة إلى إيقاعه الداخلي .

انها عملية تنقيب واكتشاف في عمق الوجود للألف من دون غيره ولعل هذا قادم من:  (إنْ تقدّمتَ حرفاً /وأنتَ حرفٌ / تقدّمتُ منكَ أبجديةً / وقدّتك إلى أبجديةٍ من نور.).

       في النهاية يمكننني القول: إن هذه الصور الماثلة لدينا من ديوان (مواقف الألف) تكتمل فيها مدرسة أديب كمال الدين الشعرية ، وعلى منعطفات الرؤى الشمولية فلقد نجح في بناء خلايا الشعر من مفردات القرآن الكريم أو التي لها طابع الأفق الديني ، فهو شيّق بلغته ممتلئ في داخله ، يسأل في دهشة وبراءة: متى نقف جميعا  يوم الوقوف العظيم؟

تحية للشاعر وهو يرسم الصورة من منظور جمالي يتخذ من الصور القرآنية رسائل تبليغ لهذه العقيدة ، وتحية للذي كتب (مواقف الألف) من حضرة الحرف إلى سدرة المنتهى .

.......................................................

 

هوامش الفصل الخامس  
 1 - الصورة والثقافة والاتصال، محمد العبد ، ص 134

 2 - جماليات المكان ، غاستون باشلار ، ترجمة غالب هلسا ، ص 34

 3- الصورة في التشكيل الشعري ، منشورات وزارة الثقافة ، بغداد، سمير الدليمي ، ص 87

 4- المصدر نفسه،  ص 134

5 - دير الملاك ، محسن اطيمش ، منشورت وزارة الثقافة، بغداد ص 32

6 - التصوير الفني في القرآن ، سيد قطب

7 - حوار القرآن والشعر في نون أديب كمال الدين ، د. حياة الخياري، الدار العربية للعلوم ناشرون ، بيروت 2012

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل السادس

 

 

جمالية الرمز في  مجموعة (الحرف والغراب)

 

 

    (الرمز طريقة في الأداء الأدبي تعتمد الإيماء بالأفكار والمشاعر وإثارتها بدلا من تقريرها) (1)  وإن ممارسة الترميز سر الشعر العربي وسحريته مفجرا عبره ينابيع الخيال ، وإن  الرمز  هو  تقانة تعبيرية ذات دلالة واسعة محركة لمعاني القصيدة وتعكس قدرة خيال الشاعر على الابتكار والتوظيف،  فالشاعر عندما يوظف الرمز في شعره لا بد أن يعتمد على  المخيلة الشعرية القادرة على ربط ذلك الرمز الموظف مع المضمون الذي أراد أن يحمل النص وعلى هذا الأساس فالرمز ليس تجريدا أو شيئا ذهنيا بل بينه وبين الموضوع المعين علاقة تداخل وامتزاج.

      لقد أوجد الشاعر المعاصر في التعبير الرمزي ما يحقق له الطابع الدرامي في عمله الشعري ، وإن الفن بما فيه كتابة النص الدرامي يقوم على اعتماد لغة رمزية  تلك اللغة التي يلجأ اليها الشاعر المعاصر عندما يشعر أن الواقع اتخذ شكلا استثنائيا لا يحتمل التعبير عنه على وفق المنطقة التقليدية وعلاقته الرتيبة التي لا تتفق ومشاعر الفنان المكثفة الحادة فعندئذ يكون الرمز ضرورة لابد منها .

       نحن نعلم أن الحروف والنقاط امتياز معروف  لتجربة أديب كمال الدين وتفرده وواسطته للارتقاء بتجربته المميزة والغور في ملكوته المقدس ولعل ما يميز تجربته على الرغم من حروفيتها هو اهتمامها بالمعنى وتناولها لقيم الحياة الإنسانية ونفاذها إلى جوهر الوجود .

       استخدم الشاعر أديب كمال الدين الرمز في شعره منذ أكثر من أربعين عاما ووظف كلماته وحروفه أكثر ما وظف  إلى مجموعة الرموز الأخرى  تمثلت في شخصيات متعددة تنوعت وتعددت، فكانت هناك شخصيات مثّلت رموزا من التراث والأدب والفن والتاريخ وغيرها . وقد لجأ شعراء العصر الحديث إلى استدعاء الشخصيات التراثية لتوظيفها في عملية صنع الشعر وشكلت ظاهرة مهمة اسهمت في تطوير بيئة النص الشعري للاقتراب من الطابع الدرامي ،  وإن الشخصيات المستمدة من التراث  تحمل أبعادا ومرجعيات نفسية ذلك أن الشاعر (إنما يغذي عواطفه وعقله على مآثر الماضي(  . ونظر الشاعر المعاصر إلى هذه الشخصيات من خلال فهم مناسب لها، ليس فقط  كأسماء وصور بل كجوهر وروح ومواقف بحيث أدرك فيها أبعادها المعنوية .

    استمد الشاعر أديب كمال الدين العديد من الشخصيات التراثية العربية والأجنبية وتنوعت بين شخصيات دينية وأخرى تأريخية وشعبية وفنية ووظفها توظيفا رمزيا خدمة للمنحى الدرامي .ومنها توظيف شخصيات مجموعته ) الحرف والغراب (الصادرة عن الدار العربية  للعلوم. بدأها في قصيدة: ( الغراب والحمامة)  فقد وظف رمزا دينيا إيجابيا هو شخصية  النبي نوح  عليه السلام، إذ عزز بها موقفه الشعري وفسر بها خواص هذه الشخصية التاريخية الدينية ...يقول في القصيدة:

 

1 .

حينَ طارَ الغرابُ ولم يرجعْ

صرخَ الناسُ وسط سفينةِ نوح مرعوبين.

وحدي - وقد كنتُ طفلاً صغيراً-

رأيتُ جناحَ الغراب،

أعني رأيتُ سوادَ الجناح،

فرميتُ الغرابَ بحجر.

هل أصبتُه؟

لا أدري.

هل أصبتُ منه مَقْتَلاً؟

لا أدري.

لماذا كنتُ وحدي الذي رأى

سوادَ الغراب

ولم يره الناس؟

لا أدري.

 

      الشاعر يشير إلى  شخصية النبي نوح (ع)  في مسيرة الطوفان التأريخية المعروفة  التي بدأت بالطوفان،  إذ أخبر الله تعإلى نوحا عليه السلام بالعلامة على بدء الطوفان ، بعد  أن يخرج الماء من التنور ، فلما حصل ذلك دخل نوح ومن معه السفينة ، وأخذت المياه تتفجر من الأرض ، ثم سارت السفينة فوق الماء ، بعد أن دمر الطوفان كل شيء، الطوفان الذي  غيّر حياة البشرية.

      في كل صور القصيدة  وحركتها يكون الشاعر : الطفل هو الذي يرى ويتذكر ويحلم ويقدم لنا تفاصيل ما حدث. ويظهر لنا في القصيدة مستويان من الرمز:  المستوى الأول للرمز الحقيقي أي الظاهر (الطفل:  الشاهد)،  والمستوى الثاني هو المستوى الباطني التجريدي وهو (الطوفان).

    وإذا كان الشاعر قد استخدم الحمامة رمزا للحياة والسلام ، رمزا باحثا عن الحياة والسلام، فإنه استخدم الغراب رمزا للشخصية  السلبية.  كان الغراب هو الموت وطارد الحياة . إذ أن الغراب في مخيلة الناس  هو السواد والشؤم والحداد . ومن صراعهما قدّم الشاعر رؤيته للحياة فهو الذي عرف المحنة الكبرى واكتوى بدمها ورمادها . الشاعر الطفل يسأل : (لماذا كنتُ وحدي الذي رأى  سواد الغراب؟).

 كما وظف الشاعر أديب كمال الدين عددا من الشخصيات التاريخية في قصائد الديوان، فأضاف بذلك على النصوص موضوعية أكثر وأخرجها من دائرة المشاعر والأفكار الذاتية ،  والشاعر عندما يوظف الشخصية في شعره إنما يوظف التوافق بينها وبين واقعه المعاصر الذي يريد التعبير عنه من خلال تلك الشخصية . ويتضح ذلك في قصيدة ( شهرزاد ( الشخصية التأريخية في كتاب  ألف ليلة وليلة . إذ يخاطب شهرزاد :

 

ستحكين الحكاياتِ - ما أجملها! -

إلى شهريار المُحدّقِ في شفتيّكِ مدهوشاً.

ستدّعين أنَّ حروباً عظيمةً نشبتْ،

وسفناً محمّلةً بالذهب

غرقتْ في أعالي البحار،

وملوكاً صُلِبوا ثُمَّ قاموا من الصلب،

وشطّاراً حكموا أزقّةَ بغداد،

وعشّاقاً جنّوا من العشقِ والحبّ،

ونساءً مارسنَ السحرَ والجنس

في النهرِ وقت المساء ووقت الشموع.

ستدّعين أنّكِ كنتِ مع السندباد

في كلِّ مركب.

وكانتْ مفتّحةً لكِ ولبناتِ جنسكِ الأبواب،

مفتّحةً لكِ ولهنّ

ولرغابتهنّ ومكائدهنّ وألاعيبهنّ.

سيذهلُ شهريار الملكُ بحكاياتِكِ الهائلة

وهو الذي يتأمّلُ كلّ ليلة

في شفتيّكِ ثُمّ في عنقِك

ليرى كيفَ يكونُ موضع السيفِ فيه!

سيذهلُ وأنتِ تقودينه مثل أعمى

إلى خارجِ مملكةِ الوهم

ثُمّ إلى داخلِ مملكةِ الوهم.

 

         تمثل القصيدة نوعا من العصيان لواقع العصر والمجتمع ورغبة في التحرر ومحاولة من الشاعر لعملية إنقاذ شاملة ، مثلما تمثل حكاية المرأة التأريخية التي أذهلت الملك شهريار  بحاكاياتها المثيرة والتي بفضلها أنقذت حياتها، وأنقذت حياة النساء أيضا، حكايات عن شطّار بغداد وحكايات الحروب في أعالي البحار ، حكايات السندباد الملأى بالتشويق،  بعد أن كان الملك شهريار ينام في كل ليلة على قتل امرأة قبل أن يلتقي بشهرزاد. لقد وظف الشاعر أديب كمال الدين المرأة  مبينا كيفية التعامل مع الرجل وخاصة  الملك شهريار  عندما حولته إلى طفل ينام كل مساء على حكاياتها المسلّية وهي محاولة لسحب  صفات تلك الشخصية على طواغيت العصر المستبدين . شهرزاد رمز المرأة الذكية التي روّضت شهريار الملك الذي سيذهل بحكاياتها وينام على تفاصيلها العجيبة ناسيا مأساته . وجد أديب كمال الدين هذا التعبير الرمزي دلالة أعمق وأشد من ذلك التعبير المباشر .

وتُعد قصيدة (لوركا (نموذجا للطريقة الأخرى التي انتهجها الشاعر موظفا شخصية  (فرانكو ( الملك الإسباني الذي قتل الشاعر لوركا:

 

سيقتلكَ فرانكو

أو أتباعُ فرانكو

أو رصاص فرانكو.

وستموت

بل ستشبعُ موتاً

أنتَ الذي لم تشبعْ من الحياة

مثلما الحياة

لم تشبعْ منك.

2 .

سيبكي عليكَ القَتَلة

وأشباهُ القَتَلة

وأعداءُ القَتَلة.

سيبكي عليكَ، إذنْ، إخوتُك:

إخوةُ يوسف

مثلما سيبكي الشيخُ الكبير

والمرأةُ التي جُنّتْ بحبّك

والنساءُ اللواتي قطّعنَ أيدهنّ.

حتّى الذئب سيبكي عليك!

     يحاول الشاعر أديب كمال الدين تحليل شخصية فرانكو من خلال شخصية الشاعر لوركا . إن فرانكو كان من أعداء الثقافة والمثقفين عندما قتل أتباعه المبدع الكبير لوركا . في القصيدة نرى شخصية سلبية (فرانكو) وشخصية إيجابية (لوركا) ومستوى الرمز بين الاثنين يوجه حركة القتل والمطاردة.

   استحضر الشاعر كذلك  في ديوان ( الحرف والغراب ( العديد من الشخصيات الفنية البغدادية ذات التأثير الفني  في حياته وحياة الناس أو الجمهور ووظفها توظيفا رمزيا بعد أن أضاف اليها التعديلات والتحويرات التي  تتناسب وطبيعة الوظيفة الفنية .

      كان لشخصية الفنان الكبير (ناظم الغزالي ( حضور كبير في قصيدة : مطرب بغدادي الذي بسط الشاعر حكايته للقارىء ببساطة هذا الفنان المحبوب الرائع ، بملابسه وخدوده وعشاقه استلهاما من أغنيته الشهيرة ( يَم العيون السود ماجوزن أنه وخدّچ الگيمر أنه تريگ مِنه( ، هذا المطرب الذي طرب الجميع لأغنايته كلها (عيرتني بالشيب وهو وقار،  فوك النخل ، ميحانة ميحانة ، قل للمليحة ، صباح الخير ، طالعة من بيت أبوها ، ...).  يقول في القصيدة:

 

1.

بجسدٍ سمين

وبوجهٍ سمين

وبعينين باسمتين،

سيذهبُ هذا الغزاليّ

جيئةً وذهاباً

أمامَ كاميرا التلفزيون

وهو يغنّي بصوتٍ رقيق:

(يَم العيون السود ما جوزن أنه

وخدّچ الگيمر أنه تريگ مِنه).

2 .

وإذ لم تأبه العاشقةُ البغداديّة

لأغنيته القيمريّة

ولا لملابسه الجديدة

ولا لخدوده السمينة

فسيغنّي لها:

(واگفة بالباب تصرخ يا لطيف

لاني مجنونة ولا عقلي خفيف.

من ورة التنور تناوشني الرغيف

يا رغيف الحلوة يكفيني سنة).

وإذ لم تأبهْ له ثانيةً

فسيغّني لها ثالثةً عن النخل

ورابعةً عن العيدِ وهديّةِ العيد

وسابعةً عن الصبا

وعاشرةً مِن مقامِ الصبا.

حتّى إذ تقدّمَ به العمر

فسيصرخُ من لوعةِ العشقِ والهوى:

(عيّرتْني بالشيبِ وهو وقارُ).

لكنّه هذه المرّة

سيمسُّ وتراً

وسيطلقُ طيراً

يسمعُ تصفيقه الشرقُ والغرب.

بيدَ أنّ العاشقةَ البغداديّة

كانتْ - كعادتها-  تتبغددُ من النافذة.

والمطربُ السمين

بوجهه السمين

وبعينيه الباسمتين

صارَ على موعدٍ مع الموت

حتّى إذا تعثّرَ به في صباحٍ غريب،

بكى عليه الدفُّ والكمانُ والناي.

وخرجتْ بغداد كلّها

تودّعهُ إلى الأبد.

فيما اختفت العاشقةُ البغداديّة

من النافذة

وهي تجرُّ خيبتَها

إلى الأبد.

 

     ضمّن الشاعر مقاطع من أغنيات الغزالي الشهيرة وقدّم حكايته البغدادية المحبوبة طيلة مسيرة حياته  حتى نعته بغداد في ذات صباح حزين. بكت عليه القلوب ، وكذلك الدف والكمان والناي.   ودعته بغداد كلها مثلما  ودعته حبيبته إلى الأبد من النافذة .

ثمّ وظف الشاعر شخصية المطرب العربي عبد الحليم حافظ من خلال أغنيته الشهيرة ( قارئة الفنجان ( التي كتب كلماتها الشاعر نزار قباني  وكانت هي خاتمة حياته. ووصفه بأنه مطرب عبقري ذكي حارب الفقر والجوع والحرمان وروّض ألف سندريلا.  لكن مرض البلهارسيا روضه ولم يستطع أن يتغلب عليه أو يقاومه حتى  مات وسالت روحه وهو في قمة المجد :

 

1.

حينَ انكسرَ فنجانُ القهوةِ المرّة

ما بين أصابع العندليبِ المرتبكة،

سالتْ روحُه العاشقة

وسطَ حنين الناي وأنين الكمان.

2.

كانَ مطربُ قارئة الفنجان

عبقريّاً بما يكفي

ليركبَ درّاجةَ النجومِ الهوائيّة

ويغنّي عن القمر،

قريباً جداً من القمر،

ويفتنَ ألفَ سندريلا وسندريلا

بألفِ أغنيةٍ وأغنية.

كانَ عبقرياً، إذن، ليكونَ نجم النجوم.

3.

لكنَّ قارئ الفنجان الذكيّ

ومطرب قارئة الفنجان العبقريّ

الذي روّضَ الفقرَ والجوعَ والحرمان

وروّضَ الحظَّ المُمَزَّق

مثل ثياب المُهرّج

وروّضَ ألفَ سندريلا وسندريلا،

روّضتْه جرثومةُ البلهارسيا التي لا تَرى

ولا تُرى!

كانتْ أذكى من عبقريّته اللامعة

وأعظم حظّاً من نجوميّته الساطعة.

فانكسرَ فنجانُ القهوةِ المرّة

ما بين أصابعه العاشقة

حتّى سالتْ روحُه العذبة،

وهي في قمّةِ الحبِّ والشوق،

وسطَ دموع الناي وأنين الكمان.

 

وتنهض قصيدة (عفيفة اسكندر)  على توظيف شخصية المطربة البغدادية الشعبية توظيفا رمزيا فوجد فيها ما يناسب مضمون نصه الشعري من خلال أغنيتها (أريد الله يبيّن حوبتي فيهم ( وهي أغنية عراقية قديمة من التراث الغنائي أعيد غنائها من قبل المطربين والمطربات الجدد.  ماتت عفيفة وهي تشكو لوعة الفراق وقسوته ومرارته.

 

1 .

ماتتْ تلك التي شكتْ لوعةَ الفراق

وأرادتْ من الله

أنْ يبيّنَ الحوبةَ في المفارقين حبيباتهم

والغائبين.

ماتتْ وهي تغنّي

من شاشةِ تلفزيونِ بغداد

مثل لُعبةٍ كبيرةٍ جميلةٍ دون روح

تماماً دون روح مثل بغداد:

مدينة المُتخَمين والمُعدَمين والأرمن واليهود،

مدينة الملاهي والباراتِ والكنائس والمساجد،

مدينة المعتزلةِ والمتصوّفةِ والملاحدة.

2 .

لم يستجب الله- بالطبع - لأغنيتِها الجميلة،

فلم تظهر الحوبة

على المفارقين والغائبين أبدا

وبقوا كالأشباحِ سعداء أبدا.

لكنَّ المطربةَ غنّت الأغنية

لسبعين عاماً أو تزيد

شاكيةً لوعة الفراقِ المرّ

للملكِ المسكينِ وقاتله،

ثُمَّ للزعيمِ: مُنقذِ الفقراءِ وقاتله،

ثُمَّ للطاغيةِ: مشعلِ الحروبِ وقاتله.

هكذا بقيتْ تغنّي أغنيةً عذبةً

دونَ روح

حتّى فارقتْها الروح!

 

 لقد حوّل الشاعر هذه الشخصية من رمز خاص إلى رمز عام عبّر  من خلاله سيرة الفنانة الجميلة الطويلة إلى (سيرة وطن ( طيلة التسعين عاما التي عاشتها الفنانة والحكام الذين عاصرتهم ، وهي التي غنت لبغداد مدينة المُتخَمين والمُعدَمين، بغداد الجمال والتناقضات، بغداد الأرمن واليهود والكنائس والمساجد،  بغداد المتصوفة والملاحدة والشعراء والعلماء... كانت تريد أن تقول شيئا لكل محبيها وعشاقها وهي تغني : (أريد الله يبيّن حوبتي بيهم . أريد الله على الفركة يجازيهم ( حتى ماتت دون وداع من محبيها وعشاقها ومن عاصمها بغداد .

   و يوظف الشاعر أديب كمال الدين شخصية أدبية من مسيرة دربه الشعري وهو الشاعر يوسف الصائغ  بقصيدة  عنوانها  (لافتات يوسف الصائغ ( :

 

1 .

حاملاً على ظهرِك

جثّةَ مالك بن الريب وآلامَه الهائلة،

واقفاً تحتَ لحية ماركس الكثّة

وشوارب ستالين الصخريّة

لتهتفَ بملء الفم

تحتَ لافتةِ النضالِ الأُمميّ

ومقارعةِ الإمبرياليّة.

حتّى إذا طارَ رفاقُ الدربِ عبر الحدود

استبدلتَ بسرعةِ البرق

لحيةَ ماركس الكثّة

بلحيةِ عفلق الحليقة

وشوارب ستالين الصخريّة

بشوارب صدّام المرعبة

لتهتفَ بملء الفمِ أيضاً

تحتَ لافتةِ الطاغية،

تحتَ لافتةِ الحربِ ضد الفرس المجوس!

2 .

أيّها الشاعرُ اليوسفيّ:

لِمَ خذلتَ نفسَك؟

لِمَ خذلتَ مالكاً معك؟

لِمَ خذلتَ سيّدةَ التفّاحاتِ الأربع؟

لِمَ أيّها اليوسفيّ؟

هل كانَ مشهدُ الذهبِ لا يُحتَمل؟

أم كانَ مشهدُ الرعبِ لا يُحتَمل؟

أم أردتَ الذي كانَ فوقَ الجَمل؟

3 .

ليس مهماً - بالطبعِ - ما قد حدث!

المهمّ أنْ تُنزِلَ الآن من ظهرِك

جثّةَ مالك

وتنام تحتَ الأرضِ مستريحاً،

 

        الرمز في هذه القصيدة ذو مستويين: المستوى الحقيقي الذي اتخذه الشاعر بمثابة القالب لعاطفته وهو  الشاعر يوسف الصائغ ، ثم المستوى الثاني التجريدي الرمزي وهو (الحياة (التي افتقدها الصائغ في ظل الحكم السابق بعد أن افتقد دربه الشعري بمقارعته الامبريالية تحت لافتة النضال الاممي . وبسبب مشهد الرعب الذي جابهه ، كما أنه يوحي بنزعة من نزعات الذات الباطنة وهي إحساس الشاعر يوسف الصائغ بأنه مطارد من قبل عدو خفي، قد يكون هو الندم على ما فعله أمام الحاكم أو هو الزمن أو المجهول الذي كان يتنظره.

 وهناك إحالة إلى  شخصية من شخصيات التراث الغربي وهي الشاعرة الأمريكية ( سيلفيا بلاث) التي انتحرت وهي في مطلع عقدها الثالث  حيث عاشت طفولة معذبة وحياة زوجية أكثر عذابا مع زوجها الشاعر الشهير تَد هيوز. إن الشاعر يسلط الضوء علي حياة هذه الشخصية كرمز للحياة المعذبة بكل معنى الكلمة.

 

1.

لم تكنْ على مائدتِكِ الليلة

كأسُ النبيذ

ولا ملعقةُ العسل،

بل كانتْ على مائدتك

كأسُ الزوجِ الخائن

والطفولةِ المُحَطَّمة،

وملعقة الأملِ: العلقم.

أي كانتْ على مائدتِك

كأسُ الحلمِ القاسي

والأبِ الأكثر قسوة،

وملعقةُ الوهمِ التي لا تجيد

سوى تذوّق نفْسها.

بعبارةٍ أكثر وضوحاً،

كانت على مائدتِك

كأسُ السمّ

والقصائد المرتبكةِ المتلعثمة،

وملعقةُ القلبِ الذي لوّحَ للحياة

طوالَ ثلاثين عاماً

بيدِ الغريق.

2 .

وداعاً!

أشربُ نخبَكِ

أيّتها الحمامة التي ضلّتْ طريقَها

إلى العشّ

فانطلقتْ باتجاهِ البحرِ العظيم.

 

     المستوى الرمزي لهذه الشخصية الشاعرة هو العذاب  الذي عانت منه طوال حياتها، العذاب الذي صهر روحها الحساسة الرقيقة. وهذا النموذج الغربي يكاد أن يكون من أصلح الرموز التي تشير إلى الإنسان المعاصر بكل ما يستشعره من ألم وقلق وخوف ومعاناة.

    ويتضمن نص (مهند الانصاري ثانية (الموت رمزا للوحشية، وقد كسا الشاعر هذا المعنى الذاتي ثوبا رمزيا هو صورة الموت الذي حطم هذا الفنان المرهف الرائع ، وهي صورة تنسجم مع ما يحسه أديب  من حب وتقدير عميقين لهذا الفنان.

 

أيّها الموت،

أيّها الوحشُ المُهذّب،

كيفَ تغيّبُ مُكلّمي وتوأمَ روحي

ومرآةَ حرفي؟

كيفَ تغيّبُ قلباً،

كلّ نبضةٍ فيه حاء،

وكلّ حاءٍ فيه باء،

وكلّ باءٍ فيه بَسْملَة الأنبياء؟

كيفَ تنثرُ رمادَك

فوقَ رأسه الذي كانَ من طمأنينةِ الذهب

أو من ذهبِ الطمأنينة؟

كيفَ تشقُّ قميصَه الذي كانَ بوّابة البحر،

حين كانَ البحرُ عيداً حقيقيّاً

لمهرجانَ الحروفِ السعيدة

والمرايا التي ترقصُ حولَ نفْسها

كدوران الطيورِ السعيدة؟

إذنْ،

كيفَ تُحطّمُ أيّها الموت،

أيّها الوحشُ المُهذّب،

بوّابةَ المستحيل؟

بل كيفَ تقولُ الذي لا يُقال،

أيّها الموت،

أيّها الوحشُ السليطُ اللسان؟

 

      هذا الموت غيّب توأم روح الشاعر ومرآة حرفه  وقلبه . لقد تغيرت معالم السعادة بما فيها من نبض وحياة وفراق ومهرجان الحروف الذي كان الشاعر أديب كمال الدين يديره في الإذاعة مطلع التسعينيات،  حيث كان الأنصاري مديرا للإذاعة والشاعر يعمل معه معدّا للعديد من البرامج الإذاعية التي حققت تجاوبا كبيرا من المستمعين من أمثال (شعراء من العراق، البرنامج المفتوح، حرف وخمس شخصيات، ثلث ساعة مع...) .

       وعن صورة الناقد العراقي ( عبد الجبار عباس ( كتب الشاعر قصيدة ) فتى النقد (إذ وظف شخصية أدبية معروفة في الوسط الأدبي النقدي، وهو يزاوج بين المحسوس والمعنوي والواقع وما خلف الواقع. الموت هنا أيضا، الرمز الذي يطرق باب هذه الشخصية، أحلامها وأشواقها الهائلة:

 

1 .

بعد كأسه الأولى

سيبتسمُ فتى النقدِ قليلاً

ثُمَّ يضحكُ بصوتٍ مُجلجل.

وبعد الثانية

سيغنّي أغنيةً عن حرمانِه الأزليّ

وأشواقِه الهائلة.

وبعد الثالثة

سيرقصُ مثل زوربا

أو ربّما مثل الحلّاج

أو ربّما مثل طير ذبيح.

2 .

أرادَ فتى النقد،

وهو يلبسُ قميصَ البياض،

في زمنِ القمصانِ الزرق والحمر،

أنْ يقولَ الذي لا يُقال:

أنْ يكونَ الطفل الذي

يصف ثيابَ الإمبراطور

كما وصفتْها الحقيقة،

حين زيّفَ الآخرون

أوصافَها حدّ الرثاء.

فما كانَ من الإمبراطور

إلّا أنْ أعاده إلى بابله

مُحَطّماً مثل شظايا الهباء.

أعادهُ في زمنِ الجوعِ والقهر

كي يرتدي قميصاً من العزلة

أسودَ أسود

ويموت سريعاً

كومضةِ نجم

بقلبٍ كسير

وعينين دامعتين.

 

في زمن الإمبراطور تكسّر قلب فتى النقد وعاد إلى مدينة بابل محطم الأجنحة ، اعتزل الحياة واعتزل النقد ليموت سريعا في زمن أسود حزين .

      نعود إلى شخصية عالمية من الأدب العالمي ) دستويفسكي ( الكاتب الروائي صاحب رواية) الجريمة والعقاب ( لقد الشاعر وظف شخصية دستويفسكي لإيضاح رؤيته الفكرية ونظرته إلى الموت الذي غيّب هؤلاء العمالقة الكبار وهم يكافحون ليل نهار  من أجل القضية التي يحملونها والحلم الكبير الذي يراودهم كل يوم في سبيل أسعاد الإنسانية ونقل معاناتها اليومية إلى القارئ في كل مكان من بقاع العالم:

 

بلحيته الطويلة،

بعينيه القلقتين،

بجريمته وعقابه،

بذكرياته المُرّة

مِن بيتِ موتاه وموتاي،

بأبلهه العجيبِ وبمقامره الأعجب،

بارتباكه الحيّ وجنونه الباذخ،

بلحظاتِ وقوفه مرعوباً

ينتظرُ حبلَ الموت

كي يلتفَّ على الرقبة،

بهَلْوَسَته الحكيمةِ وبحكمته المُهَلْوِسة،

قَتَلني رمياً بالرصاص

وأنا في سنِّ العشرين!

 

    كانت حياة الكاتب (فيدور ديستويفسكي (مليئة بالجنون الباذخ ومغامراته العجيبة ورواياته الأعجب من (الإخوة كرامازوف (إلى (الأبله (إلى (الجريمة والعقاب). كان رمزا لمعاناة الأدباء العمالقة في مسيرتهم الأدبية ، الحياة في هذا النص تبحث عن الخلاص و تجعل المتلقي يعيش عذاباته ويحس بمعاناته ويصل النص إلى ذروته في المقطع الأخير بدفقة شعرية قاتلة .

 هناك الكثير من الشخصيات التي وظفها  الشاعر أديب كمال الدين في عملية الصنع الشعري، وهي إحدى الطرق الخلاقة لكتابة نص مفعم بالمشاعر والأحاسيس. وقد شكلت ظاهرة مهمة تستوجب القراءة والدراسة في هذا الديوان ( الحرف والغراب ( وهناك اهتمام بالشخصيات الأدبية والفنية والتي تشكل المحور الأساس في الرابطة القوية التي تربط الشاعر بينه وبين هؤلاء، وهناك تعاطف بينه وبين هذه الشخصيات في حدود الدلالة الظاهرية المحدودة إلى مستوى آخر هو مستوى الإيحاء الباطني العميق حيث يرى الشاعر آلام رحلته المضنية وفيها يعود ليؤكد مأساوية الحياة وظلامية الحكام واستسلامية البشر . إن شخصياته ذُبحت وهي ترقص من الألم . بهذا المقياس يمكن أن ننظر إلى قصائد الشاعر أديب كمال الدين في صراع مع الشخصيات التي وظفها في وجدانه ووقف عند دلالتها الواقعية ، لأن التراث قوة كامنة تربط عمل الشاعر بأعمال أسلافه باعتبار الإنسان قيمة ثقافية ونفسية وثيقة الصلة بصور الماضي ونماذجه العليا .وقد كانت نظرته إلى هؤلاء في مجملها إغناء للرؤيا الشعرية ووصلا حيا لحاضر الشاعر بماضيه،  وإن كان للموت معنى من الناحية الاجتماعية لهذه الشخصيات فإن له بالإضافة إلى ذلك دلالة عاطفية . قد يكون الحب لهذه الشخصيات طريقا إلى الخلاص وربما إلى الهرب من الحزن المقيم في أعماق الذات.

...............................................................

. هوامش الفصل السادس

         الرمز والرمزية في الشعرالعربي المعاصر، د . محمد فتوح أحمد ، دار المعارف ، القاهرة  1978 ص 3

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل السابع

 

التضاد اللوني في قصيدة) الغراب والحمامة )

 

 

 

   (التضاد أو التقابل يتحقق بين الألوان المتكاملة ومبعث الانسجام ، فالتضاد يؤدي إلى التوازن حيث يستميل كل من المتضادين الآخر حين يوضع إلى جانبه ( (1)  . (وإن اللونين المتضادين يقوّي كل منهما الآخر عن طريق إبراز التباين (2)

    على دائر الألوان تبرز التضادات التالية : أحمر ــ أخضر ،أصفر ـــ بنفسجي ،أبيض ـــ أسود وهكذا بقية الألون ، ويتحقق التضاد داخل اللون الواحد وذلك إذا تضاربت القيمة أو (الكروما ) . أما في الشعر  فتعتمد القصيدة في تأسيس نموذجها التشكيلي الجمالي على حيوية الصورة الشعرية إذ ( تتمتع الصور الشعرية بفاعليتها على تضمين الحركة والصوت واللون وهي من خلال ذلك تكتسب حيويتها في القصيدة وبالتالي تعكس هذه الحيوية على جوّها ). ويلعب اللون في إشاراته ودرجاته وتشكيلاته المباشرة وغير المباشرة دورا مهما في هذا السياق ( . إذ يشكل الضوء- ثمّ اللون- جزءا مهما من مقومات الصورة (3)  التي تقترح فيما بعد شكلا معينا من أشكال المعنى التشكيلي الشعري (

      في قصيدة) الغراب والحمامة) للشاعر أديب كمال الدين تشتغل القيمة الدلالية للون الأسود والأبيض بطاقة تشكيلية عالية وتأخذ من عتبة عنوان القصيدة مركزا كثيفا أراد به إشارات دلالية مخفية وظاهرة  مباشرة وغير مباشرة .  في ) الغراب والحمامة ( عتبة عالية التعبير متداخلة تدخلا تشكيليا طاغيا في فاعلية اللون المخفي ، على النحو الذي يحقق اتصالا جوهريا تتفتح فيه القراءة من عتبة العنوان على فضاء المتن ، لأن أهمية) العنوان تكمن في كونه العتبة التي يبدأ منها الاتصال  (4) وتنتج أنموذجا مثاليا لاشتغال اللونين الأبيض والأسود معا في معادلة شعرية .  ويؤكد عنوان ) الغراب والحمامة ( مفردتين  مستمدتين- من أصل الحكاية القرآنية ) سفينة نوح)- مفردتين تقعان في مفهومين دلالين مختلفين ، فالغراب يشير إلى السواد والشؤوم  والحداد ، ومنه اشتق اللون الغرابي بعد أن استخدمت ياء النسب ، والحمامة تشير إلى البياض و السلام والنقاء . ولا تتوقف مفردتا) الغراب والحمامة ( بإمتداتهما الفضائية الواسعة عن قابلية الدلالات التأويلية وهما يتربعان على عرش العنوان .

    كما يؤكد فضاء عنوان القصيدة بصورته المتبادلة على فعالية تشكيلية صورية بالدرجة الأساس تسعى إلى فتح المتن الشعري بهذا الهاجس اللوني وهو ما يتضح على نحو جلي في الصورة اللونية في المتن التي تجلى فيها اللونان الأسود والأبيض بوصفهما المركز البؤري الفعال الذي يتناسب مع فضاء اللون. إن هيمنة اللونين على منطقة التفكير اللونية  تتجلى في آلية  طاقة كل لون. ) لأنهما  في الحقيقة مكمن جميع الألوان في الفسيفساء اللونية ( كما أنهما أساس اللعبة الكونية بأكملها  (5)

في قصيدة) الحمامة والغراب (وهي من  قصائد ديوان  (الحرف والغراب ( للشاعر أديب كمال الدين  الصادر عن الدار العربية للعلوم 2013 ، يشتغل الشاعر على تأسيس أرضية تشكيلية مشتركة ين لونيين متضادين هما الأسود والأبيض في تعبيرهما وفضائهما التشكيلي . يقول الشاعر في بداية المقطع الأول من  قصيدة ) الغراب والحمامة ( :

 

حينَ طارَ الغرابُ ولم يرجعْ

صرخَ الناسُ وسطَ سفينة نوح مرعوبين.

وحدي - وقد كنتُ طفلاً صغيراً-

رأيتُ جناحَ الغراب،

أعني رأيتُ سوادَ الجناح،

فرميتُ الغرابَ بحجر.

هل أصبتُه؟

لا أدري.

هل أصبتُ منه مَقْتَلاً؟

لا أدري.

لماذا كنتُ وحدي الذي رأى

سوادَ الغراب

ولم يره الناس؟

لا أدري.

 

    ينطلق المشهد الشعري الأول  في بداية قصيدة ) الغراب والحمامة (  المتكونة من أربع مقاطع شعرية من الجملة الاخبارية) حين طارَ الغرابُ ولم يرجع ( بالتعريف اللوني التشخيصي ) السواد ( حيث تتفاعل الصورة فيما بينها لتتحول إلى صراع.  وحده الراوي رأى هذا الصراع وسط السفينة والمقصود بها سفينة النبي نوح (ع) ،  وقد أكسب الصورة علاقة من بداية استهلال القصيدة ، ثم تنطلق الصورة الثانية ) رأيتُ جناحَ الغراب / أعني رأيتُ سوادَ الجناح). هنا التعريف اللوني يفتح الدلالة المنفردة على قيمة لونية مهيمنة بقوة أكبر على كل القصيدة وهي تستفز كل الزوايا والظلال والعلامات الظاهرة والباطنة في طبقات اللون . وصورة الغراب تدل مباشرة  إلى هذا المدلول الصوري وتتمركز علاقته في جوهر الصورة الشعرية ، لتغذي دلالته في المعنى فيعمل التكرار اللوني في الصور المتعددة للسواد على قيادة سهم التشكيل اللوني وتوجيهه نحو سواد المكان وهو طرف المعادلة التي يتناوب فيها سر طائر الغراب وطائر الحمامة ... والشبكة اللغوية لنسيج المقطع الشعري  في خط دلالة المعنى : الأسود والأبيض ، الحياة والموت ، النقاء والبؤس  .ليتفاعل هذا المستقر اللوني الأسود ... سواد الجناح : المأساة والرعب ، وهو يغلف الموت ويكسبه علامة تحاكي الأسود في تضاد رمزي تشكيلي وهو الرائي الذي قال ورأى الحكاية،  فالفعل البصري ( رأيتُ (أضاف إلى النص مكتسبا دلاليا أعاد إنتاج وحضور في  الصورة . إن السرد في هذه الجملة الشعرية) رأيتُ (إذ ينتقل مشهد الأنا للراوي الشعري إلى مساحة واسعة من حياته المليئة بالغموض والأسرار لتتحول إلى حقيقة ...  الفعل (رأيتُ ) هي رؤية وليس حلما، والحلم هو كابوس والرؤية حلم متحقق ولا تتمثل الرؤية إلّا عند الأتقياء في صالح الاعمال . وحين يتحول العنوان) الغراب والحمامة ( واللون المخفي ) سواد الجناح ) إلى مظلة شعرية لونية تحمي حركة السرد ثم ما يلبث فعل السرد الشعري ( رأيتُ (أن يتكرر ويدخل ليربط حركة الصورة بمشهد لصالح الراوي وهو يروي رؤياه على تصور الحال الذاتية عبر بؤرة المكان ، أي السفينة ، ثمّ يعبّر الشاعر أديب كمال الدين بالإشارة اللونية المخفية والظاهرة عن معنى الصورة وهو يجعل من اللون الأسود الخلفية التشكيلية الحاوية للمشهد الثاني. يقول الشاعر في المقطع الثاني من القصيدة :

 

حينَ عادت الحمامةُ بغصنِ الزيتون

صرخَ الناسُ وسط السفينةِ فرحين.

لكنَّ الغراب سرعانَ ما عاد

ليصيحَ بي بصوتٍ أجشّ:

أيّهذا الشقيّ لِمَ رميتني بالحجر؟

اقتربَ الغرابُ منّي

وضربني على عيني

فظهرت الحروفُ على جبيني

عنيفةً، مليئةً بالغموضِ والأسرار.

ثُمَّ نقرَ جمجمتي

فانبثقَ الدمُ عنيفاً كشلّال.

 

تتحول الصفحة السوداء بوصفها الدرامي إلى مساحة تخييلية منفتحة انفتاحا معاكسا  ليكون  للشاعر : الرسام أن يفتح المجال الخاص بالصورة إلى غزارة لونية مزهوة بالألوان يمنحها الأبيض المخفي عبر الحمامة البيضاء. وفي المقطع الشعري الثالث من القصيدة :

 

نزلَ الناسُ من السفينةِ فرحين مسرورين،

يتقدّمهم نوح الوقور

وهو يتأمّلُ في هولِ ما قد جرى.

حاولتُ أنْ أوقفَ

شلّالَ الدمِ الذي غطّى رأسي ووجهي.

فاقتربت الحمامةُ منّي

ووضعتْ على رأسي حفنةَ رماد:

حفنةً صغيرة،

مليئةً بالغموضِ والأسرار.

 

     في هذا النص متعدد الدلالات يمكن القول إن سيطرة اللون الأحمر على المقطع الشعري بشكل كبير هي صورة المأساة ) شلّال الدم ) ، ذلك أن الأحمر رمز لكل ما هو سلبي حتى كأنّ الأحمر صار رمزا مطلقا للحالات المضادة للحياة والتفاؤل والأمل وبالتالي صار رمزا للقبح في الواقع  لتأخذ الصورة الشعرية المجال التشكيلي ونموذجها اللوني عبر اللون الأحمر . إذ تتفتح أرضية الهول وما جرى من هول على الشاعر / شلّال الدم الذي غطّى رأسي ووجهي / وهي تتصاعد إيقاعيا ومكانيا عبر تقنية داخلية على مغاليق الحضور اللوني : شلّال الدم) لترفع من حاسيّة عمل اللون الأحمر إلى درجة الإسهام في تحقيق دراما لونية ترسم صورة المعنى في التشكيل والجملة ( شلّال الدم  يتيح فرصة نوعية للتمظهر الدرامي من خلال دلالته  لأن الأحمر كما قلنا هو رمز لكل ما هو سلبي .. ثم ما تلبث (الحمامة (أن تدخل في إشارة خاصة إلى لون السلام إذ تتضاعف بتطور الأحداث في المقطع الشعري، وهي تقود إلى الصورة التعبيرية وتقترب من الشاعر الراوي لتضع الرماد على الرأس، والرماد يستمد من رواسب ما تخلفه النار . وهي فاعلية لونية للون الرمادي عكست قيمته الدلالية المعنوية في وقف نزيف الدم. فالصورة بدأت بالدم (الأحمر ( مفارقة للدلالة المتمثلة به المعتمدة في أكثر استخدامات اللون الأحمر .

ويمكننا في سبيل إظهار الصورة التشكيلية لونية بصريا في صورة موصوف وصفة ولون:

الموصوف                      الصفة الممهدة                      اللون

شلّال                             الدم                               الأحمر

حفنة                              رماد                             رمادي

إن اللغة الحمراء هنا دليل على عنف المعنى المكون للصورة وعلى اشتباك الدلالة المؤلفة للتشكيل حيث يسهم الفعل اللوني في دفع دراما اللون الأحمر على مساحة عمل تشكيلية تقوم على تطور حركة الفعل اللوني .ثمّ يأتي المقطع الرابع من قصيدة ) الغراب والحمامة ( :

 

هكذا أنا على هذه الحال

منذ ألف ألف عام:

الغرابُ ينقرُ جمجمتي

فينبثقُ الدمُ عنيفاً كشلّال.

والحمامةُ تضعُ فوقَ جمجمتي،

دون جدوى،

حفنةَ رماد!

 

    في هذا المشهد الشعري  دلالات مزدحمة في التشكيلات اللونية مباشرة و غير المباشرة  فالوحدات الصورية ) الغرابُ ينقر / .. ينبثقُ الدم ) ( الحمامةُ تضع ( تعمل هذه المشاهد في ظل نظام لوني تشكيلي  يظهر عمق التجربة الشعرية وكثافة دلالتها على النحو الذي يقود إلى تطور بنية الحدث الشعري من خلال الإحساس غير المباشر في اللون إذ تتصاعد حركة أفعال السرد الشعرية في المشهد ليتحدث الشاعر عن حالته: الغرابُ ينقرُ جمجمتي ...

في إطار المعنى الحكائي الذي يسهم الثنائي ) الغراب والحمامة ( في إنتاجه وتكريس صورته، واللون الأسود المتمركز في الغراب علامة على لا تقل عن ما يحمله من مأساة في حياة الراوي أو الشاعر وهو يصوّرها : (هكذا أنا على هذه الحال (واللون المنبثق الدال على الدم الذي يتمركز في الصورة تركيزا تشكيليا يعمق مأساة السواد الذي يلقاه في الحياة ويضاعف عتمة الصورة بالإيحاء غير المباشر وينتج على نحو ما ألوانا متضادة ، في حركة التغيير ليكون قادرا على تشكيل النظام الشعري الخاص به حيث تحرك الإيحاء باللون الذي يعد من الأساليب التشكيلية ذات القيمة الجمالية في حضور اللون بقيمته المباشرة ولما تنطوي عليه فعالية الإيحاء من فضاء مفتوح لا تربطه بحدود ولون مصرح به ذي إحالة دلالية يمكن التوصل إلى حدودها بسهولة  بل يترك المجال واسعا وعميقا موحيا لفضاء التأويل، ثم يأتي التأكيد على حياد اللون الأبيض في نهاية النص إذ يتكرر الدال اللوني بصورتين مختلفتين لفظا ومختلفتين معنى ) الغرابُ ينقر: الحمامةُ تضع ) وهو يستقر في المكان حتى تصبح صورة المشهد كاملة للقاء الدائري بصورة العنوان ) الغراب والحمامة ( لفظا ، بتشكيل شعري متحرك) غراب ينقر في رأسه ( .

   قصيدة (الغراب والحمامة (تعتمد كليا على توظيف  سفينة نوح والمعنى الحكائي الذي بدأ بالطوفان ،  وصراع الخير والشر ، الموت أو الحياة . مَن يريد النجاة يركب في السفينة ومَن يعصي أمر النبي نوح( ع)  فالغرق مصيره ، السلام مثلته الحمامة بغصن الزيتون والسواد مثله الغراب.

إن متن القصيدة ( حكاية سفينة نوح ( قد سبق وأن تناوله الشاعر في قصيدة له بعنوان ( قصيدتي الأزليّة ( من ديوان ) شجرة الحروف ( والتي يقول فيها:

 

هكذا أُلقيتُ في الطوفان:

كانَ نوح يهيّئُ مركبه لوحاً فلوحاً

ويُدخلُ فيهِ من كلِّ زوجين اثنين.

كنتُ أصرخ:

يا رجلاً صالحاً،

يا رجلاً مُبحراً إلى الله

خذني معك.

وإذ لم يأبه نوح لصيحتي

تسللتُ إلى المركبِ: المعجزة.

وشاهدتُ مأثرةَ الحمامةِ والغراب

بعدما صعدَ الموجُ بنا كالجبال،

حتّى إذا هدأت العاصفة

وقيلَ يا أرض ابلعي ماءك،

هبطَ الكلّ من سفينةِ نوح

فرحين مُبَاركين

 

   يعود الشاعر أديب كمال الدين ليكرر الموضوع بصور أخرى موظفا الحكاية القرآنية على النحو الذي يجعل القارئ يتخيل شكل السفينة والغراب والحمامة من خلال هذه القصيدة، و يمكن للقارئ أن يستفيد من هذا المعنى المتكرر في الحكاية والصراع الدرامي بين الغراب والحمامة ، صراع الخير مع الشر.

     إن الراوي الشعري عند أديب كمال الدين يتحرك بوصفه مرآة عاكسة للذات الشعرية التي تنفتح على فضاء النص انفتاحا حكائيا يعكس تجربة الشاعر ويؤلف معناها .وهناك ملاحظة تشير إلى كون اللون الأسود في شعرية القصيدة ) الغراب والحمامة ( يستقطب اهتمام الشاعر التشكيلي ويذهب فيه مذاهب شتى .. وقد حاول أديب كمال الدين الإفادة من كثافة هذا اللون في  غلاف ديوانه : الحرف والغراب فابتدأ من اللون الأسود على غلاف الديوان وقد استثمره من  لون (الغراب) المعروف سواء من قيمته التعبيرية المباشرة أو غير المباشرة. وقد ركزنا في  هذه الدراسة على المنطقة الأعمق والأقصى في استثمار الألوان من قيمتها المباشرة وغير المباشرة وما يمكن أن تحققه، والتضاد اللوني بين الأسود والأبيض حيث استهل به الديوان وقدم فيه رؤية متميزة للفضاء اللوني عمقت صورة الموصوف عبر كثافة دلالية لا متناهية تشتغل في أكثر من محور .

..............................................................

هوامش الفصل السابع

             اللغة واللون ، أحمد مختار ، ص 138

             التصوير الملون  ص 415

             الشعر الحر في العراق منذ نشأته 1958 يوسف الصائغ، اتحاد الكتاب العرب   2006

             في نظرية العنوان ، د.  خالد حسين ، دار تكوين ، دمشق  2008 ص 167

             إيقاع اللون في القصيدة العربية الحديثة،  د.  علوي  الهاشمي ، ص 146

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الثامن

 

 

السينما والتشكيل الشعري

 

 

 

 

 

 

 

 

       استطاع فن السينما بما يملكه من طاقات وإمكانات هائلة أن ) يفرض نفسه ليصبح واحدا من أخطر الفنون وأكثرها شعبية عند الجماهير وكان ذلك مدعاة إلى أن يؤسس لنفسه قوانين فنية صارمة جلبت الكثير من معالم الثقافة المعاصرة. (كما تمتلك السينما مدى تعبيريا يعمل على أثراء القصيدة الغنائية عند الشاعر الحديث ، فهي مثلا قادرة على وضع صور متعددة إلى جنب بعضها ، والانتقال من مشهد إلى آخر ثم ربط هذه المشاهد ) المونتاج ) أو الاسترجاع ( فلاش باك). (1)

         مونتاج النص الشعري :

       (إن استعمال المونتاج داخل مضمون النص المعاصر وسيلة في نبذ الحشو السردي المتعمد وحب للزمن الدرامي الثمين (2. ويتم من خلال نقل القصة والرواية في معناها القرائي إلى المعنى الإخراجي التصويري اتخاذ مسار جديد  فالحدث المتباين أهم وسيلة  تختزل اللقطة الشعرية لأن الأحداث تترابط داخل كل لقطة حدث ما). ومما لاشك فيه أن الوسيلة البصرية الطباعية ، تعد أهم الوسائل المونتاجية التي يمارسها النص المعاصر ، لأن ) اللغة لا تبلغ لبّ الأشياء إلا في عالم الشكل ، عالم البصر والفراغ (. والمونتاج من الأساليب التي استعارها الشاعر الحديث ووظفها في القصيدة : أسلوب التقطيع الصوري . والمونتاج ) ربط شريحة فلمية : لقطة واحدة مع أخرى ، واللقطات ترتبط مع بعضها لتكون مشاهد ،  والمشاهد ترتبط معا لتكون مقاطع متسلسلة (3)( و يتم إيصال تلك اللقطات عن طريق المزج أو المسح وطبع اللقطات فوق بعضها وذلك للتعبير عند مرور فترات من الزمن أو أي تغيير آخر وهي الفكرة ذاتها التي يعمد الشاعر إلى تركيزها وتكثيفها في قصيدته ليقدم لنا قصيدة محتشدة بمجموعة من الصور المتباعدة التي لا يمكن الربط بينها إلا بعد متابعة سير الأحداث فيها .

       من القصائد التي استعان بها الشاعر  أديب كمال الدين  في تركيب بنيتها بتقانات الفن السينمائي قصيدة ) الموتى يرقصون عند الباب ( وهي من ديوان  (رقصة الحرف الأخيرة ( الصادر عن دار ضفاف في بيروت    2015.

    يستحضر الشاعر أديب كمال الدين مشهد الموتى أو الموت كما يتصوره مستقبلا سواء كان حقيقة أو تخيلا متعمّدا بذلك أسلوب السرد الدرامي المتلاحق حيث العرض شبه التفصيلي لأحداث المتتابعة نحو الذروة والتكامل ، كما في قصيدة ) الموتى يرقصون عند الباب ( :

 

طرقَ الموتى بابي

عندَ الفجرِ عُراةً،

وبدوا كما لو كانوا أحياء.

 

   يمثّل الشاعر أديب كمال الدين في هذه القصيدة (التي تتكون من تسعة عشر مشهدا) عين السارد وعين السارد هو نفسه عين الكاميرا التي تصور الأحداث وفق ترتيب زماني متلاحق بهيئة مشاهد متلاحقة . في القصيدة التي تصدر الموت بدايتها ، تبدأ مأساة الشاعر وتراجيدية حياته بدم الموتى وطرق باب الشاعر وصراع مع الرقص بطريقة درامية يؤشر الشاعر حاضره الدامي وشعوره بالضياع والعذاب والموت .

 

رفعَ أحدُهم يدَه اليمنى إلى الأعلى،

إلى الأعلى.

(ولا أعرفُ لماذا).

ثُمَّ رفعَ يدَه اليسرى إلى الأعلى،

إلى الأعلى.

(ولا أعرفُ لماذا).

كانَ عارياً تماماً

بوجهٍ غَطّاه التُراب.

 

      تعتمد الكاميرا هذه اللقطات القريبة المصورة والتي تشتد الأحداث وكأن الشاعر عين مسلطة على الحدث وهذا ما يجعل القصيدة رؤيا مستقبلية ولذلك ابتدأها الشاعر بالفعل ) طرق ( للدلالة على الزمن الماضي.

 

أخذَ يصالبُ ذراعيه مَرّةً،

مَرّتين،

ثلاثاً.

ويرفعُ قدميه الواحدة تلو الأخرى

بتناسقٍ وانسجام.

ثُمَّ مدَّ ذراعيه إلى الجانبين

كأنّه يريد الطيران.

 

والقصيدة رصد لما يجول في خيال الراوي من أحداث ) متخيلة) عن أحياء الموتى أو الموت والكاميرا مثبتة في شخصية الراوي ، يتم استعراض المشاهد واللقطات في المقاطع  التسعة عشر ، من خلال تقنية الاستدعاء المتخيل وهي على عكس تقنية ) فلاش باك) التي تستعرض أحداث ماضية .

 

كتمتُ ضحكةً مُرعبةً في أعماقي.

 

      إن حركة الكاميرا تتحرك عبر مخيلة الراوي لتجسد لنا مراسيم رقص الموتى الافتراضي عند باب الشاعر بدءا من لحظة طرق الباب ، لتبدأ حركات الرقص ووصف هذه الحركات وهم رجال ولم يكن معهم امرأة لأنه يخاف من رقص النساء .

 

أصبحَ الراقصون ثلاثة.

لكنّ الأوّل رسمَ دائرةً فوقَ الأرض

ومنعَ الراقِصَين مِن الدخول

فصارا يقلّدان حركاته عَن بُعد.

6.

صارَ الراقصون خمسة.

كانوا رجالاً

ولم تكنْ معهم امرأةٌ أبداً،

فتنفّستُ الصُعداء.

7.

تنفّستُ الصُعداء.

فأنا أخافُ مِن رقصةِ النساءِ عندَ الفجر،

النساء القادمات مِن القبرِ عندَ الفجر.

 

تتنقل حركة الكاميرا من خلال عين السارد إلى موكب ملك الموتى لتصوّر الراقص والراقصين معه وملك الموتى.

 

8.

سأسمّي الراقصَ الأولَ بمَلِكِ الموتى.

 

حضور عبر لقطة قريبة ومكبرة  آثار الرقص المرتسمة على وجه الشاعر.

 

9.

لم يزلْ مَلِكُ الموتى

يرقصُ رقصتَه الكبرى.

يداه العاريتان تتحرّكان إلى الأعلى والأسفل،

وقدماه ترتفعان وتنخفضان.

لكنّه أخذَ يستبدلُ كلّ دقيقة قناعاً:

مَرّةً يرتدي قناعَ هاملت

ومَرّةً قناعَ ماكبث

ومَرّةً قناعَ المَلِكِ الضِلّيل

ومَرّةً قناعَ ديكِ الجِنّ.

 

      في حركة تراجيدية لا تخلو من المفارقة تتواصل سلسلة الأحداث عبر رقص ملك الموتى وهو الراقص الأول وفي رقصه الكثير من الحركات حين يستبدل كل دقيقة قناعا،  مرّة قناع هاملت ومرّة قناع ماكبث على نحو مفاجئ قبل الوصول إلى المشهد العاشر حيث يسأل الشاعر نفسه :

 

.10

سألتُ نفْسي:

أهم بشرٌ أم جِنّ؟

 

أهم بشر أم جن ؟ ونقطة التحول تكمن في إقامة الشاعر من تلك المشاعر حين يظهر أحد الموتى وهو يحمل طبلا .

 

11.

فجأةً

ظهرَ أحدُ الموتى يحملُ طبلاً

وأخذَ يقرعُ عليه بقوّة.

كانَ الطبلُ كبيراً جدّاً

فصارَ الرقصُ أكثر رعباً

 

وكأنّه حلم مأساوي طافح بالموت. لا شك أن اعتماد الشاعر لأسلوب السرد الدرامي من خلال التراكيب الفعلية داخل المشاهد أسهم في رفد الحركة لدرامية للصور فضلا عن تفعيل حركة الإخراج والتصوير. ( لأن البناء الفعلي من أنسب البنى للتنامي الدرامي والسرد المكاني أو تتناسل وتتنامى الدراما بشكل متواتر) (4)

 

12.

صارَ الرقصُ أكثر رعباً وَدَويّاً.

 

مشهدية الرقص هي التي تهيّئ مناخ القصيدة وتعيد ترتيب عالم الشاعر من خلال العنوان.

 

13.

احمرّتْ دائرةُ المَلِكِ الراقص

وتدفّقتْ مِنها قطراتُ الدم

لتشكّلَ ساقيةً حمراء.

 

المشهد الثالث عشر مشهد درامي يبدأ من الفعل الدامي ) احمرّت ( حلبة الرقص وتدفق الدم بشكل ساقية هذا المشهد يتناهى  قي صورة لونية سوداوية.

 

14.

بكى الراقصون العُراة.

فتنهّدَ مَلِكُ الموتى بقوّة

وبكى معهم.

 

  بكى الموتى في مشهد درامي، الفعل هنا ) بكى ( حيث ترتكز عملية المونتاج على الوحدات الموضوعية وهو يعمل على تصعيد درامية الأحداث وتناميها والبكاء أساس هذا المشهد .

 

15.

فجأةً،

توقّفَ الكلُّ عن البكاء

وصفّقوا للمَلِكِ الراقص.

 

   تستمر الكاميرا في حركتها متنقلة من مشهد إلى آخر في القصيدة وصولا إلى المشهد الختامي ليُعاد تسليط الضوء على شخصية الراوي المتكلم كما في المشهد الافتتاحي أو اللقطة الأولى حيث الشاعر عند الباب ومشهد الدم في فضاء القصيدة.

 

16.

هل كانوا مُعجبين برقصته؟

أم بشبابه؟

أم بجماله؟

17.

انحنى المَلِكُ الراقصُ لهم بوقار

وصفّقَ لحظات معهم.

 

  إن إيقاع الرقص يكسر الحلبة والتصفيق يموج في أرجاء المكان ليسري مشهد الرقص إلى ملكهم والتصفيق معهم.

 

18.

وصلَ الدمُ إلى بابي

فأغلقتُ البابَ بقوّة.

19.

لكنَّ الدم مرَّ إليَّ مِن تحتِ الباب.

ودوّي الطبلِ بَقي يتردّدُ في أذني

ليلَ نهار.

 

   تتابع حركة الكاميرا في سرعة ورشاقة حركة الأفعال المتلاحقة من البداية (انحنى ، وصل ، مر ، ...الخ ( لاختزال الزمن والوصول بالحبكة الدرامية نحو النهاية المتوقعة.

هذه هي الوسائل التي وظفها الشاعر للوصول إلى صور مرئية متحركة تجذب المتلقي وتجعله على تواصل نفسي وعاطفي مع النص الشعري من خلال الانتقال بالصور الشعرية من الخبر السمعي إلى  حيز البصر والارتقاء بها في الثبات التام كما في اللوحة والثبات المتصور.

2 - الشعر بالكاميرا وصناعة المشاهد  :

      ربما كانت الإفادة من السينما بتقنياتها المعروفة في التصوير والمونتاج والإخراج ومن ثم صناعة المشهد من أهم أشكال التوظيف الذي جربه الشعر الحديث، إذ راح الكثير من الشعراء المشغولين بتطوير نموذجه وتحديثه من هذا الكنز الجديد . يقول في قصيدة : (مَشاهد ( من ديوان ) شجرة الحروف (

 

مشهد يوميّ

*******

كلّ يومٍ تجيء قصيدتي مليئةً بالشمس

لتصعدَ إلى الطابقِ الخمسين

من عمارتي: عمارةِ الحروف.

ثمَّ تبدأ في غرفتي العجيبة بتمشيطِ شعرها

وتضع أحمرَ الشفاهِ فوق شفتيها.

ثمَّ تتعرّى تماماً

وتذهب إلى النافذة

لتحدّقَ طويلاً في المدينة:

في طيورها السود التي ملأت السماء.

 

مشهد طبيعيّ

*********

سقطت الورقةُ من الشجرة

فتلَقّفتْها الريحُ لترسلها أنّى تشاء!

 

مشهد عاطفيّ

**********

قالَ لها وهو يركعُ أمامها

قالَ لها والدموع تنهمرُ من عينيه:

إنْ كنتِ أنتِ الشجرة الكبيرة

فإنني أنا الفأسُ الصغيرة

يا حبيبتي!

 

مشهد مسرحيّ

**********

(ليكنْ حُبّكَ متوهجاً إلى الأبد!)

هكذا صرخت الممثلةُ المحترفةُ بالممثلِ الهاوي

فوق خشبة المسرح

ثمَّ قبّلته بعمق.

فارتبكَ الممثلُ الهاوي أمامَ حرارة قُبْلَتِها

وسقطتْ كلماتُه على الخشبة

كالأحجار

كلمةً إثر كلمة.

 

مشهد الجنون

*********

فوقَ الجبلِ الكبيرِ انحنى المجنون

على النبعِ ليشربَ الماء.

لكنّه بدلاً من الماء

شربَ القمرَ والنجوم.

 

مشهد البهجة

*********

اشتريتُ بستاناً وزرعته بالرمّان

وتركته لتنقرهُ الطيور

أو يسقط فيلتقطه الأطفالُ والمشرّدون.

كنتُ سعيداً

لأنّني بعد أنْ يذهبَ الأطفالُ والطيورُ والمشرّدون

ألتقطُ صوتَ ارتطامِ الرمّانِ بالأرض

ثمَّ أطلقه من جديد،

في الهواءِ الجميل،

قصائدَ مليئةً بالبهجةِ والجنون!

 

مشهد الموت

*********

صرخَ القبطانُ بركّابِ سفينته الغارقة

وهم يستسلمون للبردِ والموت.

صرخَ بهم

فلم يستفقْ منهم أحد.

يا إلهي

حتّى صرخات القبطان

استسلمتْ للبردِ والموت.

 

 

مشهد القهقهة

**********

بعثرتْهما الريح،

وفرّقهما الفقرُ والجوع،

وحطّمتْهما الزلازلُ والصواعقُ والحروب.

لكنهما بقيا يقهقهان العمر كلّه!

 

مشهد تراجيديّ

***********

حين التقتْه بعد أربعين عاماً من الفراق

بدأتْ، على الفور،

تنظّفُ كلماته من الصدأ والغبار.

وبدأ هو، بهدوءٍ إلهي،

ينظّفُ جسدَها من الدمِ والطعنات!

 

         في هذه القصيدة (مَشاهد (يستخدم الشاعر أسلوب التقطيع الصوري ) المونتاج (إذ يفتح شعره على حقل السينما الخصب بالمقومات الفنية والثري بالعناصر والاشكال والرؤى ، ومن الشعراء الذين وظفوا المونتاج في بناء قصائدهم  الشاعر أديب كمال الدين، وقد وظفه توظيفا فنيا فاعلا يتناسب مع بناء القصيدة وموضوعها، تتكون قصيدة  (مَشاهد (من (تسعة مشاهد ) حسب ما سمّاه الشاعر وهي لقطات من مواضيع مختلفة، رغم أن المشاهد تكون في تركيبة المسرح والسينما حيث تشتغل اللغة الشعرية بآلية كتابة تصويرية تنشغل بالوصف المشهدي المتحرك .

في المشهد الأول : ( مشهد يومي)

   تبدأ القصيدة بافتتاح مشروعها الشعري بالمشهد الاستهلالي الأول ، إذ يضع الشاعر نفسه في قلب المشهد مستخدما كاميرا خارجية تصوّره في العمارة وتصوّر ما حولها ، مشهد يومي ينهض بوصف الشمس تعكس صورة ضوئية من صور الأخذ الشعري من السينما، لا سيما أن الشاعرأديب كمال الدين شكل مونتاجه في تحويل المقاطع الشعرية في القصيدة إلى لقطات يقوم الشعر بمنتجتها  وتوزيعها على لوحات القصيدة .

 المشهد الثاني) مشهد  طبيعي)  يحاول الشاعر أن يصف منظر الطبيعة  حين تسقط الورقة تلتقطها الريح، هي معادلة معروفة في ميزان الطبيعة  ترمز إلى الحياة التي تنتهي  بالموت وحياة الإنسان أي إنسان ورقة، يولد بورقة ثم يموت بورقة  تتداولها الأيدي من مكان إلى زمان ..

  في المشهد الثالث بعنوان ) مشهد عاطفي) : يركع الحبيب أمام حبيبته الشجرة  الكبيرة وهو الفأس الصغيرة  ، الحوار في المشهد يسيطر على تركيبة المشهد ، وفي كل مشهد هناك مكان وزمان  .الإحداث مع  وجود شخصيات تحرك الحدث من أمام الكاميرا .

في المشهد الرابع  بعنوان ) مشهد مسرحي) نرى ممثلة محترفة فوق خشبة المسرح تصرخ بالممثل الهاوي في مشهد قبلة عميقة حارة ليرتبك الأخير أمام حرارة القبلة . المسرح يختلف عن السينما  ، المسرح خشبة تجري عليها الأحداث كلها أي مكان واحد أما السينما فهي تتنقل بالكاميرا من مكان إلى آخر حيث ما تشاء طبيعي أو غير ذلك والمناظر تأخذها من الطبيعة عكس المسرح الذي يأخذ المنظر حسب تصميم مناظر ثابتة .

  أما في المشهد الرابع ) مشهد الجنون ) فنكون فوق جبل كبير، حيث يظهر مجنون يرى القمر والنجوم على سطح الماء، يشرب القمر والنجوم ، يبحث عن الحياة.

في مشهد ) مشهد البهجة ( يرسم الشاعر صورةً بداخلها عدة  صور:

بستان الرمّان ــــــــ صورة

الطيور ـــــــــ صورة

الأطفال ــــــــ صورة

الهواء الجميل ـــــــ صورة 

قصائد البهجة ــــــ صورة

صوت ارتطام الرمّان ــــ صورة

  إن هذا المشهد بمثابة استراحة شعرية  في خلق الصور وتوجيهها ، قدم الشاعر قصيدة قائمة على مجموعة لقطات ) مشاهد ( أوهي صور يجمعها خيط واحد .

    في المشهد الثامن ) مشهد القهقهة ) تظهر صورة رومانسية هي  رمز الفراق إلى مشهد تراجيدي  حيث يتنصل عن صورته الخارجية.

     في المشهد التاسع (مشهد تراجيدي (، هذا المشهد يصور الحالة الأخيرة لمجموع المشاهد ليضع الحدث في نهايته:

حين التقتْه بعد أربعين عاماً من الفراق

 

بدأتْ، على الفور،

تنظّفُ كلماته من الصدأ والغبار.

وبدأ هو، بهدوءٍ إلهي،

ينظّفُ جسدَها من الدمِ والطعنات!

 

      إن تقنية البناء المشهدي واضحة تماما في القصيدة تماما كتقنية التصوير الواضحة  هي الأخرى في القصيدة مما يؤكد الوعي التجريبي المتقدم الذي يمتاز به الشاعر وهو قادر على تحليل الشعر وتقنيات السينما. ولا تكتفي كاميرا الشعر بالتصوير بل تطرح ما يمكن أن يتطور في المشاهد الأخرى عبر توسيعها أو توضيحها . اعتمدت هذه القصيدة على تتابع المشاهد واللوحات وتصاعد الحدث تدريجيا ونموه على طريق الاكتمال وترسّم الحلول واختلاف المواقف وتصارعها خدمة للمنحى الدرامي . وهناك أكثر من قصيدة  تتبع التشكيل نفسه عند هذا الشاعر وترتبط  وتتداخل مع آليات السينما بشكل لافت.

.......................................................

هوامش الفصل الثامن 

1 - الرواية والسينما ، التأثير المتبادل ، سامي محمد،  مجلة الأقلام    

2 - الزمن والرواية ،  ت:  بكر عباس، دار صادر، بيروت ، 1997  ص 16

3 -  جماليات الفنون ، كمال عيد ، الموسوعة الصغيرة ، بغداد ، 1985

4 - الشعرية العربية الحديثة ، شربل  داغر، ييروت

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل التاسع

 

 

جمالية  الحوار في شعر أديب كمال الدين

 

 

(تطور الشعر العربي في القرن العشرين تطورا بارزا نحو المنهج الدرامي وليس المقصود هنا  القصائد الدرامية الشعرية ، كالمسرحيات : فالمسرحية عمل درامي نثرا كانت أم  شعرا وأصبح الطول واحدا من نتائج التاثر بالبنية الدرامية. فالقصيدة الدرامية استطاعت أن تحقق أول شروط الدراما بما وظفته من  منحى قصصي وأسلوب خطابي وتكثيف في الجملة الشعرية ، ولا تتحقق الصفة الدرامية في أيّ قصيدة ما لم تتمثل فيها عناصر بناء الدراما والتي تتحقق في الفعل  الحوار  والشخصية). (ف ف موزينوف ، حول دراسة الكلام الفني) (1)

والدراما صورة من صور الحياة ) تمثل الحياة الإنسانية في سلسلة متعاقبة من الأحداث وما يعتريها من تغيير  ( نسميه قصة تروى عن طريق الحوار وتعرض من خلال الفعل المسرحي (2)  مما يتطلب أن الدراما أن تكون معبرة عن الحياة الإنسانية بصورة تجعل من الجمهور يعيش أحداث القصة كنها تحدث على أرض الواقع.

الحوار في القصيدة :

   الحوار في الشعر من عناصر الدراما وهو نمط من أنماط التعبير السردي تتحدث به شخصية أو شخصيتان أو أكثر ، والمسرح دون حوار ليس مسرحا فهو وسيلة لنقل  طبيعة الصراع بين مختلف الشخوص كما أن الكاتب المسرحي يستخدمها لتشخيص الأفراد، المسرحية تكون عناصرها الفنية من الحدث والشخصيات والصراع والزمان والمكان والحوار هو النسيج الذي يربط كل هذه العناصر والحوار بناء تركيبي ينطلق دلالاته من دلالة الخطاب بشكل عام ، ويرى ( باختين) في تفسير الحوارية (إنه تفاعل بين المتحاورين وإن التفاعل اللفظي خاصيّة واقعية من خصائص اللغة، فالحوار هو شكل من أشكال التفاعل اللفظي وإن يكن أهم هذه الأشكال والحوار من الفروق بين المسرحية والرواية كما انه تواصل لفظي مهما كان شكله  (3)

      أفاد أديب كمال الدين من استثمار عنصر الحوار في الكثير من قصائده  ذات البنية الدرامية  وبصورة لافته للنظر الحوار بين الحرف والنقطة ، وقد تجلى ذلك في أنماط من الحوار : الحوار الصريح ، الحوار الضمني ، الحوار الداخلي . ففي الحوار الصريح هناك صوتان صوت الشاعر وصوت الشخصية التي تحاوره كما في قصيدة: (حُبّ) المنشورة في  مجموعة ) شجرة الحروف ( :

 

(1)

حلمي كان الحُبّ

ولذا أردتُ لحرفي أن ينطق كلمةَ: حُبّ.

قبّلتُ شفته السفلى

كانَ الحرفُ صغيراً وجميلاً

وللتوّ عادَ من طفولته المليئةِ بالجمر.

قلتُ له : قلْ حُبّ.

فقالَ على الفور: حرّية!

ولذا ضعتُ لسنين لا حصر لها،

أتجلّى في طوفان الحرّية وزلازلها.

ثمَّ قلتُ له : قلْ حُبّ.

فقالَ على الفور: حماقة!

ولذا ضعتُ لسنين لا حصرَ لها،

أتجلّى في كأسِ حماقاتِ الدنيا

درويشاً مهووساً بقصصِ العشق،

وملاكاً مُصاباً بجذامِ الرغبة.

ثمَّ قلتُ لحرفي:

ها قد أصبحتَ كبيراً.

أعني أصبحتَ من النضجِ بما يكفي

لتقول : حُبّ.

فقالَ على الفور: حرب!

ولذا ضعتُ ضياعاً أسودَ أغبر

في حربِ الأجداد

وحربِ الأوغاد

وحربِ الأحقاد.

(2)

حين خرجتُ من الحرب

أجرّ هزيمتي النكراء،

كانت سنواتي قد تجاوزت السبعين.

ولم تعد عندي الرغبة أبداً

أنْ أسأل حرفي شيئاً.

ومعَ ذلك،

قلتُ في لحظةِ عبثٍ ومجون:

قلْ حُبّ.

فقالَ على الفور : حقد!

فضحكتُ حتّى اخضلّتْ لحيتي بالدموع

ومن جديد: قلْ حُبّ.

أرجوك

تعبتُ حدّ اللعنة

من الحرّيةِ والحماقةِ والحرب .

يا حرفي..

يا هذا..

هيّا..

قلْ حُبّ.

وبقيتُ كمجنونٍ أصرخُ في وجهه

حتّى متّ: قلْ حُبّ

حُبّ

حُبّ!

 

     في المقطع الأول الصوت الحواري يعبر النص بأصوات تشتبك مع صوت الشاعر لتوقظ عالمه الحروفي الذي يبحث عنه : صوت الحب : صوت الحرف : من طفولته التي كانت مليئة بالحمر. كان هناك تداخل : صوت الشاعر مع صوت الحب مع صوت الذات ليبرزه حوار الذات . وتتجلى أسئلة الوجود إذ تتعدد الضمائر ومن التجليات اللطيفة للبنية الحوارية : التعانق العفوي بين البنية السردية والبنية الحوارية لتشكيل الحدث الدرامي ، فيتنقل السرد انتقالا سريعا من شكله الحكائي إلى الأسلوب الحواري ليحصل الاندهاش من خلال كسر أفق التوقع  لتشكيل حبكة فنية يتكئ عليها النص . وفي أغلب قصائد أديب كمال الدين يتداخل السرد الحكائي مع الأسلوب الحواري.

    في المقطع الثاني من قصيدة ) حب ( يبقى الحوار مع الحرف والشاعر قائما من أجل كسر الهزيمة ، هزيمة الحرب  التي خرج منها .وهكذا في  نصوص أديب نجد لوحة سردية ذات بعد رمزي منذ السطور الأولى ولعل هذه القصيدة تلح كمثالا لهذه التقنية ، فصوت الحرف هو الصوت البارز والمنفرد في هذه التقنية عبر حواره مع الشاعر أو مع النقطة .

 وفي قصيدة : (ارتباك) نتعرف إلى حوار آخر:

 

(1)

* قالَ الشاعرُ: مَن سيكتب قصيدتي؟

- قالَ الحرفُ: أنا.

* ومَن سيطلق أسرارها للناس؟

- قالت النقطةُ: أنا.

جاءَ القَدَر

ومسحَ الحرفَ والنقطة

مِن شاشةِ المعنى.

فجلسَ الشاعرُ مذهولاً العمر كلّه

مثل صخرة كبيرة

مُلقاة على شاطئ البحر.

  (2)

* قالَ الطفلُ: مَن سيأخذني إلى حضنِ أمي؟

- قالَ الحرفُ: أنا.

* ومَن سيشتري لي لعبةَ العيد؟

- قالت النقطةُ: أنا.

جاءت المأساة

فمسحت الحرفَ والنقطة

مِن شاشةِ المسرّة.

وتركت الطفلَ يبكي الليل كلّه

كشحّاذٍ ينامُ في شارعِ الثلجِ والمطر.

  (3)

* قالت الشمس: مَن سيُنبِتُ لي جناحين لأشرِق؟

- قالَ الحرفُ: أنا.

* ومَن سيمنحني القوّةَ لأطيرَ إلى الناس؟

- قالت النقطةُ: أنا.

جاءَ العبث

ومسحَ الحرفَ والنقطة

مِن شاشةِ الحياة.

فجلست الشمسُ وهي تقلّبُ كفّيها

في وجومٍ عظيم.

  (4)

* قالَ الشيخُ وهو بين يدي الموت:

مَن سيحفرُ قبري؟

- قالَ الحرفُ: أنا.

* ومَن سيصلّي عليّ؟

- قالت النقطةُ: أنا.

جاءَ الشيطان

ومسحَ الحرفَ والنقطة

مِن شاشةِ الوجود.

فجلسَ الشيخُ مرتبكاً

لا يعرفُ كيفَ يموت!

 

     في هذه القصيدة يتجلى الصوت الحواري، حيث نجد في المقطع الأول حوارية دائمة بين الشاعر من جهة وبين الحرف والنقطة من جهة أخرى ، وكأنها شخصيات مسرحية من خلال السؤال والجواب : قال : قلت. حوارية ثنائية ذات بعد رمزي ووظائف متعددة تزاح من خلالها دلالة العبارة ليصبح مفهوم المحاورة أقرب إلى الصراع .

    في المقطع الثاني يدور الحوار بين الحرف والطفل ، الحوار تشكل من خلال رؤية سردية يمسك بزمامها الراوي الذي يهيكل الخطاب الشعري دون أن يفلته من يده حتى لحظة المأساة التي مسحت الحرف والنقطة من الحدث كما يدور الحوار في أغلب لاحيان على شكل استجواب ويشكل الاستفهام أساسا له .

في المقطعين الثالث والرابع من القصيدة كشف الحوار بين الشمس والحرف وبين الشيخ والحرف عن خفايا دلالية من خلال هذه المشاهد . إن نص أديب كمال الدين لم يغفل الجانب الحسي في علاقته مع الحرف والنقطة اذ جعله يقترب أحيانا من بنية القصة القصيرة جدا وتشكل الأحداث وفق رؤية سردية ينمو معها  الحدث نموا دراميا ليصل إلى ذروته.

ويتجسّد الحوار في قصيدة (قال الحرف: ما معنى النقطة؟) المنشورة في مجموعة: الحرف والغراب:

 

قالَ الطاغية: ما معنى الشعب؟

وأمرَ بعنجهيّة

بإعدامِ كلّ الذين فرّوا من المعركة.

قالَ العاشق: ما معنى القُبْلة؟

وطلبَ بمرحٍ كأساً أخرى من النبيذ.

قالَ الشحّاذ: ما معنى الرغيف؟

فهبطتْ بهدوءٍ من عينيه دمعةٌ حرّى.

قالَ الشرطيّ: ما معنى المظاهرة؟

وملأ بثقةٍ مسدسَه الكبير بالطلقات.

قالَ النهر: ما معنى الماء؟

فارتبكَ بشدّةٍ وكادَ قلبُه أنْ يتوقّف.

قالَ الغراب: ما معنى الحمامة؟

وضحكَ بخبثٍ ضحكةً صفراء.

قالَ الحرف: ما معنى النقطة؟

ومسح بألمٍ صورتَها من كتابِ الوجود.

قالَ الموت: ما معنى الحياة؟

وغسلَ بلا مبالاةٍ يديه الضخمتين من الدم!

 

   الشاعر يقدم هنا شخصيات متعددة وهي التي تتكلم وهي التي تحاور وتمسح وترتبك وتنتقم ... الخ، والفعل قال يدل دلالة مباشرة على التحاور ومما سرّع من حركة الحوار هو وجود الجملة القصيرة التي تختزل زمن الحوار ، وهذه الأصوات المستدعاة القادمة من الواقع تتداخل مع صوت  الشاعر ليبرز حوار الذات وتتجلى أسئلة الوجود: ما معنى النقطة؟ وهذه سمات مجسّدة في أغلب قصائد أديب كمال الدين. ونجد الحوار يشكل جسّد القصيدة كلها  في قصيدة ) أقوال ( من مجموعة (أقول الحرف وأعني اصابعي): 

 

(1)

قالَ الحرفُ الحكيمُ للنقطةِ الشاعرة:

تعالي إليّ!

فأجابت النقطة:

بل أنتَ تعال إليّ!

قالَ الحرفُ:

إنْ جئتكِ عشقتك

وأصبحتُ ساحراً،

وأنا لا أحبُّ السحر.

فأجابت النقطة:

إنْ جئتكَ ذبتُ فيك

وأصبحتُ نبيّةً،

والنُبُوّة لا تصلحُ للنساء!

(2)

قالَ شاعرُ الملوكِ الظَلَمةِ للشاعرِ الفقير:

انظرْ إليّ: لقد ضحكتُ من الملوك

وبنيتُ بدنانيرهم قصراً عظيماً

وضحكتُ من الناس

حين أوهمتهم أنني مِن الثائرين.

فردّ الشاعرُ الفقير:

أمّا قصرك

فعمّا قريب ستموت

وستسكنه من بعدكَ الغربان،

وأمّا ذكراكَ عند الناس

فستتحوّل إلى شتيمة

تخفقُ في الهواء

مع رفّةِ  كلِّ جناحِ غراب!

(3)

قالَ الشاطئُ للبحر:

أما تعبتَ من السفرِ طوال الدهور؟

أما آنَ لأمواجكَ الزرق أنْ ترتاح

بين يديّ قليلاً؟

أما تعبتَ مِن هذا المكتوب؟

فأجابَ البحر:

لستُ بطالبِ راحةٍ أبداً.

لو أردتها لنمتُ بين يديك

منذ آلاف السنين

إلى أنْ يضمحلّ لوني

وتنهار أشرعتي وأسطورتي.

لكنّه السفر،

لكنّه المجهول،

يا صديقي، وشقيقي، ورفيق الشموس.

 

   يلاحظ توظيف الحوار من خلال الفعلين (قال وأجاب)  للدلالة على وجود متحاورين موظفا الفعل (تعال)  للدلالة على الرد على مقدار هذا المجيء إلى النقطة كما أفاد الشاعر. هناك صوتان - الحرف والنقطة - يشتبكان دائما  مع صوت الشاعر ليوقظان فيه عالمه الوجودي الذي يبحث عنه ، أما الحوار الضمني فهو نمط من المنلوج الذي لا يتدخل فيه المؤلف وهو يفرض وجود سامع أي أنه يوجب غيابا كليا أو قريبا من الكلي للمؤلف .  إن هذه التحولات داخل الخطاب الشعري في النص تنهض على اعتبار كون الصوت القادم يعيد تشكيل الحروف والنقاط ليتجدد المطلق في تشكيل رؤية ذات بعد فلسفي. وتزخر قصائد الشاعر أديب كمال الدين بالحوار الداخلي الذي يمثل صوت الشاعر ومناجاته النفسية والصراع الداخلي. ومن هذا قصيدته : العودة من البئر  من ديوان (أقول الحرف وأعني اصابعي) :

 

لماذا تركتهم يلقونني في البئر؟

لماذا تركتهم يمزّقون قميصي؟

لماذا تركتهم يكذبون،

وأنتَ تعرفُ أنّهم يكذبون؟

أعرفُ أنّكَ كنتَ شيخاً جليلاً

وأنّهم - وا خجلتاه- استغلّوا

ضعفكَ البشريّ

وبياضَ لحيتِك

ودقّةَ عظمِك.

أعرفُ هذا

وأعرفُ أنّهم تركوني إلى الموت

قابَ قوسين أو أدنى

وأنّ الذئبَ كان أرحم من أراجيفهم.

 

   الحوار الداخلي يظهر في هذه القصيدة بطريقة الاستفهام،  إذ يكرر  الشاعر  أسئلته ليبين معاناة النبي يوسف (ع)  مع إخوته وكيف تركهم يلقونه في البئر،  ليظهر تفاصيل صراع الخير والشر.

وينهض الحوار بمهمة تجسيد أبعاد الشخصيات  كما في قصيدة ) الحاء والألف) من  ديوان (أقول الحرف وأعني اصابعي):

 

قالت حروفُ الحقّ

وهي تناقشُ في الألفِ الشاب:

هل سَيُكْتَب له أن يعيش؟

بل هل ينبغي أن يعيش

أو ينبغي- ربّما- أن يموت!

قالت حروفُ الحقِّ كلاماً كبيراً

وكلاماً كثيراً.

نصفه غامضٌ ولا تذكره الذاكرة،

ونصفه لا يُفسّره إلّا العارفون.

وحدهُ الحاء

قال: اتركوه فهو شمسي.

هو مَن سيذكرني كلّما هلَّ اسمي.

قال: اتركوه فأنا منه وهو منّي!

 

   هذا المشهد الحواري كشف عن اللامنطوق في وعي الشاعر وأثبث أن الحوارية هنا تقنية فنية لرسم معالم الصورة الهادئة لكليهما فلم يقل أحدهما شيئا إلا تكرار الفعل : قال.

 إن  حواريات الشاعر أديب كمال الدين ذات بعد رمزي وذات وظائف فنية متعددة تنزاح من خلالها دلالة العبارة ليصبح مفهوم المحاورة أقرب إلى الصراع فالصمت نفسه يصبح من هذا المنظور رمزا لما يدور في نفس الشاعر ويختلج في صدره . إن هذه التحولات في شعر أديب كمال الدين  ضمن لعبة الضمائر تفتح أفق النص وتمنح القارئ مساحة أوسع ليعيد تشكيل دلالاته .

      في أغلب قصائد الشاعر يكون الحوار بين الحرف والنقطة وكذلك يجعل من البنية الحوارية بنية سردية يلعب الشاعر فيها دور الراوي أو السارد المصاحب الذي يسمح للشخصيات بأن تدلي بدلوها وتعبرعن آرائها في حرية تامة لتقدم الرؤية الشعرية : وقد سجل حضور الحرف والنقطة القسم الأكبر في صراع الشخصيات المتمثلة في صوت الشاعر في كل قصيدة من قصائده . هذه  دراسة لبعض قصائد الشاعر أديب كمال الدين ذات البنية الحوارية وهناك الكثير من القصائد ذات البنية الحوارية قد حفلت بها مجاميعه. ومن هذا المنطلق أفاد الشاعر أديب كمال الدين في استثمار عنصر الحوار في قصائده بصورة لافتة.

..........................................................

هوامش الفصل التاسع

         مجلة الثقافة الأجنبية ، وزارة الثقافة، بغداد، العدد 11 لعام  1982 

         الشعر والفنون ، مختارات من الأبحاث المقدمة لمهرجان المربد

         لسان العرب ، ابن منظور ، دار صادر ،  بيروت

 

 

 

 

 

 

قائمة المصادر والمراحع

 

- القرآن الكريم

 - السنة النبوية الشريفة

- ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة ، دار أزمنة للنشر والتوزيع ، عمّان ، الأردن 2006.

- شجرة الحروف ، دار أزمنة للنشر والتوزيع ، عمّان ، الأردن 2007.

 - أربعون قصيدة عن الحرف ، دار أزمنة للنشر والتوزيع ، عمّان، الأردن 2009

- أقول الحرف وأعني أصابعي ، الدار العربية للعلوم ناشرون ، بيروت ، لبنان 2011.

- مواقف الألف ، الدار العربية للعلوم ناشرون ، بيروت ، لبنان 2012.

- الحرف والغراب ، الدار العربية للعلوم ناشرون ، بيروت ، لبنان 2013.

- إشارات الألف ، منشورات ضفاف ، بيروت ، لبنان 2014

- رقصة الحرف الأخيرة ، منشورات ضفاف ، بيروت ، لبنان 2015

- موسوعة المصلح النقدي الجمالية ، ت:  د. عبد الواحد لؤلؤة ، المؤسسة  العربية للدراسات والنشر ، بيروت 1983

-         فصول  في علم الجمال ، عبد الرؤوف البرجاوي، الآفاق الجديدة، بيروت، 1981

-         بحث في علم الجمال ، جان برتليمي ، دار النهضة القاهرة، 1970 ص 10

 - الحيوان ، الجاحظ ، ت عبد السلام هارون ، مطبعة الحلبي،  القاهرة 1945

-         جماليات الفنون ، د كمال عيد ، الموسوعة الصغيرة بغداد 1980

-         فصول في علم الجمال  المصدر نفسه.

 

 

 

 

 

المؤلف في سطور

 

 

 

        سمير عبد الرحيم أغا

         قاص وناقد

         مواليد : الخالص - ديالى

         بكالوريوس إعلام ،  جامعة بغداد

         ماجستير فنون : عنوان البحث :( أثر الصور الشعرية في الرسم) .

         عضو اتحاد الأدباء  والكتاب في العراق

           صدر له:

         يوميات الهمر الأمريكي : قصص ،  نشــر الكتروني   2006

         شجرة البرتقال : قصص ، مطبعة المركزية ،  جامعة ديالى   2012

         البناء السردي في القصة القصيرة ، دراسة نقدية في قصص صلاح زنكنة ، دار أمجد للنشر والتوزيع ، عمان ، الأردن  2014

         أوراق طالب جـامعي ، قصص ، دار أمجد للنشر والتوزيع ، عمان ، الأردن 2015

         ألبوم طالبة جامعية : مطبعة المركزية / جامعة ديالى2016 .

 

 

 

الغلاف الأخير

لونيّة أديب كمال الدين

 

د. فاضل عبود التميمي

    مَن يريد أن يعرف الشاعر أديب كمال الدين فلينظر في شعره، ليكون قريبا من مخيّلة مبدعة تستقي أحلامها، وأنساقها، وعباراتها، وخطابها من محيط حياتي متعدّد المشارب، والاتجاهات، والرؤى أعني الحياة التي يقتنصها الشاعر من خلال القصيدة وهي تتوغل في مسامات الفن، والأدب ، والحلم ، والعشق، والفلسفة ، والصورة، والصوت، فضلا عن اقتناص المخيّلة للمعاني العقليّة السابحة في فضاء الماوراء غير آبهة بسلطة التحديد، والالتزام غير المسوّغ، ورتابة الجمود، فهي منقادة بروح التخيّل الماكث في الذهن الشعري نحو أقانيم يصعب حصرها منها: اللون.

  يجهر اللون في شعر أديب كمال الدين بحساسيّة الدلالة الكامنة فيه، وروح الشعر، وسلطة التشكيل، فليس اللون في قصائد الشاعر شكلا بلا دلالة، إنّما هو جوهر مكين له وظيفة تعبيريّة تصدح بسيمياء الوجود، والعدم، والرفض، والقبول، والصمت ، والمدح، والهجاء، والنعم، واللا، وله أن يكون بامتياز وجه الشاعر لا قناعه، وهو يديم الصلة مع اللغة والحياة.

 

 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home