مقدمة مجموعة  أديب كمال الدين الصادرة  بالإنكليزية: "حياتي، حياتي!"

 

عن الحروف والنقاط، الكلمات، اللغة والحياة

  

الدكتورة آن ماري سمث

(ناقدة وكاتبة أسترالية من أصل فرنسي)

 Anne-Marie Smith

في مجموعة أديب كمال الدين الشعرية الصادرة في فرنسا عام 2017 بعنوان (الحرف وقطرات الحبّ)- وهي مختارات شعرية ترجمها إلى الفرنسية الدكتور ناجح جغام- يختصر المترجم في تقديمه للمجموعة الظروفَ المأساوية لمبدعٍ منفيّ مثل أديب كمال الدين مُتسائلا: ما الذي يمكن أن تفعله لمواجهة عُنف التاريخ؟ ماذا يبقى عندما يُفقَدُ كلّ شيء، ويتراكمُ الُحطام أكثر فأكثر، عندما يُصبح مهدُ الإنسانية شبيهاً بقبر، وضوء قذيفة ينفجر فوق قذيفة، عندما تكون بلاد ما بين النهرين خراباً؟

يجيب: اللغة، اللغة العنيدة، تبقى. ويضيف مناقشاً: لأن اللغة وُلِدتْ من الحياة فهي تملك دوراً ضرورياً وصحياً للحفاظ على الحياة نفسها. فنحن نعرف أنّه إضافة إلى كينونتها الإبداعية الجمالية، فإنّ اللغة  بإمكانها أن تعمل أداةً لتأكيد البقاء.

(سأشعلُ حرفاً من حرفٍ

حتّى أبقى مُبصراً طوالَ حياتي).

"قصيدتي تسبح وتضحك"

 

صراع العقل المُتسائل

***************

إنّ عنونة أديب لمجموعته تحدّد لنا رحلةَ بحثٍ، وتعطينا إشارةً بالإحساس الوجودي لأديب كمال الدين. إذن، هل سَيُغفر لنا إذا سألنا: أيكون عنوان كتاب "حياتي، حياتي!" طبقاً لأديب، هو السؤال؟

إنّ العديد من الثيمات والصراعات في شعر أديب قد تمّ الاحساس بها حين شاركت الشخصية الأساسية، بشكل مباشر، في طقوس حقيقية أصيلة.

(إذا كتبتَ قصيدةً عن المطر

فاحذرْ أن تكتبها

ما لم تكنْ روحُكَ -

قبلَ جسدكَ -

قد تبلّلتْ بالمطر.)

"تلك هي القصيدة"

ستعاني روح الشاعر من ألم شديد وعذاب مبرّح. أديب يتحدث عن سلسلة من الأسئلة التي يجب أن يواجهها كلّ ليلة:

(علاماتُ الاستفهامِ كثيرة

أراها تتراقصُ فوق الرؤوس كلّ ليلة.

فأتوقفُ عن الكتابة...)

"رقصة مزيّفة"

وهذا يذكّرنا بالبحث عن المعنى أو الحقيقة في وجود الإنسان، وهو مبدأ من مبادئ الفلسفة الوجودية لألبير كامو.

 

مُعْضلة المنفى

************

على الرغم من اعتقادنا أنّ مقارنة الوطن بالمنفى هي مقارنة قاطعة في اختلافها، حين قارن أديب الجنّة بجهنّم، كما أشار أدناه: 

 (لذا دمدمْ قصيدةَ المنفى

وأنتَ في الوطن.

ودمدمْ قصيدةَ الوطن

وأنتَ في قطارِ الجنّةِ الذاهبِ إلى جَهنّم.)

" تلك هي القصيدة"

فإنّ من الممكن، كذلك، أن نواجه تأويلاً مختلفاً للوطن كمكان امتلأ بخُدَعٍ لا نهاية لها والتي يمكن للمنفى أن يملأها بمزيد من الخدع، ممّا يجعل القارئ حائراً فيما إذا كانت الإقامة في المنفى  زائفة مثل البقاء في الوطن.

(المنفى خُدْعةٌ إضافيّة

من خُدَعِ الوطنِ التي لا تنتهي.)

" أُغْرِقُ ذاكرتي في الماء"

صراع اللغة المجازية والذاكرة

*******************

تعمل صور أديب الشعرية كأغلفة، فبغضّ النظر عن مدى ذكاء  الاستعارة، بغضّ النظر عن مدى رقّة الإخفاء، فهي- أي الصور- لا تسمح للواقع بالظهور بشكل كامل. إنه يشير إلى الأقنعة المسرحية للطبيعة الشكسبيرية وإلى الأمثلة الشائعة للإخفاء  بواسطة التراب، اللغة المجازية وتشكّلها:

(التماثيلُ أشدُّ كذباً من صانعيها.

التماثيلُ أشدُّ كذباً

من وجوهِ طغاتِها وملوكِها.)

"رقصة سرية"

قصيدة أخرى تشير، أيضاً، إلى أن الذاكرة يمكن لها، كذلك، أن تخلق متاعب خطرة للعقل البشري.

(حرفي يصارعُ العمى كي يراكِ

أو يرى رمادَ ذكراكِ.)

" شبح قصيدتكِ الأخيرة"

         

قسوة الحقيقة

*********

ما مِن حل وسط يطلقه صوتُ أديب. فحقيقة الحياة يجب أن تبقى ظاهرة للعيان. وغالباً ما يستخدم متحدثو اللغة الإنكليزية الأصليون العبارة الاصطلاحية: "الحقيقة العارية"، مع ذلك فأديب هنا يمنحنا تأويلاً حرفياً للحقيقة العارية ككيان لا يمكننا أن نراه إلّا عندما نكون عاريين أو مكشوفين.

(كانَ عارياً تماماً

بوجهٍ غَطّاه التُراب.)

" الموتى يرقصون عند الباب"

(الموتُ لا يحبُّ إلّا العُراة!)

"رقصة مزيّفة"

يتمّ تحصيل الحقيقة عن طريق  كشف أيّة صور مزيفة أو  مخادعة، عن طرق التخلص من أيّة استعارات مادية متداخلة: المطر، الماء، الضياء، النار، والتي قد تخفي طبيعة الواقع الشخصي. فأنتَ لا يمكنك أن تخفي الحقيقة بإحدى الصور، لأنّ الحقيقة هي توكيد لا يقبل الجدل، يُوصَف، بطريقة سلبية، من خلال استخدام أضداده الكاذبة.

(يفاجئُ المطرُ ذاكرتي دائماً

بأكاذيبه الجميلة

فأستقبلهُ فرحاً بدموعي.)

"رقصة مزيّفة"

كذلك تأخذ الحقيقة شكلَ البيان الشخصي الذي لا يتوقف لتعبير ذاتيّ متكرر:

(جلسَ حرفي في منتصفِ الليلِ عارياً أمامَ المرآة

وبدأَ يكتبُ مرثيّتي عبرَ الساعات

والأيّام والسنين.)

"قطعة ذهب"

 

حُبّ اللغة والكلمات والحروف

******************

تصلنا الحقيقة عبر اللغة. اُكْتُشِفت الحقيقةُ عبر مشاهدة الأجساد العارية كلّها، لنساء عاريات، وللموتى الذين طُلِبَ منهم أن يكونوا عراة حين يواجهون الآخرين.

ولتأكيد الحقيقة، نستخدمُ اللغة التي تعطي كلّ حرف من الأبجدية طبيعةً مقدّسةً تجعل الكلمات والتعبير سلاحاً للصدق، اللغة التي تتيح للشاعر أن يكون هو نفسه مجنوناً ومتحرراً، وغالباً  من خلال نساء يمنحنه مرآةً ليرى أعماق روحه.

(أن تعيشَ مِن دونِ نقطة

يعني أنّكَ تعيش مِن دونِ حرف.

وأن تعيشَ مِن دونِ حرف

يعني أنّكَ تعيش مِن دونِ مرآة.)

"مرآة حروفيّة"

إنّ البقاء على قيد الحياة يعتمد على قدرة الشاعر على مواجهة نفسه من خلال النساء والكلمات وانعكاس ذلك ذاتياً بشكل حاسم.

(في المنفى ليسَ هناك مِن مرآةٍ لترى نَفْسَك

ولذا صارَ الشّاعرُ يَتَمرأى في حرفه ليلَ نهار.)

" أُغْرِقُ ذاكرتي في الماء"

وقد تشجع الملاحظةُ الدقيقةُ القارئ لعمل أديب كمال الدين حتّى يتحرّى إذا كانت الكلمات في تعريفاتها المعروفة موجودة فقط  كانبثاقات في خيال الشاعر وأنها يمكن ان توجد في الواقع.

(القصيدة،

أعني الجملة،

أعني الكلمة،

بحروفها التسعة

عصيّة على الولادة

ما دامت عصيّة على الوصول إلى نَفْسِها

في آخر المطاف!)

"قصيدة بلا عنوان"

شيء واحد يمكننا أن نكون متأكدين منه هو أنّ الشاعر الذي يزدري لغةَ الحبِّ سيدفع الثمن جنوناً ليتحدّث لنا بلغة الحبّ. مثلما نسمع ذلك في القصيدة الأساسية لهذا الكتاب:

(إذا كنتَ شاعراً فكنْ عاشقاً

حتّى تكتمل عندكَ قصيدةُ الجنون.)

"تلك هي القصيدة"

*****************************

"حياتي، حياتي!" شعر: أديب كمال الدين، منشورات ومطبعة فيوجي فيلم، أديلايد، أستراليا 2021

الدكتورة آن ماري سمث: ناقدة وكاتبة أسترالية من أصل فرنسي

^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^

نُشرت في جريدة المدى  بتأريخ  24  نوفمبر - تشرين الثاني  2021 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home