الموت كقضية إنسانية" في (أقول الحرف وأعني أصابعي)

 لأديب كمال الدين

 

 

 

 عزيز العرباوي - كاتب وناقد من المغرب

 

 

الشاعر مثل كل الأنبياء يظل حيا ولا يموت تحت دلالات الواقع القوية، فحياته في استمرار شعره وانتشاره بين الناس ليصبح شكلا جديدا للخطاب الإنساني، فيفرض الشاعر نفسه على الناس إلى أقصى الحدود. وتكفي قراءة قصيدة تحاكي الواقع وتنقد واقعا ثقافيا وساسيا كي تصير شكلا جديدا في الخطاب وترفع من سقف الوعي به من جديد .


إن الشاعر يتحدث في أغلب الأحيان بوضوح لأنه لا يحتمل أن تخفي الرموز وحقائق المعاناة والأ لم التي يعيشها، بل لا يستطيع تجاهل تفاصيل الحياة المهمة أو الصور المضيئة أو المظلمة التي تمر أمامه. وغاية الشاعر دائما تطويع هذه الصور والحقائق مع قناعاته الشخصية ومع القيم الإنسانية التي يؤمن بها. بل إن غايته الكبرى هي أن يقرأ الواقع من جديد ليكتشف فيه تلك الكنوز المفقودة فيه، وهذا ما يساعده على ممارسة الوضوح في شعره .
والشاعر عندما يستحضر القضايا الاجتماعية والثقافية في قصيدته فإنه يتعاطى مع المعطيات المحلية والإقليمية والإنسانية، وكل هذه المعطيات تصب في قضية واحدة هي قضية وطنه العربي وأمته كلها. وهكذا نجد الشاعر أديب كمال الدين في ديوانه "أقول الحرف وأعني أصابعي" محصورا بالاختلاف والاغتراب وصور الألم والموت فيهرب إلى الرومانسية حينا وإلى التغني باللغة وحروفها حينا آخر، وتارة إلى الموت الذي يحصد أمامه كل شيء وكل إنسان عزيز عليه. إنه يناضل من أجل استعادة الاحتفاء بالوجود كي يحس بالحياة والبقاء رغم الحضور الدائم للموت.


ذلك هو الشعر، فالشاعر أديب كمال الدين يقف عند الصور الكثيرة، فتصبح الحركة الخارجية والصفات السطحية في قصيدته الشعرية شبه غائبة تقريبا، بحيث أته يحاكي الرسام التشكيلي في مقاربته لموضوع ما ولصورة محددة. فهو في أغلب دواوينه، وفي ديوانه الجديد هذا الذي بين أيدينا يترك الصور والأشياء تتحرك أمامه، ويأخذ موقف المراقب الذي لا يترك صغيرة وكبيرة دون تصويرها وتقديمها إلى المتلقي بواسطة الشعر، الفن الذي يعتبر الأقرب إلى وجدان المتلقي من أي فنون أخرى.

 
إنه يؤدي مهمة الشاعر والرسام معا، من خلال إثارة الحركة في كل شيء يراه ويكتب عنه، معتمدا تارة على الذاكرة المختزنة لأفكار مسبقة حول الصورة، وتارة على مشاهدته العمية التي يرتب حولها أكاره ويقدمها في طبق شعري جميل:


يا صاحبَ الوعد

حملوا رأسكَ فوقَ الرماح

وطافوا به كوفة الوعد،أيّ وعد؟

كنتُ أبصرُ شهوةَ الدينار

تلمعُ في عيونهم الكليلة.

وأبصرُ شهوةَ الغدر

في سيوفهم المُغبّرة.


ولسناهنا نتحدث عن دقة التصوير، أو عن تسلسل النظر، بل ما نلاحظه هو ذلك الإبصار الذي يرمز إلى الإحساس بالشيء أو بالصورة، وإلى تفتح الحياة من داخل تلك الصورة، إن العين المبصرة أفضل من العين الرائية التي ترى الشيء من الخارج دون أن تتعمق فيه وتحس به.وهذه العي المبصرة هي التي تتنفس الحياة وتطلبها وتبحث عنها، بل تندفع اندفاعة المحارب إلى الفوز بها...


إن أديب كمال الدين يوظف كل حواسه من أجل رسم صور عديدة يبحث عنها القارئ في قراءاته المتعددة، وقد اختار بعناية صوره الحياتية والإنسانية واستطاع أن يقترب منها بأسلوب شيّق وبطريقة الشعراء الكبار. وبالتالي، فإنه كان جدّ موفق في ذلك.


إن قصيدة أديب كمال الدين تفرض نفسها في القراءة على قدم المساواة مع قصيدة الشعراء العرب الكبار، سواء من حيث ثقوة الأسلوب الذي تتميز به قصيدته أو من حيث المواضيع الراهنة التي يتحدث عنها. ولعلّ هذا ما يجعل قصيدته مرشحة لتؤثر في المتلقي وتزيد تأثيرا في المستقبل .


إن الذائقة الشعرية في قصيدة كمال الدين قد وجدت لنفسها مكانا خاصا بها عند قراء كثيرين وعند نقاد عرب متميزين كتبوا عن تجارب ودواوين الشاعر بإسهاب ضمن دراسات عديدة. وهذا لعمري ما يميز هذه التجربة الشعرية المتميزة ويعطيها زخما من أجل الاستمرار والتفوق والتأثير، لأن قصيدة شاعرنا بصفة عامة تمتلك شكلا مرنا واهتماما بمواضيع إنسانية وحضارية وبحثا عن أهمية التفاصيل المملة في كل قضية أو مشكلة.

 

الموت كقضية إنسانية:

 

كيف يمكن تفسير مهارة الشاعر أديب كمال الدين عندما يجعلك تعيش من خلال الكلمة ومن خلال القصيدة الجميلة، في عصر آخر وفي ثقافة أخرى، وفي مكان جديد يخالف جميع الأمكنة، وفي طبيعة إنسانية مختلفة، إنها موهبة الشاعر الجاد والمتميز والقادر على خلق سلطة جديدة للقصيدة، للشعر، للإبداع، للغة الحديثة،... فمن خلال قصيدته نرى صدقا ونقرأ حقيقة صادقة بكل معنى الكلمة.
اختار الشاعر أديب كمال الدين في ديوانه الجميل "أقول الحرف وأعني أصابعي" أن يتصدّى لقوى الموت والألم تجاه الكثيرين من أحبائه، ومن ثم مواجهته جميع أحابيل الموت الذي يأتي خلسة وفجأة والدعوة إلى الثورة عليه. فكانت قصائده الرثائية مناهضة ورافضة للموت القائم على المفاجأة دون سابق إنذار. فالكلام عن الموت لم يكن مفرطا على عادة العديد من الشعراء الآخرين الذين عندما يحاكون ويكتبون عن تيمة الموت يكثرون الحديث عنه وحوله حتى يجعلوا القارئ والمتلقي يمج الموت والكلام عنه. إن الموت عند شاعرنا هو ذلك الواجب المفروض علينا لكنه في نفس الوقت غريب في حضوره وغير محبوب في بعض الأوقات خاصة إذا ما أصاب أناسا قريبين جدا لم نشبع منهم بعد. يقول في قصيدة "صقر فوق رأسه الشمس" يرثي بها الشاعر الراحل رعد عبد القادر:


لمْ تكنْ تتوقّع
أنْ تنتهي الرحلة
بهذهِ السرعة .
فلقدْ أعددتَ مبتهجًا
المزيدَ من المشاهدِ لمسرحيتك
والمزيدَ من الفصولِ لروايتك
والمزيدَ من الأمطارِ لحديقتك .
لكنْ،
كما ترى،
فإنّ الرحلة
قدِ انتهتْ بسرعة
إلى ما ينبغي لها
أوْ إلى ما لا ينبغي لها.
ولا فرقْ!

 

يتأكد لنا الرفض الواضح للموت المفاجئ كما جاء في العديد من قصائد الديوان، لكون الموت وفهم المغزى منه هو المعيار للانتصار للحياة، لكن شاعرنا خلاف ذلك كله. فالموت عنده يخالف معنى الموت الحقيقي ودوره في تغييب الإنسان بعد مدة معينة من الزمن كانت كافية للقيام بدوره كاملا وليس قبل أن ينهي هذا الدور سواء كان دورا اجتماعيا أو ثقافيا أو سياسيا. وبالتالي فالشاعر يحاول توريط الموت ووضعه أمام المحك وأمام المقياس الحقيقي للحصول على الاعتراف والقبول به. يقول الشاعر أيضا:


كيف متَّ
أنتَ الذي كانتِ الحياةُ كأسك المفضل
والقمرُ نديمك الأبيض
والشمسُ بهجتك الخضراء
والضحكةُ المجلجلةُ غيمتك الصافية
والنساءُ صندوق بريدك المليء بالطيورِ والقُبَلْ ؟

 

 


إن الشعر عند أديب كمال الدين لا يكمن دوره في البكاء والنواح والمديح والبحث عن منطقة عاجية يضع نفسه فيها من أجل الإحساس بالكبرياء الذي ادعاه الكثيرون من شعرائنا على مر العصور، بل هو شعر مختلف يبحث عن تزيين حياتنا العربية ولغتنا بالكثير من الأوان، فهو يختلف عن ذلك الشعر الذي صار مستباحا اليوم حتى أصبح لكل من يستطيع أن يخطط حرفا يدعي الشعر ويكتبه وينسب نفسه ظلما وعدوانا ودون خشية من الله إلى هذا الكائن الأدبي العظيم الذي حافظ على نقاوته وعظميته عدة قرون مضت.
ومن خلال قراءاتنا المتأنية لديوان أديب كمال الدين فإننا نجد أن هناك موهبة شعرية فذّة تثيرها العديد من القضايا والأمور الحياتية، ويثيرها الحرف الذي يتخذ أشكالا متعددة، بل يحتضن نفسه أيضا وينام وحيدا مثل يتيم طُرِدَ من الملجأ لا يعرف إلى أين يذهب. ويثيرها اسم الحرف الذي يعني المنفى والاغتراب والبعد عن الأهل والوطن، والجمرة التي تلهب ولم تزل شوكة في القلب، ومحراب بابل، والجرح الممهور بالدم والندم، والموت الذي لا أول له ولا آخر،.... كل هذا يقع في منطقة قصوى من النفس، وهي منطقة النسيان والتجاهل. يقول في قصيدة "حرف يحتضن نفسه" :

 
... دعها أرجوك
ففي النهايةِ
لنْ تكون أنت
سوى حرفٍ أضاعَ نقطته،
سوى حرفٍ يحتضنُ نَفْسه،
وينام وحيداً
مثل يتيمٍ طُرِدَ من الملجأْ .

 إن الشاعر أديب كمال الدين يتطرق إلى الألم وإلى المحنة من خلال مقاربة مفهوم الموت ورفضه كليا، لأن الموت عنده يغيب ذواتا وأرواحا عن الوجود رغم أنه يحتفظ بتلك المسافة المضيئة التي تحاول خلق علاقة جديدة بين الراحل وغير الراحل. إنه يتحدث عن الموت ضمن حدود وتفاصيل شديدة الصلة بالشاعر، ولذلك نجد أن للموت صفات تختلف عن صفات الحياة بحيث أن الحياة تتصف بالانتظارية والتوافق والتواصل المادي بينما الموت خلاف ذلك تماما.


نجد عند الشاعر في ديوانه هذا الكثير من الرموز والاستعارات في مقاربته لبعض التيمات، كالموت والألم والحب والكره بل يستحضر تلك العملية التي تخلق دلالة لغوية وفكرية لهذه التيمات، وهي عملية إبدال المعاني والمفردات. إنه يمارس اللغة الجميلة التي تنبني على التجديد اللغوي والفكري والنحوي، ضمن عبارات بسيطة ودالة.


إن أديب كمال الدين في ديوانه يكتب الشعر الأنيق الهادئ رغم إشباعه بعبارات الموت والألم والفقد والغربة هادفا في تحقيق تلك الرغبة الدفينة عنده والتي تتجلّى في محاولة جذب القارئ إلى منطقة قصوى يقع فيها الشاعر حاملا لواء التميز بيده اليمنى، وبيده اليسرى يحمل هدية ثمينة لقارئه وهي باقة من القصائد الجميلة التي تميزت ببساطة أسلوبها وبقوة اللغة الشعرية القادرة على جذب القارئ ودفعه إلى العيش في قصة كل قصيدة من الديوان.


إن الموت عند شاعرنا يأخذ تلك الدلالة المرجعية التي تجعل الزمن مجرد شيء عادي جدا لا يهتم به، وخاصة أنه مرحلة أولية للوصول إلى تلك المنطقة السوداء التي يحتلها هذا الموت رافعا لواء الانتصار على الحياة والتمركز في الصدارة متفوقا على السعادة والاستقرار النفسي والاجتماعي:


في المشهدِ الأخيرِ
أيقنتُ أنّكِ متِّ حقاً وصدقاً .
كنتِ تنظرين إلى البحرِ في الليلِ
والبحر أبيض،
وثوبكِ –كما اختار لهُ المُخرجُ- أبيض،
والشجرُ الذي يحيطُ بكِ أسْوَد أسْوَد،
ليس عجيباً أنْ تموتيِ،
العجيبُ أنّي كنتُ أنظرُ إليكِ في المشهد
وكنتِ تموتين بهدوءْ.

 

إن المشهد الأخير لمسرحية الموت يعطي الانطباع على الذات والروح قد غادرتا الدنيا والحياة، فمشاهدة البحر في الليل رغم بياضه، والثوب الذي اختاره مخرج هذه المسرحية، والشجر المحيط بالشخصية التي تموت بهدوء،... كل هذه التفاصيل والأحداث لا يمكنها أن تكون عنوان لقصيدة شعرية أو ألما أو جرحا عند الشاعر لأنه يراها مجرد مسرحية أو فيلم سينمائي يشاهده على الشاشة....
إن القصيدة عند أديب كمال الدين تخرج من دائرة الشعر الحديث، بحيث أنه يبحث عن موقع له في قبيلة الشعراء العرب المحدثين والمعاصرين الذين تميزوا بقصيدتهم المجددة، والتي أعطت زخما لأدبنا العربي وبوأته المكانة العالمية اللائقة. ومن هنا نستطيع أن نزعم بأن قراءة تجربة أديب كمال الدين الشعرية تضيف الكثير إلى القراءات العربية النقدية التي بدأت تخرج إلى الوجود من خلال دراسات وقراءات نقدية لتجارب شعرية عربية متميزة، وشاعرنا واحد منها.


فقصيدة شاعرنا حاضرة حضورا قويا في الشعر العربي المعاصر، من خلال تطرقه لمواضيع وقضايا قومية وإنسانية مهمة، وقضايا لغوية وفكرية غير مطروقة اليوم، وبالتالي نستطيع أن نزعم أن تجربة كمال الدين الشعرية من التجارب المهمة والمتميزة في أدبنا العربي. وبالتالي فقد برز هذا الشاعر في مجال إبداعه الأدبي من خلال العديد من الدواوين الشعرية التي أصدرها، وكذلك من خلال العشرات من الدراسات النقدية التي قاربت تجربته الشعرية يتزعمها كبار النقاد العرب من أمثال: الدكتور عبدالعزيز المقالح، والدكتور عبدالإله الصائغ، والدكتور عدنان الظاهر، وعدنان الصائغ، والدكتور مصطفى الكيلاني، والدكتور حاتم الصكر،.... وغيرهم.

 

************************

 أقول الحرف وأعني أصابعي ، شعر: أديب كمال الدين ، الدار العربية للعلوم ناشرون ،  بيروت ، لبنان 2111    

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home