قراءة في ثلاث قصائد من ديوان (الحرف والغراب)

مأساوية (الأنا) في شعر أديب كمال الدين

 

أسامة غالي

 

 

 

يكتب الشاعر العراقي المغترب أديب كمال الدين قصائده بتواشج  بين صدى الذاكرة وما يحدث في الواقع الراهن كي يؤثث الفراغ بين الماضي والحاضر بأتساق فني موجه يؤهل القارئ إلى استجلاء قيم الزمن وتأثيراته في الأنا والشعور، ويرسم بشعره خطاطة النوايا السيئة في منع الآخر من العيش وسط زحام المعنى القابل لاستيعاب الكل على أنهم عناصر فاعلة ومشاركة دوما في صناعة الحياة فيستعرض عينات من التاريخ، وجدها تقارب ما يعيشه  الإنسان المعاصر ،من هنا جاء اختيار ثلاث نصوص شعرية لأديب كمال الدين تشترك في المعاناة نفسها، وتنطوي على مأساوية شخوص قد تحدث عنهم الشاعر بلغة صاخبة تشير ضمنا إلى حضور مأساة موازية في ذات الشاعر نفسه مع فارق أن أديب كمال الدين يتعاطى مع المأساة بشكل مغاير تنبئ عنه قصائده الحروفية الأخرى مما دعاه أن ينأى بقصائده الثلاث عن هاجس السؤال والحرف والنقطة..

 

مأساوية (الليلة الأخيرة لسيلفيا بلاث) 

 

القصيدة التي جاءت ضمن مجموعة (الحرف والغراب) يبتدأها  الشاعر بإلفات النظر إلى مقاربة مأساوية تتأرجح بين ادراكين ، أولهما سطحي عابر والآخر موغل في العمق يراهن صاحبه على اكتشاف الحقيقة والبوح بها دون ايهام واضعا لها عنوان باسم شاعرة أمريكية قد أنهت مأساتها بالانتحار جرّاء (طفولة معذّبة وحياة زوجية أكثر عذاباً ):

 

لم تكنْ على مائدتِكِ الليلة

كأسُ النبيذ

ولا ملعقةُ العسل،

بل كانتْ على مائدتك

كأسُ الزوجِ الخائن

والطفولةِ المُحَطَّمة،

وملعقة الأملِ: العلقم.

يبدو أن الشاعر في هذا المقطع قد غادر النص وترك (سيلفيا بلاث) هي التي تتحدث  وتشكل حواراً شعرياً بين الأنا التي عاشت المأساة  وبين صحو الضمير الذي يطالب دوماً بحياة كريمة ومفعمة بالحب ، احتدم فيه ضياع نشوة الطفولة مع الحياة الزوجية القاسية ،ثم يأتي دور أديب كمال الدين مفسّراً  يغور سبر الذاكرة  ليضع جزءاً من بصمات الألم المستديم ويكشف عن رحلة القصائد القلقة التي ساهمت هي الأخرى في مأساوية الأنا بشكل مباشر ( أي كانتْ على مائدتِك / كأسُ الحلمِ القاسي / والأبِ الأكثر قسوة/ وملعقةُ الوهم التي لا تجيد/ سوى تذوّق نفْسها) فهو يعلن عن خطيئة الإنسان الكبرى بتعاطي جرعات السم  دون توقف أو اعادة نظر في التسليم لمجريات الظروف بشكل نهائي.

 

بعبارةٍ أكثر وضوحاً:

كانت على مائدتِك

كأسُ السمّ

 والقصائد المرتبكةِ المتلعثمة

 

وهنا يتحول النص الشعري إلى دراما تضج بخطاب مأساوي متبادل بين الشاعر والشاعرة والأنا الموجعة كي يتقاسما الحزن على مائدة الضياع فيفاجئ القارئ بختامية  تعلن الذات عبرها عن رحيل دون عودة .

 

وداعاً!

أشربُ نخبَكِ

أيّتها الحمامة التي ضلّتْ طريقَها

إلى العشّ

فانطلقتْ باتجاهِ البحرِ العظيم.

 

(دوستويفسكي) في انتظار الموت

 

جاءت هذه القصيدة ضمن المجموعة نفسها امتدادا لمأساوية الأنا  ، وتمّ فيها اختيار  (دوستويفسكي)  عنواناً رئيساً  يحيل  إلى تراجيديا الموت المؤكد  والذي يترقب اختطاف بصمة الأمل على طول الطريق:

 

 

بلحيته الطويلة،

بعينيه القلقتين،

بجريمته وعقابه،

بذكرياته المُرّة

مِن بيتِ موتاه وموتاي،

بأبلهه العجيبِ وبمقامره الأعجب،

بارتباكه الحيّ وجنونه الباذخ،

بلحظاتِ وقوفه مرعوباً

ينتظرُ حبلَ الموت

 

نص بات ممتزجاً بالقلق والارتباك ينتظر فيه (دوستويفسكي) حبل الموت  (كي يلتفَّ على الرقبة/ بهَلْوَسَته الحكيمةِ وبحكمته المُهَلْوِسة) حمل في تضاعيفه وسمة التعليل والعطف المتكرر الذي ينبئ عن تماسك نصّي وتتابع للحدث بصورة سريعة ومفاجأة ، يتغير المشهد  إلى  الموت رمياً بالرصاص وكأن الشاعر يصوّر تعدد أسباب الموت وطرائقه على أنها لا تقلل من المأساة العارمة الا أن الزمن كان يمتلك دوراً في ايضاح حجم الموقف حيث يقول الشاعر: (قَتَلني رمياً بالرصاص/ وأنا في سنِّ العشرين!).

 

(لوركا) المُهدد بالقتل

هذه القصيدة جاءت هي الاخرى ضمن توصيفات  أديب كمال الدين لملحمة الموت والمأساة والحياة المشردة لكن باتخاذ شخصية مغايرة تتصرف باللامبالاة وتبدي عدم الاهتمام بالقادم من بعيد ،ترشح عن ذلك عتاباً مريراً يتواشج مع التحذير والتنبيه ، وقد تدخل الشاعر في صياغة الشخصية بصورة محايثة  لما هي عليه في الواقع :

 

سيقتلكَ فرانكو

أو أتباعُ فرانكو

أو رصاص فرانكو.

ثم  نجد الشاعر لم يغادر هاجس المجتمع في التفكير بالموت والحياة واشتغل على اعادة صياغة هذه الثنائية بجعل الحياة كائناً حياً يرغب ويتفاعل مع بقاء الإنسان وديمومته لكن رغبة الموت كانت أشد حضوراً، مما  منعت أنفاس الحياة من أن تستمر، وبذا تجاوز أديب كمال الدين  شخصنة القصيدة إلى الحديث بنسق فلسفي كلّي يقع بين طرفي نقيض وهو يحاول أن ينتصر للحياة لكن دون جدوى:

 

وستموت

بل ستشبعُ موتاً

أنتَ الذي لم تشبعْ من الحياة

مثلما الحياة

لم تشبعْ منك

 

تعلن القصائد الثلاث عن شرور متراكمة آلت بالأنا إلى التفكير بالنهايات مهما كان وقعها في النفس والولوج فيها بأسرع وقت تخفيفاً للألم وللمأساة دون وجود خيار آخر يضع بصمته على جدار الأمل كي تستعيد الأنا دورها وتخوض في الحياة بشكل متناسق ، فالاعتدال بات مفقودا في خضم صراع الشر مع الخير ، هذا ما صوّرته شاعرية أديب كمال الدين بشكل موازٍ لما يتحسسه الشاعر من أوجاع ومعاناة .

 

*****************************

(الحرف والغراب) ، شعر: أديب كمال الدين، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت - لبنان 2013

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home