في مرآة الحرف لأديب كمال الدين:

نصوص عضويّة في أحسن تقويم

عدنان حسين أحمد

 

   


صدرت عن  "منشورات ضفاف" ببيروت مجموعة شعرية جديدة للشاعر أديب كمال الدين تحمل  عنوان "في مرآة الحرف" وهي المجموعة الثامنة عشرة في سلسلة إصداراته  الشعرية. تضم هذه المجموعة خمسين قصيدة متنوعة في ثيماتها الشعرية، وأجوائها النفسية، ومقارباتها الفنية التي تعتمد كثيرًا على الوحدة العضوية للنص الشعري الذي يبدو للقارئ مُكتملاً ومُغلقًا وغير قابل للحذف أو الإضافة أو التعديل.

تُرى، ما الذي نقصده بالوحدة العضوية؟ وكم هو حجم القصائد التي تتوفر على هذه الوحدة العضوية سواء في هذه المجموعة أم في مجموعاته السبعة عشر السابقات؟ ولماذا يلجأ إلى هذه التقنية في كتابة نصوصه الشعرية؟ النقّاد القُدامى شبّهوا القصيدة بجسم الإنسان السليم فلا يجوز أن نخلع عضوًا ونركِّبه بدل عضوٍ آخر لأنه سوف يشوِّه الصورة القويمة المتناسقة التي رسخت في أذهان الناس. ولعل من المفيد هنا أن نستأنس برأي أبي علي الحاتمي الذي قال: "القصيدة مثل الانسان في اتصال بعض أعضائه ببعضٍ فمتى انفصل واحد عن الآخر أو  باينه في صحة التركيب غادر بالجسم عاهة تتخوّن محاسنه، وتعفّي معالم جماله، وقد وجدت حذّاق الشعراء وأرباب الصناعة من المحدثين محترسين من مثل هذا الحال احتراساً يجنبهم شوائب النقصان".

قد لا نغالي إذا قلنا بأن معظم قصائد هذه المجموعة أو سواها من مجموعات أديب كمال الدين الشعرية تتوفر على الوحدة العضوية التي توحي للقارئ بأنه يقرأ نصًا متواشجًا لا يمكن التلاعب بنسقه السردي أو خلخلة بنيته المُتناسقة التي تُذكِّرنا ببنية الإنسان "في أحسن تقويم".

مع أن قصيدة "أغنية إلى الإنسان" مكوّنة من ثلاثة أقسام إلّا أنها يجب أن تُقرأ كنصٍ واحدٍ مُتشابكٍ مُتضّام. فلقد بذرَ الشاعر كلمة "أغنية" في القسم الأول الذي يستدعي الاستماع، ووضْع الإيقاع وترديده، والرقص على أنغامه في القسم الثاني إذا كان قلبه حيًّا ينبض وليس مصنوعًا من الخشب أو الحجر، لكنْ أيَّ رقصة سوف يرقص هذا الإنسان؟ أهي رقصة القردة أم رقصة الذئاب التي ستُفسد النص؟ وبما أن الأغنية تتحدث عن"الحاء والباء "فلا مندوحة من"رقصة المُتصّوفة" ولا بأس في "رقصة الأيتام" أو "رقصة الغرقى". أما إذا استحالت هذه الرقصات كلها فما على الإنسان إلّا أن "يكتفي بوحشيته المُستترة" التي تغلق دائرة النص تمامًا بعد أن اكتملت وحدة الموضوع، وانتهى الشاعر من وضع اللمسات الأخيرة على قصيدة الحب الصوفي التي أخذت شكل الأغنية تارة، وشكل الرقصة الصوفية تارة أخرى، وشكل اللوحة المُكتملة تارة ثالثة.


كل الثيمات التي وردت في هذه القصيدة سوف تتكرر، بين آنٍ وآخر، في ثنايا هذه المجموعة الشعرية التي كرّسها الشاعر أديب كمال الدين للحُب الصوفي، والغرق الأبدي، ومعنى الكتابة، والخروج على النص، ولإيلان الذي توسّد رمال البحر الأبيض المتوسط.
تتكوّن قصيدة "نهر سحري" من أربعة مقاطع طويلة بعض الشيء لكن الذي يوحِّدها ويجعل منها قصيدة عضوية هو النهر وشاطئه والراوي الذي كان يمشي على الشاطئ "بحذر وانتباه" لكنه مع ذلك غرق "وشبع غرقًا". لعل أجمل ما في هذا النص هو أنسنة الشاعر للجسر الخشبي الذي يترك مكانه ويضيع كلما "يشعر بالحزن أو بالملل/ أو بالرغبة العارمة في الانتحار. "(ص16). وربما تُذكِّرنا هذه القصيدة بـ"جسر الأئمة" الذي كان "يزعل" فينفلت من وثاقه ويهرب بعيدًا لكن البغداديين كانوا يعيدونه إلى مكانه مصحوبًا بالهلاهل والموسيقى الشعبية والأناشيد كي لا يغضب ثانية ويهرب من جديد.

تحتشد قصيدة "قال الذئب: أنا هو البحر!" المؤلفة من ثلاثين مقطعًا بثلاثين فكرة أو يزيد إذا ما استثنينا الأفكار المتشظية أو المؤازرة. فهذه القصيدة تكاد تكون منجم أفكار لا ينضب. ففي المقطع الأول يتماهى الذئب بالبحر فلم نعد نعرف أيهما الذئب وأيهما البحر. يعالج المقطع الرابع الشخصية الشيزوفرينية للكاتب العراقي كأنموذج للشخصية العراقية المُزدوجة التي تقول الشيء ونقيضه في آنٍ واحد:

 

" كانَ يتحدّثُ عن الحُبِّ ويمارسُ الكراهية،

كانَ يترجمُ للعُشّاقِ ويرقصُ مع الجلّادين،

كانَ يبكي أمامَ الله

ليرفع نخبَه عالياً للطاغية". (ص20).

 في المقطع الخامس ينثر أمامنا الشاعر باقة من الأسماء الشعرية المحفورة في الذاكرة الجمعية للقرّاء أمثال غوته وشيلر، المعرّي وديك الجن، السيّاب والحُطيئة من دون أن ننسى فكرة العمى أو ثيمة الرحيل الأبدي وما تبثّه هذه الأسماء الكبيرة من شعاع سحري يظل يتوهج على مدار المجموعة الشعرية برمتها. يحتفي المقطع الثامن بأظرف تعريف للقصيدة حيث يقول الشاعر:

" أنْ تكونَ من دونِ قدمين

ويُطلَبُ منكَ كلّ يوم

أنْ تمشي على حبلِ السيركِ الشاهق

وتحتكَ النار والطبول والجمهور:

تلك هي القصيدة. " (ص28)

 

وهي ذات الصورة الشعرية التي اختارها الشاعر لحال الصديق الناقد الذي يكتب عن هذا النمط من القصائد السوريالية التي تدور في فلك الأعصاب المشدودة، وتلج عالم الإثارة والذهول، وتحاول الإمساك بالمستحيل.

لابد من الإشارة إلى أنّ قصائد هذه المجموعة برمتها قد كُتبت في عامي 2014 و 2015 بأديلايد في أستراليا وقد شهِد عام 2015 تحديدًا غرق آلاف من المهاجرين الذين كانوا يحلمون بالوصول إلى الشواطئ الأوروبية لكن أمواج المتوسط سحبتهم إلى الأعماق وأصبحوا طُعمًا للأسماك وحيتان البحر. وبغية الإمساك بالمنحى التراجيدي لمآسي الغرق المتكررة أصرّ الشاعر أديب كمال الدين على كتابة نصوص شعرية تجسّد روح العصر Zeitgeist الخَرِب الذي نعيشه ولعل قصيدة "إيلان" لوحدها تكفي أن تكون رمزًا لهذا الزمن الذي يقطّر حزنًا وألمًا ومرارة. وبسبب شيوع فكرة الموت وهيمنتها على الشوارع، والمقابر، والشقق السكنية، وشاشات التلفزة ظنّ الشاعر "بأنّ هذه الصور هي إعلان تجاري لشركة عزرائيل الكبرى!"(ص24).

يعود الشاعر أديب كمال الدين إلى الملحمة الشعرية الأولى في الوجود لينهل من نبعها الأول، ويذكِّرنا بقصيدته القديمة جدًا التي اختارها مُعد الأنطولوجيا من دون أن يعرف السبب: " ألأنها كانت موشومة بدم أنكيدو/ ودموع كلكامش؟ "(ص29)، بل أنه يذهب أبعد منها حينما يلج إلى "سفينة نوح " لكنه لم يلتقِ أحدًا من الناجين".


يكرِّر شاعرنا الحروفي كلمات النهر، والبحر، والشاطئ، والساحل كثيرًا فلا غرابة أن تحضر الزوارق، والسفن، والرحلات، والغرقى وما إلى ذلك لكنه يغرينا بالوقوف عن أشكال القصائد ومضامينها الشعرية. فالقصيدة القصيرة تشبه"عود الثقاب" التي توحي للسامع وكأنه يتحدث عن"قصيدة الومضة" أو "اللحظة التنويرية" من دون أن يسميها. أما القصيدة الطويلة فإنها مملة ولا ينصح بكتابتها إلاّ في حال الكتابة عن رحلة عظيمة مثل رحلة "كلكامش" التي كان يروم من خلالها الحصول على عشبة الخلود.


الأسئلة التي تزدحم في ذهن الشاعر هي كثيرة بمكان قد تقترب من حجم الأسئلة المؤرقة التي تدور في ذهن المفكر والعالِم والفيلسوف فلا غرابة أن يكتب أديب كمال قصيدة "إذا" التي تتألف من 27 مقطعًاً وهي أنموذج للقصيدة العضوية المتشابكة التي تشبه قطعة فنية من نسيج وحدها مبنية على ثنائية  "النقطة والحرف". وبما أن المقاطع كثيرة جدًا فسنكتفي ببعض النماذج التي يمحضها الشاعر حُبًا من نوع خاص مثل "ملحمة كلكامش" و"قصة يوسف" و"سفينة نوح"، حيث يقول في الأولى:

" إذا كانت النقطةُ هي الأسطورة،

فَمَن يكون الحرف:

أهو كلكامش

أم أنكيدو

أم الأفعى التي سرقتْ عُشبةَ الخلود؟" (ص53).

 أما في"قصة يوسف"  فنقرأ النص الآتي الذي يقول فيه الشاعر:

"أم إذا كانت النقطةُ هي زليخة

فَمَن يكون الحرف:

أهو يوسف

أم قميص يوسف

أم البرهان الذي رآه يوسف؟ " (ص60)

 أما المقطع الثالث والأخير فيتساءل فيه الشاعر:

"إذا كانت النقطةُ هي التُفّاحة

فَمَن يكون الحرف:

أهو آدم

أم حوّاء

أم الذي وسوسَ لهما

آناءَ الليلِ وأطرافَ النهار؟ " (ص61).

 اخترنا المقاطع الثلاثة أعلاه لأن بعضها يتعلق بالأسطورة، وبعضها الآخر يفيد من القصص القرآنية من جهة، ويضمِّن بعض العبارات القرآنية من جهة أخرى.


عودًا على الوحدة العضوية للقصيدة واشتراطاتها الفنية التي تمنعها من التفكّك والتشتت والانهيار. وبغية كتابة هذا النمط من النصوص المتواشجة لابد من بنية قصصية، وتصعيد درامي، ونموّ شخصيات. ولابد من بداية وذروة ونهاية كما هو الحال في قصيدة "قطرات دم" و"خروج على النص" و"إيلان في الجنة" و"حروف وأبناء". وربما تكون هذه الأخيرة أوضح نموذج للوحدة العضوية التي تمتد على مساحة القصيدة برمتها. ويبدو أن وجود الاشخاص الذين يتمثلون بالأب الذي مات وخلّف ولدين جميلن أنجب كل واحد منهما ثلاثة أبناء كانوا السبب الرئيس في تغطية مساحة النص الشعري الذي يمور بالأحداث المتلاحقة التي انتظمت في جسد القصيدة منذ مُفتتحها حتى منتهاها الأمر الذي أفضى إلى الوحدة العضوية التي تجمع أطراف القصيدة كنسيح سردي متتابع، متصاعد، ينشد الوصول إلى النهاية المقصودة من دون الحاجة إلى المرور بالممرات الضيقة والملتوية التي قد تأخذنا إلى قصص جانبية تُثقل كاهل النص الشعري، وتحدّ من حركته، وتطفئ وهجه، وتقتل فيه قوّة المفاجأة والإدهاش.

************************

  *  في مرآة الحرف : شعر: أديب كمال الدين، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2016

     

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home