مملكة الحرف :

 

 قراءة حروفيّة في شعر أديب كمال الدين

  

 

 

أ. د. بشرى موسى صالح

 

 

   في تجربة أديب كمال الدين الحروفية نجد أن قصيدة النثر العراقية قد شقّت لنفسها طريقاً أسلوبياً خاصاً وثرياً، وليس هذا حكماً على تجربة الشاعر، أو على قصيدة النثر، بل هو توصيف حقيقي ودال يعّبر عن المسارات التي بها استطاعت حروفية الشاعر أن تمتلك آفاقها الشعرية الفارقة التي انمازت بها عن سواها من قصائد النثر العراقية، فضلاً عما اكسبته إياها من مستويات أسلوبية مغايرة للمألوف تفتح عين القراءة النقدية صوبها.

   ويصعب أن نحدد مسارات نهائية لحروفية أديب كمال الدين، لأن التجريب الحروفي لديه مستمر منذ كتاباته الشعرية الأولى، وانتهاءً بآخر ما وصل الينا من نتاجاته، وهو ديوان (رقصة الحرف الأخيرة) (1) الذي سيكون ميداننا النقدي الذي في فضائه سنقف عند أبرز المسارات الحروفية لدى الشاعر،  لأن المنطقة النصية الحروفية لديه هي منطقة ممتدة، وليست محددة، أو محصورة برقعتها النصية، ولعل هذا هو ما يسم الشاعر الذي يعمل في ضوء مشروع شعري خاص تنتسب تجربته اليه، ففيه يكون الجزئي ملتحماً بالكلي، والبنية النصية دالاً شمولياً على النتاج الشعري برمته.

  وتجدر الإشارة إلى أن هذه القراءة هي استكمال لقراءة نقدية حروفية سابقة في شعر الشاعر حددت المستويات الصوغية لحروفياته، وعلى الرغم من بعد العهد بتلك القراءة التي مضى عليها أكثر من خمسة عشر عاماً (2) إلا أننا نجد أن مستويات التشكيل الحروفي لديه بقيت ثابتة- ومفتوحة على آفاق الحداثة في آن واحد ومن أهمها:

1-   المستوى الهيئي (الشكلي).

2-   المستوى الدلالي (التصويري).

3-   المستوى التحويري (الخارق).

4-   المستوى الطلمسي (السحري).

5-   المستوى الغنائي (الرمزي).

6-   المستوى التناصي (الصوفي، الأسطوري، القناعي).

  ولا نريد في هذه القراءة أن نتابع تلك المستويات فقد تابعناها في تلك القراءة، وأشرنا الملامح الدالة عليها، بل ان ما سنعمل على إضاءته هو التحولات الأسلوبية التي طرأت على حروفيات الشاعر، ومدى انفتاحها على الفضاءات الشعرية الحداثوية، ومابعد الحداثوية التي خرجت من الواحد إلى المتعدد، فضلاً عما أضاقته تجربة الشاعر الحياتية والواقعية، وهجرته إلى أستراليا  من مساحات دلالية، وثقافية وجدت ضالتها في قصائد الشاعر بالضرورة، ومنحتها آفاقآ ثقافية مغايرة لما كانت عليه من حدود أو رؤى ماضوية.

  يقوم ديوان (رقصة الجرف الأخيرة)على متن نصي قوامه 19 قصيدة تبدأ بقصيدة ( كاف السؤال) وتنتهي بقصيدة (تكرار). كانت الدلالة الحروقية المباشرة حاضرة في عنوان أربع قصائد من الديوان هي (راء المطر)، (قاف القضبان)، (حاء الحلم)، (ميم المشهد) هذا في التوظيف الصريح أما الحروفية فهي متغلغلة في قصائد الديوان بانحاء مختلفة ومتعددة .

    ( كاف السؤال)  (3)    

   تقوم هذه القصيدة على 19 مقطعآ أو اضاءة يقوم  إيقاعها البنائي على افتراض السؤال التقريري عبرصيغة (ما دمت) اللسانية التي تترجم كما يرى النحويون ب(مدة دوامك) أو بقائك فكل مقطع من المقاطع يستهل بها :

(1)  ما دمتَ قد أنفقتَ عمرك ....

ويكرّر السطر بأكمله كما في المقطع الثاني :

"ما دمتَ قد أنفقت عمرك

ما دمت...ما دمت....المقطع (19)

  ويبدو لي أن التكرار هو واحد من أفانين قصيدة النثرالإيقاعية التي  توازن به إيقاعها الداخلي وتخلق تغريبآ ظاهرآ فيها ، وليست هي قاعدة في  قصائد النثر كلها ، ولكنه أي التكرارعند  أديب كمال الدين  يأخذ حيزآ مهمآ وكبيرآ في شعره ويمارس تحديآ نقديآ شعريآ قي آن. 

  من الملاحظ على قصيدة (كاف السؤال) أنها تشتغل على الحرف في مستويين، الأول: التضميني الذي يبوح بالحرف ويجعله جسرآ للدلالة :

ما دمتَ قد أنفقتَ عمرَك

تتأمّلُ في ميمِ المرآة،

فكيفَ سترى

ميمَ الذي كانَ مِن العرش

قابَ قوسين أو أدنى؟

 

  فنجد أن النص قد عبّرعن المرأة ب (ميم المرآة)، وفي هذا اشتغال حروفي مباشر والآخر رمزي. إذ استحال الحرف لديه إلى رمز بديل عن الموضوعات المشار اليها فهو تجسيد للدلالة فميم المرأة ليس حرفاً في الكلمة (المرأة) حسب، بل هو معادل موضوعي عن حب النساء والفة النساء ضمن المعجم الصوفي الحروفي لدى الشاعر، ضمن مجاز يتحرك من الجزئي إلى الكلي.

  ومن الملاحظ أن النص قد أمعن في خلق النمطية الصوغية الترددية عبر صيغة (ما دمتَ) من جانب المكررة في 19 مقطعاً، وما بثّه في كل مقطع من أداة الاستفهام (كيف) المتكررة بالنسق نفسه، لتكون علامة السؤال (؟) هي الختام الدلالي المفتوح على (المطلق الصوفي) في مقاطع القصيدة كلها:

ما دمتَ قد أنفقتَ عمرَك

وأنتَ تضعُ قدميكَ الحافيتين

في راء الفرات

ليلَ نهار،

فكيفَ ستركبُ غيمةً

تُحلّقُ بكَ بعيداً بعيداً؟

 

  ومن الواضح أن دلالة (مادمتَ) التي تحمل معنى الحصر، والثبات، ودوام الحال ترتبط دلالياً بالحال البديلة التي تفك أسر الجمود، وتحّلق بصاحبها إلى فضاءات مغايرة تختلف في آفاقها في كل مقطع من مقاطع القصيدة (فركوب الغيمة) علامة على المطلق البعيد المفتوح الذي يعبر الأقطار، والأسفار، والأمتار، لن يكون (مادام) الآخر القرين لأنا النص يضع قدميه الحافيتين في (راء الفرات) بديلآ كنائيآ عن  نهر الفرات أو عن الوطن في استبدال مجازي كلي، ليستكمل النص دلالته المغايرة للثبات والجمود عبر سؤال الحال المنافية المتصدرة بأداة الاستفهام (كيف) فكيف ستركب غيمة.

  ومن الواضح أن كل مقطع من المقاطع يحمل دلالة مختلفة عن سابقتها، فالتنويع الدلالي والكلامي مختلف في كل مقطع، ولكن ما يجمعها هو الاسئلة المنحدرة من كاف السؤال (كيف؟) وهو ما ترشحه قراءتنا للعنوان.

وتبدو القصيدة حوارية ملتفة على نفسها ابتدع الشاعر فيها السياق الخطابي الجمالي؛ ليجاهر بصيغه الوجودية المختلفة المتفرعة إلى أنساق: الغربة والجنون، والحرية، والحرمان، والتشكيل، والمسرح، والشعر، والصلاة ، والحلم، والولادة، والموت... الخ

  ولعل مما ينبغي قوله إن القصيدة الأولى من الديوان أي ديوان، كثيراً ما يختارها الشاعر عبر مقصدية واعية فهي عتبة الشعرالأولى واستهلاله التعبيري، ومن الطبيعي أن يشذّ عن هذه القاعدة شعراء كثيرون، ولكن يمتثل لها كثيرون، هذا من جانب ومن جانب آخر فإن التعامل النقدي مع القصيدة الأولى من الديوان بحذر وعناية أمر لابّد من التنبه اليه، ولاسيّما عند الشعراء الذين تنهض تجربتهم الشعرية على مشروع، أمّا القصائد التالية فمن المؤكد أن لكل منها خصوصيتها غير أن هذه الخصوصية لا تنأى عما أسسته القصيدة الأولى من بذرة شعرية تأويلية لدى أديب كمال الدين.

  ولعل عنوان الديوان ولا أقول لمجموعة شعرية دال على التآلف الاسلوبي والاتساقي بين القصائد (رقصة الحرف الأخيرة) في الدلالات الشعرية، ولكّن الدلالة المركزية التي يقودنا تأويلنا اليها هي الدلالة الثلاثية (الرقص، الحرف، الأخيرة) ومن الواضح التضاد القائم  بين الرقصة حيث الانتشاء، والطرب، وربما الجنون، ووصف الرقصة بالنهاية، وتضع لها الرمز الحاسم زمن الموت (الأخيرة).

  وهكذا نجد أن رقصة الحرف الأخيرة تحمل دلالتي الحياة والموت في بعدها الأنتولوجي وتحمل الدلالة ذاتها في بعدها الشعري التعبيري إذ من الممكن أن الشاعر أراد أن يوحي بختام تجربته الحروفية والانتقال إلى فضاء شعري جديد أو أن العنوان هو توصيف لآخر نشاطات الحرف لديه ومساحاته الجديدة المفارقة للمألوف المستقطبة للنظر.

توريث (4)

  يعاود الشاعر في هذه القصيدة تقانته التعبيرية ذاتها القائمة على التكرار اللساني الأسلوبي لتقوم على الظرفية الزمانية (حين) التي تتكرر في تسعة عشر مقطعاً، وهذا تكرار نمطي آخر لعدد المقاطع الشعرية الذي ما تلت فيه هذه القصيدة سابقتها (كاف السؤال)، الأمر الذي دفعني إلى تأمل عدد المقاطع في الديوان بأكمله فوجدت أن الشاعر قد اختار هذا التكوين الأسلوبي عن قصدية واضحة وبذلك اضاف (الرقمية) إلى الحروفية في هذا الديوان لتقدم تكويناً أسلوبياً داعماً لأسلوبية الحرف.

  ومن الصعب الوصول إلى تأويل نهائي لهذا الرقم (19)، ولماذا اختاره الشاعر، وقد يحمل (دلالة تنظيمية)، ليس إلا لخلق نسق منسجم في الديوان، وقد يحمل مقصدية أخرى مغايرة عن هذه، ولكننا نجد أن هذا الاختيار يحمل دلالة عدم الاكتمال وامكانية الاضافة فلو اختار الرقم (20)، ربما لامتلكت القصائد خاصية الانتهاء وربما وربما.

  وتقوم القصيدة على ثنائية (الموت والحياة) أو (لموت والتوريث) إذ يستهل كل مقطع بحادثة موت: مات تَد هيوز، سيلفيا بلاث، شارلي شابلن، دانتي، ديك الجن، طاغور ...، وهؤلاء جميعاً من الأعلام المشهورين في الأدب وصولاً إلى ميتات الشاعر الشخصية (مات أبي ) ثم الميتات الحروفية، الألف، الحاء، النقطة ومن الملاحظ أن الشاعر يكسر نسق الموت ثلاث مرّات في  القصيدة مرّة بالانتحار :

حينَ انتحرَ همنغواي

ومرّة بالقتل:

حينَ قُتِلَ محمود البريكان

ومرّة بالصلب والحرق:

حينَ صُلِبَ الحلّاج وأُحرِق.

  ومن الواضح أن هذا النسق لم يجرِ اختلافاً دلالياً في المقاطع التي احتوته، وفي دلالة التوريث فكأن الشاعر بهذه الأشكال من الموت أراد أن يثبت دلالة الموت ذاتها، ولسان حاله يقول تعددت الأسباب والموت واحد وتعددت الميتات والتوريث واحد.

ولكن ما دلالة التوريث في القصيدة؟

   يمكن التجوال في مقاطع القصيدة التسعة عشر بين دلالات متغيرة امتلكها التوريث، تختلف باختلاف موروثها، وبين دلالة مركزية واحدة هي الدلالة الوجودية المتمثلة بظل الموت، فالموت يترك ظله على الأرض، ولا ينعم ورثة الأرض بحيواتهم لأن شبح الموت يبقى جاثماً فوق هاماتهم.

  وحين نركّز على  الثنائية الدلالية المركزية (ثنائية الموت والحياة) نجد أن الشاعر قد جعلها ملتبسة بتلاوينه الثقافية واختار في كل مقطع علامة دالة على (سيّد) المقطع الذي غيبه الموت، لتكون العلامة هي الفاعل الدلالي في القصيدة .

هذه العلامات المسّورة بظرفيه (حين) التي تعد بمثابة الرابط الشعري الذي يجمع ب (العلامة) بين صاحبها ومتلقيها وسنختار مقطعاً كاملاً للتدليل على هذا الأمر:

حينَ ماتَ شارلي شابلن

أورثني ضحكتَه الساخرة

وقبّعتَه وعصاه.

لم أستفدْ مِن ضحكته الساخرة

لأنّي لا أجيدُ فنَّ التمثيلِ على الإطلاق.

ولم أستفدْ مِن قبّعتِه

فحينَ وضعتُها على رأسي بكيتُ.

ولم أستفدْ مِن عصاه

فحينَ توكّأتُ عليها

تدحرجتُ على الأرضِ طويلاً

طويلاً.

 

  في هذه القصيدة يمد الشاعر في فلسفة الموت (الشيئي) أو (الموت العلاماتي) فحين يموت المرء تموت معه أشياؤه و(علاماته)، لأن الورثة يبددون التركات التي أنفق الموتى حيواتهم في صناعاتها، وجمعها أو خلقها. فلم يمت شارلي شابلن وكفى، بل ماتت معه ضحكته الساخرة، والقبعة، و(العصا)، ولم يحسن ورثتها الاستفادة منها أو الارتزاق بها، ولعله اي النص يريد القول إن المبدعين بصنوفهم المختلفة لايورثون سوى الحسرات، وإن تركتهم هي بائدة، وبائرة ولا يمكن تصريفها في سوق الحياة.

  هذه هي فلسفة المقاطع بتلوينات تعتمد على المفارقات المحبوكة البعيدة على الافتعال التي يوازن بها النص بين (أناه) الداخلة في أجوبة الموت عبر الفعل (أورثني) (نون المتكلم) والآخر الذي غيبه الموت.

وتبدو المفارقة الساخرة ذات طابع سردي شفيف يعتمد على الضربة الشعرية- السردية التي تستثمر الحدث المركزي أو العلامة المركزية في حياة البطل وتصنع المفارقة المقابلة لها.

حينَ ماتَ التوحيديّ

أورثني بقايا كتبه المُحترقة.

فلم أدرِ ما أفعلُ بها.

جلستُ قبالتها

وكتبتُ بعينين دامعتين

قصيدةً عن الدخانِ المُتصاعدِ منها.

وكلّما مرَّ قومٌ سخروا منّي

وقالوا: مجنونٌ أحرقَ كتبَه

وآخر يبكي عليها.

 

  ومن الواضح أن المفارقة التي صنعها حول ميتة (التوحيدي) بدت مزدوجة فهي من جانب أثارت دلالة (العبث) التي خلقها إِحراق الكتب، والعدمية التي كانت دافعاً وراء إحراقها. ومن جانب آخر أثارت (الضحك) ودلالة السخرية التي استشرت في نفوس الناس من المجنون الذي أحرق كتبه ومن الآخر الذي يبكي على الكتب.

وتتوسط دلالة الحيرة بينهما فلم أدرِ ماذا أفعل بها؟ وفي هذه الدلالات تتأكد المفارقات الكبرى والصغرى، الكبرى في تبديد تركات الأدباء، والفنانين، في لحظات موتهم وانتهائها إلى العدم والزوال معهم، والصغرى في أفعال العبث التي تولدها حيرة الوارث بشأن التركات، هذه الحيرة التي تتوسد في كل نصٍ بشكل مختلف.

وفي مقاطع معينة يبوح النص بأفانين هذه الحيرة وهذا العبث وفي أخرى يبدو النص هادئاً في حيرته، ففي مقطع كلكامش مثلاً يميل النص إلى البوح المباشر بفلسفة الحداثة (زمن العولمة) التي ضربت صفحاً عن المثالية والروح وجعلت تركات المادة هي الفاعلة والمتسيّدة على مسرح الحياة.

حينَ ماتَ كلكامش

أورثني خيبتَه

وبحثَه العبثيّ عن سرِّ الخلود.

لم أستطعْ أنْ أفعلَ شيئاً لخيبته

لأنّها كانتْ أسطوريّة القلبِ والشفتين،

ولم أفكّر يوماً بسرِّ الخلود.

ففي زمنِ العَولَمَة،

الخلودُ ، فقط ، للدجّالين

والمُهرّجين والسفَلَة.

ومن الملاحظ أن (أنا النص) أو (أنا الشاعر) بتكويناتها النصيّة تندس في كل مقطع لصياغة العلامات العبثية، وكذلك تفعل السخرية، والمفارقة السردية، فحدث موت كلكامش لم يورث سراً للخلود الذي قضى كلكامش حياته من أجله، بل أورث موتاً لا خلود فيه وهذه هي المفارقة الكبرى، وتتردد دلالة السخرية مع الحيرة التي أنتجتها أنا النص.

لم أستطعْ أنْ أفعلَ شيئاً لخيبته

لأنّها كانتْ أسطوريّة القلبِ والشفتين.

وهو بقوله أسطورية القلب والشفتين أفضى بالسخرية وشمول العبث لتكوينات الروح والجسد كلها، وهو إيمان راسخ باللاجدوى المتغلغلة قلباً ولساناً. وحين تترجل (أنا النص) في صياغة الحيرة والبوح بزمن العبث يختار زمناً كبيراً يصلح أن يكون فضاءً شمولياً للنص هو زمن العولمة الذي تستبدل فيه القيم وتنقلب الأسرار ليصير سرّ الخلود:

الخلودُ ، فقط ، للدجّالين

والمُهرّجين والسفَلَة.

ونلمس في هذا البوح النبرة الانفعالية الحادة التي تطفح بالنص وتدفع به إلى المباشرة والإمعان في صياغة الخيبة.

ومن المقاطع الأخيرة من النص تعلو (أنا الراوي) أو (أنا النص)، وينقلب إلى الدلالات الذاتية والشعرية للموت، ويغادر الرقعة الموضوعية لميتات المشهورين أو ميتات (الآخر) ليتابع ميتات (الشاعر).

أما الموت الأول فهو موت الأب الذي أورثه الدمعة، والنجوى، والتبتل إلى الله:

وضعتُ الدمعةَ في كفّي

ومددتُ كفّي إلى الله،

إلى ما شاءَ الله.

فعادتْ إليَّ بعشراتِ الحروف

ومئاتِ القصائد.

ولاشك في أن هذا الجزء من النص أراد أن يوازن به الميتات العبثية السابقة وأن يخلق معادلات موضوعية للحيوات اللاإبداعية التي تضرب صفحاً عن اليأس، والعدمية، والعبث فيبدأ النص هنا ببث دلالة الفن التي تصنع الحياة، وتنبذ الموت فكأنه جعل الحياة الإبداعية هي المعادل الموضوعي لتركة الفن والإبداع التي خلفتها ميتات المبدعين المادية.

فالدلالت السابقة كانت استهلالاً للمفارقات التداولية الجاهلة التي تقايض ماهو روحي ومثالي بما هو مادي وحسي. وعمد الشاعر إلى قلب المعادلة فموت الأب هو حدث اعتيادي لكونه شخصاً لا يمتّ إلى الفن بصلة أو نتاج إلّا أنه أورث شاعراً وكأنه بذلك يريد أن يكتب سيرة لهؤلاء الفنانين والمبدعين كلهم، كيف ولدهم آباءهم كما يولد آلاف البشر، وكيف يصنعون أساطيرهم الإبداعية بأكفّهم المدماة من الألم، والعنف، وحفر دروب المستحيل.

وهو هنا يريد تنمية الوعي الفني بتركات الفنانين باختلاف فنونهم إعطاءهم القمّة التي يستحقونها والعناية بتركاتهم على أنها لقى الحياة بعد الموت.

ويستغرق النص في دائرة الذات الشاعرة وينحو في هذا الجزء منحى حروفياً يريد به الشاعر أن يبوح بأسطورته الشعرية أسطورة الحرف ويدخل في صفحاتها الواحدة بعد الأخرى، أو في أبجدية الحرف الواحد بعد الآخر.

فيبدأ مع الألف في دوران شعري لانهائي فيختار منه حرفين هم الألف الاستهلالي حرف الولادة والحاء حرف الحياة:

حينَ ماتَ الألفُ أورثتني همزتَه

:

وحينَ ماتت الحاء

ثم يختار النقطة التي هي (حرف الموت) ليجعلها تعني نهاية الحروف وبداية أسرار الروح والزهد بالحياة فكانت هي خاتمة النص، أو خاتمة المادة، ثم خاتمة الروح، ثم خاتمة كل شيء في زهد مضاعف تموت فيه الروح وتتحول إلى حرفٍ من تراب.

 

حاء الحلم (5)

وفي قصيدة أخرى بعنوان (حاء الحلم) نجد تجريباً حروفياً من نمط جديد يميل إلى السرد ولا يقوم على توازٍ مّوحد في المقاطع التسعة عشر، ولكنه يجعل من حرف الحاء هو الفاعل السردي في القصيدة.

والحاء هو أحد حروف كلمة (الحلم)، واستثمر النص حرف الحاء بتوليدات دلالية مختلفة في كل مقطع من مقاطع القصيدة التسعة عشر بتجريب متوازن ومتوازٍ يجمع التشقيق الحروفي والتنويع الدلالي بعيداً عن التعسف أو الانفعال، الحلم، حاء نوح، حاء الحرمان، حاء الحرب، حاء الحنين وكأنّ النص يفتح مغاليق الحاء في كل كلمة احتوت عليه ليتصدّر الحاء المركز الدلالي المركزي في القصيدة ويوجّه دلالاتها صوب ما يريد، ولعل قراءة متأنية لمقاطع القصيدة تفصح كيف أن الحرف يسيل في شعاب القصيدة ويملأ دلالاتها بفضاءات أسلوبية وثيمية مبتكرة تفلت يدها من المباشرة والافضاء النثري الثقيل عبر لعبة التوالد الحروفية التي تمثل مرتكزاً شعرياً في حروفية أديب كمال كمال الدين.

إن اقتطاع الحرف من الكلمة ينتج سلخاً دلالياً ومعرفياً للتعبيرالدلالي المألوف فحاء نوح هي نبرعلى دلالة ركوب البحر، وأهواله، والطوفان، ورمز السفينة.. (الحاء) هي (مجاز جزئي) عن الكل المضمر القابع في جنح الخيال ،هذه الحاء هي (الحاء) التخييلية النصية التي لا تأخذ من (نوح) الدلالات الدينية أو القدسية حسب بل تستنج منه فواعل تخييلية هي (فواعل الحرف) وكأنّ حاء (نوح) هي الفاعل المركزي السردي أو البطل السردي الذي يسير بالدلالات إلى فضاءات شمولية في أكثر المقاطع النصية ولاّسيما بعد أن يطلق النص النار على (حاء) الحنين ويصيب منه مقتلاً ينسى بمقتله علاماته، اي علامات (الحنين العراقي) الفرات ودجلة اللذين ينكرانه ويتجاهلانه، وكذلك كلكامش الذي أخلف وعده وغادر المتحف ليترجم نهاية أسطورة الخلود:

كلكامش الذي ماتَ بالنوبةِ القلبيّة

كان هذا مع انبثاق المارد الحروفي الكبير (حاء الحرب) الذي أدمى الأجساد كلها  من السرّة إلى العنق ليبدأ الطوفان، طوفان (حاء نوح) ولوازمه التي انتجتها (حاء الحرب) و تلاعبت به وألقت به خشبة طافية يتلاعب بها الموج على شاطىء (المحيط)، ونلمس في كلمة (المحيط) علامة مكانية تنبض بتغير المكان من الوطن (دجلة والفرات) إلى المنفى وشواطئه الباردة (المحيط).

في المقطع الخامس يفتح النص فضاءً حروفياً يحكي حكاية (حاء نوح) والمقطع الخامس يتألف من سطرٍ واحد تعجّبي:

ما أكثر حروبكَ يا حرفي!

ونلحظ أن حرف الحاء يتكرّر مرتين في هذا السطر القصير الذي يوظف ضمير (الأنا) أو المتكلم ويمزج بين (حاء الحرب) و(حاء الحرف) ليصير مرادفاً للحرب على الطغيان، والطوفان، وقد تكون حاء الحرف تكنية عن الشعر والكتابة فهما اللذان يختزلان الدلالة الذاتية لأنا الشاعر أو أنا النص.

مع المقطع السادس تبدأ رحلة البحث عن (حاء نوح) أو البحث عن المنقذ أو المخلص الذي يتحول إلى حاءات كثيرة فهو اكثر الحاءات سراً :   

نوح الجسد وهو السفينة؛

نوح القلب وهو نوح نفسه.

وتتشظّى حاء (نوح) إلى دلالات متعددة تغادر حاءها في خمسة مقاطع ليرد اسم نوح بلا حاء قلب نوح، غراب نوح، سفينة نوح، بحر نوح، ولاشك في أن الدلالات الدينية الرمزية حاضرة في الغراب، والحمامة، والسفينة، والبحر، فكأنه حذف الحاء وأبقى لوازمها لتركيز الدلالة البحثية أو دلالة البحث.

وفي الرحلة المجنونة أو البحث المجنون عن (حاء نوح) تتساقط حاءات كثيرة :حاء الحرمان حاء الحرمان، حاء الحرب، حاء الحنين، ليتقد فاعل نابض هو (حاء الحب) أكثر الحاءات اتقاداً فهو شعوذة عند الصحفيين لافتقاره إلى اليقين، وأكثرها غموضاً وهرطقة  لدى المؤرخين لتساقط الروايات بين عصور النور والظلمة... وهكذا.

ويجمع النص في مقطعه الثامن عشر قصاصات حروفه (قصاصات قصائدي) ويصنع منها (وسادة الاحلام) ليكثف من حلمه بحاءات منشودة:

نمتُ سعيداً،

وأنا أحلمُ بحاء الحلم،

أحلمُ كأيّ طفلٍ ينتظرُ صباحَ العيد،

العيد الذي سحقتْ رأسَه حاءُ الحرب،

وحاءُ الحرمان،

وحاءُ الجحيم!

 

وهكذا تلتبس علامات الحياة بحروفها وعلامات الشعر بحروفه وتمتد حروفية النص إلى كل جزء من أجزائه وتتحول الحروف إلى فواعل شعرية لا يكون التعبير ممكناً بدونها حاء الحلم، حاء الحرب، حاء الحرمان، حاء الجحيم.

وبذلك نجد أن أسطورة الحرف ممتدة في فضاءات النص خارقة للبعد الحروفي المألوف إذ جعل النص منه منصةً أسلوبية تنطلق منها أصوات الحياة وتتقافز من تكويناتها صور البوح والايحاء... بل إن الحرف صار في هذا النص وفي غيره من نصوص الديوان فاعلاً سردياً يتلاعب بسيرورة الأحداث، ويرسم فضاءات الدلالات حين يتفلت من التكوين المألوف للكلمات، ويغادر اسوارها ليخلق تكوينه الذي لايمسك بخيط ما.

ومن الذي يلفت النظر النقدي في الديوان أن الاشتغال الحروفي فيه بدا مختلفاً، بين التوظيف الحروفي التوالدي الاستغراقي ، والتوظيف الحروفي الايحائي اللمحي أو الجزئي.

أما التوظيف التواليدي فقد وقفنا عند بعض من أمثلته في الديوان، ففي الديوان أمثلة كثيرة منها: ميم المشهد وسين العظام والحطام وغيرها ، وسنراجع نمط التوظيف الآخر الذي أسميناه  بالايحائي أو اللمحي أو الجزئي، ولم نسمه الخاطف. لأن دلالة الخطف فيها عجالة ومباغتة، وسرعة، في حين أن قصائد الشاعر الحروفية (اللمحية) هي متجاوزة للمرحلة الاستغراقية الحروفية، ممارسة لضرب من العمق التعبيري الحروفي الذي يستوطن قلب الدلالات الشعرية، عن طريق التصريح المحدود، أو الضمني وفيه لا يرد ذكراً حروفياً مباشراً وإنما تبقى الروح الحروفية فضاء ايحائياً للدلالات الشعرية منها على سبيل المثال : قصيدة (البحر والمرآة)، وأورد النص اشارة على سجال الحيرة في داخله لأن الحرف يلوح من بعيد إذ قال مخاطباً المرأة أو الحياة أو كليهما:

أردتُ أنْ أكتبَ عنكِ

فلم أستطعْ

لأنَّ الحرف لا يستطيع الجلوسَ على الورقة.

كانَ يطيرُ حيناً

ويبكي حيناً آخر

ويبدّلُ أقنعتَه باستمرار

ويحاولُ الانتحارَ ليلَ نهار.

 

اما الإشارة الحروفية اللمحية الأولى فتمثلت في تكرار الراء في هذا المقطع القصير إذ يرد ثماني مرات وهو ليس تكراراً صوتياً حسب بل هو تكرار حروفي لمحي يعبر عن (سجال الحرف) الغائب عن سطح النص والحاضر في أنا الشعر، وقد أفصح النص عنه على نحو مباشر بقوله:

لأنّ الحرف لايستطيع الجلوس على الورقة. وفي هذا افصاح عن خطوط ذلك السجال الحروفي في ذات الشعر أو الشاعر، ونزاعه مع الورقة حين لاتطاوع حروفها، أو حين لاينصاع الحرف لحدود الورقة.

 

القصيدة الأنوية (6)

ومن القصائد الحروفية اللمحية الاخرى في الديوان (القصيدة الأنوية) التي تمتد أيضاً على تسعة عشر مقطعاً كحال قصائد الديوان الأخرى، وتترجم عتبتها العنوانية الفضاء الدلالي الذاتي لها (فالأنوية) إفصاح مباشر عن حجم الذات الفاعلة في هذا النص التي تريد القصيدة محاكاتها ورسم خارطة وجودها الدلالي.

تأخذ الأنا في هذه القصيدة موضع الدلالة المركزية، وتجري مقاطع النص حواراً مع أشكالها الدلالية في الحياة وتعمد إلى محاكاتها على نحو مباشر يهيمن فيه ضمير (الأنا) المتضخم وما آل اليه من وجوه متغايرة.

في المقطع الأول يبث النص موجات من الأنا العارمة تقود النص إلى (الأنوية) المتحكمة في سياقات الحياة كلها وعلى رأسها الأنا (الطاغية) الملتبسة بالطغاة حينما كانوا، وحاشيتهم ومريديهم الذي يرفعون صورة (الأنا) على أعلى هاماتهم في مشهد مأساوي ناطق بمأساة الشعوب والبشر في كل مكان وفضاء حياة:

صرخَ الطاغيةُ الأرعن

مُحَاطاً بحاشيته وجلّاديه وكلابه:

أنا

أنا

أنا.

فالتهبت الأيدي بالتصفيق،

واغرورقت العيونُ بالدموع،

وامتلأت الحناجرُ بالهتاف.

 

هذا المشهد الأول للأنوية العارمة (الجاهلية) وهو من أشد أنواعها ضرراً، وفيه وفي مقاطع القصيدة كلها لم نشهد حضوراً (حروفياً) (شكلياً) لحرف ما بوصفه فاعلاً دلالياً تنبثق منه القصيدة كحال قصائد الديوان ذات التوظيف الحروفي التواليدي الاستغراقي الذي يجعل الحرف أسطورة دلالية ذات مجسات وسياقات مفتوحة وتجريبية ولانهائية . ففي هذا النص نجد أن الحرف يغور داخل دلالات النص وفي عمقها ولا يترك على سطحه سوى علامات تلميحية قد يؤشرها التأويل. وقد لا ينتبه إلى وجودها ولكن من الممكن أن تكون الأنا أو ضميرال (أنا) هو شكل حروفي ضمني وهو ترجمة للهمزة أو (ألف الشاعر) التي يكثر نص كمال الدين من ترديدها فـ (أنا) هي (أ) التي هي همزة الوصل بين الذات والـ (نا) النحن أو الآخرين.. بعيداً عن التمحل القرائي.

وتبدو (الفلسفة الأنوية) متراصفة في النص بأشكال مختلفة، ايحائية أو سلبية، فاعلة أو ضامرة، مادية أو روحية، وهكذا..

ومن الملاحظ أن لكل (الأنوات) صحبة ومرايا تنعكس في صفحاتها صورة الأنا وعبثيتها، وكانت الرؤية الوجودية الفلسفية ماسكة بعرى النص.. كحال نصوص الشاعر كلها، فـي نمط من الكتابة البيضاء الخالية من التأسيس المسبق في أرض المعلوم، لأن المجهول حرف كبير من حروف الشاعر التي تسعى إلى تبديد تركة اليقين ويصعب أن نقف عند المقاطع التسعة عشر كلها بل سننتقي منها مايكفي لمناقشة بنية النص الحروفية – الدلالية.

بعد أن يخاطب النص أنا الطاغية وأنا الفنان (المطرب) وأنا (المجنون) التي من الممكن جمعها بـ (أنا الجنون): الطاغية مجنون، والفنان مجنون، والمجنون مجنون، تنبثق أنا جديدة هي (الأنا الزمنية) التي ترسم ضحكة السخرية على وجوه الخليقة الحائرة.

وأنا (الزمن) هي ثلاث أنوات فيزيائية هي: أنا الماضي، وأنا الحاضر، وأنا المستقبل:

قالَ الماضي:

أنا أسكنُ في الماضي أبداً

فكيفَ لي أنْ أعرفَ: مَن أنا؟

 

ومن الواضح أن السؤال النصي هو سؤال وجودي يبوح بالتساؤل عن إمكانية أن يكون ما مضى حاضراً  أو ممتداً، وكيف يمكن للموت أن يكون حياةً أو متى يكون ذلك ممكناً؟

وسهل الكنى في الماضي وطن أم غربة؟.. وهكذا.

أما سؤال الحاضر فهو:

قالَ الحاضر:

أنا ساعاتٌ

تتناثرُ هذي اللحظة في الريح.

مَن يجمعها لي كي أعرفني.

 

وهو سؤال يتذاكى على الواقع والحياة.. حروفيته (لمحية) خاطفة فأنا النص تختبىء في المعرفة (أعرفني) أو أعرف (أناي) وهذا الاختباء ليس عابراً بل هو يؤسس لحيرة (الأنا) الكبيرة بشأن الزمن (الساعات)، (اللحظة) و(حركة الريح )أو سجالات المادة والحياة الخالقة للحيرة والدهشة حين  تتناثر موجودات الزمان أو (الآن):

مَن يجمعها لي كي أعرفني.

هذه الحيرة التي تبحث عمن يمنحها اعترافاً بالثبات والكينونة والوجود وصولاً إلى أنا المستقبل:

قالَ المستقبلُ: أنا لا أنا لي.

لأنّي لم أزلْ

في كهفِ الغيب.

 

ويضع النص في زمنية المستقبل علامات راحة وخلاص وفكاك من أسر الأنا، ورغبة في تحطيم أسوارها، والمكوث في كهف الغيب فضاء برزخياً ينقل حيرة البشرية بإزاء ذواتهم وأنواتهم، فيه اليأس والامل، وأكبر منهما اللهفة بانتظار ما سيأتي محطماً جنون الأزمان والأحلام:

ومن الخطاب الأنوي الزمني- الفلسفي ينتقل النص إلى أنوات مختلفة نختار منها (الأنا الحروفية) التي بدا وجودها في النص لمحياً أو جزئياً يقول النص:

قال الحرفُ: أناي النقطة،

فهل سألت النقطةُ : مَن أنا؟

ومن الواضح أن الحرف لا يردّ شكلياً أو سردياً (فاعلياً) وإنما يلتبس بالدلالات الأنوية الوجودية الممتدة في النص، فالحرف يختزل الشعر كما يختزل الحياة، وهو يشكّل في هذا النص بنية حوارية طرفاها الحرف والنقطة، ولاشك في أن ترابطهما وجودي فبالنقطة يغّير الحرف مصيره وكيانه بتغير دلالته هذا من جانب، ومن جانب آخر فالنقطة علامة انتهاء، أو انطفاء، أو موت، كما هي دلالة وجود وحياة، ويبدو السجال بينهما عارماً وصارخاً بإبعاد الموت والحياة، ويبدو الحرف أكثر التباساً بدلالة الحياة فمع أصواته الأولى تولد الحياة، بينما تبقى الدلالة الوجودية الكائنة في النقطة دلالة متسائلة قلقة تتساءل عن مصيرها وكينونيتها التي هي أقرب  إلى دلالة الموت:

فهل سألت النقطة: مَن أنا

ومع المقطع العاشر يحضر الحرف حضورآ لمحيآ ولم يتعده إلى غيره ، ويتلاعب فيه النص بحرف السين، ويودعه في السر :

قال السر: أنا السين

لكنْ ما مِن راءٍ لي.

ومن الممكن أن نؤول (التقليب الحروفي) على وجهين الأول السطحي إذ لا يتجاوز المقطع نمطاً من العبث الحروفي الدال على فاعلية الحرف ودوره في قلب المعاني والدلالات بالقطع أو الحذف، أما الوجه العميق فيتخذ مسارات أخرى لتعادل دلالة السر: أنا (السين)، وأنا السين هي سر المستقبل أو أنا المستقبل ، فالسر مودع في المستقبل وفي أناه (السين)، وهو منفتح عليه ومستشرف به، أما السطر الثاني (لكن ما من راءٍ لي) فيمكن أن يؤول شكلياً فالسين هو سر منزوعة راؤه، أما التأويل الثاني فمرتبط بكلمة (راءٍ)، والراء من (الرائي)، والرائي هو الناظر في سر الحياة والوجود والمتأمل في عمقها وهو الذي يرى ما لايراه غيره. وهكذا ومَن يكشف الاسرار سوى الرائي؟

ونلحظ أن النص ينوع في افضاءاته الحروفية التي تدفع بالمتلقي إلى الاحتدام مع سيرورتها ومستوياتها والنص في تكويناته الحروفية اللمحية أراد أن يؤكّد وجوده المصيري المتمثل بالحرف فالحرف هو أسطورة الشاعر وهو معادلة الشعري والحياتي.

وفي الجزء الأخير من النص ترد ثلاثة مقاطع تخاطب الأنا (الصوفية) المتماهية في (الأنا) الإلهية أو الذات الإلهية وكأن النص يريد أن يوصلنا إلى مرحلة (الحلول الأنوي) أو الصوفي أو (الأنا الأثيرية) التي تخلع الثوب المادي لتصبح روحاً هائمة خفيفة ونقية وممتدة من أقصى الكون إلى أقصاه ووجد لها مثالين هم (أنا الحلاج) و (أنا الدهر) في مقطعين متوالين أما المقطع الاخير فبثّ النص فيه خلاصته الدلالية- الوجودية وكان عنوانه هو أنا الموت.

قالَ الموتُ: أنا

فامتلأت الأرضُ بجثثِ الناس.

وحين نسأل ماذا يريد أن يقوله النص بأناه الحروفية المتلونة بأنوات الشاعر والزمان والتأريخ والوجود والغد نجد جواب هذا السؤال في أنا الموت، هذه (الأنا) التي تختصر (أنوات البشرية) في ماضيهم، وحاضرهم، ومستقبلهم، وبمعنى آخر ان أنا الموت هي أكبر من أنوات الحياة كلها ولامجال للسجال أو المفاضلة بينهما.. هي عبرة صوفية تقايض الحياة بالموت أو أنا البشر الضعيفة بأنا الموت الجبارة وحضورها القاهر.

ومن الواضح أن في النص مساحات من التوظيف متغايرة ماخلا التوظيف الحروفي منها الحضور الرمزي ولاسيّما للرموز الأسطورية، والدينية، والحيوانية ومن الأسطوري يكثر ورود رمز كلكامش وأسطورته مع الموت وعشبة الخلود، ومن الدينية يكثر توظيف رمز النبي نوح وحكاية الطوفان ورمز السفينة، ومن الرموز الحيوانية يهيمن رمز الغراب والحمامة بشدة على قصائد الديوان ، اما الغراب فوروده أكبر فكأنه يعادل دلالة الغربة لديه لأن الغراب سمي غراباً لغربته، أما الحمامة فهي ضديد الغراب وهي رمز السلام والعودة إلى الوطن وفي فمها غصن الزيتون.

ولكن ليس التوظيف الرمزي أو الأسلوبي والتناصات التي شكلّها الشاعر في قصائد الديوان موضوعاً لمقاربتنا وإنما هو التوظيف الحروفي المعادل لشعرية أديب كمال الدين الذي كان موضوعاً لمراجعة قصائد هذا الديوان ومعرفة تقليبات الحروف الجديدة التي طرأت على مشروع الشاعر الحروفي ووجدناها اتخذت مسارين في هذا الديوان: المسار الاستغراقي والآخر اللمحي، إلا أن المستويات الحروفية المفتوحة التي مثلت الهيكل الحروفي في شعر الشاعر بقيت حاضرة ومفتوحة في هذا الديوان الذي عبّر عن ثقافة حروفية مضافة تعمقّت مع غربة الشاعر في أستراليا ضمن المستويات التشكيلية البنائية الحروفية الستة التي أشرنا اليها والتي بقيت حاضرة في هذا الديوان إلا أنها تعمقت أكثر وامتلكت ثقة شعرية حروفية أكبر وجنت ثماراً جديدة.

ونكرر القول في ان عنوان المجموعة (رقصة الحرف الأخيرة) بدا مفصحاً عن دلالة اللعب الشعري مع الحرف والطرب والشغف به ، وكان حضور علامة الرقص الدالة على الحراك واللعب والفرح استكمالاً لها وهو يردفها بالأخيرة وصفاً للرقصة. تتراقص مع الأخيرة دلالات حائرة تتقافز بين الموت والحياة بما يعبّر عن الثنائية الضدية الوجودية التي تتحكم في شعرية أديب كمال الدين وترسم معالم أسطورته الحروفية التي تختزل همزة الحرف في صراخ المجاهيل.

******************************************

   الهوامش

1-   رقصة الحرف الأخيرة/ أديب كمال الدين/ منشورات ضفاف/ لبنان 2015.

2-   هزة الحرف في صراخ المجاهيل/ د. بشرى موسى صالح/ مجلة آفاق عربية-ع 3-4-1999- ص82 ومابعدها.

3-   ينظر:- رقصة الحرف/ ص13 ومابعدها.

4-   نفسه- ص 21 ومابعدها.

5-   نفسه- ص47 ومابعدها.

6-   نفسه- ص89 ومابعدها

**********************************************

نُشرت الدراسة في كتاب (الواحد والمتعدد: مقاربات جمالية - ثقافية في الأدب والنقد) تأليف: أ. د. بشرى موسى صالح، منشورات مكتبة عدنان، بغداد، العراق 2017        

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home