الشاعر الحروفي أديب كمال الدين:

الترجمة محاولة لتقريب تجارب البشر والقضاء على عزلتهم

 

 

حاوره: عزيز البزوني

 

 

 

أديب كمال الدين شاعر ومترجم وصحفي عراقي من مواليد مدينة بابل عام 1953م ، حاصل على بكالوريوس اقتصاد، كلية الإدارة والاقتصاد، جامعة بغداد 1976 وعلى  بكالوريوس أدب إنكليزي، كلية اللغات، جامعة بغداد 1999 وعلى دبلوم الترجمة الفورية ، المعهد التقني لولاية جنوب أستراليا عام2005. عمل في الصحافة منذ عام 1975 وشارك في تأسيس مجلة (أسفار)، عضو نقابة الصحفيين العراقيين، والعرب، والعالمية، عضو اتحاد الأدباء في العراق، وعضو اتحاد الأدباء العرب، عضو جمعية المترجمين العراقيين،عضو اتحاد الكتّاب الأستراليين، ولاية جنوب أستراليا، وعضو جمعية الشعراء في أديلايد. تُرجِمت قصائده إلى الإنكليزية والإيطالية والفرنسية والإسبانية والكردية والفارسية والأوردية. يقيم في أستراليا، صدرت له المجاميع الشعرية الآتية: تفاصيل، ديوان عربيّ ، جيم ، نون ، أخبار المعنى ، النقطة ، حاء، ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة ، شجرة الحروف ،أبوّة Fatherhood  (بالإنكليزية) ،أربعون قصيدة عن الحرف، أربعون قصيدة عن الحرف، Quaranta poesie sulla lettera (بالإيطالية)، أقول الحرف وأعني أصابعي، مواقف الألف ، ثمّة خطأSomething Wrong   (بالإنكليزية)، الحرف والغراب، تناص مع الموت: متن در متن موت (بالأورديّة)، إشارات الألف، الأعمال الشعرية الكاملة: المجلّد الأوّل، رقصة الحرف الأخيرة ،في مرآة الحرف ، الأعمال الشعرية الكاملة: المجلّد الثاني،الحرف وقطرات الحب La Lettre et les gouttes de l’amour (بالفرنسية)، حرف من ماء، دموع كلكامش وقصائد أخرى Lagrimas de Gilgamesh Y Otros Poemas (بالإسبانية)..

صدرت عن تحربته كتب كثيرة منها: (الحروفيّ) 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية)، (الحرف والطيف: عالم أديب كمال الدين الشِعريّ “مقاربة تأويليّة”)، أ. د. مصطفى الكيلاني (نشر اليكتروني) تونس 2010، (الاجتماعيّ والمعرفيّ في شعر أديب كمال الدين)، د. صالح الرزوق، منشورات ألف لحرية الكشف في الإنسان، دمشق وقبرص 2011، (أضفْ نوناً: قراءة في “نون” أديب كمال الدين)، د. حياة الخياري، (تجلّيات الجمال والعشق عند أديب كمال الدين)، د. أسماء غريب، (إشكاليّة الغياب في حروفيّة أديب كمال الدين)، صباح الأنباري. (آليات التعبير في شعر أديب كمال الدين)، د. رسول بلاوي، (أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفيّة في شعر أديب كمال الدين)، د. عبد القادر فيدوح،(التداولية الحوارية : تأويل خطاب المتكلّم في شعر أديب كمال الدين)، د. هاني آل يونس،(جماليات التشكيل اللونيّ في شعر أديب كمال الدين)، سمير عبد الرحيم أغا، جامعة ديالى،(التشكيل الاستعاري في شعر أديب كمال الدين)، إبراهيم خزعل العبيدي. فاز بجائزة الإبداع الكبرى للشعر، العراق ، بغداد 1999. نال تكريم برلمان ولاية نيو ساوث ويلز عن منجزه الشعري والصحفي المتميز، سدني ، أستراليا 2016.  كُتِبتْ عنه مجموعة كبيرة من الدراسات والأبحاث والمقالات النقدية، شارك في كتابتها نقّاد وأدباء وشعراء من مختلف الأجيال والاتجاهات الأدبية والنقدية، التقينا به فكان هذا الحوار :

أجواء تنافسية

* الصراع لم يتوقف بين مدارس الشعر وإنما انتقل ليتشكّل تنافسيا بين إبداع الشعر وإبداع الرواية. والتساؤل لمن السطوة؟ لماذا هذه الأجواء التنافسية؟ لماذا يجدر بنا أن نكون دائما في حال من التخبط وازدراء جهد الآخر؟ لماذا لا يتصالح الشعر مع الشعر والشعر مع القصة والشعر مع الرواية؟ لماذا وصلت الخلافات إلى هذه التجزئة المفرطة حتى في المجالات الأدبية التي تفرض نوعا من الرقي والتحضر؟

- هذا " الصراع" ما بين الشعر والرواية، في قسم منه كبير، يبدو أمراً طبيعياً. فكلما خطا المجتمع، أي مجتمع، خطوات كبيرة وجادة وحقيقية نحو التطور الاقتصادي والتكنولوجي والاجتماعي كلما مال مزاج القراء نحو الرواية وانحسرت أمواج الشعر. وحين خطت المجتمعات الغربية خطوات هائلة بهذا الاتجاه منذ الثورة الصناعية كانت النتيجة سيطرة الرواية على الساحة الأدبية وانحسار الشعر شيئاً فشيئاً. والمجتمع العراقي ليس استثناءً بالطبع لكن الشعر سيبقى قوياً في حضوره الروحي وتأثيره الاجتماعي في العراق لزمن طويل، لأن المجتمع العراقي يتطوّر اقتصادياً وتكنولوجياً بشكل بطيء وتطوره فوقي لا يلامس أعماق المجتمع وتقاليده الثقافية بشكل جدّي.

هذا من جانب ومن جانب آخر فإن المبدع الغربي يمارس كتابة أكثر من جنس أدبي فهو يكتب الرواية والشعر والمسرحية والسيناريو السينمائي. فهي كلها وسائل إبداع يُراد منها إطلاق أسئلة الروح الكبرى عن الحياة ومغزاها وأحلامها وتفاصيلها. وهذا هو عين الصواب دون شك. أنا الآن أقرأ، بمتعة عميقة، مجاميع شعرية كتبها أدباء مشاهير من أمثال هرمان هسّه، وغونتر غراس، وبرتولت برشت تألقوا في عالم الرواية أو المسرح تألقاً عظيماً حتى نال هسّه وغراس جائزة نوبل وأصبح برشت أيقونة مسرحية لا تُبارى. أما في مجتمعاتنا العربية فالأمر مختلف جداً ويدعو إلى الضحك في أحيان كثيرة، فإذا كتب الشاعر رواية فإن الدنيا تقوم ولا تقعد حتى يُقال أو قيل إنه بدأ عصر الهجرة إلى الرواية بعد أن فعل ذلك أكثر من شاعر. وإذا كتب روائي مجموعة شعرية قيل له: ما لكَ والشعر؟ هل فشلتَ في الرواية حتى طرقت باب الشعر؟ وهكذا ...

وبرأيي، فإنه سيمر وقت قد يكون طويلاً أو قصيراً لتكون عند الأدباء جميعاً حقيقة ظاهرة للعيان تشير بوضوح وجلاء إلى أن الأجناس الأدبية ليست إلّا وعاءً لإطلاق أسئلة الروح الكبرى عن الحب والموت والحلم وليست أوعية مقدسة لذاتها. عند ذلك سنرى تطوراً إبداعياً منوعاً وعميقاً ويرفد بعضه بعضاً عند الكاتب نفسه وعند مجموع الأدباء وصولاً إلى تسيّد المنجز المبدع على الساحة بغض النظر عن الجنس الأدبي.

 

* لو لم تحاول الحداثة الشعرية التصدي للتراث، لربما كان المحافظون على تراثهم قد قبلوا الحداثة كعنصر تطوير وليس كعنصر هدم. ما رأيك؟

- لم تكن الحداثة الحقيقية في أي وقت من الأوقات في موقف عدائي مع التراث على الإطلاق. والذين يروّجون لهدم الثراث أو تحقيره من الحداثويين لا يفهمون حقيقة أن الإبداع لا يولد من الفراغ أبداً. وهؤلاء قلّة ومنجزهم الإبداعي- إن كان لهم منجز أصلاً- هو منجز بالغ الهزال والركاكة.

التراث منجم عظيم يمكنك أن تأخذ من شموسه المشرقة ما يؤثث نصّك الإبداعي بنور هائل. ولذا استفدتُ من إبداع المتنبي والمعري والشريف الرضي وديك الجنّ، ومن إبداعات المتصوفة العظام كالجلّاح والبسطامي والنفّري والتوحيدي وجلال الدين المولوي وسواهم. لكني استفدتُ قبل ذلك وعلى نحو عميق حقاً وصدقاً من القرآن الكريم. فالقرآن الكريم بحر عظيم وفيه علم ما كان وسيكون، أي علم الأسئلة الكبرى التي واجهت البشرية منذ خلق آدم إلى يومنا هذا عبر أخبار الأنبياء والمرسلين، وتفاصيل عذاباتهم ومعاناتهم وصبرهم وغربتهم وأحزانهم وهم يبلّغون في مختلف الأزمنة والأمكنة رسالةَ التوحيد والمحبّة والسلام واحترام الآخَر وعدم تحقيره أو الاعتداء عليه بأيّ شكل كان وبأيّة صورة كانت. وهو لكلّ كاتب وشاعر وأديب كنز لا يفنى من المعارف اللغوية والروحية والفكرية، والأسرار الإلهية، والقصص المعتبرة، والمواقف الأخلاقية ذات المضامين العميقة، والحوارات الفلسفية واليومية ما بين الخالق ورسله وما بين رسله وأناسهم.

وأكثر من ذلك، فإن حروفيتي الشعرية- وهي عنوان تميّزي الشعري- هي في أصلها قرآنية. فالحرف حمل معجزة القرآن المجيد ولا بدّ لحامل المعجزة من سرّ له، كما أن الله سبحانه وتعالى أقسم بالحرف في بداية العديد من السور الكريمة وكان في ذلك ضمن ما يعني وجود سرّ اضافي يُضاف الى سرّ القرآن المجيد نفسه.

الحروف كلها كما أرى تحاول أن تجيب على سؤال الحياة والموت، والحيرة واليقين، والجمال والقبح، في احتراقها المتواصل عبر ومضة القلب وصرخة الروح لكنني حين تأمّلت في الحرف العربي خلال رحلة شعرية امتدت أكثر من أربعة عقود ولم تزل متواصلة بحمد الله، وجدت أنّ للحرف العربي ما يمكن تسميته ب(المستويات). فهناك المستوى التشكيلي، القناعي، الدلالي، الترميزي، التراثي، الأسطوري، الروحي، الخارقي، السحري، الطلسمي، الإيقاعي، الطفولي. هكذا وعبر كتابة المئات من القصائد الحروفية التي اتخذت الحرف قناعاً وكاشفاً للقناع، وأداةً وكاشفةً للأداة، ولغةً خاصةً ذات رموز ودلالات وإشارات تبزغ بنفسها وتبزغ باللغة ذاتها، عبر هذا كلّه أخلصتُ للحرف عبر عقود من السنين حتي أصبح قَدَري الذي لازمني وسيلازمني للنهاية. هكذا يمكنني أن أقول: أنا حرف، إذن، أنا شاعر!

 

* ما الفائدة المرجوّة من ترجمة الأعمال الأدبية كالشعر والقصة والرواية إلى اللغات الأخرى؟

- الترجمة محاولة لتقريب تجارب البشر والقضاء على عزلتهم المخيفة التي تسببها اللغات. لكن في كل محاولة تكمن بالطبع أسباب النجاح وأسباب الفشل دون شك. المترجمون جنود مجهولون يحاولون أن يهدموا جدران عزلة الأمم عن بعضها بعضا ليقضوا على سوء الفهم المتبادل عند الأمم جميعا إزاء بعضها بعضاً. ولولاهم لكان سوء الفهم الأممي مخيفا حقا!

لكن الترجمة من ناحية أخرى، وبخاصة الترجمة الأدبية، عملية صعبة ومعقدة وتتطلب إزاء صعوبتها العميقة وتعقيدها الكبير أن "يجتهد" المترجم في عمله. وما دامت المسألة مسألة "اجتهاد"، وبخاصة حين تعجز قواعد اللغات المختلفة عن اختراق بعضها بعضا، لذا من السهولة بمكان أن يقع المترجم في "الخطأ" أو ما يشبهه. لكن هذا الخطأ يعتبر محدود الأثر في سلبيته، حين نتفحص في آخر الأمر ما أنجزه المترجم من أثر حميد في نقل تجربة الآخر وأفكاره وآلامه ومعاناته وآماله، في نقل إبداعه وخفقة قلبه وروحه.

 

* ما هو أول نصّ قمتِ بترجمته؟ وهل تواجهكِ العقبات أثناء الترجمة؟

- أول ما ترجمت قصائد للشاعرة الأسترالية اليزابيث ريديل ثم ترجمت قصائد وقصصاً من الشعر الكوري والياباني والصيني والأمريكي والنيوزلندي والأسترالي. إذا أردت أمثلة فإليك بعض الأسماء: وليم كارلوس وليمز، آن سرايلير، والاس ستيفنز، جيمس ثيربر، إيلدر أولسن، أودن، كاثلين راين، جيمس ريفز، غراهام غرين، وليم سارويان، مارك توين، موري بيل، جاكوب رونوسكي، روست هيلز، ألن باتن.

هذا على صعيد الترجمة من الإنكليزية إلى العربية ، أما على صعيد الترجمة من العربية إلى الإنكليزية فقد ترجمت عددا كبيرا من قصائدي ونشرت ذلك في مجموعتي (ثمّة خطأ) الصادرة في أستراليا عام 2012 . وقد تمّ اختيار القصيدة الرئيسية في المجموعة وعنوانها (ثمّة خطأ) Something Wrong واحدةً من أفضل القصائد الأسترالية المنشورة لعام 2012. ونُشِرت في انطولوجيا خاصة بأفضل القصائد الأسترالية. وقد قام باختيار قصائد الأنطولوجيا الشاعر الأسترالي الشهير: جون ترانتر وصدرت عن دار بلاك في مدينة ملبورن. وقد احتوت الأنطولوجيا كذلك قصائد لأهم الأسماء الشعرية في أستراليا من أمثال: لز موي، بيتر بورتر، روب ووكر، ديفيد بروكس. وهذه هي المرّة الثانية التي يتم فيها اختيار إحدى قصائدي في هذه الانطولوجيا ، حيث اُختيرت قصيدته (أرق) واحدة من أفضل القصائد الأسترالية لعام 2007.

إن عملية الترجمة ليست بالسهلة أو اليسيرة وينبغي للمترجم الناجح أن يمتلك عدة مؤهلات أولها: تمّكنه من فهم أسرار وتفاصيل اللغتين (المترجم عنها والمترجم إليها) وتفاعله بشكل إيجابي مع النص المترجم وإحاطته بظاهره وباطنه. وكذلك تمسّكه بمبدأ الأمانة في الترجمة فلا يغادره إلّا مضطراً للسبب لغوي أو جمالي، مع تمسّكه بمبدأ الوضوح والسلاسة واللطف في كتابة النص في اللغة الجديدة (المترجم إليها) بعيداً عن التقعير والارتباك والالتباس. ويحتاج المترجم الناجح إلى سعة في الاطلاع في تخصصه. فلترجمة الشعر مثلاً ينبغي على المترجم معرفة أساليب الشعر المختلفة عالمياً وكذلك معرفة حقيقية في الشعرية لدى اللغتين بحيث يتمكن من اختيار المفردة الأقرب إلى روح النص المترجَم وكتابتها على نحو يحفظ لها أكبر قدر من روحها الأصلية وأكبر قدر من الشعرية فيها، ولذا قيل إنّ أفضل من يترجم الشعر هو الشاعر وهذه حقيقة لا لبس فيها!

أؤكد، بشكل عام، في ترجمتي لشعري أو لشعر سواي على الأعمال التي تعتمد في حضورها الإبداعي على ”الثيمة” أكثر من اعتمادها على مفارقات اللغة والتلاعب بالألفاظ. ذلك أن “الثيمة” يمكن أن تجتاز صعوبات الترجمة بنجاح ويبقى العمل محتفظاً بزبدة جدواه الفنية. أما العمل الفني الذي يعتمد في حضوره على مفارقات اللغة فذلك لا سبيل إلى ترجمته البتة. كذلك أؤكد، قدر المستطاع، على الأمانة في الترجمة، مع منح القصيدة ما تستحق من شعرية دون الاساءة إلى هذه الأمانة بل الحفاظ عليها بكل الوسائل الممكنة. هذه هي الخطوط العامة لأسلوبيتي في الترجمة أما التفاصيل فانها تتطلب حديثاً له بداية وربما لا نهاية له.

 

* صدرت مجموعتك الأولى (تفاصيل) قبل أكثر من أربعين عاماً. هل تحدثنا عنها وعن لحظة صدورها؟

- صدرت (تفاصيل) عام 1976، وكان عمري حينذاك 22 عاماً فقط. كان صدورها حدثاً رائعاً وسعيداً بكلّ معنى الكلمة في حياتي. فقد كانت مجموعتي الأولى وأولى خطواتي في عالم الشعر. وقد طبعتها على نفقني الخاصة في مدينة النجف الأشرف، بعد أن رفضت وزارة الثقافة والإعلام طباعتها لأنّها (جاءت خالية من ذكر منجزات الثورة والتغنّي بها!) كما أعلمني سكرتير لجنة التعضيد والنشر في الوزارة التي كان مقرها في الباب الشرقيّ. ولم أزل حتّى الآن أتذكّر تفاصيل طباعتها وكيفية نقلها إلى بغداد وكأنّ الأمر حدث البارحة!

طبعتُها في مطبعة الغري العائدة للمرحوم رشيد المطبعي الذي التقيته صدفةً في محلّ الفنّان الخطّاط حميد ياسين الكائن في بداية شارع المتنبيّ. واتفقنا على طباعتها بمبلغ 170 ديناراً (وهو مبلغ كبير حينذاك). أمّا الغلاف الجميل- رغم تقشّفه الواضح : لون واحد فقط- فقد طبعته في إحدى مطابع شارع المتنبيّ ببغداد. وقد صمّمه الفنان المبدع حميد ياسين أمامي وأمام رشيد المطبعي في زمن قياسي.

وحين صدرت المجموعة كتب عنها الشاعر فوزي كريم مقالة طيّبة في مجلة ألف باء، أمّا الشاعر عيسى حسن الياسري فقد كتب عنها، في جريدة التآخي، مقالة احتفاء رائعة قرأتها بسعادة غامرة وقتئذ مرّات ومرّات. وظهرت مقالات أخرى عنها غابت، للأسف، عن الذاكرة. وأجرى الشاعر فاضل عباس الكعبي حواراً معي لمجلة (وعي العمال)، وكذلك فعل القاص الراحل محمد الرديني لجريدة (الراصد). احتفت مجموعتي (تفاصيل) بصدق عميق بجذور الحياة مطلقةً أولى أسئلة الروح عن الحياة ومغزاها وسرّها الأزليّ، احتفت ببراءة عذبة ب"جسد الرؤيا" للرحلة التي تبدأ بالصرخة وتنتهي بها، أعني صرخة الولادة ثمَّ صرخة الموت. هكذا صار على الشاعر، كي يكون شاهداً حقيقياً، أن يفسّر لنفسه وللكون كيف أنّ الصرخة الأولى كانت مبهجة والثانية مرعبة أو العكس بالعكس. صار على الشاعر أن يؤسس فنيّاً لحرف الصرخة التي ستتحوّل إلى حبّ وعشق وفراق وعذاب ونفي وجوع وعطش وحرمان وأرق ومعاناة، الصرخة التي ستطلقها الروح وهي تصارع أبد الدهر الرعب والخوف والفجيعة والظلمة والظلام.

احتفت (تفاصيل) ببراءة عذبة ب"جسد الرؤيا" بعيداً عن أكاذيب الأيدولوجيا وصراعها اللعين من أجل المال والجاه وما توفّره لأصحابها من متع زائفة ومباهج تافهة، الأكاذيب التي امتلكت صوتاً صاخباً في سبعينيات القرن الماضي وما تلاها لدرجة أنّه كاد يصيب المتلقّي بالصمم، وأفسدت كثيراً من المنجز الإبداعي العراقي، وأبعدته، بعنف شديد، عن دور الشعر الأوّل الحقيقي. ذكرتُ ذلك بوضوح في المقطع الأوّل من إحدى قصائد المجموعة، وهي قصيدة (قصائد صغيرة):

لا تذهبْ أكثر

من مائدةِ الأطفالْ:

من مائدةِ الفرحِ الباسق،

من مائدةِ النخلِ الباسق

وغناءِ البَطِّ، تماثيلِ الطينِ، الأعشابْ.

لا تذهبْ أكثر من صحراء الغيرةِ والنومِ الأزرق،

صحراء الكلسِ الأبيضِ والكلْماتِ الشعثاءْ.

لا تذهبْ أكثر من جسدِ الرؤيا!

هذه هي الوصيّة الشعريّة الأولى التي ألزمتُ بها نفْسي فالتزمتْ بها طوال المجاميع الكثيرة التي كتبتها بعد (تفاصيل) ولله الحمد، هذه هي بوصلة طريقي الشعري المضيئة بالتأمّل، والزهد، والحبّ بمعناه الواسع الكبير. وفي القصيدة ذاتها، أعني (قصائد صغيرة)، طلبتُ من الشعْر أن يعين الجسد المحروم والروح الملتاعة على السير في مواجهة تيّار الزمن المتناثر أياماً تتكرّر ساعاتها وتتكسّر شموسها، أردتُ منه– ولا أدري هل كنتُ على صوابٍ أم لا– أن يأخذ بيدي:

ما نفعُ الأشعار

إنْ لم تأخذ بيدي؟

لقد تساءلت: إن كنتُ على صوابٍ حين طلبتُ من الشعر أن يأخذ بيدي، إذ ما من جواب حاسم حتّى بعد مرور أكثر من أربعين عاماً على هذا السؤال الغريب كغرابة الحياة نفْسها والمدهش كدهشة الشعر نفْسه! لكنّ المؤكّد أنّ قصيدتي لم تزل تطلق ذات الأسئلة التي أطلقتها في مطلع حياتي الشعريّة وتصف حبّي الذي بدا أبيض الروح والنبض ولم يزل، وتتنبّأ، منذ زمن موغل في البُعد، بالغربة التي أعيشها الآن:

حُبّي ورقٌ تذروه الريحُ وتسكنهُ البهجة.

حُبّي ورقٌ لشوارع يسكنُها الغرباءْ

وشوارع ضاعتْ كالغربة.

حُبّي ورقٌ من طينٍ أسْوَد:

ورقٌ يأبى ويهاجرُ، يزرعُ أو ينسى،

ورقٌ للماضي والرغبة،

ورقٌ للغيرةِ والفتنة،

ورقٌ أبيض.

 

* حسنا هذا عن (تفاصيل) المجموعة الأولى الصادرة 1976 فماذا عن آخر مجاميعك: (حرف من ماء) الصادرة 2017 ؟

- بعد (تفاصيل) أصدرت (ديوان عربي)، (جيم)، (نون)، ( أخبار المعنى)، (النقطة). وقد عبّرت هذه المجاميع عما يجول في أعماقي، بشكل فاعل، من خلال أسلوبيتي الشعرية الحروفية. وقد استمرّ هذا المنهج الجماليّ الحروفي الذي عُرفت به حتى أطلق عليّ النقاد لقب (الحروفي) و(ملك الحروف)، استمر في مجاميعي التي تلت مجموعة (النقطة) بالطبع، أي في: (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة)، (شجرة الحروف) (أربعون قصيدة عن الحرف)، (حاء)، (أقول الحرف وأعني أصابعي)، (مواقف الألف)، (إشارات الألف)، (الحرف والغراب)، (رقصة الحرف الأخيرة)، (في مرآة الحرف) وصولاً إلى آخر مجاميعي: (حرف من ماء). ليصل عدد مجاميعي باللغتين العربية والإنكليزية إلى 19 مجموعة، إضافة إلى المجلّدين الأول والثاني لأعمالي الشعرية الكاملة ومجاميعي الأخرى المترجمة إلى الفرنسية والإسبانية والفارسية والأوردية والإنكليزية والإيطالية.

مجموعتي الأخيرة (حرف من ماء) هي قصيدة حب طويلة خلاصتها تشير إلى أن الحب هو الحل الممكن الوحيد في هذا الكوكب المحاصر بالحروب العبثية، والعنصرية، والتطرف، وبالفروقات الهائلة بين الأغنياء والفقراء، والتلوّث، والمخدرات، والوحدة، والعبث، والعنف، والأكاذيب، واللاجدوى. وهي رسالة تأمّل في شروخ العالم وشروخ الروح رغم تشبثها بالأمل. لأن الأمل هو روح الحب ونقطة بائه الجميلة.

 

* هل أنصفك النقاد؟ وهل أنصفتك الجامعات في بحثها الأكاديمي؟

- لنبدأ من مسألة الرسائل الجامعية التي تناولت شعري حيث تناولت تسع جامعات حتى الآن منجزي الشعري في العراق وتونس وإيران والجزائر. لاشك أن هذه الرسائل تعكس اهتماماً نقدياً أكاديمياً بما أنجزته طوال أكثر من أربعين عاما من كتابة الشعر ونشره ولله الحمد، خاصة وأنها تمت في العديد من الجامعات، وتظهر وصول تجربتي الشعرية الحروفية الصوفية إلى الجامعات إليها. وكذا الحال مع الدراسات النقدية التي رافقت مسيرتي الشعرية حيث تم نشر 11 كتاباً نقدياً عن تجربتي، مع عدد كبير يدعو إلى الفرح من المقالات والدراسات التي كتبها نقاد من مختلف البلدان والأجيال والاتجاهات الفنية ونشروها في الصحف والمجلات والمواقع الإليكترونية. وكان كل هذا الاحتفاء النقدي خير معين لي للإستمرار في تعميق تجربة الحرف لدي وتعميقه بقوّة واستمرار.

 

* منصات التواصل الإجتماعي، المتاحة اليوم، ما الذي أضافته لك كمبدع؟ هل أمست ضرورة للتفاعل الإبداعي والإنساني عموماً؟

- لقد دخلنا منذ زمن غير قصير عصر الإنترنيت وهو عصر عظيم. وبدأت الصحافة الورقية تواجه منافسة حقيقية من قبل الصحافة الالكترونية بل دخل المدوّنون الذي أخذوا يعلنون أفكارهم في مدوّناتهم وفي المواقع الإنترنيتية دون خوف حقيقي من القمع في كثير من الأحيان. إن الإنترنيت حقق ثورة على صعيد البشرية كلها، وأن “ثورة” الإنترنيت في البلدان العربية خفّفت إلى حد ما من هذا الغياب المُهلك للحرية والحضور العنيف لآلة القمع، كما كسّرتْ، إلى حد ما، من الحدود العربية المخيفة أمام حركة الاتصال وتلاقح الأفكار وكذلك حركة الكتاب العربي بعامة والمجاميع الشعرية بخاصة. الآن يمكن قراءة الكتب على أنواعها على الإنترنيت مفتوحة اليدين والقلب! فشكراً للإنترنيت الذي حقق حلماً إنسانياً قديماً وعظيماً، وعسى أن تنجح هذه الثورة الكبرى في تحقيق إنتشار الكتاب العربي بعامة والمجاميع الشعرية بخاصة، وإيصاله أي الكتاب إلى القراء والحد من نسبة القراءة المتدنية لدى الشعوب العربية على نحو يثير الرثاء والبكاء والخجل! هذا يعني أن الإنترنيت سيساعد في إيصال الشعر وتوسيع دائرة متلقّيه في مشارق الأرض ومغاربها مستقبلاً. وسيكسر، بل كسر فعلاً شبح الألف نسخة التي يطبعها الشاعر ويوزعها على معارفه! الممتع والجميل في المسألة أن الكتب الإلكترونية مجانية وهي تقفز فوق الحدود المانعة وسياط القمع والمنع والردع ليتجاوز رقمها الألف بعشرات وربما مئات المرات. إنها ثورة رائعة بكل المقاييس!

 

**************************

نُشر الحوار في جريدة الزمان بتأريخ 15 تشرين أول- أكتوبر 2017

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home