الوطن والعاشق المغترب في تجربة أديب كمال الدين

 

 

 

 

 

أشرف قاسم

 

 

تعتبر تجربة الشاعر العراقي أديب كمال الدين من التجـــارب الشعرية المهمة التي توقف لديها النقاد طويلا بالنقد والتحليل. أديب كمال الدين الشاعر العراقي المغترب الذي يعيش في أستراليا منذ سنوات طويلة، وأحد أهم شعراء السبعينيات في العراق والوطن العربي. صدرت له مؤخرا أعماله الكاملة في طبعة أنيقة عن منشورات ضفاف.
سنتوقف خلال هذه السطور مع المجلد الثالث من هذه الأعمال، الذي احتوى ثلاث مجموعات شعرية هي «شجرة الحروف، أربعون قصيدة عن الحرف، أقول الحرف وأعني أصابعي».
وكما هو واضح من عناوين المجموعات الثلاث، فإن أديب كمال الدين شاعر مسكون بالحرف، لديه عشق كبير للتشكيل بكل أنساقه وجمالياته المعرفية من خلال هذا الحرف، الذي يعيد الشاعر من خلاله رسم الواقع واستكناه الوجود وطرح العديد من تساؤلات الذات المغتربة عن الوطن الجريح، هذا الوطن الذي شهد أجمل ذكريات الشاعر، والذي يعيش في
 وجدانه وهو في غربته بعيدا عنه :

 

 تعبتْ بغداد من ثيابِ الدم.

تعبتْ وبكتْ.

وحينَ طلبتْ جرعةَ ماء،

أعطوها قنبلةً للموتِ وسيفاً للذبح.


هذه الصورة الحزينة لبغداد هي الجرح الذي يسكن قلب الشاعر ليل نهار، تلك الصورة البشعة لمهد النور والحضارة التي صارت نهبا للغزو والخيانة والغدر والدسائس، لا تبرح قلب الشاعر فينزف دما على هذا الوطن الذي صار نهبا لكل طامع.

بغداد،

دماؤكِ سالتْ في الشارعِ للرائحِ والغادي.

كيفَ سيوقفها الفقراءُ العُزّل؟

بأيّ حروفٍ ودواءٍ وتعاويذ؟

كيف؟

وبغداد هاجمها كلُّ ذئابِ الكون


تؤكد نصوص أديب كمال الدين أنه شاعر نذر عمره وأوقف شعره على مأساة وطنه، فجاءت نصوصه أصداء لأنين هذا الوطن المكلوم، الذي أضاءت شمسه العالم ذات يوم، وكانت حضارته أقدم حضارة عرفها التاريخ، وتختلط بأصداء أنين الوطن أصداءُ أنينِ قلبه المغترب، المحترق بنيران الغربة والمنفى:

 

أيّها الحرف

سيحاربكَ القرصانُ الأحمر،

القرصانُ الذي قوّضَ العرشَ وسلّمهُ للرعاع،

لأنّ في قلبكَ موجة لأقمار الطفولة.


إنها إحدى صور الرفض التام للاستبداد والطغيان والإذعان لجبروت المحتل الذي احتل الوطن بكل ما يحتوي من تراث وتاريخ.. وذكريات مازالت تسكن في قلب الشاعر «موجة لأقمار الطفولة». ولعل هذه الصور الموجعة التي يلتقطها أديب كمال الدين للوطن وهو في غربته هي وثائق مهمة ورسائل إلى العالم الذي يقف متفرجا على ضياع العراق بتاريخه وحضارته وثرواته، وهي أدلة إدانة لكل الخونة والمتخاذلين، الذين تركوا هذا الوطن يضيع أمام أعينهم، بدون أن تمتد يدٌ لتنتشله من مأساته، فقط ينظر إليه الجميع وهو ذبيح بعيون دامعة:
  

في أعماقي

طائرٌ أبْيَض

يسقطُ مذبوحاً في أعماقِ المسرح.

وفي أعماقِ المسرح

صراخٌ وأنين وثيابٌ ممزَّقة

وفي أعماقِ الثيابِ المُمزَّقةِ حلم

وفي أعماقِ الحلمِ نهر

وفي أعماقِ النهرِ صَبيّ

وفي أعماقِ الصَّبيّ قلب

وفي أعماقِ القلبِ قصيدة

وفي أعماقِ القصيدةِ حرف

وفي أعماقِ الحرفِ نقطة

وفي أعماقِ النقطةِ مُتصوّف

وفي أعماقِ المُتصوّفِ إله

إله ينظرُ إلى طائري المذبوح بعينين دامعتين.


تمثل الرؤية الصوفية لجوهر الأشياء مرتكزا مهما ودالا من مرتكزات تجربة أديب كمال الدين، إذ أنه يستبطن من خلال تلك الرؤية علاقة الروح بالجسد، وعلاقة كل منهما بالواقع الصادم الذي ينضح على الروح بغربته وينضح على الجسد بقسوته، ما يضيف أبعادا معرفية أخرى إلى النص الشعري، هذا بجانب توظيف التناص بأبعاده الدلالية، كتوظيف قصة نوح والطوفان لتعرية حال الوطن الذي اكتسحه طوفانُ الضياع والاحتلال والخيانة، ولا يجد المرءُ فيه طوقا للنجاة ولا جبلا يعصمه من الماء:

 

حتّى إذا غيّبَ الموتُ نوحاً،

تحرّكَ المركب

تحرّكَ بي وحدي

لأواجه طوفانَ عمري

في موجٍ كالجبال،

أنا الذي لا أعرفُ الملاحةَ والسباحة

وليسَ لديّ حمامة أو غُراب.

 

 

 

 


كما تتضح قدرة أديب كمال الدين على تشكيل الصورة الشعرية التي تشبه «البازل»، حيث يعيد الشاعر جمع شتات تلك المفردات بحرفية عالية، مهتما بدقائق التفاصيل لاكتمال رسم المشهد البصري الدرامي، بدون الإخلال بروح النص الشعري، وبدون ترك النص للاكتناز أو الترهل أو التداعي المجاني:

لم يكنْ هناك الكثير

من الأشياء على المائدة.

كانَ هناك تفّاحُ الشهوة

وشاي السمِّ المنقوع بالعسل

وقطعةُ خبزٍ كبيرةٌ سوداء

وسيكارةٌ أنفثُ دخانها ببطء

طوال حياتي

وأنا أتلقّى الأخبارَ السيّئة

الواحدَ تلو الآخر.


تلك إطلالة سريعة على عمل شعري مهم لشاعر ذي تجربة استثنائية، يستحق من نقادنا العناية والتقدير، وآمل أن أكون قد استطعتُ أن أرصد بعض ملامح تلك التجربة.

*********************

الأعمال الشعرية الكاملة: المجلد الثالث: شعر: أديب كمال الدين، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2018

 نُشرت في جريدة القدس العربي 17  آب – أغسطس 2018

٭ أشرف قاسم: شاعر وكاتب مصري

 

 


الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home