الشاعر الحروفي أديب كمال الدين في مجلّد أعماله الرابع

الاقتراب البهيّ من أسرار الصوفيّة

 

حسن حافظ السعيدي *

الشاعر الحروفي الأستاذ أديب كمال الدين الذي تُرجم شعره إلى سبع من اللغات يبوح إلينا بقصيده في المجلد الرابع من أعماله الشعرية الكاملة الصادر حديثا عن منشورات ضفاف في بيروت، بعد أن يستلهم عن الذات الالهية الجليلة شعراً في بعض من تجلياته الروحية، فيبدع أيّما إبداع في استجلاء روح الحرف وعمقه السرّي. وإنني إذ استشهد بما ورد في قصيدة (موقف الخوف) من مجلده أعماله الشعرية الرابع لنرى كيف يكون هذا الكشف الروحاني :

(يا عبدي

مَنْ عرفني فقد عرفَ الطمأنينة.

ومَنْ عرفَ الطمأنينةَ عرفَ السَّكِينة.

ومَنْ عرفَ السَّكِينةَ عرفَ الوقار.

ومَنْ عرفَ الوقار

كانَ اسمي بين شفتيه بلسماً

وفي قلبه نوراً

لا يأتيه الباطلُ أبداً

حتّى لو انهدّتْ مِن حوله الجبال). ص 68

وكأنني بالحلّاج الذي كان يردد بذات المضمون، إنما قد أضاف اليه الذوبان في ذات المحبوب، وفقا لنظرية الحلول التي تقضي بذوبان (الناسوت في اللاهوت!) حيث كان يردد (مَن يبحث يجدني ، ومَن يجدني يعرفني ، ومَن يعرفني يفهمني ، ومَن يفهمني يحبني ، ومَن يحبني أحبه، ومن أحبه أفنيه). ومن هنا نجد أن الشاعر الأستاذ أديب كمال الدين ينحو نحو عالم روحاني بعيداً عن عالم الحسّ، وذلك عن طريق استقراء الحرف العربي (وإيجاد مدلولات عميقة له مستعينا بالتراث القرآني والقصّ القرآني، وبالعمل على خلق عالم روحاني موازٍ لعالم الباطن) كما أشار إلى ذلك الدكتور حسن ناظم في مقالة له منشورة في جريدة الصباح في 17 حزيران 2015 .

 والشاعر وإن استنطق أغلب الحروف، الا أننا نجده يركز على حرفي الألف والنون - إضافة إلى النقطة التي جعلها عاصمة المعنى والمبنى للعلوم واللغة- بما لديهما من دلالات روحية كما هي جميلة، وإننا اذ نجد تركيزه على حرف الألف لأنه هو الحرف الأول من لفظ الجلالة (الله) فهو المبتدا كما هو المنتهى  الذي يعتبره البعض من العارفين بأنه يمثل اسمه العظيم الأعظم الذي إذا دُعِيَ به أجاب! وهكذا يجري تركيزه على حرف النون الذي ورد التاكيد عليه في الآية في سورة القلم (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُون)، كما ورد في سورة الأنبياء (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)  الذي هو تسمية لصاحب الحوت وهو النبي يونس عليه السلام. وهكذا يعمل الشاعر الحروفي على شحن هذه الحروف، لتضخّ للمتلقي دلالات وصوراً شعرية إيجابية تميّز بها دون غيره من الشعراء، وليمدّ الحرف العربي بطاقة ايجابية كما هي استذكارية بأنْ يتقمّص روحية هذا الحرف ليشكّل لنا ارهاصات كل حرف على حدة، وليمنحها بُعداً يتجاوز شكلها أو رسمها الهندسي .. واذا كان الشاعر قد رسم المواقف للمتلقي في قصائده ، فإنه يتسامى فيها إلى الذات الالهية التي يتحدث فيها إلى العبد حسب انسياب مواقف الشاعر الفكرية، وبما ينسبها للذات الالهية من بوح جميل روحي، توحي بالطمأنينة والامان، فحرف الألف المبارك له القدح المعلّى عند الروحانيين، فهو أول الحروف في الأبجدية العربية، كما هو أول حرف من لفظ الجلالة (الله) وهو أول أسماءِ الله الحسنى ، وفيه يجري التركيز عليه أي لفظ الجلالة (الله) في الآيات القرانية ذات الدلالات المهمة ، كما في الآية (بسم الله الرحمن الرحيم) وفي الآية (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ) الاسراء 110 ، وهو الأسم العظيم الذي أدخلَ السكينة إلى قلب عبده ونبيّه موسى عليه السلام بعد أن مرّ بحالة من الرعب حين ألقى عصاه، اذ ناجاه (وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ  يَا مُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) سورة القصص 31 ، بعد أن عرّفه بذاته جلّ جلاله (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) سورة طه 14 . فمن هذه الآيات وغيرها كان الشاعر قد استوحى مدى جلال حرف الألف، ففي مطلع قصيدة (موقف الالف) ينشد:

أوقَفَني في موقفِ الألِف

وقال: الألِفُ حبيبي.

إن تقدّمتَ حرفاً،

وأنتَ حرفٌ،

تقدّمتُ منكَ أبجديةً

وقدتُكَ إلى أبجديةٍ من نور.

وقال: سَيُسمّونكَ "الحُروفيّ".

فَتَبصّرْ،

فالليلُ طويلٌ والراقصون كُثر،

وهم أهلُ الدُّنيا وأنتَ مِن أهلي.) ص 18

الأمر الذي يشير إلى استيحاء الشاعر نشيده الروحي من الحديث القدسي الذي رواه البخاري وورد فيه (إذا تقرّبَ العبدُ إليّ شبراً تقرّبتُ إليه ذراعاً، وإذا تقرّبَ إليّ ذراعاً تقرّبتُ منه باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة). واذا كان الشاعر يستنطق الذات الالهية فيأتيه الالهام والاشراق الصوفي ، ففي خاتمة لتلك القصيدة يردد هذا النشيد:

(ما كنتُ إلّا ألِفاً

مَصيري إلى التُراب

إذ خلقتني من طين.) ص 22

واذا كان الصوفيون يرون أنهم يصلون إلى الحالة النورانية في قمة معراجهم الاكبر، حيث كمالاتهم ضمن مراحلها السبع التي يمرون بها ، وعلى حد تعبيرهم وهم في حالاتهم النورانية تلك يزعمون أن ( لأولياء الله شراب ، اذا شربوا طابوا ، واذا طابوا وصلوا ، واذا وصلوا اتصلوا ،واذا اتصلوا لا فرق بينهم وبين محبوبهم ). الا اننا نجد أن شاعرنا سرعان ما يهبط من معراجه المتناهي في السمو الروحي الخاطف ، اذ ينزل إلى الأرض لقوله تعإلى: في سورة طه 55 (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ). فهو من التراب واليه يعود. واذا كان الشاعر في المقطع الاول من القصيدة يتحدث فيها بالضمير المخاطب (أنتَ) فإنه يلجأ إلى الضمير المتكلم (أنا) في المقطع الثاني.  والمعروف عن الصوفيين أنهم يمتلكون أسرارهم الخاصة، وهم لا يبوحون بأسرارهم، فهم متكتمون، ومما ينسب إلى الشيح عبد القادر الكيلاني، شيخ الطريقة القادرية، قوله عن الحلّاج ( لو كنتُ في زمانه لنصرته، هو أباحَ وكتمتُ) بما يطلق عليه البعض أنها (شطحات الصوفية)! ومن هنا نجد ان الشاعر الحروفي يبوح ثم يكتم، أي يقدم ثم يحجم! ففي ذات القصيدة يستمر عطاؤه النوراني حين يبوح:

( ثُمَّ علمَ أنّ مَن يعرف القاف

سَيلقى مِحَناً لا تُحصى،

أهونها الغربة، فَتَستَّرَ.

ثُمَّ علمَ أنَّ كلّ مُتَسَتِّر

يحملُ قَدَرَه

مكتوباً ما بين عينيه الدامعتين.

ثُمَّ علمَ أنَّ كلّ دمعةٍ هي سجدة،

وكلّ سجدةٍ هي طائر سعد،

وكلّ طائر سعدٍ هو نون. ) ص 43

وهكذا نجده يردد حرف النون الذي لايفارقه في قصائد الإشارات التي تصل إلى 100 قصيدة، ففي (إشارة الكاف والنون) يختتم الشاعر الحروفي قصيدته:

(إلهي ،

كانَ ذلك يوم ظهوري

شمساً من حرف

ونقطةَ روح.

كانَ ذلك يوم خروجي منتصراً

أحملُ كافاً في كفّي اليمنى

وأحملُ، في كفّي اليسرى، النُّون. ) ص 320

أما في قصيدة (موقف المصطفى) حيث يتولّى الشاعر وصف النبي المرسل عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام، وهو في معراجه الأكبر  بلغة شفافة انسيابية، اذ يبوح بما رأى وكانه كان حاضرا بين الرّب الجليل وبين رسوله الكريم، بعينه الباصرة وفي ذائقته الحساسة، وفي ذلك الموقف ينشد:

(أوقَفَني في موقفِ المُصطفى

وقال: أرأيتَ إلى مَن رأى

مِن آياتِ ربّهِ الكبرى؟

أرأيت إلى مَن أرسلتُه رحمةً للعالمين،

وختمتُ به الأنبياءَ كلّهم والمُرسَلين،

وجعلتُ له الأرضَ طهوراً ومَسْجِداً،

وجمعتُ على مائدته

قدحَ الصبرِ إلى قدحِ النصر،

وماعونَ المحبّةِ إلى ماعونِ العِلْم،

وشرابَ الشفاعةِ إلى شرابِ الكوثر؟

أرأيت كيفَ أسريتُ به

إلى حضرتي الكبرى

مِن سماءٍ إلى أُخرى،

فرأى مِن النُّورِ ما رأى،

فكانَ قابَ قوسين أو أدنى؟

ثُمَّ قلتُ له: صفْني يا مُحمّد،

صفْني يا حبيبي،

صفْني أيّهذا المُصطفى.

قالَ: سبحانَ الله.

قلتُ: نعم.

قالَ: والحمدُ لله.

قلتُ: نعم.

قالَ: ولا إلهَ إلّا الله.

قلتُ: نعم.

قالَ: واللهُ أكبر.

فجعلتُ الشَّمسَ تجري في وجهه

وفي صلواته الخمس.

وجعلتُ اسمَه مقروناً بِاسمي،

وشهادتَه بشهادتي،

ومحبّتَه بمحبّتي

إلى يوم يُبْعَثون،

يوم لا يَنفعُ مَالٌ ولا بنون

إلّا مَن أتاني بقلبٍ سليم.) ص 60 -61

 

واذا كان الشاعر يميل إلى التكرار لزيادة الايقاع مع توكيد المعنى فتأتي أشبه بالدور في الاغنية التي ينشدها المطرب إلى درجة اننا نجد في قصيدة (إشارة الصراخ) يعمد إلى تكرار أداة الجر (من) إلى ما يقرب من 13 مرة! كما يُلاحظ ان قصائد الإشارات كلها تبدأ بتوجيه الخطاب إلى الخالق العظيم بكلمة (إلهي)، والتي تنتهي جميعا بالاحباط ومرّ العذاب، وتكاد أن تكون قصيدته (إشارة الاخضر) الوحيدة التي يختتمها الشاعر بالتفاؤل:

(إلهي،

رأيتُ الأخضرَ في الأشجار،

في العشب،

في الحُبِّ وفي الشَّوق،

في ضحكاتِ الأطفال.

فلبستُ الأخضرَ ليلَ نهار.) ص 311

 وينتهي المجلد الرابع بقصيدة: (إشارة الشمس ):

(إلهي،

ما أجملَ شمسك

وهي تجري لمُستقرٍّ لها

في قلبي. ) ص 321

ومن هنا نجد ان الشاعر وهو في حضرة جلال الله  تفيضُ روحه بوجدانيات صوفية بعيداً عن التعلق بالأرض وثقلها المادي، عن طريق إعطاء الحرف بُعداً يحلّق فيه بأجنحته الروحانية بعيداً في الفضاء، بسموٍّ، وهو في منتهى الخشوع، بعد أن يخفّ الجسد من أثقال الأرض ليملأها شعاعاً نورانياً شفافاً وبهيّا. إذ يقوم بالربط بين الحرف ودلالته وبين فضائه الروحي، بعد أن يخترق شفراته السرية، فتأتي كلماته مطواعة كالعجينة في كفه يُطوّعها كيف يشاء لتنسلّ بشغف روحي: وكأنني بالجواهري هنا وهو ينشد:

  سرتْ كشعاع النورِ في فحمةِ الدّجى

                                                   أو كالنّسيم الرّخو في يَبسٍ اذا هبّا !

وهنا لابد من الإشارة والحالة هذه إلى مقدرة الشاعر أديب كمال الدين في خلق صوره الشعرية من التراث القرآني، بما لها من دلالات أخرى تتجاوز معناها الظاهري فيسبغ عليها أنواره الكاشفة فتزهو لتبهر الناظر، كما تشنّف أذن السامعين  فيسكرون، وماهم بسكارى، ولكن إبداع الشاعر لعظيم!

*********

الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد الرابع: أديب كمال الدين، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2018

* ناقد عراقي - بغداد

 

 

الصفحة الرئيسية

Home

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة