شعر أديب كمال الدين:

 

في منظور النقد السيميائي عند عبد القادر فيدوح

 

 

 

 

 

أ.د. فاضل عبود التميمي

 

 

 

ملخّص:

   تريد هذه (الورقة) أن يقف عند التجربة النقديّة التي مارسها الناقد د.عبد القادر فيدوح في كتابه :(أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفيّة في شعر أديب كمال الدين)، وهو يعلن عن جماليّات نقده في مرايا شاعر معاصر دون ادعاء، أو تحيّز إلى الشعر، أو الشاعر في ممارسة همّها اكتشاف العلامات وتحليل مستوياتها، وفي عقله الراصد تنبضُ أسئلةُ السيمياء في مفهومها المطلق من عقال الاختلافات المصطلحيّة، والإشكالات المعجميّة متجاوزا إرث الحراك المبني على هوامش التناحر ليدخل المتن متسلحا بقراءة الرموز، والبحث عن المعنى، ودلالة التأويل، وقد غادر الناقد(الصورة) في مفهومها التقليدي  ليبحث في فاعليّة (السِّمة) في إجراء نقديّ لا يخلو من مغامرة منظّمة تمكّن من خلالها أن يقرأ شعر شاعر له مكانة ثابتة في متن الشعر العربيّ المعاصر.

 

الكلمات المفتاحيّة: شعر، الناقد، الشاعر...

 

ملخّص باللغة الإنكليزيّة:

 

Adeeb kamal Ad-Deen's poetry

In the semantic criticism view point

                                             

 

Prof. Dr. Fadhil Abood Al-tameemi

University of Diyala – Iraq

 

Abstract

 

     This paper tries to investigate the criticism experience which is practiced by the critic dr. Abdul-Qadir in his book ''the letter and Al-Sufiya phrase in Adeeb kamal Ad-Deen's poetry. He tries to show the beauty of his criticism in a contemporary poet's poetry without any claim or a bais to poetry or a poet in his practice his aim is to find out the poetry marks. In the critic's mind the semantic question pulse in its real concepts from the differences in terms and the lexical problems. He tries to step the heritage built on the differences among critics to discuss the body provided with the ability of reading symbols and meaning investigation. He tries leaving the image in its traditional concept to investigate the semantic phase critically. He could read the poet's poetry which has a good position in the contemporary Arabic poetry.

 

شعر أديب كمال الدين:

في منظور النقد السيميائي

أ.د. فاضل عبود التميمي

جامعة ديالى: العراق

 

المدخل:

  حين اختار د.عبد القادر فيدوح المنهج السيميائي في تأليف كتابه الجديد:(أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفيّة في شعر أديب كمال الدين)([1]) أذن لنفسه أن يكشف عن إجابات سؤالات كانت تختمر في ذهنه تتعلّق في خصوصيّة التجربة التي كان الشاعر أديب كمال الدين يبدع من خلالها الشعر، في ممارسة همّها الاكتشاف، والكشف بعيدا عن (سلطة) الشاعر الذي أخذه الحرف في دروب المعرفة، ومتاهات الفن، ومجالس المتصوّفة، ودهاليز الحكمة التي يرتّق فيها جروحه التي ما إن يندمل منها جرج حتى تنبثق جروحٌ أخر في متوالية رياضيّة يصعب الإمساك بنتائجها.

   لقد وجدتُ نفسي- بوصفي قارئا معنيّا بالشعر ونقده- وأنا أحاول قراءة هذا الكتاب وقد توزّعت بين عالمين كبيرين: عالم الشاعر([2]) الذي شغلني منذ زمن ليس بالقليل، وهو يرتقي شجرة الحروف بسلّم الشعر الذي ورثه عن عائلة أعرف كم كانت منحازة إلى الفكر، والكلمة، وجوهر الأدب، وعالم الناقد الذي ارتقى شجرة الكلمة بسلّم النقد الذي أخذه استعدادا، وافتتانا ،وتعلّما لأنْ يكون فكان، وقد سوّلت لي نفسيَ الادعاء أنّ لي صلة قديمة، ومعرفة عميقة بما كتب قبل سنوات بعيدة ،وإن لم ألتقه وجها لوجه فقد التقيته كثيرا على صفحات ما كتب.

  إنّ التوزّع بين خطابي الشاعر، والناقد جعلني أعيش تجربتين مختلفتين تجربة الشاعر الذي يقول و يمضى سالكا دربه الذي لا يصلح إلا له، وتجربة الناقد الذي يحثّ خطاه سالكا الدرب نفسه ولكن من مقترب آخر يتقصى فيه أقوال الشاعر ليقيم عند تخومها بقصد تفكيك أواصر لحمتها، وسداها بحثا عن جوهر الرؤية فيها، أو جوهر الخطاب، أو جوهر الرؤيا، أو جوهر حبّة الحياة تلك التي يعيش من أجلها الشاعر مهموما و هائما.

   والحق أن توزعي بين الخطابين جعلني أعيش تجربة ثالثة أسلك من خلالها الدرب نفسه الذي سلكه صاحباي ولكن بعدّة محبّ، ورؤية قارئ، ورغبة إنسان يريد أن يجمع الخطابين في خطاب همّه الإشارة الى فاعليّة الشعر في الحياة، وفاعليّة النقد في الشعر لاسيّما السيميائي منه في شعر واحد من أهم من كتب القصيدة الحديثة في سبعينيّات القرن العشرين، ولمّا يزل ضمن جيل عراقيّ وُلد وفي فمه بيت شعر.

   اذا كانت(السيميائية) في أدقّ مفاهيمها وأيسرها:(علم موضوعه العلامة ومنهجه التحليل)([3])،فإنّ المنهج السيميائي قراءة منظّمة هدفها الوصول الى تلك العلامة، والوقوف عند عتباتها بقصد الكشف عن طاقاتها الكامنة ، ومخزونها الفاعل في المتون الأدبيّة، وغيرها من خلال الاحتكام إلى التعالق بين الدوال و المداليل، وعندي أنّ شعر أديب كمال الدين يكاد يجهر بمحموله الإشاري: العلامي في مستواه الصوتي الدال، وفي مستوى حركته المتّجهة دائما نحو الأعماق، أعني حركة إشارات المعنى التي ابتلى بها الشاعر منذ اليوم الذي أيقن فيه أنّه صار شاعرا بمباركة من الحرف ،وجماليّات الكلمة، وصار بحكم المسؤوليّة يشعر بما لا يشعر به غيره من الصنعة اللطيفة في نظم الكلام، ذلك أنّ الشاعر يفطن لما لا يفطن إليه غيره، وإذا قَدِرَ على صنعة الشعر كان على ما دونه أقدر، بهذه الرؤية التي ابتكرها الباقلاني (403هـ)([4]) قبل ألف سنة أرى (أديبا) وهو يشعر بما لا يشعر به غيره من الناس، فينهمر الشعور صنعة جميلة وكلاما منظّما.

    قُدّر لي أن اقف عند خطاب الشاعر، أي أن أقف عند إشاراته ،وهو يختزل من خلالها اللغة، ومواقف الوعي، وأن أقف عند خصيصة استنطاقه المكبوت من أطلس الحياة، فأشعاره كلّها ناطقة بالإشارات المحيلة على المعاني الثواني البعيدة في سلسلة التلقي العتيد حتى الجمادات، والمعاني العقليّة في شعره تنطق بقوة المجاز، ودلالة التشكيل المركب بما هو استثنائي فاعل في النمط المتعالي على اللغة الحقيقيّة ،ولهذا صارت تهويمات الشاعر، ومرموزاته ،وإشاراته ،واستعاراته ،وكناياته ، وإحالاته ،ونجاحاته ،وإخفاقاته (تقترف) الانتماء إلى حقل التحسس العلاماتي، وكذلك ألفاظه ، وعواطفه، وانفعالاته، وإشكالات وجوده التي تفصح عن سيمياء لم يتعمدها الشاعر، وإنّما جاءت عفو الخاطر بفعل عوامل التخيّل، والإبداع التي يصعب الإمساك بها، أو توجيه مساراتها.

  إنّ كثرة رموز الشاعر بما تحمل من ايحاءات جعلت الناقد ينساق وراء تشكيلاتها لغرض الكشف، والاكتشاف، ومن ثمّ الإحالة على تعالق دوالها بمداليلها سواء أكان ذلك بالتحليل، أو التأويل، أو استنطاق الراكس في العمق حتى تساؤلات الشاعر الكثيرة التي تركها بلا إجابات كانت، ولمّا تزل تدعو الناقد لأن يجيب عنها بما يمتلك من وسائل كشف تقرأ الأساليب لتعلي من شان سياقاتها.

   لقد وُفّق الناقد وهو يقترب من شعر الشاعر وفي عقله تنبض أسئلة السيمياء في مفهومها المطلق من عقال الاختلافات المصطلحيّة، والإشكالات المعجميّة متجاوزا إرث الحراك المبني على هوامش التناحر ليدخل المتن متسلحا بقراءة الرموز، والإشارات، والدلالات التي تحمل طاقات مولّدة الشعر وهو يتقدم موكب الحياة لاعنا كلّ سوء، وظلام، راصدا السلوك الشعري للعلامة وهي تنبجس دلالة وشكلا في ظهورها الناهض من بين السياقات، وغيابها المستتر خلف هضاب الروح.

    وإذا كان المبحثان: الأول، والثاني قد أحالا على(المعنى) صراحة، فإنّ المبحث الثالث قد أحال ضمنا عليه في:(دلائل العبارة)، و(التأويليّة)، ليأخذ هذا الجمع الدلالي المتتالي إلى تصوّر منهجيّ سيميائيّ برؤية تأويليّة ذات تعدديّة دلاليّة في ثلاثة مباحث كانت بمنزلة الفصول في الكتاب، ومقدمة يصعب تجاوزها. 

   بُنيت المقدمة على وفق رؤية غير تقليديّة تجاوزت الشكل الأكاديمي الذي يرتضي أن تكون المقدّمة بفقرات معروفة، تبدأ بالحديث عن العنوان ،وأهميّة الموضوع ، لتقف عند المنهج المتّبع في الكتابة مارّة على أهمّ المصادر والمراجع دون أن تنسى عنوانات الفصول والمباحث، والإشكالات التي مرّت بها خطة البحث، في مقدمة الكتاب أتاح الناقد لقارئه أن يكتشف المنهج من دون عناء، فمن الإشارات أنفسها استطاع أن يفكّك عنوان الكتاب ليهتدي إلى المنهج منطلقا من حقيقة الوظيفة الكامنة فيه ،فـ(الأيقونة) مثلا في عنوان الكتاب:(أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفيّة في شعر أديب كمال الدين) تتحدد بحسب علاقة تماثلها مع حقيقة العالم الخارجي([5])،لتدخل في علاقة مشابهة مع واقع الشاعر، أي تاريخه الخارجي، فضلا عن أنّ لها ما يشابهها من الكتابات الشعريّة ،والنثريّة التي تمتلك موضوعا معيّنا يمكن الاستدلال عليه شعريّا بوجود نصوص قديمة دليلها المعنى الذي صار وجوده مفتاحا يحيل على واقع يمكن التعبير عنه بسبب الاختلاف في الموقف منه، و(الحرف) في العنوان بوصفه (رمزا) يشير إلى الموضوع الذي يعبّر عنه من خلال عرف يقترن بالأفكار العامّة([6])، أي صورة تحيل على دال، ومدلول ذي تصوّر ذهنيّ يسمى المعنى وقد وضحت غايته، و(التأويل) في العنوان يخرج دلالة اللفظ كما يرى (ابن رشد) من الحقيقة إلى الدلالة المجازيّة من غير أن يُخل بعادة لسان العرب في التجوّز من تسمية الشيء بشبيهه، أو بسببه، أو لاحقه([7])،وقد اقترن بتعدّد القراءات وحريّة المتلقي في اعتماده إيّاها، وكانت (العبارة الصوفيّة) في العنوان التي فُتن بها أديب كمال الدين منذ نعومة أظفاره الشعريّة خاتمة التشكيل العتباتي.

   ويبدو لي أنّ اختيار الناقد للمنهج كان متساوقا مع لحظة اقتراح العنوان، لتتشظى فيما بعد دلالاته على متن الكتاب ليكون العنوان نفسه، كما يؤكّد الناقد جميل حمداوي مؤشّرا دالّا يسهم في تعيين النوع الأدبي، كونه مفتاحا إجرائيّا يمدّ الناقد، والقارئ بمجموعة من المعاني التي تساعد في فكّ رموز النص، وتسهيل لحظة الدخول في أغواره، وتشعّباته الوعرة، ومنهجه، وكلّ ما له صلة به([8]).

  وإذ أَقْدَمَ الناقدُ د. عبد القادر فيدوح على قراءة شعر أديب كمال الدين، فقد كان متيقّنا أنّه أقبل على مجازفة هدفها الكشف عن واسطة فيض الكلمة، وواسطة مَدِّ العبارة ضمن الاستعارة المطلقة في شعره، أي أنه وضع نفسه إزاء هدف الكشف عن غاية الشاعر وهو يسعى إلى تقديم معنى المعنى، وجمع المتباعد من الرؤى؛ لإبراز السياق الدلالي القائم على بنية الكلمة الشاعريّة التي تَسِمها جماليّة التوظيف، في شتى مستوياتها الصوتيّة والتركيبيّة أيضا.

   لقد ايقن الناقد أنّ الشاعر يقيم عند تخوم (القصيدة السِّمة)([9]) التي تجاوز بها د. فيدوح "القصيدة الصورة" بترجيحه استعمال (السِّمة) بديلا عنها، فقد وجد عن قرب أنّ السّمة فيها ما يتطابق مع لغة الشاعر التي تسمو على كل ما هو متساوق وطبيعي في العملية الإبداعيّة، أي أن الناقد عقد العزم على قراءة الشاعر سيميائيّا مدركا رحلته (الكشفيّة) في صورتها الإبداعية، وقد دبّت في الناقد روح التماهي مع المطلق، وسرى في عروقه الشعور بمسؤوليّة البحث عن يقين محور الكون، بدافع خلق عوالم ممكنة، ضمن حدود الأدب وما يقدّم من ايقاعات ضامنة لديمومة حياة الإنسان، وازدادت مسؤوليّته أكثر حين وجد في إرادة الشاعر ما دفعته إلى محاولة معرفة يقين الوجود من شتى السبل، أي أنّ الإرادتين الشعريّة والنقديّة التقتا عند حدود التفاهم الإبداعي بين ما هو حياتي موغل في وجوده الإنساني الشفيف، وما هو فنيّ يعبّر عن تطلعات الإنسان.

  الإشارات السابقة مستعارة من خطاب الناقد وهي واضحة الدلالة تحيل على طبيعة المنهج المعتمد في معاينة شعر الشاعر، وقد أخَذَتْ الناقد إلى منطقة الوضوح المنهجي التي بدا من خلالها وقد تماهى فكره النقدي مع الفكر الشعري للشاعر في جماليّة سرت بهما ليلا وهما يحتطبان كلّا في غابة خاصّة بحثا عن عشبة كنز اليقين، فقد كانت هويّة الذات في رؤيا الشاعر مرقاة الناقد لاكتناه عالمه الشعري، بوصفه منتوجا يعكس صورتين متناظرين من حيث الشكل، ومتباينتين من حيث المضمون فيما كان الشاعر مأخوذا بتطهير ذاته من أدران العصر بوساطة جمرة الشعر التي ظل ينفخ في رمادها من خلال مجاميعه الشعريّة المعروفة.

    وإذْ أدرك الناقد عن يقين أنّ الشاعرَ مبدعٌ في خطابه؛ فلأنّه أقْدَر من غيره على توظيف السّمة الكشفيّة للكلمة المؤدية إلى صدق البصيرة، تلك التي يرى فيها المبدعون، والمتصوّفة فيما تغيب عن غيرهم، فهو متمكّن من تشعيب دلالة العبارة في علاقاتها مع ما أسماه بـ " القصيدة السِّمة"، في يقينيّة نقديّة قامت على وفق فكرة مؤداها أنّ  تحوّل بناء النص عند الشاعر من التعبير عن الوعي بالذات إلى التعبير عن الذات في علاقتها بالكون، هو تحوّل منبثق من حصيلة التفاوت بين الواقع المعمول، العقيم، والواقع المأمول المتعلق بمجال تحقيق العوالم الممكنة، أو بين عالم الحقائق الوجوديّة، وعالم الإدراكات الكشفيّة في كنه الذات، وليس هذا(الكشف) النقدي  الذي اكتنزه أحد فصول الكتاب بالترف النقدي الزائد عن حاجة الناقد والمتلقي ،إنّما هو نضجٌ نقديٌّ سببه المعاشرة النقديّة لنصوص الشاعر، والإقامة عند تحوّلاتها ، ومكنزها الدلالي الذي أغرى الناقد في مفاتشة الشاعر في نصوصه التي تلوب في أوصالها أكثر من محنة، وأكثر من ذات، فضلا عن أنّه دليل إقامة قديمة عن نصوص المتصوّفة ، وأحوالهم ، ومقولاتهم، وأخبارهم. 

  في المبحث الأول من الكتاب (متاهة الحرف وسؤال المعنى) تواجهنا المتاهة بوصفها حالة من الذهول الروحي، والشرود الذهني المفضي إلى ألم الذات شاهدُها  الحرف الذي صار دليل الشاعر وهو يبحث عن الخلاص، لنتساءل مع الناقد، أو مع أحوال الفقرة الأولى في المبحث: هل يمكن استنطاق السر في الحرف؟ لنجد الجواب في إجراءات الناقد، وقد بدأ بالقراءة الناقدة مقتربا من اللغة الشعريّة باللغة التي أدركها السيميائيّون نسقا من العلامات التي تعبّر عن أفكار ما بوصفها نظام تعبير وتواصل إنساني تجمعه ميزات مشتركة باللغة المطبوعة، و بتمفصل ثنائيّ، واعتباطيّة العلامة([10])،لكي يدخل العمق ،أو الأعماق الخصبة متخيّرا ما هو مستشفع بالمعاني الروحيّة للحرف، أو ما هو غريب يدخل في متاهة الدوران حول دائرة الذات التي لا طرف فيها  متوغلا في الحروف أنفسها بفراسة التائه في فلوات لا دليل فيها سوى صوت الحرف ذلك الذي رأه الناقد وقد عبّر عن حيرة كلّ من ضل عن سبيل الله، وليس له من منقذ من المتاهات سوى المعنى الذي حيّر سيمياء الوجود بإشكال انبثاقه الترميزي،  والأيقوني ثمّ بإنتاج الدلالة فيه  تلك التي تمدّ التائه ببوصلة النجاة أي إنتاج الدلالة وتداولها على وفق قانون خاص يرصده السيميائي الخارج من متاهة الدرب، والداخل الى متاهة الحرف ،والباحث عن فكرة الخلاص أولا وأخيرا.

   يرى الناقد وقد سرت عدوى الحرف إلى قلمه: إذا كان الحرف في وظيفته الدلالية يسهم في الغرض المراد التعبير عنه باللغة في أصلها المجازي، لاسيّما في النسق الفني الرؤيوي، فإن السياق التعبيري بصيغه المجازية يحيل على ما تشير إليه حروف الشاعر في محتواها الرمزي الداعي إلى التأويل، هنا تمكّن الناقد من تفكيك أصل الخطاب، وهو ينعم النظر في حروف الشاعر التي وجدها وقد جاءت لتعبّر عن حيرة كلّ من ضل السبيل، في لجة دلاليّة تشير إلى حالة هادرة؛ لواقع يترنح في مصيره بين لجة السواد والعيش الضنك ، وما بينهما يعيش الحرف ،والانسان اشكاليّة تتجدّد من خلال توالي الازمان.

    إنّ أديب كمال الدين في حروفيّته المائزة يتفنّن في صناعة ألفاظ بمجريات أحوال الحروف، والصور الموحية التي تتكوّن بها، من حيث الغاية المتوخاة بممكنات دلالات الحرف الموظّف، سواء من حيث ترتيب الكلمة في ربطها بدلالة الحرف، أو من حيث درجة التكثيف الإيحائي المشبع بنكهة الشعريّة في مبناها ومعناها، هذا ما قال به الناقد، ويمكننا القبول به ،والاستئناس بدلالته النقديّة ؛لأنّه  سبر أغوار الحرف عند الشاعر، وأقام عند تفاصيل حكايته التي تتمدّد بمقدار تمدّد الحروف على بساط اللغة ، وتمدد أحوال العاشقين في محراب الحبّ الإلهي.

   وإذا كانت للشاعر القديم دواع، وتارات يقول فيها الشعر كما يؤكّد الناقد ابن قتيبة(276هـ) في قوله: للشعر دواعٍ تحثّ البطيء، وتبعث المتكلّف، منها الطمع، ومنها الشوق، ومنها الشراب، و منها الغضب، فللشعر تارات يبعد فيها قريبة، و يستصعب فيها ريّضه، وله أوقات يسرع فيها أتيّه، ويسمح فيها أبيّه([11])، فإنّ تارات الشاعر المعاصر ودواعيه، ومنها تارات أديب كمال الدين ودواعيه وليدة الحقب المأزومة بحسب قول الناقد، فهو ابن مظاهر الحيرة في غياب التجانس المطلوب، وفقدان العدالة، وتفشي الجهل، وانتصاب سيف الحقد ، تلك الدواعي التي كانت و لمّا تزل تحثّ على قول الشعر الذي لا يقوله ترفا ،ولا غزلا، ولا نسيبا، ولا مدحا، إنّما تقرّبا من خلاص يريد أن ينعم بأحواله في نهاية النفق.

   خلص الناقد إلى أنّ أديب كمال الدين شكّل ـ وبجهد دؤوب ـ مملكته الشعريّة على عرش الحرف، وأودع فيه معانيَ جسّدت فضاء انفصام الذات، ومادّة خصبة اكتنهت عالم الشاعر بالضيم، وسبرت غور المتلقي بالحدس والتأويل، في تجربة انمازت بالصبر، وتجدّد قروح الذات ،ومن ثمّ المكابدة اليوميّة للألم الذي ينوب الحرف فيها عن الشاعر في استغاثاته معوّضا إياه عن صراخ ليل لا ينتهي حتى صار الحرف فيه معادلا موضوعيّا لوجود لا انفكاك من ألمه، لقد جسّدت حروف الشاعر بامتياز ظاهرة الضياع في أشكال متعددة ذلك الذي حفر عميقا في جغرافية المتاهات، والنداءات وهذا ما جعل الناقد يؤكد أن ليس غريبا أن يحاكي الشاعر حروفه التي تحيل على صيغ مجازيّة فيما تشير إليه من معاني ملغّزة في محتواها الرمزي الداعي إلى الحيرة، ومن ثمّ الشعور بعمق المتاهة في الحياة.

    وخلص الناقد أيضا أنّ الشاعر أديب كمال الدين حين رسم الوضع بالصورة التي سبق عرضها أراد أن يضمن لنفسه البحث عن الخلاص من الشقاء وهو يدري أن لا خلاص من الشقاء الدنيوي إلا بالتماهي مع صورة الحرف الذي يأخذه إلى برّ الأمان في رحلة تشبه الى حدّ ما رحلة السفينة التي قادها (نوح)عليه السلام في ظل متاهات الكون المتعدّدة، فالشاعر بهذا المعنى تبدو صورته الدالة في الشعر الحروفي محاكاة لواقع تراجيدي يستنطق الحالة التجريديّة الموغلة في الغرابة، و الماثلة في الحياة اليوميّة التي لا تريد أن تفارق الألم، وأصل الحالة في تسلسلها التاريخي المعتّق برائحة العجب.

  والناقد أعني:د.عبد القادر فيدوح حين قرأ الحروفي في أبجديّته وجد نفسه في فضاء افتراضيّ فيه من المتاهات أضعاف ما فيه من الأمكنة المعلومة ، فالمتاهات بما تمتلك من علامات يزدوج فيها الصوت والمعنى ليشكلا معنى أكبر يمكن تأويله تطغى على عالم الشاعر الذي يظل بحاجة إلى من يؤوّل حروفه، أو يقيم عند حافات الدلالات فيها ،وهكذا وجد الناقد الشاعر في متاهات "النرد الشعري"، متماهيا مع  "طاولة الزهر"؛ بعد أن حُمِّلَ الحرف على التغريب في اتجاه مجهول المراد، ومن ثمّ  عدّ تكوين صورة الحال بالحرف، انفلاتا من التنميط المحكوم بالمعلوم، أو المذعن لطاعة النسق المعلوم، وتلك مسألة لا يحتكم اليها إلا ناقد خبر تفكيك أصل اللعبة لعبة رمي الكلمات على سطح طاولة الشعر للفوز بعبارة أثيرة تشبه إلى حد ما لعبة النرد التي استحضرها الناقد من فضاء مزدحم باللعب.

   في المبحث الثاني:(الهوية وسؤال المعنى)، بحث الناقد في مسألة أصابها التحوّل من خلال سؤال المعنى الذي يتّسع لمزيد من النقاشات عن الهويّة نفسها، وقد رأى أنّ الهوية "التقليدية" تلك التي وسمت شعوبا، وأمما قبل عصر الحداثة وما بعدها كانت دوما متماسكة في اختياراتها، داخل النسق المتعارف عليه، حيث يصاغ كل شيء داخل المجتمع، أو داخل شريحة اجتماعية ما، وكأنه تحدّث عن منظومة ثابتة في حياة لا يعوزها شيء، على أنّ نسق البراديغمParadigm  الذي دخل المجتمعات حديثا  متغير بطبيعته، وهذا ما أدى الى وجود إشكال بدت معه العلاقات المترابطة منفلتة في المدة الأخيرة، أراد الناقد بالإشكال صراع الثابت والمتحوّل الأمر الذي أدى إلى أنّ الهويّة لم تعد مقيّدة بالثوابت المنطقيّة المتعارف عليها تاريخيّا ، بعد أن كسر أفق انتظار الحضارة فصار "البراديغم"، (Paradigm) مصطلحا جديدا ابتكره توماس كوهن وترجمته :(النموذج الإرشادي) الذي أحال على نظريّة يلتزم بها أفراد المجتمع المناقض للثقافة القديمة في مرحلة ما لكي يتقنوا إجراءات العمل العلمي الخالص وصولا إلى تحقيق مجتمع متميّز([12])، وكأن الناقد أراد أن يشير إلى الاختلاف الثقافي بين الهويات، ومفهوماتها تلك التي تتصارع في عقول الشرقيين التي أدّت إلى انهيار المعنى بوصفه جوهرا ناميا في حياة الثقافات، وتنامي إنتاج السطح: أي التصحّر الفكري، وتعاظم الزيف: أي تصحّر الأصالة، نتيجة تفشي الثقافة الاتّباعيّة: الهزيلة التي تنمو نمو الطحالب في الماء الآسن، في مقابل ضمور الثقافة الإبداعية التي تعاني اليوم من محن تزييفها.

    كان الشاعر أديب كمال الدين جزءا من منظومة إنسانيّة ترى وتحسّ، وتتعامل مع الحياة تعاملا يشوبه الإحساس بالضياع وفقدان طراوة ملمس الأشياء، وقد رأى الناقد أنّ الشاعر حاول إعادة تشكيل الصورة في منظوره الخاص؛ ليضع القارئ أمام تحديد موقفه من مشكلة ما اعترت مسالك هويتنا ، وجعلت لها شوائب تنخر في جسدنا وثقافتنا، بعد أن أدرك أنّ الحياة لم تعد قابلة للعيش كما كانت بعد أن فقدت جزءا كبيرا من براءتها ،فما كان من الشاعر- والحديث للناقد- إلا أن امتلك روحيّة التصوير الكشفي في طبيعة المعالجة ، المرتبطة بمرجعيّة الانتماء والتأمل الحدسي، اعتقادا منه أنّ تصوره القائم على الحدس لا يمكن أن يتجرّد من إدراك معرفة ما تصدُق عليه، ومن صورة الواقع الذي يستمد منه حُلمه؛ ولهذا انبثقت صوفيّته لتكون جزءا من حلّ مع ميل شديد لاعتماد استعارات بعيدة يكون حيّز التخيّل فيها أكبر مما هو متعارف عليه، وهي جميعا تنحو منحى تخيليّا يباعد عادة بين المستعار له والمستعار منه صانعا فجوة البعد بينهما؛ لكي يحقق الإجراء الاستعاري أكبر قدر من (التجسيد)([13])، وهو من القضايا التي أثارت انتباه النقاد والبلاغيين، وخصّصوا لها حيّزا مهمّا في كتاباتهم النقديّة المعنيّة بجمال الاستعارة التي تضفي صفات الإنسان العقلية، والعاطفية على غيره ممّا لا يعقل، ولا يشعر على سبيّل الادعاء في لغة أدبيّة ممهورة بمهر الشعر، فضلا عن أنّ الشاعر صوّر ذاته بديلا عن هويته، وهنا ظهرت  مفارقة الجمع بين تجاذب  الأفكار السوداويّة، وانشطار  الصور بين ما هو سرديّ يتحرك في حدود زمن معين ومكان وحدث ورؤية، وإشاري يوجز في تمظهراته اللفظيّة المشبعة بأنساق التأويل ليحمل أكثر من معنى، مع ميل واضح للنقد السياسيّ الملغّز للحضارة.

   ووقف الناقد عند رحلة منفى الشاعر تلك التي بدأت منذ أوائل العام 2003حين اتخذ من استراليا مكانا للعيش والإبداع بعد سنتين قضاهما في الأردن، وقد تشكّلت بفعل قوّة الاستبداد التي شدّته بربقة قيد الغلّ اللاجم لمشيئته، أي لوجوده التي فعلت فعلها في العزل القسري، والوحشة، وفقدان الإتجاه إذ الشاعر لا يقوى على معاينة نفسه في المرآة مبتكرا لنفسه مرآة الحرف التي من خلالها صار يرى ويُرى.

    أمّا المبحث الثالث فكان عنوانه: (رؤيا الإشارة بدلائل العبارة / مقاربة تأويليّة صوفيّة)، وهو كما يحيل نصّه يتقصى الرؤى الاشاريّة التي حملها شعر أديب كمال الدين في دلائل عباراته التي يتماهى فيها مع أقوال المتصوّفة، وأحوالهم بالتصريح، أو بالإشارة، وقد هُيّئ للناقد أن يستبطن فيه تجربتين: الأولى التجربة الصوفيّة التي نعدّها الآن مثالا مجلوبا من الماضي، والأخرى تجربة الشاعر التي تصدى فيها لذاته بالشعر، وهي تدخل آفاق التصوّف المعاصر بِعُدّة معاصرة.

   استهل الناقد المبحث بقوله: تبدو القصيدة المعاصرة في تحديها الواقع، عبارة عن إشارات دالة، بوصفها علامة تدفع بالمتلقي إلى خلق دلالات متجدّدة بتجدّد مؤولها، وكأنّه أراد التذكير بقضايا مهمّة فالقصيدة إشارة، والشعر يتحدى الواقع، والتأويل يحضر لغرض تلقيه، لكنّ القصيدة تبقى واجهة الشاعر، وقناة اتصاله بالمتلقين؛  ولهذا اقترح الناقد مصطلحا جديدا هو(القصيدة السّمة) التي مرّ ذكرها وفيها يتوحّد  الدال بالمدلول ليشكّلا علامة واضحة في متن القصيدة الذي من خلاله يتمّ تحويل الرؤيا الشعريّة بسحب مادّتها من(الصورة) إلى (السّمة) التي مرّ ذكرها ، وفيها أي من التشكيل التقليدي إلى الخطف الومضي الذي يضيء المدخل المعتم قبل أن يضيء العرض، ويحلو للناقد وهو مأخوذ بدلالة مصطلحه أن يقف قليلا أمام سلطته ليقول: يمكن عدّ السمة في صورتها السيميائيّة التي نطرحها بديلا للصورة على أنها أداة متحرّرة في حركة تفاعلها مع النصّ الأدبي، بفعل تمركزها على معطى الظاهر والباطن، وفي قوله تنهض بعض المفهومات التي هي من صميم منهجه أعني: الوثوق بالسمة، وحضور الظاهر والباطن لكي يكون المتلقي قريبا من قراءته ، فالثنائيّات الضديّة عادة ما تؤدّي دلالة مزدوجة تنفتح على معنى معيّن، وآخر ضدّه لها سلطة التأسيس لما هو غائب في الذهن لكي يكون حاضرا  في اللغة لاسيّما في الشعر فكيف بقصيدة السّمة؟.

   ويرى الناقد وهو يستكمل رؤيته النقديّة أنّ القصيدة السمة تتوازى مع القصيدة الصورة في توافقها الخفي بين ظاهر الشيء، وشعور الفنان أي بين حالة الحضور وحالة الغياب، وهي بالتأكيد -السمة- قادرة على احتواء جملة علامات القصيدة التي تنبثق منها تشكيلات الدوال و المداليل فضلا عن التمظهرات الأخرى الفاعلة في المتن ،غير أن القصيدة الصورة تتعامل مع المجاز من حيث كونه مجموعة علائق، توجّه الأخيلة الشعوريّة، بفضل قوة إدراك الرؤية المتغذية من المناحي العاطفيّة التي يجلوها تأمل الفنان، في حين أنّ الأمر يختلف نسبيًا مع القصيدة السمة التي تتجاوز حدود التصوّر الخيالي في قوته الإدراكيّة إلى (براديجم) جديد ، أي محاولة   تحقيق مجتمع متميّز عن طريق ابتكار هوية جديدة، وعنده أن ليس من غرض القصيدة السمة الانشغال بمعرفة الحقيقة، أو الاحتفاظ بالمرجعيّة، وإنّما تكسير المنهجيات ،أي تكسير القناعات الجامدة التي تتراتب في أنساقها جيوش من الردّة ، والانحطاط ، والبؤس ، والفاقة ، وقد وجد الناقد  في شعر أديب كمال الدين ما يسوغ لهذا التصوّر الذي أسس فيه إجادة إبداعه على قطب الرؤيا الوجدانيّة أي ما يسوّغ له النظر الجديد إلى شعره، وقد ابتكر أداة نقديّة رصد من خلالها وعي القصيدة لا وعي الشاعر.

   لقد وقف الناقد مليّا أمام تجربة الشعر عند أديب وهي تعايش تجربة السعادة بالوجدان، ومكاشفة الحق بالحق للحق في حقائق الممكنات، أو ما يظهر في أعيان الممكنات في سيرورتها، أي أنّه دقّق في أصول الوله الصوفي الذي أخذ الشاعر نحو الافتتان بالذات العليا، ونسيان حاله بعد أن رهن مصيره بالحرف في مساره الصوفي الذي لا يعرف التدليس، أو الادعاء السمج بحقائق الوجود، فضلا عن ولعه بالنقطة التي رأى الناقد أنها التربة الخصبة التي تنقدح منها الرؤى، بوصفها مدار أصل معرفته بالعلم.

   ولأنّ الحديث عن (السِّمة) هو حديث مبتكر عن مجاهدة الشاعر للنفس، وللحرف معا فقد وجد الناقدُ أنّ دلالة الحرف في "سِمَة" قصيدة الشاعر ترتكز على تجريد اللغة من دلالاتها الاعتياديّة، والانحراف عن المعنى الذي استنفدته "الصورة الشعرية" بمعنى أنّ المعنى في (السِّمة) يجاهر في عبور الدلالة المعجميّة إلى دلالة المعاني الثواني التي تنزاح فيها الدلالات انزياحا كليّا يخضع السياق فيه للتأويل واتساق النظم، وتحميل الجمل الشعريّة خصيصة الانفتاح على تعدديّة التلقي التي تكون مفتاح الولوج إلى فهم شعريّة الشعر.

   ورأى الناقد وهو في قمّة الانحياز إلى الشعر أنّ أديبا يستعمل صورة" الكلمات الحق"، بوصفها دالة على الحق الجامع الذي يتضمن ما تقع فيه الإشارة إلى الكمال في كلّ شيء من صفاته تعالى، أي أنّ الشاعر يتماهى مع خطاب الحق بعد أن وضحت له صورة ذاته السالكة طريق التصوّف الحقيقي؛ ولهذا عدّ شعر الشاعر تصويرًا تأمليّا يتجاوز به الواقع، بحثا عن جوهر اليقين في تجلّياته الروحانيّة فقد صنع أديب كمال الدين رؤاه الكشفيّة بما تشكّله اللغة بسيل دلالات الحرف في مضامينه الصوفيّة، وبما تخلقه سمة الكلمة في قدرتها على صنع سمات فنيّة ومعاني تحيل على شعر مختلف.

    ولا أجدني مختلفا مع الناقد وهو يستقري تجربة الشعر عند الشاعر(أديب) في ضوء التجربة الصوفيّة التي وصلت إلينا ناضجة من خلال عشرات الدواوين ، والمتتبع لمثل هذه السمات المجازية في شعر أديب يجد الكلمة تخلق نسقها الخاص الذي يرفع المعنى من الفهم الذهني إلى أسمى ما يمكن للشاعر ـ والمتصوف على حد سواء ـ أن يحقق وجوده فيه، الموزع بين العالم الكشفي الروحي، والعالم الإبداعي الشعري، وفي الخلاصة وجد الناقد أنّ الكلمة الصوفية متنوعة التأويل في الرؤية الدالة على الغاية، من غير المواضعة، لاسيّما إذا دلت على معنى الحرف بوصفه طوية أسرار الغيوب، ومفاتح اختلاف أنواعها.

  ثم خلص الناقد إلى تقرير حقيقة مفادها أنّ مشروع أديب كمال الدين قائم على إثارة المتلقي، والرغبة في تمكينه من حدس الرؤيا في حروفيته ضمن الأفق الدلالي المتوقع باستمرار؛ للوصول إلى الأنا المثاليّة التي يطمح إليها الشاعر، والتي تتساوق مع الفكر والروح والوجدان، من دون أن ينسى أنّ الشاعر سلك درب السالكين بنيّة الإفصاح عمّا يدور في ذهنه بعد أن انتظر طويلا في دروب وعرة المسالك.

    ولي أنْ أشير في نهاية هذه الورقة أنّ الناقد الذي جعل مقدمة الكتاب موّارة بما هو مخالف لمنهج البحث التقليدي ترك الكتاب غفلا من خاتمة يستخلص فيها نتائج النقد، وكأنّه بهذا الإهمال القصدي كان قد خضع لسلطة إحساس النقد الداعم لضرورة اشراك المتلقي في صنع خاتمة خاصّة به يحاول من خلالها استعادة وعيه الخاص جرّاء تلقي الكتاب، فهي خاتمة تحضر في الذهن لتغيب عن الورق لتكون جزءا من سيمياء متحرّكة تجمع بين قراءة الناقد، وقراءة المتلقي.

   ما قلته فيما سبق ليس تلخيصا مختزلا لمتن الكتاب، إنّما هو قراءة حاولت الوقوف عند سلسلة تلقي الناقد لخطاب الشاعر، القصد منها دعوة المتلقي للمكوث عند عتبات الكتاب، واكتشاف ما غفلت عنه القراءة، فليست القراءة الواحدة قادرة على فكّ مغاليق قراءة قائمة على قراءة سابقة، وعندي أن قراءة الشعر تبدأ بقراءة محدّدة ولا تنتهي بقراءات، ولك أن تحتكم -عزيزي القارئ -إلى شعر المتنبي، أو السياب لكي تكتشف صدق مقولتي، والله من وراء القصد.

الخاتمة:

1-      إنّ شعر أديب كمال الدين يكاد يجهر بمحموله الإشاري: العلامي في مستواه الصوتي الدال، وفي مستوى حركته المتّجهة دائما نحو الأعماق، أي حركة إشارات المعنى التي ابتدعها الشاعر لكي يوازن بين وجوده الحقيقي والوجود المثال الساكن في مخيّلته، فضلا عن مستواه التركيبي الذي يكشف عن تعالق الدوال بالمداليل لإنتاج العلامات بتركيبتها المزدوجة من تضافر الصوت والمعنى.

2-      إنّ كثرة رموز الشاعر بما تحمل من ايحاءات، وتصوّرات جعلت الناقد ينساق وراء تشكيلاتها لغرض الكشف، والاكتشاف، ومن ثمّ الإحالة على تعالق دوالها بمداليلها سواء أكان ذلك بالتحليل، أو التأويل، أو استنطاق الراكس في العمق حتى تساؤلات الشاعر الكثيرة التي تركها بلا إجابات كانت تدعو الناقد لأنْ يجيب عنها بما يمتلك من وسائل كشف تقرأ الأساليب لتعلي من شان سياقاتها، محتفيا بغنى التجربة الشعريّة وهي تستجيب لإجراءاته الراصدة للمعاني الغائبة خلف أقنعة الرموز، وهدفه تحليل البؤر المهيمنة، وكشف التحولات فيها.

3-         بُنيت المقدمة على وفق رؤية غير تقليديّة تجاوزت الشكل الأكاديمي الذي يرتضي أن تكون المقدّمة بفقرات ثابتة معروفة، فكان أن جعلها متّصلة بجملة سؤالات طرحها لتكون العون في تلمس خطة تأليف المباحث، أي أنّها عتبة منفتحة على جوهر السؤال النقدي بإجراءات السؤال نفسه.  

4-      لقد أيقن الناقد أنّ الشاعر يقيم عند تخوم (القصيدة السِّمة) التي تجاوز بها د. فيدوح "القصيدة الصورة" بترجيحه استعمال (السِّمة) بديلا عنها، حين وجد عن قرب أنّ السّمة فيها ما يتطابق مع لغة الشاعر التي تسمو على كل ما هو متساوق وطبيعي في العملية الإبداعيّة.

5-      خلص الناقد إلى أنّ أديب كمال الدين شكّل ـ وبجهد دؤوب ـ مملكته الشعريّة على عرش الحرف، وأودع فيه معانيَ جسّدت فضاء انفصام الذات، ومادّة خصبة اكتنهت عالم الشاعر بالضيم، وسبرت غور المتلقي بالحدس والتأويل، في تجربة انمازت بالصبر، وتجدّد قروح الذات، ومن ثمّ المكابدة اليوميّة للألم الذي ينوب الحرف فيها عن الشاعر في استغاثاته معوّضا إياه عن صراخ ليل لا ينتهي حتى صار الحرف فيه معادلا موضوعيّا لوجود لا انفكاك من ألم يستدعيه الشاعر أنّى شاء.

6-          استقرى الناقد تجربة الشعر عند أديب في ضوء المضامين الصوفيّة التي وصلت إلينا ناضجة من خلال عشرات الدواوين، والمقولات، والحكايات، والأحوال، وقد تتبع تمثيلاتها الذهنيّة، والحروفيّة في شعر أديب، وقد وجد أنّ الكلمة تخلق نسقها الخاص الذي يرفع المعنى من الفهم الذهني إلى أسمى ما يمكن للشاعر ـ والمتصوف أن يحلّق به، فالتصوّف في شعر أديب حالة تماه تامّ مع الذات تجري بوتائر نفسيّة متقاربة ترفض إشكالات الحياة بهدف إعلاء صوت الإنسان، وتأكيد تحولاته العابرة لحدود الجنس، والمقيمة في المعنى.    

7-      ترك الناقد الكتاب غفلا من خاتمة يستخلص فيها نتائج النقد، وكأنّه بهذا الإهمال المقصود كان قد خضع لسلطة إحساس النقد الداعي إلى ضرورة اشراك المتلقي في صنع خاتمة خاصّة به يحاول من خلالها استعادة وعيه الخاص جرّاء تلقي الكتاب، فهي تحضر في الذهن لتغيب عن الورق لتكون جزءا من سيمياء متحرّكة تجمع بين قراءة الناقد، وقراءة المتلقي المفتوحة بما يليق على مستويات القراءة المتنوعة.

المراجع:

1-     إعجاز القرآن: الباقلاني تحقيق السيد أحمد صقر دار المعارف بمصر:1963.

2-    إشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي الجديد: يوسف وغليسي: الدار العربيّة للعلوم ناشرون: ط1: 2008.

3-    أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفيّة في شعر أديب كمال الدين: د. عبد القادر فيدوح: منشورات ضفاف بيروت: 2016.

4-    33 ناقدا يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية الحروفي: اعداد وتقديم: د. مقداد رحيم: المؤسسة العربية للدراسات والنشر: بيروت: ط1 2007.

5-    حضور النص: قراءات في الخطاب البلاغي النقدي عند العرب: د. فاضل عبود التميمي: دار مجدلاوي للنشر والتوزيع: عمّان.

6-    السيميوطيقا والعنونة: د. جميل حمداوي: عالم الفكر، الكويت، مج25، ع23، يناير: مارس 1997.

7-    الشعر والشعراء: عالم الكتب بيروت ط1: 1282هـ.

8-    فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتّصال: تحقيق محمد عمارة: دار المعارف.

9-     معجم السيميائيّات: فيصل الأحمر: الدار العربيّة للعلوم ناشرون: ط1: 2010.

10-             معجم المصطلحات الأدبيّة المعاصرة: د سعيد علوش: دار الكتاب اللبناني: بيروت: 1985.

*



[1] - الصادر عن منشورات ضفاف بيروت: 2016.

[2] - لمعرفة المزيد عن تجربة الشاعر أديب كمال الدين ينظر:33 ناقدا يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية الحروفي: اعداد وتقديم: د. مقداد رحيم: المؤسسة العربية للدراسات والنشر: بيروت: ط1 2007.

[3] - إشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي الجديد: يوسف وغليسي: الدار العربيّة للعلوم ناشرون: ط1: 2008: 226.

[4] - ينظر: إعجاز القرآن: الباقلاني تحقيق السيد أحمد صقر دار المعارف بمصر:1963: 51.

[5] - ينظر: إشكالية المصطلح: 244، وتنظر مراجعه.

[6] - ينظر: معجم السيميائيّات: فيصل الأحمر: الدار العربيّة للعلوم ناشرون: ط1: 2010: 55، وينظر مرجعه.

[7] - ينظر: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتّصال: تحقيق محمد عمارة: دار المعارف: 32.

[8] - ينظر: السيميوطيقا والعنونة: د. جميل حمداوي: عالم الفكر، الكويت، مج25، ع23، يناير: مارس 1997: 90.

[9] - السِّمة: مصطلح قديم ورد عند عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة:(اللغة تجري مجرى العلامات والسمات) طبعة محمود محمد شاكر: 376، وقد اعتمده د. عبد الملك مرتاض بديلا  عن مصطلحي الدليل ، والعلامة في بعض كتبه: ينظر: إشكالية المصطلح: وغليسي: 243.

[10] -ينظر: معجم المصطلحات الأدبيّة المعاصرة: د سعيد علوش: دار الكتاب اللبناني: بيروت: 1985: 197.

[11] - ينظر: الشعر والشعراء: عالم الكتب بيروت  ط1: 1282هـ:  8-9.

[12] - للمزيد عن مصطلح البراديغم ينظر: Kuhn, T., (1970). The structure of Scientific Revolutions, Chicogo :the university of Chicago press.

[13] - ينظر: حضور النص: قراءات في الخطاب البلاغي النقدي عند العرب: د. فاضل عبود التميمي: دار مجدلاوي للنشر والتوزيع: عمّان: 128.

 

 

&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&

نُشرت في مجلة مسارات التي تصدرها جامعة البحرين- البحرين – العدد 4 لعام 2016

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home