الانتهاك النصّي وبناء الزمن الشعري الجديد

 

في نصّ :"الغراب والحمامة" للشاعر أديب كمال الدين

 

 

 

 

 

 

غزلان هاشمي

جامعة محمد الشريف مساعدية  -  الجزائر

 

 

 

حينما استلمتُ الديوان الأخير للأستاذ الشاعر المبدع "أديب كمال الدين" والموسوم بـ "الحرف والغراب"، احترت كيف أقارب نصوصه المختلفة ومن أي زاوية تكون مقاربتها، لاسيما والنصوص تتميز بالتكثيف والرمزية مما يجعلها موضعا للتعددية الاحتمالية، لذلك ارتأينا وبعد هذه الحيرة أن أقدم قراءة تأويلية لنص من نصوص الديوان والموسوم بـ"الغراب والحمامة" نظرا لتقاطع عنوانه مع عنوان الديوان في لفظة "الغراب" ، علّنا نقع على قصدية الشاعر ومجمل فكرته التي يود طرحها في هذا الديوان.

يثير العنوان تساؤلات تأويلية عدة نظرا لالتباساته والاحتمالية التي تسيج تموضعه الاصطلاحي، فالغراب بعيدا عن ذاكرة النص يحيل إلى معنى الشؤم والخطيئة والهلاك والانتهاك، إذ يستحضر سياقا انتقائيا من زمن البدء حينما تمت فيه استباحة الدماء تحديا للإرادة الإلهية وسلطة الرقيب الديني،يقول تعالى:

 

 بسم الله الرحمن الرحيم: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثـْـمِي وَإِثـْـمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَه فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)".'المائدة'

 

يتحول الغراب إلى قطعة ذاكراتية تهدد صفاء الهوية اللغوية، وذلك التموضع الساكن في اختلاق مثالي والذي تؤطر وجوده معيارية ثابتة ومستقرة، فالغراب مزعزع لكل انتقائية قيمية ترسم للحياة حدودها المفترضة تحققا ، وقد يتحول إلى شعور ثقيل بالندم وبحث عن طريقة لمواراة انتهاك اللغة وتصحيح مسارها في وعي النص/الجماعة ، لكن رغم ذلك لا يتحرر الفعل من الاثمية حيث تبقى تلك النصوص المحايثة التي تطفو على الاعتبارات الأصلية بعد قتل النص البدئي تأويلات آثمة تثير حول نفسها إشكالات التحقق الفعلي وتساؤلات تخريب المعنى وخلخلة الهوية.

ولربما عنوان الديوان يدل على ما قلناه، إذ الحرف الذي يحمل أسرار الحقيقة وتفسيرات الكون والبدء  في اعتباراته الأصيلة  قبل أن تغيره الاختراقات التأويلية يقف الغراب في موضعية مساوية له (والحديث عن أول ما خلق الله وهو القلم مذكور في تفاسير القرآن للآية الأولى من سورة القلم)، إذ يتبعه مهددا اعتباراته بحقائق لغوية وصياغات مغايرة . لكن التساؤل المطروح هنا: إذا كان الشاعر يعتبر أن العملية الإبداعية  تبدأ بالحرف/سر البدء وتنتهي بالغراب/انتهاك اللغة/التأويل ، فلماذا يبدأ في نصه "الغراب والحمامة" بالانتهاك الآثم للغة لينتهي بالحمامة/البدء/السلام؟

undefined

حسبما ما نرى فإن الشاعر يجد أن اللغة يتم انتهاكها لتتجرد من تموضعاتها الأصيلة ،حيث يحمل المتلقي شؤم الخرق وتهديم المرتكزات النصية ، ومعه شعور بالذنب نظرا لتغييبه الاعتبارات الأولية في سبيل تحقيق سطوة الذات/القارئ أو سلطة المنجز التأويلي، ليتمّ لمّ شتات الاعتبارات والبحث عن حياة نصية ثانية، وذلك بعد تحقق مسافة سلام بين القارئ والنص المنجز، إذ الحمامة تستحضر حكاية الطوفان لتكون رمزا لنجاة بقايا النص الأول بعد القضاء على آثار التفكيك الآثم للمرتكزات القبلية، ومن هنا تشي الحمامة بالحياة الثانية/البدء الثاني إذ يحصل فيها المتلقي على سكينة المنجز بعد حيرة الاحتمالية .

حين طارَ الغرابُ ولم يرجعْ

صرخَ الناسُ وسط سفينة نوح مرعوبين.

وحدي – وقد كنتُ طفلاً صغيراً-

رأيتُ جناحَ الغراب،

أعني رأيتُ سوادَ الجناح،

فرميتُ الغرابَ بحجر.

هل أصبتُه؟

لا أدري.

هل أصبتُ منه مَقْتَلاً؟

لا أدري.

لماذا  كنتُ وحدي الذي رأى

سوادَ الغراب

ولم يره الناس؟

لا أدري.

يصور الشاعر زمن البوح متحررا من اختراقاته ، إذ يحاول تشكيل نفسه من جديد باحثا عن تمثّل شعري يقف في مسافة فارقة بين الأصل/البدء والخرق/الانتهاك ، فالاعتبارات الأصيلة تقف بقاياها على تخوم الذاكرة/السفينة ، باحثة عن تموضع بديل بعد تهديم كل المرتكزات القبلية ، وتستبدل ذاكرة النص الحمامة/زمن البدء الثاني بالغراب، حيث التعبير الآثم يعلم القارئ كيف يخفي دليل انتهاكه ويذكره في الوقت ذاته بتلك القراءات التأويلية الآثمة، ومن هنا يتم تغييب عملية طمس فعل الانتهاك "حين طار الغراب ولم يرجع"، لتصبح عبارة عن متعاليات نصية تلوح في شكل مدرك مذبذب التمثل"جناح الغراب ـ سواد الجناح" ، حيث تحاول بقايا الاعتبارات الأصيلة"الطفل الصغير" والذي يشي بزمن البدء الثاني أو النص المحايث تطهير التشكل الشعري الجديد من كل شعور بالذنب لازم فعل الخرق "فرميتُ الغرابَ بحجر"، حيث تبقى المساءلات المرفقة بالدهشة والحيرة تُسيّج زمن النص الثاني حول شبهة تمثله بالرغم من تغييبها في وعي النص الأصلي "لماذا كنت وحدي الذي رأى سواد الغراب ولم يره الناس؟ لا أدري".

 

حين عادت الحمامةُ بغصنِ الزيتون

صرخَ الناسُ وسط السفينةِ فرحين.

لكنَّ الغراب سرعان ما عاد

ليصيحَ بي بصوتٍ أجشّ:

أيّهذا الشقيّ لِمَ رميتني بالحجر؟

اقترب الغرابُ منّي

وضربني على عيني

فظهرت الحروفُ على جبيني

عنيفةً، مليئةً بالغموضِ والأسرار.

ثُمَّ نقرَ جمجمتي

فانبثقَ الدمُ عنيفاً كشلال.

وتعود الحمامة/البدء الثاني بأمل التمكين لمستقر النص "غصن الزيتون"، حاملة وعدا بانتهاء طوفان تخريب المعنى والغضب من وثنية المعايير القبلية وسطوتها ، حيث تطفو الاعتبارات الأصيلة على سطح النص باحثة عن حضور نصي جديد بعد الانتقائية التي خضعت لها" صرخ الناس وسط السفينة فرحين"، ورغم ذلك يعاود الغراب/انتهاك اللغة الظهور من جديد مهددا زمن البوح برغبة التقويض" لكن الغراب سرعان ما عاد"، إذ يهاجم مرتكزاته ويضرب مركزيته من أجل حجب الرؤية وطمس اعتباراته ليبقى النص في إثميته وتضليلاته حاملا شؤم الخرق، "اقتربَ الغرابُ منّي وضربني على عيني"، من هنا يظهر سر البدء"الحروف" عنيف التمثل في قدر العملية الإبداعية أو في متنبئاتها المستقبلية" فظهرت الحروف على جبيني عنيفة" ، حيث تبقى مسيجة بالغموض والأسرار" مليئة بالغموض والأسرار"، مانحة لحظتها إلى المتلقي الذي ينطلق من بقايا المكونات النصية القبلية ومن آثار الانتهاك والخرق ليبدأ لحظته من جديد.

 

نزلَ الناسُ من السفينةِ فرحين مسرورين،

يتقدّمهم نوح الوقور

وهو يتأمّلُ في هولِ ما قد جرى.

حاولتُ أنْ أوقفَ

شلالَ الدمِ الذي غطّى رأسي ووجهي.

فاقتربت الحمامةُ منّي

ووضعتْ على رأسي حفنةَ رماد:

حفنةً صغيرة،

مليئةً بالغموضِ والأسرار.

 

ويقف النص ببعض اعتباراته الأصيلة على مستقره الثاني بعد تحرره من شعوره الآثم بالخرق وتطهير ذاكرته "نزل الناس من السفينة فرحين مسرورين"، حيث نبوءة التحقق والتمكين "نوح الوقور" تتقدم التمثلات الشعرية مهيئة مسارها الإبداعي المستقبلي، إذ النبوءة تتحقق بعد التأسيس للحظة الإبداع من زمن الدهشة ـ دهشة التأويل ـ "يتأمل في هول ما قد جرى".ويحاول النص إيقاف عملية الخرق والانتهاك من أجل استعادة استقراره "حاولت أن أوقف شلال الدم الذي غطى رأسي ووجهي"،حيث يقترب منه زمن السكينة/الحمامة مانحة إياه  روح التمثل المتجدد والمتوالدات النصية الاحتمالية المسيجة بالغموض واللاتحديد،والتي تكتمل لحظتها بعد المرور على الوجع وفعل احتراق الكون الشعري الأول:

هكذا أنا على هذه الحال

منذ ألف ألف عام:

الغرابُ ينقرُ جمجمتي

فينبثقُ الدمُ عنيفاً كشلال.

والحمامةُ تضعُ فوق جمجمتي،

دون جدوى،

حفنةَ رماد!

 

ما الذي تنتهي به نبوءة النص والتمكين الإبداعي حسب رؤية الكاتب؟

في هذا المقطع يوضح الشاعر كيف أن العملية الإبداعية تسير وفق مسار ثنائي التركيب: خطيئة الانتهاك/زمن السكينة ، حيث يبقى فعل الهدم والاختراق ملازما لحظة المستقبل"الغراب ينقر جمجمتي فينبثق الدم عنيفا" ، ليرمم السلام أو زمن السكينة هذا الهدم بالمتوالدات النصية المختلفة والمتجددة علّه يعثر على مكتمل النص زمن المستقبل إلا أن الاحتمالية تظل تهدد مستقره وتقوض اعتباراته في كل مرة "والحمامة تضع فوق جمجمتي دون جدوى حفنة رماد".

 

****************************

"الغراب والحمامة" إحدى قصائد مجموعة (الحرف والغراب) للشاعر أديب كمال الدين، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت - لبنان 2013

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home