أديب كمال الدين: الطمأنينة الزائفة تصرف الشاعر عن الشعر

 

 

 

 

حوار: حنان عقيل – مصر

 

 

 

  • أثرت قصيدة النثر المدونة الشعرية العربية بأعمال مهمة، إلا أنها في السياق ذاته سمحت بظهور كتابات تفتقد الكثير من سمات الشعر الحقيقي وتعاني من الترهل والسطحية أو حتى محاولات ادّعاء العمق دون وجود بناء شعري أصيل. “العرب” حاورت الشاعر العراقي أديب كمال الدين عن قصيدة النثر الراهنة ورحلته الشعرية على مدار أربعة عقود.

الشاعر العراقي أديب كمال الدين صاحب تجربة شعرية ثرية قائمة على ما عُرِف بـ”الحروفية” التي أسست لأسلوب ومنهاج خاص به يفصله عن تجارب شعراء جيله السبعيني، عبر عدد من القصائد والمجموعات المتتالية بدءًا من “نون” و”جيم”، مرورًا بـ”أخبار المعنى”، “أربعون قصيدة عن الحرف”، “شجرة الحروف”، و”حرف من ماء”، وغيرها.

يوضح كمال الدين في حديثه مع “العرب” أن اعتماد أسلوبه الشعري على الحرف في أصله قرآني؛ فالحرف حمل معجزة القرآن المجيد ولا بد لحامل المعجزة من سرّ أو معجزة له خاصة به. فمن القرآن الكريم نهل معارفه في مختلف الأصعدة. فالقرآن الكريم فيه علم الأسئلة الكبرى التي واجهت البشرية منذ خلق آدم إلى يومنا هذا عبر أخبار الأنبياء والمرسلين، وهو لكلّ كاتب وشاعر وأديب كنز لا يفنى من المعارف اللغوية والروحية والفكرية والأسرار الإلهية والقصص المعتبرة والمواقف الأخلاقية ذات المضامين العميقة والحوارات الفلسفية واليومية ما بين الخالق ورسله وما بين رسله وأناسه.

يستطرد كمال الدين “حين تأملت في الحرف العربي خلال رحلة شعرية امتدت أكثر من أربعة عقود، وجدت أن للحرف العربي ما يمكن تسميته بالمستويات؛ فهناك المستوى التشكيلي، القناعي، الدلالي، الترميزي، التراثي، الأسطوري، الروحي، الخارقي، السحري، الطلسمي، الإيقاعي، الطفولي. هكذا وعبر كتابة المئات من القصائد الحروفية التي اتخذت الحرف قناعاً وكاشفاً للقناع، وأداةً وكاشفةً للأداة، ولغةً خاصةً ذات رموز ودلالات وإشارات تبزغ بنفسها وتبزغ باللغة ذاتها، عبر هذا كلّه أخلصتُ للحرف عبر عقود من السنين حتى أصبح قَدَري الذي لازمني وسيلازمني للنهاية”.

 

رسالة جمالية

********

 

قصائد كمال الدين تنهل من التراث الديني والصوفي بشكل خاص، وهنا يلفت إلى أنه ينبغي استحضار التراث في الشعر لأسباب جمالية خالصة. ومن خلف ستار الجمال الشفيف والرائق والمدهش تظهر رسالة الشعر الروحية التي هي إعانة الإنسان على تقبّل الجانب المنير من الحياة بشكل عميق وحقيقي ومساعدته في محاربة الظلام بكل أشكاله وأنواعه.

يرى كمال الدين أن الموت هو الحرف الأعظم. إنّه الحرف الذي لا يسبقه حرف ولا يدانيه حرف. وكشاعر اتخذ الحرفَ وسيلةً فنيةً وروحيةً يقول “إنّ الحرف والحروفية، بل الشعر والشعرية، إنما هي احتجاج على الموت وتنديد به، ومحاولة للالتفاف عليه وتحجيمه وتخفيف سطوته وعنجهيته وعبثيته”.

ويشير إلى أن اهتمامه بالموت ليس عائداً إلى أسباب فلسفية وروحية وفنية فقط بل لأنه مرّ بلقاءات مباشرة وغير مباشرة مع الموت، وقد تركت في روحه أثراً لا يمّحي؛ منها ما حدث في طفولته من مشاهدة آلاف القبور المتناثرة على صحراء النجف الشاسعة، ومشهد الجنائز التي لا تتوقف عن الوصول إلى المدينة، ومشهد النساء المتّشحات بالسواد والنائحات على أمواتهن، هذه المشاهد العجيبة والمخيفة تركت فيه أسئلةً كثيرةً ومفزعةً عن الموت. ومنها ما حدث في صباه حين توفّي والده، والتجربة الأكثر مرارة مع الموت كانت في الحرب وهي تجربة تعجز اللغة عن وصف تفاصيلها حيث الموت العبثي يحصد الرؤوس دون هوادة.

 

دعامات الشعر

********

 

تنهل نصوص الشاعر من جماليات النص القرآني وهنا يوضح الشاعر العراقي أنه كثير الاستعانة بالقرآن الكريم: لغة ورموزاً وإحالات. وفيه يجد اطمئنانه الروحي ومتعته الفكرية؛ لذا فإن إحالات قصائده إلى قصص الأنبياء وبخاصة نوح ويوسف والمصطفى موجودة في كل مجموعة من مجاميعه الشعرية، وأكثر من ذلك تحضر تفاصيل رحلة نوح مثلا (الطوفان، الغراب، الحمامة) في الغالبية العظمى من مجاميعه. وقد يبلغ الحضور هذا مبلغاً قوياً لتكون دعامات قصائده مبنية على قصص الأنبياء بشكل تفصيلي كما في مجموعته الصوفية الحروفية “مواقف الألف”.

يتسم شعر كمال الدين بالسرد القصصي الحاضر في العديد من النصوص. ينوه بأن القصيدة الحديثة، سواء أكانت “قصيدة تفعيلية” أو “قصيدة نثر” استعانت بالكثير من تقنيات المسرح أو السينما أو الفن التشكيلي أو القصة. وفي كل هذه الاستعانة هناك إثراء، لشعرية القصيدة وتجددها وتطورها الجمالي، موضحًا “في شعري يبرز ذلك بشكل جليّ إذ تظهر الكثير من قصائدي بهيئة حوار مع الذات أو مع الآخر أو بهيئة لقطات سينمائية متنامية أو لوحات تشكيلية أو سرد قصصي لكنّي أحرص دائماً وبقوة أن يتم هذا النوع من الإفادة المسرحية أو السينمائية أو التشكيلية أو القصصية بشكل فني جمالي خالص، دون تقحّم خارجي أو فرض لا مبرر له، وأن يتم ذلك أولاً وأخيراً من خلال تقنية القصيدة: تقنية النمو العضوي للقصيدة وتقنية الاقتصاد في اللغة فلا زوائد ولا ترهّل في المفردات وضمن قاموسي الشعري الحروفي الخاص”.

 

المشاكل الكبرى

***********

 

يؤمن كمال الدين بأنه مهما حاول الشاعر أن يركن إلى ذاته باعتبارها البئر الوحيدة التي يسقي من مائها حروف قصيدته فلن ينجح على الإطلاق. لن يستطيع في زمن العولمة أن يدير ظهره للمشاكل الكبرى التي تواجه الإنسان على هذا الكوكب المحاصر بالحروب العبثية والعنصرية والتطرف. لن يستطيع ذلك ولو أصرّ على أن يدير ظهره لكل هذه المعاناة الكبرى التي تعاني منها البشرية لتحوّل شعره، شاء أم أبى، إلى هذيان لا يحترم النبضة الإنسانية ولا يقيم لها وزناً.

يحتاج الشعر، بشكل لا يقبل النقاش، إلى إيمان حقيقي وعميق وراسخ به وبدوره الإنساني الكبير في التنبيه إلى المعاناة الكبرى التي تعاني منها البشرية. فإذا كان قد كُتِبَ ليكون أداةً غير أداة التنبيه الروحي والجمالي، أي كُتِبَ لمآرب أخرى مثل المال والجاه والنفوذ والمنصب فإن مصيره الزوال الأكيد والنسيان السريع. وبداهة فإن تناول المشكلات الكبرى للبشرية في الشعر ينبغي أن يتمّ من خلال التمسك المطلق بجمالياته فلا عذر أبداً ولا قبول البتة للقصيدة الرديئة جماليا ذات المضمون النبيل فكريا.

 

القارئ الأول

********

 

يقول كمال الدين “أكتب الشعر لنفسي فأنا القارئ الأول. ومرادي من كتابة الشعر أن يعينني على فهم الحياة وتحمّل تعبها. وفي مجموعتي الأولى ‘تفاصيل’ الصادرة عام 1976، وفي قصيدة عنوانها ‘قصائد صغيرة’، طلبتُ من الشعْر أن يعين الجسد المحروم والروح الملتاعة على السير في مواجهة تيّار الزمن المتناثر أياماً تتكرّر ساعاتها وتتكسّر شموسها، أردتُ منه -ولا أدري هل كنتُ على صوابٍ أم لا- أن يأخذ بيدي “ما نفعُ الأشعار/إنْ لم تأخذ بيدي؟. لقد تساءلت إن كنتُ على صوابٍ حين طلبتُ من الشعر أن يأخذ بيدي، إذ ما من جواب حاسم حتّى بعد مرور أكثر من أربعين عاماً على هذا السؤال الغريب كغرابة الحياة نفْسها والمدهش كدهشة الشعر نفْسه!”.

 

دائرة القصيدة

********

 

يرى ضيفنا أن دائرة القصيدة تشبه إلى حد كبير الدائرة الكهربائية، فنحن إزاء شاعر ثم قصيدة ثم قارئ. ومن دون الأخير لا يكتمل الشعر ولا تصل القصيدة إلى اكتمالها الإبداعي المنشود. من ثم ينبغي أن يحضر القارئ في ذهن الشاعر بشكل من الأشكال، فلا يجوز، تحت أيّ ذريعة كانت، إهمال القارئ أو نبذه أو التعالي عليه مثلما لا يجوز تملّقه أو استجداء عواطفه. ففي الحالتين إسراف فني وفكري. والتوسّط هو الحل الأمثل. لكن كيف يكون التوسّط هذا؟ وكيف يمكن تحقيقه؟ الجواب متروك لكل شاعر أن يحققه اعتمادا على ذخيرته الفنية والروحية والإبداعية.

 

القلق هو المحرك الأول لقلم كمال الدين

************************

القلق هو المحرك الأول لقلم كمال الدين، يقول “الشاعر كائن قَلِق! خلقه الله قَلِقاً لكي يتأمّل في الرحلة التي تبدأ بالصرخة وتنتهي بها، أعني صرخة الولادة ثم صرخة الموت. هكذا توجّب عليه لكي يكون شاهداً حقيقياً أن يفسّر لنفسه وللكون كيف أن الصرخة الأولى كانت مبهجة والثانية مرعبة أو العكس بالعكس. كما أُنيطَتْ به مهمة البوح بأسرار الحياة وأسرار الموت. وإزاء مهمات كبرى وخطيرة من هذا النوع صار على قلب الشاعر أن يستوطن القلق ويتخذ منه رفيقاً وخليلاً حتى لا تفسده الطمأنينة الزائفة عن مهمته الجليلة”.

 

قصائد مهلهلة

*********

 

ينوّه كمال الدين بأن الكتابة بأسلوب “النجارة” لا تتيح للشاعر سوى كتابة قصائد مهلهلة تشكو فقرها الشديد وهزالها الأكيد رغم تماسكها الظاهري الكاذب. و”إذا كانت قصيدة النثر قد فتحت أبواباً عظيمة للإبداع كما هو معروف، فإنها في الوقت ذاته فتحت الباب على مصراعيه -وبخاصة في زمن الإنترنت- لنشر مئات الخواطر الفجّة التي يسمّيها أصحابها “قصيدة نثر” يومياً على المواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي لكن المسألة ليست إنترنتية خالصة ولا خاصة بقصيدة النثر لوحدها بالطبع.

إذ يجب أن نعترف بأن هناك أزمة في الحصول على الشعر المتفّوق المبدع لأنّ الكثير من الشعراء والشاعرات في أقطارنا العربية - باختلاف أساليبهم الشعرية عمودية أو تفعيلية أو قصيدة نثر- يفتقدون إلى الفهم الدقيق لمسألة بنية القصيدة ولمسألة النمو العضوي في القصيدة ومسألة الاقتصاد في اللغة ومسألة القاموس الشخصي للشاعر، كما يعانون من الخواء الروحي والإنساني أحياناً. الكثير منهم لا يملكون تجارب روحية أو إنسانية ذات شأن أو عمق. وتظهر جملهم الشعرية وصورهم الفنية مليئة بالتغميض والترهّل والتقعير والهذيان اللامجدي حتى تحوّلتْ قصائدهم إلى ما يشبه ركّاب عربة القطار الذين لا يعرف بعضهم بعضاً، ولا يجمعهم أيّ جامع سوى العربة!”.

يتابع قائلا “الشعر، كما أراه، هو اكتشاف الحياة في ومضة نادرة وبأقل عدد من الكلمات. ولذا سيكون الشعر الحقيقي والعميق نادراً على الدوام. والغلبة في الظهور، على الأكثر، للنماذج غير الأصيلة، للنماذج التي تعوزها الومضة النادرة في اكتشاف الحياة أو تعوزها قدرة الشاعر على تجسيد هذه الومضة بشكل عميق ومبتكر دونما تعقيد أو تغميض. وبالتغميض أعني الغموض المفتعل وليس الأصيل. إنّ معادلة الإبداع في الشعر صعبة حقاً، وتتطلب من الشاعر خبرة حياتية وثقافية ولغوية وشعرية، مع مران مستمر وإيمان حقيقي بالشعر ودوره الإنساني الخلاق، مع الحرص الصادق على عدم ابتذال الشعر بأيّ شكل من الأشكال”.

*********************************

العرب http://www.alarabonline.org/emicons/feather.pngحنان عقيل - نُشر الحوار في جريدة العرب اللندنية في 2017/08/13، العدد: 10721، ص 15

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home