سيرة ذات حروفيّة

قراءة في سيرة أديب كمال الدين الإبداعيّة

 


صباح الأنباري

 

 

 

 

 

 

 

 

"حياتي منذ الولادة وحتى الآن تخرج من مفصل لتدخل في آخر. فلقد مررتُ بمفصل الحرب ثم مفصل الحصار ثم مفصل الغربة، وبين ذلك كله يبزغ مفصل السؤال عميقاً وكبيراً: حول الحياة ومغزاها والإنسان ودوره في هذا الكوكب العجيب"(1)

أديب كمال الدين

*

 

 

منذ أعماله الشعرية الأولى التي صدرت بعد مجموعتيه (تفاصيل) و(ديوان عربي) اشتغل أديب كمال الدين على ترسيخ تجربته الحروفية بدأبٍ وصبرٍ وإصرار. حرث أرضه الجديدة وبذرها بالنقاط والحروف فأثمرتْ له أسلوباً حروفياً، وطريقة صار يُعرف بها، ويستدّل على قصائده بوساطتها. تناول النقّاد اشتغالاته الحروفية بعدد كبير من المقالات والدراسات والبحوث، على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، مساهمين في إنضاج تجربته بعد أن أعطى لها عصارة روحه، وخلاصة تجربته، وما اختزنه من معارف، وثقافات، وارهاصات إنسانية. كلّ مجموعة من مجاميعه الشعرية منحت التجربة بعداً مختلفا،ً ونكهة أديبية مميزة حتّى استكملت التجربة عناصرها البنائية والأدائية. ومع أن الشاعر أديب كمال الدين لا ينفرد باشتغاله على الحروف وتوابعها إلا أنه تفرّد بتأسيس أسلوب مغاير لمجايليه وسابقيه. أسلوب يخضع الحرف فيه إلى عمليات انصهار، وتفاعل، وتمازج، وتداخل، وتشكّل، وتكامل، وتسامٍ حتّى يتحول إلى كائن شعري حيّ وحيويّ مؤسساً بنية أساسيّة لمبنى القصيدة ومعمارها. بنية تفضي إلى فضاءات حبلى بحياة سحريّة، وشطحات صوفيّة، وخيالات مجنّحة يتماهى فيها الواقع والوهم، الحياة والموت، الصبر والعجالة، الآني والسرمدي، حتّى يخيّل لقارئ شعر أديب كمال الدين أنه أمام عوالم حدسية لا يمكن الظفر بها مع أنها تعمل على غوايته من داخل الحرف والكلمة والنصّ. وكلّما همّ باصطيادها انفلتت منه بزئبقية مدهشة، وبلذّة كفيلة بسحبه إليها، وهيامه بها، ومطاردته لها حتّى آخر نقطة من نقاط القصيدة. ولعلّ هذا هو حال حروفه الأنثويّة الصائتة وهن يطلقن بإيقاع رتيب نوحهن الذي يختزن مرارةَ الفواجع، وألم السنين وخساراتها، ووجعهن الثَّكول وهن يندبن أعزّاء رحلوا دون وداع وغيّبوا دون استئذان، ويرقصن بحداد طقوسي، ويرددن بألمٍ دفين: لم يعدن قادرات على دفنه. يضربن الخدود، ويمزّقن الصدور، ويدرن في حلقتهن الراقصة قفزاً كما يقفز المعذّبون بالفلقة داخل أقبية التعذيب. وهكذا الحال أيضاً مع حروفه الذكرية الدرامية في قسوتها، والقاسية في وقعها، والمعقّدة في تضادها وتناقضها كأنّي بها تريد الجمع بين الشيء ونقيضه، بين الحلم والرماد، بين السلم المنشود والحرب المدمرة، وهي على الرغم من صغر حجمها، ومحدودية مساحتها استوعبت حياة كبيرة كاملة حافلة بكل ما في الحياة من معاناة، وإرهاصات، وإشراقات، وخسارات، وخيبات، وإشارات، واستشراف لمستقبل الإنسان فضلاً عن كونها أداة طيّعة ذات طبيعة انفجارية، وتشظّياتية. وهي تمسّ المهم والجوهري في حياتنا وواقعنا.

undefined

 لقد استطاع الشاعر أن يفلسف حياتنا الصاخبة الضاجّة بالقلق والحرمان والحروب، ويترجم جوهرها الذي يراه قابلاً للتجوهر بعد أن رأى كلّ شيء، وسمع كلّ صوت، وأبصر بالعين والأذن والقلب كلّ شيء. سمع بالحرب وخاض أوارها، ورأى شوارع المدن مكتظّة بلافتات سودٍ ناعية، ومشافٍ لم تخلو ردهة من ردهاتها من جريح أو مشرف على الموت، ناهيك عن حاضنات الأعضاء المقطوعة، والمهروسة، والجثث بلا رؤوس، والرؤوس بلا جثث، والجثث المصطبغة بزرقة الموت العجيبة. أكثر من حربٍ دارت على أرض طفحتْ خيراتها حتّى استحالت نقمةً على ساكنيها. لقد رأى أديب كمال الدين طغاةَ أرض السواد وما جاورها وهم يعدّون العدّة لحروب اختلفت مسمياتها، وبُسملت معاركها بآيات من الذكر في محاولة ذكية أو خبيثة لشرعنة البدء بها، ولتزيين طغاتها، وإحاطتهم بهالة وهّاجة من العقيدة والإيمان وما كانوا يدركون أنّ مصير الطغاة آتٍ لا ريب فيه. يقول أديب في قصيدة (موقف الطاغية):

فإذا جاءَ يومي الموعود،

ولكلِّ طاغيةٍ أعددتُ يوماً موعوداً،

زلزلتُ به الأرضَ التي كانتْ

لا تطيقُ خُطاه

فانقلبَ تاجُه،

في رمشةِ عينٍ، إلى رماد(2)

خرج الطاغية من حربه الأولى مزهواً بحصد آلاف مؤلفة من الرؤوس الآدمية وما كانت كافية لإطفاء جمرة جنونه المتقدة. آلمه يتمها فأنجب، بعد حمل قميء، مثنى وثلاث حتّى ارتدت بغداد ثياب الدمِ، والدمعِ، والمحكومين بالصلب على مآذنها الثّكول. كان الشاعر يرى كل مساءٍ على (الطريق السريع) قوافل المركبات محملة بالتوابيت الوطنية لشباب قُدّر لهم أن يكملوا ربع العمر أو منتصفه أو ما يزيد على ذلك قليلاً، وكانت عيناه تغرقان بالدموع وهي ترى جذور الوطن آخذة طريقها إلى الجفاف المميت:

تعبتْ بغداد من ثيابِ الدم

تعبتْ وبكتْ

وحين طلبتْ جرعةَ ماء

أعطوها قنبلةً للموتِ وسيفاً للذبح(3)

 

أرّقَ الشاعرُ أن يرى البلاد تسير من موت إلى موت وكأن الموت باسط جناحيه عليها دون غيرها منذ عصر فجر السلات، وأن طغاتها من الأوّلين والآخرين لم تروِ ظمأهم حمّامات دم الشرفاء، ولم يهن عليهم أن تعيش بلاد الخوف بلا خوف. يقول أديب كمال الدين:


بعد أن خرجنا من الحرب

نرتدي معطفَ الرعبِ والجنون،

اتجهنا إلى بغداد

يتقدّمنا صاحبُ الجند

ممتطياً حصانه الأبيض مزهوّاً

ونحن من خلفه نجرّ أقدامنا جرّاً

حفاةً، شبه عراة.

قال، حين ظهرتْ مآذنُ المدينة،

"سأختارَ لكم موتاً جديداً".(4)

 واستمر فعلاً في خياراته الدموية حتّى نال الوطن وسام العذابات الطويلة، ونال الشاعر نصيبه من تلك العذابات، والمكابدات التي أنعم بها الطاغية عليه نقمة إثر نقمة حتّى جاء اليوم الموعود فذاق الطاغية مرارة الأسر في حرب أذلّته، وجعلت من قافلة شعرائه الأوغاد، وشعرائه المرتزقة، والمطبّلين المزمرين، والنافخين في قرب الشقاق على إيقاع النفاق هباءً منثورا. يقول في قصيدة (شعراء الحرب):

حين ألقى البحّارةُ أصحابُ العيونِ الزرق

القبضَ على صاحبِ الجندِ في حفرته العجيبة

فرّ شعراءُ الحربِ جميعاً

فرّ كبيرهم إلى بلادِ الظلام

وفرّ صغيرهم إلى بلادِ الضباب(5)

ثم توزعوا على بقاع الأرض كلها وهم الحاملون لجرثومة الحرب أنّى حلّوا، وحيثما رحلوا. لقد وضعت الحروب اللعينة أوزارها، ووضعت كل ذي حمل حملها فانجبتْ لنا العاقر منها حصاراً وجوعاً وذلاً ومهانة حتّى صار الإنسان يفكر بطريقة وأخرى لشرعنة أكل أخيه الإنسان. وصار الجندي يقطع المسافات مستجدياً ما يعينه على الوصول إلى أسرته. وتحوّل المعلمون إلى باعة للسجائر على أرصفة الطرقات، والأطفال إلى باعة لأكياس التبضّع، والجائعات المرضعات إلى بائعات لفلذات أكبادهن ثم إلى بائعات للهوى والمسرة، وصار الناس غرباء بين ذويهم فلم يطق الشاعر غربته بين ذويه. لقد شدّ الرحال إلى بلادٍ غربتها أهون عليه من غربة الوطن وهو العارف بالغربة القصوى:

أوقَفَني في موقفِ الغُربة

وقال: الغُربةُ تبدأُ من الروح

فحذارِ من غُربةِ الروحِ يا عبدي.(6)

تلك الغربة صبّتْ في نفسه بحاراً من الصخب القاتل، وجبالاً من الهموم والشجن والشعور بنهاية آتية لا ريب فيها، وبسببها لاذ، وهو الغريب، بأبسط الأشياء سعياً وراء عشبة الحياة. يقول في قصيدة (الغريب) سائلاً النبع:

هل عندكَ دواء للموت؟

* قالَ النبع: لا.

فضحكَ الغريبُ ثانيةً

حتّى اغرورقتْ عيناه بالدموع.(7)

في هذه الغربة القاتلة، استأثرت صور الموت بمساحات كبيرة من اشتغالاته الحروفية حتّى تحوّلت إلى موضوعة مركزية في أغلب إن لم أقل في كل تلك الإشتغالات. ولهذا وجدتُ أن من الأهمية بمكان تقصّي مدياتها في قصائده التي تناولت سيرته كحرف أول في أبجدية حياته الشعرية، وكشخصية حروفية حاولت استقراء الموت. 

 ولا بد لنا أيضاً أن نشير ونحن نسترسل في صياغة سيرته الحروفية غير التقليدية إلى أن هذه الصياغة لا تعنى بسنيّ حياته وما جرى أو طرأ عليها، ولا بحلّه وترحاله، ولا بمن تأثر أو تتلمذ على يديه..الخ..الخ، وأنها فقط تتطرق إلى كل هذا وذاك ولكن من خلال منجزه الإبداعي الحافل بمكابداته، ومعاناته، وتجلّياته، وشطحاته، واحلامه منذ طفولته الدّامعة وحتّى نهاية سلّمه الإبداعي المتجدد. وبدءًا من الطفولة تتحدد ظلال تلك المعاناة على صفحات قصائده الحزينة. يقول على لسان (يوسف الصديّق) في نهاية قصيدته الموسومة بـ(العودة من البئر) متسائلاً:

لماذا كنتَ طيّباً

كطيبةِ دمعتِكَ الطاهرة؟

ولماذا أورثتني دمعتَكَ الطاهرة

يا أبي؟(8)

ومن هذين السؤالين المنطويين على مرارة شديدة، ومعاناة قاسية اتضح مدى هيمنة اليتم على مسرات الطفولة، وسطوة الدمع على مباهجها، وتأثيرهما البالغ على توصيف الشاعر الذي لا يني يكررهما في قصائد مجاميعه الشعرية. يقول في قصيدته (محاولة في البهجة)(9) واصفا الحرف الصغير "كان يلتمع أملاً كعيد طفل يتيم" ويشبّه الانتظار في قصيدة (صيحات النقطة) بانتظار اليتيم لأبيه(10) وفي قصيدة (محاولة في الطيران) يقول:

اكشفي عن أنانيتك

حتّى أريكِ يتمي(11)

وفي قصيدة (محاولة في الموسيقى) يقول:

الموسيقى تجيء

فأقومُ من الموت إليها

لنلتقي طفلين يتيمين

يتحسران على أرجوحة العيد.(12)

 

أما الدموع في حياته فإنها تشغل المساحة الأوسع، وتكاد تكون من مركزيات توصيفاته الشعرية أيضاً ففي قصيدته (محاولة في الإبصار) على سبيل المثال استأثرت مفردة الدمع بأغلب مقاطعها فجاءت في الأول محاصرة إياه "الدمع حاصرني"، ووردت في المقطع الثاني كخرافة وطفولة وجنون وعمى، وفي المقطع الخامس وردت مرتين لتأكيد الانتباه "هلا انتبهت إلى دمعتك؟" وأخيرا في المقطع السادس وردت أربع مرات عثر عليهن الشاعر ككلمات، وحروف، ونقاط، ومشبّهاً بها "أخبرني يا عمري: يا جبل الدموع". وستظلّ هذه المفردة، بصيغ المفرد والمثنى والجمع، تتابعه في تحولاته. ففي قصيدة (موقف الخطأ) تتحوّل الدمعة إلى مصدر إدانة للشاعر الخطّاء من خلال التساؤل اليقيني: "كيفَ يحدثُ هذا ودمعتُكَ لا تفارقُ عينكَ؟" ويأتي هذا السؤال متقدما على سؤالين عن الكيفية المثيرة للتساؤل والعجب: 

كيفَ يحدثُ هذا وشمسي تُحيطُ بقلبِك؟

كيفَ وقد عبرتَ سبعاً من لُغاتِ الجَمر،

وسبعاً من معارك الكَفَرةِ الفَجَرة،

وسبعاً من بوّاباتِ مدنِ السُفهاء،

وسبعاً من تُفّاحاتِ حَوّاء،

وسبعاً من سكاكين صويحباتِ يوسف؟(13)

لقد أضفى الرقم سبعة، في السؤال الثاني، بتكراره نوعا من القداسة منحته تفوقاً وطهراً ومبالغة في الحصانة الذاتية، وليّ عنق الرغبة الجامحة، واغتلام الشهوة الفادحة كحالة تصوفية أو ارتقائية مانحة إياه نقاءً، وصفاءً، وهدوءًا ودفئا روحياً يبتغيه. ويقول في قصيدة (محاولة في الحروف) "بللني الدمع وطحنتني شمس آب"(14) وفي (محاواة في الرصاصة) يقول واصفاً تحولات قلبه:

كان لي قلب

حين كبرتُ تحوّل إلى عصفور

ثم إلى وردة

ثم إلى كلمة

فدمعة ورغيف.(15)

 للدمعة إذن فعل ساهم ــ بشكل أو بآخر ــ في بناء سيرة الشاعر، ودعمها بالصفات التي نزّهته عن سواه من الناس، وقرّبته عن سواه إلى الله، ومنحته شرف القيام بالمحاولة في الرثاء، والسحر، والنقطة، والموسيقى، والعزلة، والصوت، والإبصار، والحب، والرصاصة..الخ.

وفي قصيدة (موقف الدمعة) توكيد لقدسيتها إذ ترد متجلّية بصوت الله الذي مزجها بالتراب ليكون طيناً، وليكون بشراً على درجة عالية من القداسة التي دونها قداسة الملائكة جميعاً. وليكون بسببها بَكّاءً في الولادة، والضياع، والارتباك، والوحشة، والظلم، والمرض حتّى يخال أنه مولود من دمعة لا من تراب:

أوقَفَني في موقفِ الدمعة

وقال: كم بكيتَ! وكم ستبكي!

فأنا خلقتُكَ من طين يا عبدي.

وكانت دمعتُكَ هي التي امتزجتْ

 بالترابِ ليكون طينا(16)

لقد تضمّنتْ جملة مقال القول على فعلين: أحدهما أشار إلى ما مضى من البكاء، والآخر إلى ما سيأتي منه في دلالة واضحة لاستمرار هذا الفعل وتوطّنه في ذات (العبد) القلقة الذي يبيّن له المعبود جوهره الطيني. وما خاتمة (الموقف) في هذه القصيدة سوى توكيد لذلك الجوهر وإن جاء على شكل استفهاميّ: "أمِن دمعةٍ خَلَقتُكَ أم مِن طين؟" ذلك لغنى الخالق عن أيّ إجابة محتملة من جهة، ولإرادته في توضيح ما وقع فيه المخلوق من التباس القصد. 

وفي قصيدة (محاولة في السّحر) تتحول دموع الشاعر "بقدرة قادر" عند المساء إلى سحرة، يسألونه عن سر بكائه فيمنحونه ما حُرم منه من ملابس الذهب، والطيران من غيمة إلى أخرى، وسرّ اللذة، وتحويل الحلم إلى يقين. وحين توسطت الشمس السماء اختفى الذهب، وانقشع الغيم، وتوارت اللذة، وتبخّر اليقين: "فصرختُ يا دموعي" فقال السحرة:

سنعطيكَ حروفنا أيّهذا المُعَذّب

ونعلّمكَ نقاطنا أيّهذا المحروم(17)

لتبدأ انطلاقته الحروفية الساحرة التي ستسم كل مجاميعه اللاحقة بميسمها الإرتقائي، وجموحها إلى منبع الأنوار، ومحاولاتها اجتراح الأسرار الخفية منذ مجموعته الثالثة (جيم)، ومنذ اشتغاله فيها على اشراقات (كهيعص) وتجلّيات (طلسم)، و(إشارات) التوحيدي. وصارت هيئة الحرف لازمة لعنوانات مجاميعه فمن الـ(جيم) إلى الـ(النون) ومن النون إلى الـ(النقطة) ومن النقطة إلى الـ(حاء). ولم تخلُ عنوانات مجاميعه اللاحقة من الحرف أو النقطة أو (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة). وعندما اتسعت اشتغالاته نمت (شجرة الحروف) لتغطّي بفيئها الوارف كائناته الحروفية التي وضعها في (أربعون قصيدة عن الحرف) ثم جعل من الحرف مقصداً ومقال قول في (أقول الحرف وأعني أصابعي) أما ما يخصّ مواقفه فقد حددها في (مواقف الألف) مقتبساً جملة البدء فيها من النّفّريّ، وقد اكمل اشتغالاته تلك بـ(الحرف والغراب) وثمّة مجموعة أخرى تناولت معنى الحروف والنقاط وإن خلت عنونتها منهما كما في (أخبار المعنى).

بعد هذا السرد، ومحاولتنا استقراء السيرة الحروفية من داخل منجمها الإبداعى، وباطنها المعرفي، وجوهرها الصوفي، وعمقها الحروفي، يطرح السؤال نفسه علينا: مَن هو هذا المتبصّر بحروف الخليقة، والمستقرىء سرّ نقاط الكون، والكاشف ما خفي وراء المعنى؟

 

إنه الألف (أ)، أو أديب كمال الدين، أو الحروفيّ:

أوقَفَني في موقفِ الألف

وقال: الألفُ حبيبي.

إنْ تقدّمتَ حرفاً،

وأنتَ حرفٌ،

تقدّمتُ منكَ أبجديةً

وقدتُكَ إلى أبجديةٍ من نور.

وقال: سَيُسمّونكَ "الحُروفيّ".(18)

قدر رسم له، ونبوءة عَمَلَ على تحقيقها مستعينا بما ملك من الحروف والنقاط والمعاني، ومن نقاء السريرة وصفاء النية، وبلورة الروح، ونفاذ البصر والبصيرة، وقوة الرؤية والرؤيا، والزهد عن الدنيا، والتقرب لأهل الله ليستأثر بما وعِدَ، وليمنح، من ثلاثة وثلاثين ناقداً أدلوا بدلاء نقودهم في بئر حروفيّته العميقة، لقب (الحروفيّ).(19)فهل اكتفى بلقبه هذا وتوقف عند حدوده الدنيا؟ يبدو لي أنه لم يكتف به، ولم يتوقف عند حدوده الدنيا بل انه رام ما هو أبعد منها بكثيرٍ من دون غرور، وأسمى منها بكثيرٍ من دون تبجح، وأرفع شأناً منها بكثيرٍ من دون استكبار. لنقرأ الموقف الآتي:

أوقَفَني في موقفِ الاسم

وقالَ: ما اسمكَ يا عبدي؟

قلتُ: النقطة.

قالَ: بل الحرف والنقطة جزءٌ منه.

ثمّ قال: ما اسمك؟

قلتُ: الحرف.

قالَ: بل الحُروفيّ والحرف جزءٌ منه.

ثمّ قالَ: ما اسمك؟

قلتُ: الحُروفيّ.

قالَ: بل الصُوفيّ والحُروفيّ جزءٌ منه.

ثمّ قالَ: ما اسمك؟

قلتُ: الصُوفيّ.

قالَ: بل العارف والصُوفيّ جزءٌ منه.

ولما كانت تجربته الشعرية غير مقولبة داخل أطر تحجيمية، أو محددات طرازية، على الرغم من كونكريتية خلفيته الصوفية، فانه ارتضى بالحروفي لقباً شعريا،ً وصفة حروفية، واسماً دلاليا فيه ما يميزه عن سائر المتصوفة، وسائر الشعراء جميعاً. ولو قبل بلقب (العارف) وهو لقب صوفي بحت لخسر ما هو أوسع من الصوفية وتجلياتها. إنها الأنسانية التي منحت قصائده امتيازاً شاملاً دليلنا عليه اهتمام النقاد على اختلاف مشاربهم ومناهلهم بقصائده الشعرية التي وسعت افراح البشر واتراحهم جميعاً.

ولم تكن صفة الحروفي مستأثرة بصفاته كلها فثمة صفات كثيرة أخرى تمثّلت شخصيته وما انطوت عليه كالغريب، والمنفيّ، والمَحروم، والضائع، والمُمتَحن، والمُشتاق، والسَجّاد، والمَنسيّ، والمُتضرّع، والمُنوّن، والمُتصوّف، والزاهد، والعارف التي على الرغم منها اعترف بتواضع كبير أنه ما كان الا حرفاً محدد المصير كسائر حروف الدنيا:

ما كنتُ إلا حرفاً،

ما كنتُ إلا ألفاً

مَصيري إلى التُراب

إذ خلقتني من طين.(20)

ولم يكن من بعد شيئاً آخر فالفعل الناقص (كنتُ) لم يأت هنا ليعبر عن الزمن الماضي حسب، بلعن الزمنين (الماضي والحاضر المستمر) على حد سواء ولنا في القرآن أمثلة كثيرة: "كان الله سميعاً بصيراً" أو "كان الله يحبّ المحسنين" أو "كان الله عليماً حكيماً" والمعنى المقصود في هذه الآيات هو: كان وما زال. اذا عدنا للصفات المذكورة سنجد أنها استأثرت بعدد كبير من قصائده، أو تضمّنتها، أو أشارت إليها ربما في أكثر من موضع أو مقطع أو بيت منها. فمن القصائد التي تناولت غربته في المواقف قصيدة (موقف الغربة) وفيها يصل إلى ثلاث موجّهات لدرء نفسه منها:

قال: مَن عَبَدَني نجا مِن الغُربة.

ومَن أحَبّني قهرَ الغُربة.

ومَن عشقني كانت الغُربةُ عنده

نَسْياً مَنسيّاً.(21)

وثمة موجّه آخر تمثّل في الشبه القائم بين غربته وغربة الأنبياء والصالحين ومنهم: نوح، وصالح، وموسى، وعيسى، ويوسف، وأيوب، والحسين فهو بين المارقين أو (الكفرة الفجرة) كالأنبياء والصالحين تسامى على من أنكر صوت الحق قامة ومقاماً. وعلى الرغم من تمسّكه بتلك الموجّهات والمشبّهات إلا أنّه لم يستطعْ على الغربة في بلاده صبراً فشدّ الرحال مبحراًوهو العارف بالقرصنة التي تقوّض القلب في بحور الغربة، وهو العارف أنه الغريب الذي لا أرض له، ولا مستقر، ولا مَن يعينه على عذابه المقيم، وضياعه المكتوب:

أنا الغريب

لا أرض لي ولا هدف

لا وجهة ولا رغبة ولا قرار.

جرّبتُ الحكمةَ والغيبَ والنساء

واللهو والغنى والحروب

فلم أجدْ أيّ شيء يعينني

على عذابي المقيمِ وضياعي المكتوب.(22)

 وبقدر تأثير الغربة عليه كمحروم و"مفتون تتقاذفه الدروب والبلدان والسنين"(23) فانها احتضنت أغلب نتاجه الأبداعي مذ وطئت قدماه دروبها التي تقاذفته في لياليها جمراً، وثلوجاً، وبكاءً وقصائد ارتقت به سلم الإبداع والشهرة سواء تلك التي كتبها باللغة العربية، أو التي ترجمها إلى اللغة الانگليزية. ومن مميزات ذلك النتاج الشعري أنه خصص أربعة مجاميع منه تضمنت كل مجموعة على موضوعة تشظّت إلى عدد من الموضوعات المختلفة مثل مجموعته (ديوان عربي) الذي انقسم على عدد من الدواوين الفرعية مثل: ديوان الأسئلة، ديوان المقابلات، ديوان الأشياء..الخ. أما مجموعته الموسومة بـ(أخبار المعنى) فقد تضمّنت كل ما يتعلّق بالمعنى مثل: موت المعنى، أخطاء المعنى، صراخ المعنى، راء المعنى..الخ. وتضمّنت مجموعة (النقطة) على محاولاته المختلفة مثل: محاولة في الرثاء، محاولة في الطيران، محاولة في الكتابة، محاولة في الحروف..الخ. وأخيراً جاءت مجموعة (مواقف الألف) لتضمّ مواقفه المختلفة مثل: موقف الألف، موقف الظلام، موقف الكلام، موقف الجسد..الخ. إن كل مجموعة من هذه المجاميع الأربع بموضوعاتها الرئيسة المختلفة، وطرق توزيعها وتقسيمها أكدّت، بما لا يقبل الشك: قدرةً شعرية كبيرة ومكنة أدائية عالية وفيضاً من الأفكار الراقية القادرة على الإنفلاق والإستنسال والإبتكار والتألق، وشكّلت بحسب رؤيتنا لها مثابات شعرية مهمة، ومحطّات أساسية انطلقت منها قاطرات أديب الشعرية مجددة مسارها على خط سيرته الحروفيّة.

سيرة ذات حروفيّة إذن هي قراءة تأمليّة في سيرة منجز أديب كمال الدين الإبداعي، ونتاجه الشعري بما حفل به من محاولات، ومعانٍ، ومواقف، وإشارات، ومغامرات، وسندباديات، وشطحات، واشراقات، وغور في الحقيقة المطلقة. سيرة نأمل أن نكون قد وفّقنا في كتابتها بطريقتنا غير التقليدية.

...........................................

إحالات وإشارات

(1)             مقتطف من حوار نشور في مجلة اليمامة بتأريخ 8 – 8 – 2009  العدد 2069.

(2)             ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة/ دار أزمنة للنشر والتوزيع/ الطبعة الأولى/ عمان 2007/ الصفحة 83.

(3)             شجرة الحروف/ دار أزمنة للنشر والتوزيع/ الطبعة الأولى/ عمان 2007/ الصفحة 33.

(4)             ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة/ دار أزمنة للنشر والتوزيع/ الطبعة الأولى/ عمان 2007/ الصفحة 26.

(5)             ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة/ دار أزمنة للنشر والتوزيع/ الطبعة الأولى/ عمان 2007/ الصفحة 125.

(6)             مواقف الألف/ الدار العربية للعلوم ناشرون/الطبعة الأولى/ بيروت 2012/ الصفحة 82.

(7)             شجرة الحروف/ دار أزمنة للنشر والتوزيع/ الطبعة الأولى/ عمان 2007/ الصفحة 27.

(8)              أقول الحرف وأعني أصابعي/ الدار العربية للعلوم ناشرون/ الطبعة الأولى/ بيروت 2011/ قصيدة: العودة من البئر/ الصفحة 13.

(9)             النقطة/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ الطبعة الثانية/ بيروت 2001/ قصيدة: محاولة في البهجة/ الصفحة 91.

(10)         أقول الحرف وأعني أصابعي/ دار أزمنة للتوزيع والنشر/ الطبعة الأولى/ عمان 2006 قصيدة: صيحات النقطة/ الصفحة 72.

(11)        النقطة/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت/ الطبعة الثانية 2001/الصفحة 22.

(12)        المصدر السابق/ الصفحة 26.

(13)         مواقف الألف/ الدار العربية للعلوم ناشرون/الطبعة الأولى/ بيروت 2012/ الصفحة 17.

(14)        النقطة/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت/ الطبعة الثانية 2001/الصفحة 31.

(15)        النقطة/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت/ الطبعة الثانية 2001/الصفحة 111.

(16)        مواقف الألف/ الدار العربية للعلوم ناشرون/الطبعة الأولى/ بيروت 2012/ الصفحة 82.

(17)         النقطة/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت/ الطبعة الثانية 2001/الصفحة 10.

(18)         مواقف الألف/ الدار العربية للعلوم ناشرون/الطبعة الأولى/ بيروت 2012/ الصفحة 12.

(19)         الحروفيّ/ 33 ناقدا يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية/ اعداد وتقديم: د. مقداد رحيم/المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ الطبعة الأولى، بيروت 2007.

(20)         مواقف الألف/ الدار العربية للعلوم ناشرون/الطبعة الأولى/ بيروت 2012/ الصفحة 12.

(21)        مواقف الألف/ الدار العربية للعلوم ناشرون/الطبعة الأولى/ بيروت 2012/ الصفحة 34.

(22)         شجرة الحروف/ دار أزمنة للنشر والتوزيع/ الطبعة الأولى/ عمّان 2007 / الصفحة 27.

(23)        مواقف الألف/ الدار العربية للعلوم ناشرون/الطبعة الأولى/ بيروت 2012/ الصفحة 16.

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home