بمناسبة مرور أربعين عاماً على صدورها:

تفاصيل : جسد الرؤيا!

أديب كمال الدين

 

أديب كمال الدين عام 1976

 

 

 

قبل أربعين عاماً بالتمام والكمال، صدرتْ مجموعتي الشعريّة الأولى (تفاصيل). أي أنّها صدرت عام 1976، وكان عمري حينذاك 22 عاماً بالتمام والكمال أيضاً.

كان صدورها حدثاً رائعاً وسعيداً بكلّ معنى الكلمة في حياتي. فقد كانت مجموعتي الأولى وأولى خطواتي في عالم الشعر. وقد طبعتها على نفقني الخاصة في مدينة النجف الأشرف، بعد أن رفضت وزارة الثقافة والإعلام طباعتها لأنّها (جاءت خالية من ذكر منجزات الثورة والتغنّي بها!) كما أعلمني سكرتير لجنة التعضيد والنشر في الوزارة التي كان مقرها في الباب الشرقيّ. ولم أزل حتّى الآن أتذكّر تفاصيل طباعتها وكيفية نقلها إلى بغداد وكأنّ الأمر حدث البارحة!

  طبعتُها في مطبعة الغري العائدة للمرحوم رشيد المطبعي الذي التقيته صدفةً في محلّ الفنّان الخطّاط حميد ياسين الكائن في بداية شارع المتنبيّ. واتفقنا على طباعتها بمبلغ 170 ديناراً (وهو مبلغ كبير حينذاك). أمّا الغلاف الجميل- رغم تقشّفه الواضح : لون واحد فقط- فقد طبعته في إحدى مطابع شارع المتنبيّ ببغداد. وقد صمّمه الفنان المبدع حميد ياسين أمامي وأمام رشيد المطبعي في زمن قياسي.

 وحين صدرت المجموعة كتب عنها الشاعر فوزي كريم مقالة طيّبة في مجلة ألف باء، أمّا الشاعر عيسى حسن الياسري فقد كتب عنها، في جريدة التآخي، مقالة احتفاء رائعة قرأتها بسعادة غامرة وقتئذ مرّات ومرّات. وظهرت مقالات أخرى عنها غابت، للأسف، عن الذاكرة. وأجرى الشاعر فاضل عباس الكعبي حواراً معي لمجلة (وعي العمال)، وكذلك فعل القاص محمد الرديني لجريدة (الراصد). وأقامت دار الثقافة الجماهيرية ببابل أمسية احتفاء بصدور (تفاصيل)، تحدثّ فيها الشاعر الراحل علي الحسيني عن المجموعة بإعجاب قابله إنكار تقدّم به (أحد الشعراء) المتحّدثين في الأمسية لأنّ (المجموعة خالية من التغنّي بالثورة ومنجزاتها)! وأثار رأيه لغطاً بين الجمهور ونقاشاً حادّاً بيني وبين (الشاعر)  حتى انتهت الأمسية على نحو مرتبك! ولم يكتفِ هذا الشاعر بذلك فقد نشر رأيه كمقال نقدي عن المجموعة في الصحافة بعد الأمسية بأيّام قلائل!

احتفت مجموعتي (تفاصيل) بصدق عميق بجذور الحياة مطلقةً أولى أسئلة الروح عن الحياة ومغزاها وسرّها الأزليّ، احتفت ببراءة عذبة ب"جسد الرؤيا" للرحلة التي تبدأ بالصرخة وتنتهي بها، أعني صرخة الولادة ثمَّ صرخة الموت. هكذا  صار على الشاعر،  لكي يكون شاهداً حقيقياً، أن يفسّر لنفسه وللكون كيف أنّ الصرخة الأولى كانت مبهجة والثانية مرعبة أو العكس بالعكس. صار على الشاعر أن يؤسس فنيّاً لحرف الصرخة التي ستتحوّل إلى حبّ  وعشق وفراق وعذاب ونفي وجوع وعطش وحرمان وأرق ومعاناة، الصرخة التي ستطلقها الروح وهي تصارع  أبد الدهر  الرعب والخوف والفجيعة والظلمة والظلام.

 احتفت (تفاصيل) ببراءة عذبة ب"جسد الرؤيا" بعيداً عن أكاذيب الأيدولوجيا وصراعها اللعين من أجل المال والجاه وما توفّره لأصحابها من متع زائفة ومباهج تافهة، الأكاذيب التي امتلكت صوتاً صاخباً في سبعينيات القرن الماضي وما تلاها لدرجة  أنّه كاد يصيب المتلقّي بالصمم، وأفسدت كثيراً من المنجز الإبداعي العراقي، وأبعدته، بعنف شديد، عن دور الشعر الأوّل الحقيقي.

ذكرتُ ذلك بوضوح في المقطع الأوّل من إحدى قصائد المجموعة، وهي قصيدة (قصائد صغيرة):

 لا تذهبْ أكثر

من مائدةِ الأطفالْ:

من مائدةِ الفرحِ الباسق،

من مائدةِ النخلِ الباسق

وغناءِ البَطِّ، تماثيلِ الطينِ، الأعشابْ.

لا تذهبْ أكثر من صحراء الغيرةِ والنومِ الأزرق،

صحراء الكلسِ الأبيضِ والكلْماتِ الشعثاءْ.

لا تذهبْ أكثر من جسدِ الرؤيا!

 

هذه هي الوصيّة الشعريّة الأولى التي ألزمتُ بها نفْسي فالتزمتْ بها طوال المجاميع الكثيرة التي كتبتها بعد (تفاصيل) ولله الحمد، هذه هي بوصلة طريقي الشعري المضيئة بالتأمّل، والزهد، والحبّ بمعناه الواسع الكبير. وهي الوصيّة التي همشّتْ منجزي  الشعري إعلامياً زمناً طويلاً حين كنتُ في العراق، لكنّها، دون شك، عمّقته فنياً. ففي زمن الطغيان يُراد من الشاعر أن يلمّع الأكاذيب ويبيّض الأسود ويسوّد الأبيض فقط. يُراد منه، بعبارة أخرى، أن يضرب على الطبل لا أن يعزف على الكمان.

 وفي القصيدة ذاتها، أعني (قصائد صغيرة)، طلبتُ من الشعْر أن يعين الجسد المحروم والروح الملتاعة على السير في مواجهة تيّار الزمن المتناثر أياماً تتكرّر ساعاتها وتتكسّر شموسها، أردتُ منه – ولا أدري هل كنتُ على صوابٍ أم لا – أن يأخذ بيدي:

 

ما نفعُ الأشعار

إنْ لم تأخذ بيدي؟

 

لقد تساءلت: إن كنتُ على صوابٍ حين طلبتُ من الشعر أن يأخذ بيدي، إذ ما من جواب حاسم حتّى بعد مرور أربعين عاماً على هذا السؤال الغريب كغرابة الحياة نفْسها والمدهش كدهشة الشعر نفْسه! لكنّ المؤكّد أنّ قصيدتي لم تزل تطلق ذات الأسئلة التي أطلقتها في مطلع حياتي الشعريّة وتصف حبّي الذي بدا أبيض الروح والنبض ولم يزل، وتتنبّأ، منذ زمن موغل في البُعد، بالغربة التي أعيشها الآن:

 

حُبّي ورقٌ تذروه الريحُ وتسكنهُ البهجة.

حُبّي ورقٌ لشوارع يسكنُها الغرباءْ

وشوارع ضاعتْ كالغربة.

حُبّي ورقٌ من طينٍ أسْوَد:

ورقٌ يأبى ويهاجرُ، يزرعُ أو ينسى،

ورقٌ للماضي والرغبة،

ورقٌ للغيرةِ والفتنة،

ورقٌ أبيض.

  

 إضافة إلى أسئلتها المصيرية، فقد بقيتْ أغلب قصائد (تفاصيل) تقاوم الزمن من الناحية الجمالية، ولله الحمد، محتفظةً بقدر غير قليل من حيويتها ، من أمثال (لقاء.. وداع)، (النبيّ الصغير)، (قصائد صغيرة)، (أبو الهول)، (لم)، (قصيدة حُبّ)، (طفولة). وحين أصدرتُ، في العام الماضي، المجلّد الأوّل من أعمالي الشعرية الكاملة ببيروت عن منشورات ضفاف  محتوياً على مجاميعي الخمس الأولى (تفاصيل، ديوان عربي، جيم، أخبار المعنى، نون) ، فإنّني أعدتُ نشرها لترى النور من جديد، ولذا كان صدورها فرحاً جديداً يُضاف إلى لحظة الفرح الأولى، تلك اللحظة التي حبستُ دموع فرحها ما يقرب من أربعين عاماً، ولم أطلقها إلّا وقت صدور الأعمال الشعريّة الكاملة. ولا بأس في هذا فالإنسان يستقبل الحياة بالدموع ويغادرها بها أيضاً.

 

*****************************

 

أديب كمال الدين - أستراليا 2016

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home