قراءة في مجموعة (الحرف والغراب) للشاعر أديب كمال الدين

 

غابة نصّ الحرف والغراب*

 

 

إسماعيل إبراهيم عبد

 

 

قد لا يكون الهدف واضحاً حين نتجه بآليات الفحص صوب إحتمالات!

الهدف إذاً هدف اجرائي يتوسط القراءة، باتجاه النص، والنص باتجاه التأويل. وبذا تتصف قوى التواصل بكونها لغة تعبير تتغير على وفق اتجاهين/

أ‌-    غابة النص .

ب- غاية التأويل .

وهو ما يمكنني وضع آليات قادرة على فحص كل منهما على أن يظل التأشير ((فحوى احتمالات)).

فيما يخص النص لدينا أربع إتجاهات:

الوحدة الاولى - غابة النص

الحالة الاولى – التشكل المظهري /

للنظر في قصيدة مثلّثات:

على مائدةِ الخوف

أرى مثلّثَ السُلْطة:

رأسه إلى الأعلى،

ومثلّث الرغبة:

رأسه إلى الأسفل،

ومثلّث القوّة:

رأسه إلى اليمين،

ومثلّث العبثِ والسأم:

رأسه إلى اليسار.

وحين أمدُّ يدي

لأرى مثلّث السرِّ،

أعني مثلّث الحرف،

فإنَّ المثلّث يدورُ على نفْسه كالمجنون،

يدورُ، يدورُ، يدور

ليريني في الأعلى طفولتي الحافية،

وفي الأسفل صباي الغارقَ في النهر،

وفي اليمين شبابي المحاصرَ بالشظايا والدخان،

وفي اليسار شيخوختي التي تشبه

مسافراً سعيداً

في قطارِ الجنّةِ الذاهبِ إلى جهنم،

القطار الطويل السريع الذي لا يتوقّف

في أيّ محطّةٍ أبداً

رغم احتجاج الركّابِ ودموعهم وصيحاتهم!

ــ تلك حدود مظهر النص، ولقد أجريت توليفات عدة ليكون ذا سياق منتظم بجزئيتي المرجع والمقام. أي ان كيفية التكور حول محور(الأنا) للشاعر قد صيّرت له مقاماً أولياً متضخّماً!

هذه أولى حقائق النص المظهرية.

الحقيقة الثانية ، تراكيب الجمل المتصلة بمفاصل الفوارز ، وهي تقنية تعطي فهما إلى أن النص غابة كلمات ، ومن ثم جذور واوراق من حركات وأحرف ، ومن ثم فهو نص مشجّر بصورة ثلاثية (قلب ، أطراف ، جذور).

كل جملة لا تنتهي عند الجملة التي تليها إنما تدخل فيها! وأحيانا جملة أولية تعبر من فوق الجملة الوسطى نحو الجملة اللاحقة الثالثة!

 خذ هذا التركيب/

(وفي اليسار شيخوختي التي تشبه

مسافراً سعيداً

في قطارِ الجنّةِ الذاهبِ إلى جهنم،

القطار الطويل السريع الذي لا يتوقّف

في أيّ محطّةٍ أبداً

رغم احتجاج الركّابِ ودموعهم وصيحاتهم!)

 

فالشيخوخة تتصل بالقطار الطويل الذي لا يتوقف. وجملة مسافراً سعيداً متصلة بشبه جملة (في قطار الجنة)، وهذا يعني ان الجملة الاولى قفزت بالاتصال الحركي من موضعها في مكان أ، إلى موضع مكان د، بالقفز فوق ب ، ج .

وفي النص كثيرا من هذا .

الحقيقة الثالثة:

(ندرة النقاط ) هذه الندرة توحي بالتوالي الآتي /

أ ــ ضيق وقت التحدث

ب ــ ضيق مساحة العبارة

ج ــ كثافة البث اللغوي

د ــ محاولة حشر الكلمة في ذاتها ، كما هي الأحرف في نغماتها (الفونيم).

هذا الاتجاه يأخذ من الفلسفة الصوفية أكثر مما يأخذ من البلاغة الاستعمالية للجملة.

الحقيقة الرابعة: التشكل الثلاثي

تتشكل ثلاثيات العمل من قواعد ورؤوس، وهي ذاتها الحقائق الهندسية للعمران، والاشكال ، وفلسفة فرتايمر النفسية (الجشطلت) ، ولنأخذ بالمبادئ الاخرى المتصلة بموضوعنا على وفق الآتي:

مائدة الخوف

الامتداد

احتجاج الركاب .

هذه الثلاثية الأولى

 ثم / السلطة ، الرغبة

الرغبة ، القوة

العبث ، السأم

ثم الثلاثية الثالثة

الأعلى ــ الأسفل

الأسفل ــ اليمين

اليمين ــ اليسار

الثلاثية الرابعة

السر ــ اليد

الحرف ــ الجنوب

الدوران ــ الدوران

الثلاثية الخامسة

الطفولة ــ الرؤيا

الصبا ــ الغوص

الشيخوخة ــ السفر.

الثلاثية السادسة

التخفّي ــ الغرق

النارــ الحصار

الشظايا ــ الدخان.

الثلاثية السابعة

السعادة ــ الجنة

الذهاب ــ السرعة

الطول ــ اللاتوقف.

الثلاثية الثامنة

المحطة ــ التيه

الاحتجاج ــ الدموع

الركاب ــ الصياح

الثلاثية التاسعة : (افتراضية)

رؤى  الشاعر

شموخ السلطة

فتونة الثروة.

الثلاثية العاشرة : (افتراضية)

يسار الأفكار

يمين التراجع

شيخوخة السر.

إن مائدة الخوف تمد يد الاحتجاج نحو المواقف الآتية /

1ـ الموت بيد السلطة أو بالبوح برغبة جانحة .

2ـ احتجاب القوة بمقابل إطلاق الحرية للعبث والسأم .

3ـ تنوع الإتجاهات من العبث إلى السأم إلى إعتناق العقائد بأعلاها وأسفلها ، يمينها ويسارها .

4ـ كتمان سر حقائق العقائد على مستوى مقاومة الايدي، ومفارقات الطفولة والغوص في أعماق الرؤى .

5ـ تعليق فحوى الرؤى كلها بلحظة ممتدة كالخطف من الطفولة نحو الفتوّة ، نحو الشيخوخة ، نحو إرتداد الزمن من السفر إلى أمام إلى خلف في عيانية (خوض الماء ، خوض الحصار ، تلقي الشظايا ، العمى بالدخان)

6ـ العلائق الخمس السابقة لها منافذ جديدة للظهور ، منها/

إنسحاب الجنة نحو السعادة ، والسعادة نحو الذهاب السريع ، الممتد بالطول كقطار اللاتوقف حتى (جحيم دانتي)

7ـ منفذ آخر للهرب من السلطة والرغبة والقوة والسأم ، ذلك هو التيه بين المحطات

8ـ التيه يؤدي أخيرا نحو احتجاجات ودموع وركاب صارخين ، مثلما خوف الشاعر في بدء رحلته الثلاثية (القصيدة) .

9ـ رؤى الشاعر مثل صراخ البشر يضيع بين السلطة وثورة الذات .

1ـ كل رؤى ضياع ، كل تيه ضياع ، وهو ما يجعل الحرف الاول خوف ، والثاني قوّة والثالث عبث .

في هذه الوحدة ، تبين ان الحقيقة الكبرى هي ( التراجع المؤسي ، والأفكار التعبى ، والشيخوخة الذاهبة بالسر إلى جهنم ) انها حقائق أولانية للنص .

ومثلما يرى فهي حقائق متداخلة  لن تفيدنا كثيرا إلّا إذا ادركنا حقائق التأويل أي الاجراءات الأخرى.

undefined

 

 

 

 

 

الحالة الثانية - علائق المثلّثات /

العنوان يحيل إلى وجود شكل مثلّث متداخل يكوّن مكعبا من حقائق ووجوه مختلفة ..

ومن المظهر السابق يتضح بأنها مُثُلات وليست مثلّثات .

الخوف + السر + القطار ، هي أُطُر تؤلف مساحة النص. وأن العنوان ثيمة أو قيمة حيادية لتلك المُثُلات

1ـ المثلّثات الصريحة /

مثلّث السلطة + مثلّث الرغبة + مثلّث القوة + مثلّث العبث والسأم ـ يمكن تصورها هندسيا بالشكل رقم (1) المثبت في نهاية المقال .

في المثلّث /

س = السلطة

غ = الرغبة

ق = القوة

ع م = عبث وسأم   

وحين نمدد الإتصال ونفهم التوالي ، دون فوارز ، سندرك عدم وجود فواصل ، سيترسم لنا من التقاطر ما يأتي ـ الشكل رقم (2) في نهاية المقال .

ولنا فية مفارقات لعلائق عدة ، منها :

غ بالاتصال مع ع م = الرغبة عبث وسأم

س مع ق = القوة قوة للسلطة

وبوضع ن الزمن سيتكوّن /

س ن غ = زمن الرغبة بالسلطة

س ن ع م = سلطة الزمن عبث وسأم

ق ن ع م = قوة الزمن عبث وسأم

ق ن غ = قوة الزمن رغبة عبث

وكأن المثلّثات هندسياً تحيل إلى المظهر السابق نفسه، كون  الرؤوس جميعها تتصل بالزمن والزمن قيمة للضياع كقطار سريع العدو من الطفولة إلى الكهولة ، إلى الموت.

الحالة الثالثة ـ مثيولوجيا /

السلطة ، الرغبة ، القوة ، العبث والسأم ، جميعها مؤسسات عن أسس إنسانية ، إنفعالية ، نفسية ، الميل فيها إلى لحظة التفجير القولي الذي يتبنى العلائق المثيولوجية الآتية :

أ ـ السلطة = تأريخ الحكام والملوك والأُمراء وطحن الشعوب لإدامة ماكنة  السلاطين

ب ـ الرغبة = تعبير عن مكنونات نفسية ذاتية وعامة، ولا تتوانى عن القول الفني والبوح الكتابي. لذا هي رغبة مجزوءة بين تدوين التاريخ ولحظة معايشة الحدث اليومي حيث هي ايقونة لدلالة اجتماعية لا تبتعد عن معاشرة تيه وجنون العظمة.

ج ـ العبث والسأم = حالان لهما ما يقربهما من الإفتراض السابق  .

العبث لصيق السلطة والقوة والرغبة ، تلك التي يترتب عليها تنصيب الملوك وإقرار الدساتير وسن القوانين، وفي الأخير هي مكون سياسي إجتماعي إنساني متعدد الإطراف معرفيا !

إما السأم فهو الحالة الفردية الوحيدة الدالة على ذات الشاعر، وقد أوجدها بطرافة الإنزواء ليدلل على لاإكتراث العالم بـ (ذات الفعل الجمالي اليشري– الشعر)  

 الافتراض الأخير يعني :

إن غابة القصيدة هي غاية تأويلية أولا وتواصلية ثانيا، ومثيولوجية لتأريخ الشعر ثالثا.

 

الوحدة الثانية - التداول التكاملي

التداول – بل قل الإتصال غير المباشر – هو ما يؤلف مستوى القراءة ومستوى التداول لما بعد الكتابة . هذا التداول ، الاتصال غير المباشر، تؤهله رسائله الجمالية والـ ما بعد جمالية (الثقافة ، الفلسفة ، السوسيولوجيا) .

التداول المعني، تواليف من طبقات تبادل لأركان فهم من أربعة متجهات لحروفية الكيان النصي مطلق الحدس التأويلي .

الحالة الأولى : احتفاء أُولي /

إن اللفظ لصوت ، لحرف ، لكلمة ، لمعنى ، هو استباق في إستعادة مخزون عن تذكر أو تعلم، أو دافعية غريزية ، هذا الاستباق سياق معرفي يحيل الأصل إلى معنى قاموسي. لنر الآتي :

[على مائدة الخوف – أرى مثلّث السلطة]

ها هنا عودة إلى أرث السلطة في أدبيات الثورة الفرنسية حيث هي تنازل الشعب عن بعض حقوقه لأجل حاكم حكيم مخوّل عنهم يدير شؤونهم .

المائدة تمتد مثلما الشعب قاعدة للقول ، قاعدة للتحكم ، قاعدة لتنفيذ الأوامر .

 ومثل ذلك معكوساً: السلطة لديها القوة والمال والقانون ! 

هكذا يمكن للمؤول أن يقرن تاريخية الخوف بتأريخية التنازل عن الحقوق !

[ حين أمدّ يدي

 لأرى مثلّثَ السرّ ،

 أعني مثلّث الحرف 

 فإن المثلّث يدور على نفسه كالمجنون ]

هنا تتمثل الأُوالية في العودات الآتية :

امتداد اليد تقترب من حالة الأخذ بالقوة .

رؤية السر كشف لمباشرته في فعل القول ، النطق بالحروف .

مثلّث الحرف يمكن ان يكون أي حرف ثلاثي التشكل خاصة أحرف ( ت ، ق ، ي)

فهي الحروف الوحيدة في العربية التي لها هيكل ونقطتان:

التاء = هيكل الحرف +  +  = 3 عناصر

القاف = هيكل الحرف +  +  = 3 عناصر

الياء = هيكل الحرف + + = 3 عناصر

مثلّث أحرف كلمة الحرف هي ح + ر+ ف

ح رف = ت ق ي

تلك العناصر شكلية تمثل ثلاثة حركات في الرسم الكتابي أو الهندسي ، وفي جمعها مع بعضها تعطي معنى (تقي) التي تسترجع لنا بدهات قول (المؤمن ، المتوقي ، النقي ) في الصوت والسلوك .

إما الدوران كالمجنون  فإنه لمثلّث الانقلابات الزمانية من الماضي إلى الحاضر إلى المجهول !

لنعمد إلى التدقيق في الآتي /

[ في اليمين شبابي المحاصر بالشظايا والدخان ]

إن إوالية النص الجزئي – هي – الحالة المقاربية بين خيار الحب وخيار الحرب ، على ما فيهما من تضادد ، والحرف – القول – يقارب بينهما في الصوت مع صوتية – حروفية – الرب !

في إلتفاتة أُخرى – النص الآتي- يرى :

[ في اليسار .............

القطار الطويل السريع الذي لا يتوقف

في أيّ محطةٍ أبداً ]

الإستيعاد الأُولي سياقي يستجلب قيم الموروث الشعبي – العمر قطار سريع نحو النهاية أو أن قطار الزمن أسرع الموصلات نحو الدوران الذي يلفظ في طريقه البشر كلهم.

هذه الاوالية سهلة الإقتناص ، قاموسية المعنى ، تحيل إلى مبتدأ الصعود إلى الحالة الآتية .

 

الحالة الثانية : التداول الثنائي المتوسطي /

التداول هذا هو ركن قولي يتحرر قليلا من اوالية الجمالية القاموسية حيث يغور في وسيط ثنائي  ستبين حالته في الآتي /

[ مثلّث الرغبة رأسه إلى الاسفل ]

لهذا المثلّث رأس واحد إلى الأسفل ، وان القاعدة إلى الأعلى ، وهو ما يوهم بوجود رغبة مكشوفة ..

لكن عمقا آخر يتبدى من بين عناصر القول ذلك هو – ان الرغبة مدفون باطني لبوح خوف خائف من سلطة تبرر لنفسها أي مصادرة للكلمة واي قمع للحقوق .

لننظر ثانية /  

[ في الأعلى طفولتي الحافية ، وفي الأسفل صباي الغارق في النهر ]

هنا يتخذ البوح مضمونيين–

 الاول / مضمون الطفولة الفقيرة والصبا الفطري ، كلاهما يلومان الواجب المختل في رعاية الطفولة والصبا .

الثاني / مضمون الوعي الطبقي لمرحلتي ، الطفولة والصبا ، كلتاهما صعبة وممضة ، جعلا الشاعر شاعراً لألم الفقر وجمال الفطرة ، الحفى والنهر.

لننظر أخيرا إلى الآتي /

[ القطار ... لا يتوقف .. رغم احتجاج الركاب ودموعهم وصيحاتهم ]

الانزياح في النص يبتغي عدميتن :

الاولى / الزمن يسحق الأمنيات بالحياة الدائخة .

الثانية  / ان الدموع والصيحات هي آهات عجز وذلة .

يمكننا أن نخرج بإنزياح ثالث هو أن القطار والزمن سيوقفهما العمل المنتج للسعادة ، لكن هذا الانزياح لا ينتمي لهذه الحالة (المتوسطية) ، انما للحالة التي تليها .

 

الحالة الثالثة : التداول التكاملي المتنامي /

إنه تمثيل للتداول الثالوثوي الذي يدخل في صلب عملية التأويل الحاوية لطبقات المعنى المنتجة بإستمرار .

[ مثلّث القوة :

رأسه إلى اليمين

ومثلّث العبث والسأم :

رأسه إلى اليسار ]

لهذا المقطع عدة طبقات من المعاني التأويلية ، سنكتفي بثلاثة منها ، ونترك البقية تنمو بطلاقة حرية نمو مدارك القراءة للآخر .

ــ القوة هي قوة السلطة القامعة ، سياسية شبه مجرمة ، ضحاياها شعراء العبث والسأم

ــ الوعي بقوة السلطة دفع إلى العبث والسأم كحالة تراجع لا ثوري !

ــ إن الوعي بقوة السلطة يقابله الوعي الآخر ، الذي يصيغه العابثون بمصائرهم ، 

*إن طبقة مثلّث وعي الحالمين ، المؤمنين بغد جديد حتمي يغيّر المصائر والحضارة   والظرف السلوكي للبشر ، وبحيث يصيّر – يوما ما- الحرف فعلا عالي التأثير

الطبقات الثلاث الممثلات للقول وللصورة هنّ مدار تداول قرائي ينمو بثلاثة إتحاهات: الوعي الثقافي للشاعر، الوعي الجمالي للناقد ، الوعي الاتصالي للجمهور، الذي ينمو حسب الخزين الحضاري للافراد والمجموعات في صعودها التأريخي لفهم الضرورات الفنية للوعي.

 

الحالة الرابعة : التداول المتنامي المطلق

في هذه الحالة يمكن للقول الشعري أن يصير مصدر تأويل لأربعة مستويات تداولية

هي /

(أـ التداول المتعالي ب ـ التداول النصي ج ـ التداول المثالي د ـ التداول المطلق)

لننظر في :

[ في اليسار شيخوختي التي تشبه

 مسافراً سعيداً

في قطار الجنة الذاهب إلى جهنم ]

حسب التداول – أ – يتكون في المقطع الآتي

(الفكر + تقدم العمر = سرعة الرجوع إلى أصل الجحيم ـ الأنا ـ )

وحسب التداول – ب – النص يزرع نقائض القول اليومي بنقائض أُخرى

بحسب التداول – ج – النص مماثلة قولية شكلية  مضللة بين أُفول العمر وسعادة المسافر التي يراد منها قول : أن الأُفول والسفر يتجهان نحو خلود أرضي

وبحسب التداول – د – المطلق ، تتكون الدلالات البؤرية الآتية /

الاطلاق الاول /

 مثلّث ، الطفولة ، الصبا ، الشيخوخة ، يتجه نحو نقطة (حرف) في كلمة ثلاثية (موت) وأن الـ – ت – هي من الحروف ثلاثية التشكل ، وهو ما يكوّن رمزا مثل مرموزات نون النسوة – ن – أي رمزاً أثيرياً .

الإطلاق الثاني/ ـ

 هو (أن جنة الله على الارض وما لم تطأها قدم الشاعر فهي جهنم ، وأن القطار – العمر – لن يسافر  إلّا من تاء الولادة نحو تاء الموت.

الإطلاق الثالث /

 يتبنى بث الآتي (إن السفر بين الجسد والروح هو سفر فلسفي وقيمي يتراوح بين الحيوي وغير الحيوي

الإطلاق الرابع ــ يتوسع إلى الآتي :

(ان المسافة بين الجنة والنار هي إمتداد لقصيدة يخضع لها العمر من البدء حتى المنتهى ، أن ثلاثة متجهات توظب ذلك هي ، ولادة ، حياة ، موت ) أو (قد يكون الفشل عندما يبتديء الفرد بالولادة وينتهي مباشرة بالموت، لأن القصيدة هي الحياة ومن لا يملك سحرها ليس له مسافة بين (ح) الحياة و(ت) الموت!

ترى أية غابة ستحقق غاية التأويل؟ 

 

 

الوحدة الثانية : غايات التأويل

 قصيدة: قال الحرف: ما معنى النقطة؟

(قالَ النهر: ما معنى الماء؟

فارتبكَ بشدّةٍ وكادَ قلبُه أنْ يتوقّف.

قالَ الغراب: ما معنى الحمامة؟

وضحكَ بخبثٍ ضحكةً صفراء.

قالَ الحرف: ما معنى النقطة؟

ومسح بألمٍ صورتَها من كتابِ الوجود.

قالَ الموت: ما معنى الحياة؟

وغسلَ بلا مبالاةٍ يديه الضخمتين من الدم!)

من مجموعة – الحرف والغراب – ص67

 

قصيدة: مائدة في بانكوك

(في بانكوك

يضعُ الناسُ على مائدتِهم

رغيفَ بوذا

وكأسَ الإثم

وسمكَ الحظّ

وفاكهةَ القناعة.

ثُمَّ إذا ما انتهوا من قليلِ الطعام

شربوا قليلاً من شاي السعادة.

من مجموعة الحرف والغراب – ص 19

أــ عمائر فتنة البيان في (قال الحرف : ما معنى النقطة؟)

*العمائر

المعمار الاول :

تنطوى المقاطع الاولى –  قال الحرف – على وجود معماري جملي هو :

( قال النهر – قال الغراب – قال الحرف – قال الموت )

وتتشكل هيئة القول على جمل لمعمار سردي يبدأ بفطرة وشفافية الاشياء وهيأة تشكل الأجساد -عبر- الماء ، ثم يتم الوجه الآخر ، منطق التتابع الهرمي لحالة النضج ثم الانتفاخ ، ثم ضخ الجديد ، الملون ، المخاتل ، المخزّن ، المخابث ، المرائي ، نذير خير أو شر ، شؤم أو أية أشياء مؤصلة لقوى الدمار الارضي .

ثم يتسع المعمار ليشكل أعرض قاعدة ، قاع متسع يضمّ النهر والشر ، ذلك هو الحرف ، المقام القولي  المعبّر عن الحالات ، المغامر بالكلمة ، المتواري خلف المسميات حتى يعلن استسلامه للقاعدة الأكثر سعة منه ، الأكثر توقاً للتدمير، الأقرب إلى المصائر الهالكة ، النهائية ..

إنه قول الموت ، معمار الخلود في التلاشي عن الحياة ، الآخرين . يمكننا عدّه سلطة لها القدرة على غسل الوجود بالدم ، والدم بالتلاشي !

إذا هرم التشكل المعياري له أربعة أبواب ، باب صغير هو النهر، وباب أوسع هو الغراب، وباب أوسع من القبل هو الحرف ، والباب الأضخم في الإبتلاع ، الموت    

من المهم معرفة الآتي : أن كل باب يتقدم الاكبر منه ويدخل في الاصغر منه ، حتى لكأن جُدُر الممر المؤدي إلى باب الموت هو توال إتساعي حتمي الإيصال إلى ما يعقبه مثل أي قدر محكم الطوق

المعمار الثاني : يتألف من جمل المقول التي تستدعي أسئلة لا جواب لها .. لا منفذ فيها .. لا غاية مظهرية تحتويها ! إنها أسئلة ، الشك ، ثم الإخبار ، ثم الحكمة ، ثم الإقرار بالاندثار ! يمكن تصوّر معمارها الهرمي بالتساؤلات الآتية /

ــ ما معنى الماء ؟

ــ ما معنى الحمامة ؟

ــ مامعنى النقطة ؟

ــ ما معنى الحياة ؟

إن الأسئلة هذه تحفّز على تبنى المنطق الآتي ــ ضمن إطار المعمار أعلاه ــ :

الماء = حيوية بدء الخلق

الحمامة = السلام

النقطة = المعرفة

الحياة = الزمن الحركي للوجود

وهي تتخذ  من الإستنكار مظهرا يدل على أسئلة /

ــ أيكون للماء حقا معنى فعل الخلق ؟ سؤال تشككي

ــ أتكون الحمامة موحية بالسلام الأرضي البشري ؟ سؤال إخباري

ــ هل النقطة نقطة بدء الحكمة والتعلم وكتابة أنفاس الخلق على الألواح ؟ 

  سؤال حضاري حكيم

ــ أيمكن لحياتنا إقرار الفرار من حتمية المحو ؟ سؤال إقراري

المعمار الثالث : هيئة المتسائل ، حيث هي هيئة ذات متشظية بين عرضية أفاهيم /

(الخير ، الطمأنينة ، الغدر ، الهدى ، الغي) متشاكلة مع بعضها بخيط جملي يؤالف جزئياتها بتوالٍ هيكلي كالآتي /

ــ يرتبك الماء بشدة = ذات لمتسائل عن خير غير مؤكد

ــ معنى الحمامة سر لطمأنينة آتية = ذات لمتسائل عن مغامرة مؤكدة

ــ الضحك الخبيث للغراب = ذات لمتسائل عن ذات فائقة الحيلة والذكاء

ــ النقطة المعرفية صورة لكتاب الوجود = ذات متسائلة عن جدوى الالفة مع هدى الحاضر

ــ أيدي الموت المدماة = ذات لمتسائل عن القدرية القاهرة المتماسكة ، أزلية العنف 

المعمار الرابع : ظرفية الاحوال ، التي تتراكب برتب خاصة مثلما في التصور الآتي

النهر بقلبه المتوقف – تركيب من الرتبة الاولى

الغراب بخبثه الضاحك – تركيب من الرتبة الثانية

الحرف المتباهي بفعله الإنشائي – تركيب من الرتبة الثالثة

الموت المتعاظم بيده المدماة ــ ترتيب من الرتبة الرابعة

 

*ما وراء عمائر البيان تم ذكرها  كما يمكننا توضيحهها ثانية بالقول الآتي :

إنها ببساطة تقانة عمائر منبثة في منطق اللغة لتؤلف تدرجا للذات الشعرية في

ــ لغة الشعر لغة لجماليات الحياة

ــ جماليات الحياة مقولات مصاغة من صور تخيل

ــ تخيل الأشياء أشياء

 ــ الاشياء تمرحل الزمن بكمّه وكيفه ، جدواه وفوضاه

ب ــ منمنمات شرائح القول في مائدة  في بانكوك /

رجل قدم بألواح بابل ، وأحرف سومر، ومنمنمات العثمنة ، وزخارف الأسلمة

هذا الرجل الخليط قد غادر ليلهو ، بمصيره مرّة ، وبأدبه مرّة ، وبأصدقائه مرّة ، وها هو يلهو بالأُرث الإنساني الأوسع  إنه لهو أبيقوري بحيلة سقراطية ،

 كيف يتسنى له هذا اللعب كله؟

بانكوك! سعة خضراء ، زرقاء ، حمراء ، هلامية ، صوفية ، حروفية ، فوضى بنظام ، نظام في بنى ، جهد شعب، بذل أخّاذ ، وكل بذل ترافقه خسارة  كل خسارة تعيد للبناء متصلاته 

هكذا هو الطريق إلى مائدة بانكوك ، بانكوك المكان والزمان والبشر

مكان يبيع كل شيء ، يشتري كل شيء ، يعيش من كل شيء خليط من (الحكمة ، السلوك ، الإحتفالية ، النشوى ، المتعة ، الطيبة ، العطاء ، التسامح ) 

يا له من مكان مثالي للأفكار والأقدار  والإطمئنان البشري !

يا له من فسحة تدوين !

بانكوك هي إذا مدونة ، لم يلهو بها أديب كمال الدين بل أراد أن يدون من خلالها تراث الشرق لبابل وجنوب شرق آسيا 

أجد في الانغام الآتية جل هذه المنطلقات على هيئة شرائح بيانية لبنية نص في بيان:

الشريحة الاولى / رغيف بوذا

الرغيف : رغبة العيش ، رمز الخير ، مثال الإطعام لدى الشعوب جميعا .

الرغيف فن الإنسانية التي كرّمت الارض بتحميص حَبَها ، وطحنه وهرسه ومضغه والتعفف به عن غائلة الجوع والزلل .

بوذا : رمز - القداسة ، الطهارة ، العبادة . ومشعل – الهوية ، النبؤة ، الشعوب ، القبائل .

بوذا الطقوس ، العقائد ، المشاغل ، الامتداد الزماني ، إندثاث كونية في الشيء واللاشيء .

حين ينسرب النغم من تحت رغيف بوذا فأن هذا سيغني طاقات عدة منها

ــ الجسد والروح كائنان لا حدود بينهما

ــ الحياة نبتة من الغذاء والجلال

ــ الخير مبذول مثلما إمتداد لا محدود

ــ الشعر إمتثال أصيل للمناغمة بين الوجود والخلود

 

 

الشريحة الثانية / كأس الإثم

هي الكأس الضالة عن إعتدال العبادة ، والمُلكية ، والرغبات المنحرفة ، والحكمة الخاطئة ، والافعال الداجنة ، والإنتماءات الناقصة .

وفي إقتران الكأس بالشرب مثلما كأس المسيح (ع) ، وإقتران الألم بالمائدة تتصيّر لنا كؤوسا مختلفة ، منها :

ــ كؤوس التنادم والندم ، الإعتراف والإنتشاء

ــ كؤوس التبادل والتصادم ، التوافق والنفاق

ــ كؤوس الحلم والضياع ، الحب والتماسك

ــ كؤوس التجاوز والعداوة ، الخذلان واالاغتصاب

الشريحة الثالثة / سمك الحظ

شعوب البحار وواجهات الجزر ومنصات التيارات ومحاذيات الشواطيء ، لابد لها من حظ.. حظ للعيش بسلام ، حظ للرزق الحلال ، حظ للزواج المتزن، حظ للتآخي..

لكن سمك الحظ قد يكون ملوّنا ، قاتما ، أبيض ، أسود.

سمك الحظ قد يعني دوحة خلط العقول ، أو دمعة عيون راهبة ، أو نسمة هواء رطبة، أو خلجان أنفس لاهفة ..

لكنه سمك !

قد يكون مأكولاً دسماً طيباً سهلاً ، أو شهياً بهياً بالفرح العائلي .

وحين يكون رغيف بوذا غطاء لسمك الحظ وللغناء وللبهجة سنظن بأن السمك يعين على :

ــ تحقيق / الرغائب كلها ، الخوارق ، المتع ، الخروقات كلها .

ــ إظهار / التفاوت الخلقي ، التمايز الطبقي ، التجانس البشري ، التفاهم الأثني .

ــ احترام / النعم ، الأخلاق ، القيم ، القدر .

ــ انتظام  / الرقص باللبس ، الضحك بالفخر ، الغناء بالأرث ، الإحتفاء بالغناء .

الشريحة الرابعة / فاكهة القناعة

هي فاكهة لا ملمس لها ، هلام من تركيب ، نسيج من مآثر ، إغواء من تعاليم بوذا

فاكهة قناعة بماذا ؟

أبالعيش الرغيد ، المستقر ، الوثير ، المثمر ؟

أم بالحياة الدافقة ، الراعشة بالحب ، المجازفة بالتأمل ، الجارفة بالتكاثر ؟

أم بالحضارة ، الفطرة ، الثقافة ، العلم ، الاجتماعية ؟

أم بالطبيعة ، متفوقة الجمال ، مترامية الأُفق ، متعالية النمط ، متوارفة الفنون؟

إن القناعة وكأس الألم ورغيف بوذا لا يجتمعون عند ((شاي السعادة)) ،

شاي السعادة هو :

شاي مخلّق ، ممزوج ، مسكّر ، مخزون . شاي له ذاكرة بابل والدورة ، ودجلة ، وباب المعظم ، شاي صنعه شاعر عجينته أغصان الشطوط ورمل الحواف ، وقرميد البساتين ، ونواح الفخاتي . شاي وضع موقده على شفى (النار والبهار) بين كركوك والعشّار . شاي الأُمهات ، الصغيرات ، الحكواتيات ، المترملات.  شاي من خيبات السبعين ، وحرب الثمانين ، وغربة التسعين وإفلاس الألفين . شاي لا تغيّره بانكوك  ولا نابلي ولا سدني  ولا حتى حدود الموت.

إنه شاي العباس ، المآتم والأعراس ، شاي المتعبين ، الغائبين ، الساهرين ، الحكماء ، الضّالين ، حارثي الأرض حياءً وهياماً .

ــ ــ شاي السعادة لغز في قصيدة  روح الشاعر القائلة بالشوق والحنان والالتصاق بذرار وغبار وبذار ودمار البلاد، هذا الشاي ليس له مائدة إلّا في الضمير ، إلّا في توق الأماني واستجذاب الأحزان!

                   

***********************************************

*الحرف والغراب: شعر: أديب كمال الدين، منشورات الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان 2013

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home