من موقف الألف إلى موقف الجَنَّة

 

 الشاعر أديب كمال الدين يلَج بيت الله فيعثر على طمأنينته

 

 

 

لندن / عدنان حسين أحمد

 

 

صدرت عن "الدار العربية للعلوم ناشرون" ببيروت مجموعة شعرية جديدة للشاعر أديب كمال الدين حملت عنوان "مواقفُ الأَلف". تضمّنت هذه المجموعة "55" نصاً شعرياً بما فيها الـ "مُفتَتح" الذي يشكِّل عتبة نصيّة يكشف الشاعر بواسطتها استعارته لكلمة "مواقف" من المتصوِّف الكبير محمد عبد الجبّار النِّفَّري، صاحب كتاب "المواقف والمخاطبات"، كما تمتّد الاستعارة إلى حدّ التعالق مع الجملة الاستهلالية لكل موقف وهي "أوقفني"، والفاعل هنا ضمير الغائب "هو" الذي يعود إلى لفظ الجلالة الله سبحانه وتعالى، الذي يمسك بتلابيب الشاعر، ويضعه في خضَّم هذه المواقف التي تبدأ يـ "موقف الألف" لتنتهي بـ "موقف الجنَّة".

 

 ليس بالضرورة أن نبدأ بتحليل القصائد حسب تسلسلها الذي ورد في الديوان، وإنما سنتوقف عند القصائد التي تعالج موضوعات كونية شاملة تتوفر في الوقت ذاته على نَفَسٍ درامي يتصاعد ضمن مناخ بنية محبوكة توحي للقارئ وكأنه أمام قصة قصيرة مشذبّة ومكثّفة تخلو تماماً من الترهلات والزوائد اللفظية. ربما يكون "موقف الحيرة" هو خير أنموذج للقصائد المرّكزة التي يستقطر فيها الشاعر عسل الكلام سواء بتشبيهاته واستعاراته الفنية أم بصوره الشعرية المبتكرة كما هو الحال في هذه القصيدة أو في قصائد أخر مثل "موقف الغربة" و"موقف الجسد" و"موقف الطاغية" وسواها من النصوص الشعرية التي توحي وكأنها منحوتة بإزميل نحّاتٍ شديد المرونة والمراس. لا شك في أنّ الغالبية العظمى من الناس تعرف أسماء الله الحسنى وصفاته التي لا يضارعه فيها أحد، ولسنا في وارد الحديث عنها قدر تعلّق النص الشعري بالذات الإلهية التي شرّفت النص بصفة الخالق الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وصفة العليم الذي يحيط علمه بكل شيء.

 

 يستهل الشاعر أديب كمال الدين نصه باللازمة التي ستتكرر على مدار النصوص كلها مع تغيير عنوان الموقف أو ثيمته الرئيسية:

"أوقفني في موقف الحيرة

 وقال: خلقتُكَ يا عبدي وأنا أعرفُ حيرتَك".

 

 ولأن خالق العبد والعارف بحيرته هو الله سبحانه وتعالى فإن منظوره لا يقتصر على زاوية محددة، فهو الكليّ والمهيمن الذي يمكن أن يرى الأكوان والمخلوقات جميعاً من أية زاوية يشاء، فلا غرابة أن يرى البحر والصحراء والغيم كأشياء صغيرة يحيط بها من كل الجهات، لكنها ليست كذلك بالنسبة لنا نحن البشر، ولهذا فإنه حينما يخاطب الشاعر قائلاً له: "حيرتك أكبر من البحر" فهو يعني هذه الشساعة التي يستطيع أن يتخيلها العقل البشري، ولا يستطيع أن يلّم بها تماماً لكي يظل البحر كبيراً، واسعاً كأنه لا نهاية له. إن حيرة شاعرنا أديب كمال الدين هي ليست حيرة عابرة، لأنه ليس معنياً بهذه الحياة الفانية، وإنما يطمع بالحياة السرمديّة الخالدة، فلا غرابة أن تكون حيرته "أقسى من الصحراء"، و "أبعد من الغيم"، ولكن اللافت للنظر أنها "أقربُ من القُرب"، وهذا هو اللعب الفلسفي في النص الشعري العميق الذي ينتقل فيه الشاعر من عِظم البحر، وقساوة الصحراء ووحشتها، ونأي الغيم في عالي السماء إلى هذا الدنو الذي لا نستطيع أن نتخيله إلاّ في داخل الإنسان، هذا الكائن البشري المُحيِّر أصلاً الذي قيل فيه:

 "أتحسب أنك جرم صغير / وفيك انطوى العالَم الأكبرُ".

 

 يعتمد الشاعر أديب كمال الدين على أسلوب "السهل الممتنع" في كتابة غالبية نصوصه الشعرية، ولكن هذه السهولة، أو قُل العفوية إن شئت، تفضي إلى بنىً جديدة، وصياغات غير مألوفة. لنمعن النظر في قوة التضاد الكامنة في التساؤلين التاليين اللذين يقول فيهما:

 

"فكيف ستنجو منها

وأنتَ كلّما صُمتَ

ظهرَ لكَ العسلُ شَهيّاً

فارتبكتَ؟

وكلّما ترمّزت

 ظهرَ لكَ المَخفيُّ جليّاً

فأعلنتَ"؟

 

 إذن، كيف سينجو الشاعر من حيرته العظمى فهو إذا صام ظهر له العسل، وإذا ترمّز تجلّت مخفياته إلى العلن، فليس أمامه إلاّ أن "يتمسّك ويتنسّك ويتماسك"! لأن الله يخشى على عبده، المفتون به، من أربعة أشياء اجترحها في مفتتح القصيدة من البحر والصحراء والغيم وحبل الوريد. وعلى الرغم من خطورة غدر البحر، وجسامة عاصفة الصحراء، وهول ضياع الغيم، إلا أن الخوف من حبل الوريد هو منتهى الذعر الذي يبلغه الكائن البشري إذا وضعت حدّ الموسى عليه.

 

تناول العديد من الأدباء موضوع الغُربة وكتبوا عنها آلافاً مؤلفة من الكتب، كما عالجها الفنانون والموسيقيون في أعمالهم الفنية، وأسهبوا فيها إلى حدّ الإطناب، إلاّ أنّ شاعرنا المبدع أديب كمال الدين كان غاية في الإيجاز، فقد أمسكَ بجوهر بهذه الفكرة وقدّمها لقارئه على طبق من ذهب، ولا أستغرب فرادته في هذا الصدد، فهو الحروفي الأمهر القادر دوماً على ترويض الأفكار العصيّة المراوغة التي لا تستسلم إلاّ للمبدعين الكبار الذين يتوفرون على خبرة طويلة في لَيّ أعناق الثيمات الشائكة التي تهّم خاصة الناس وعامتهم على حدّ سواء. وربما لا يفلت أحد من الإحساس بالغربة أو الشعور بها بين أوانٍ وآخر حتى لو كان مقيماً بين أهله وذويه، فذاك هو أبو حيّان التوحيدي الذي قال ذات مرّة: "وأغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه"، فكيف بالناس الذين يعشيون بعيداً عن أوطانهم وقد اشتطت بهم المزارات إلى مشارق الأرض ومغاربها؟ لندقق في الأسلوب المرهف الذي اتبّعه أديب كمال الدين في التعاطي مع الثيمة الكونية المؤرِّقة. فهو يرى أنها تبدأ من الروح، وهذا أصعب أنواع الغربة، ثم تنتقل إلى القلب، ومنها إلى اللسان فالأصابع لتنتهي بالجسد. يعتقد بعض الكُتّاب والمفكرين أن غربة اللسان عسيرة، فمن الصعب أن تكون أخرسَ بين أناس يتكلمون، وليس أمامك إلاّ أن تستجير بلغة الأصابع وتعبيرات الجسد لكي تتواصل معهم أو تسجّل حضورك بينهم في الأقل.

 

 يُطعِّم أديب كمال الدين قصائده دائماً بصورٍ شعرية مُستقاة من الطبيعة، كما هو الحال في قصيدة "موقف الغُربة"، ربما لكي يخفِّف عن قارئه وطأة الإحساس بالمناخ الواحد، خصوصاً إذا كان هذا المناخ فلسفياً أو منطوياً على بعض الأفكار والموضوعات المجرّدة، ففي هذا النص يتحدث عن غُربة الليل، وغُربة النهار، وغُربة النجوم، وهذه الغُربات جميعها تحثُّ على التأمل والاستغراق في التفكير الطويل في الأسرار الكبيرة التي ينطوي عليها هذا الكوّن المحيِّر. ثم ينتقل شاعرنا المجوِّد من تلك الغربات المجرّدة إلى غُربة الأنفس والأرواح والعقول للأنبياء الذين محضهم الله جلّ في علاه محبة خاصة مثل نُوح وصالح وموسى وعيسى ويوسف ويعقوب ومحمد الذي أرسله رحمة للعالمين ثم ينهي هذه القائمة الطويلة من الأنبياء الذين كانوا يشعرون بالغربة والاغتراب في آنٍ معاً بالحسين، سبط الرسول محمد وقرّة عينه، لكنه يلوي عنق الفكرة لمصلحة النص الكليّة حينما يحدِّد غربة رأس الحسين بالذات، هذا الرأس الشريف الذي حملته الرماح الأموية إلى دمشق ليظل غريباً عن جسده وأهله وذويه ومضاربه التي دافع من أجلها. نادراً ما تقترح النصوص الأدبية برمتها حلولاً، ولكن الشأن الفلسفي الذي يشغل الشاعر أديب كمال الدين هو الذي يدفعه في ثنايا هذا النص المكتنز بالحِكم المُعبِّرة، والصور الشعرية الجميلة إلى اقتراح بعض الحلول التي استقاها من الله سبحانه وتعالى الذي يخاطب الشاعر في "موقف الغُربة" تحديداً وهي الدوام على العبادة، والوقوع في الحُب أو التماهي بعشق "الحيّ القيّوم الذي لا تأخذه سِنة ولا نوم" لنقرأ هذه الأبيات المركّزة التي تُنجي من الغُربة وتقهرها وتجعلها نَسْياً منْسّياً:

 

"مَن عبدني نجا من الغُربة

 ومَن أحبّني قهرَ الغُربة

 ومن عشقني كانت الغُربة عنده نَسْياً مَنْسيّا".

يقدِّم أديب كمال الدين في كل نص من هذه النصوص الشعرية الأصيلة الجميلة خلاصة لفكرة مؤرقة، أو قصة موجزة لآية قرآنية، ولأننا لا نستطيع الوقوف عند قصائد المجموعة الشعرية كلها، فسنكتفي بالإشارة إلى بعضها معوّلين على حدْس القارئ الكريم الذي يعرف أن الجزء الناتئ من جبل الجليد إنما يكشف للقارئ التسعة أعشار الغاطسة منه. ففي قصيدة "موقف النون" عدة أفكار مهمة من بينها المرأة والمسرّة والنعيم والغربة والعدم الذي تستّر بصيغة الرماد إلاّ أن فكرة الموت أو المصير المحتوم الذي سوف يواجهه كل كائن بشري على وجه البسيطة هو المهيمنة الأساسية التي يختزلها في هذه القصيدة بالقول:

 

"إنّ مَن عرف النونَ فقد أبصر

 ومَن أبصرَ خفّف الوطء

 وعرفَ أنَّ الكلّ إلى القبرِ يسعى".

  ينجح أديب كمال الدين في بعض قصائدة التي تتمحور حول أنبياء وأئمّة وصالحين أن يقدّم موجزاً لآيات قرآنية عديدة بحيث يزوِّد القارئ بمعلومات وافية عن هذه الآية القرآنية أو تلك، ويلّم بأحداثها، وتفاصيلها الدقيقة، وعِبَرها، والدروس المستخلصة منها وربما تكون قصيدة "موقف نُوح" خير أنموذج لما نذهب إليه. فهذا النص الشعري يتحدث عن صبر نُوح وعذابه ومحنته، فقط ظل ألفاً إلاّ خمسين عاماً وهو يذكِّرهم بآيات ربه، لكنهم كانوا يزدادون كفراً وطغيانا، وقد أوحى له ربّه أن يصنع فُلْكاً يضع فيها من كل زوجين اثنين إلى آخر هذه القصة المعروفة التي تجاوز فيها نوح الطوفان. ثمة قصائد عديدة تقدّم مثل هذه الخلاصات المكثفة بمساحة شعرية لا تتجاوز الصفحة الواحدة أو الصفحتين في أكثر الأحوال.

ينهمك الشاعر أديب كمال الدين بثنائيات عديدة ربما تكون أولّها "الحرف والنقطة" وآخرها "السجن والحرية". وفي هذا النمط من الثنائيات المغرية التي تزوِّد القارئ بصور شعرية لا تغادر ذهنه بسهولة. فالمًخاطَب في هذه النصوص كلها هو الشاعر نفسه، وهي تقنية ذكية في تقديم الذات على الموضوع. في هذا النص سنعرف بأن الشاعر ينتقل إلى سجون كثيرة تبدأ بسجن الشهوة والفنتة، وتمرّ بسجون الشِرْك، واللعنة، والرغيف، والماء، والفَقر، والدينار، والخوف، والأمل، والحُلم، والسُلطان، والانتظار، والعبث وتنتهي بسجن الحرف والنقطة. وعلى الرغم من ولع الشاعر الحروفي أديب كمال الدين بالسجنين الأخيرين إلاّ أن الله الجواد، الرحيم، الودود يقترح على شاعرنا أن يحرِّر نفسه بواسطة محبة الله لأن الكائن البشري المقيّد بالسجون المذكورة سلفاً لا حريّة له إلاّ في مملكة العارفين الذين يعبدون الله ويعشقونه، ويتماهون في ذاته المهيبة الجليلة القدر.

 

مثلما ينقلب النعيم إلى رماد في "موقف النون" ينقلب تاج الطاغية وعرشه ومائدته وملاعقه وخواتمة وأصابعه إلى رماد في رمشة عين إذا ما جاء اليوم الموعود. ولنا في ثورات الربيع العربي شواهد كثيرة. يا تُرى هل يرعوي البقية الباقية من الطغاة الصغار ويتأملوا "موقف الطاغية" كي لا يكبر الوحش في أعماقهم، وتطول مخالبه وأنيابه فيطغى ويتجبر من دون أن يفكِّر باليوم الموعود الذي يزلزل الأرض تحت قدميه ويُفرَد في بقعة مجهولة إفراد البعير المُعبّد.

 

سأتوقف أخيراً عند "موقف البيت" الذي يشير بوضوح إلى محنة الشاعر أديب كمال الدين نفسه، فهو الغريب والمغترِب في هذه الحياة الفانية، بل هو الهائم على وجهه يتنقّل من بيت الفرات إلى بيت الرماد، ومن بيت البحر إلى ما وراء البحر يبحث عن مأوى وطمأنينة جدار. ولعل أفضل ما يفعله هو أن يدخل بيت الله بعد طول تشرّد وضياع ليجعل من حرفه ونقطته جدرانً طمأنينته الأبدية.

 

***********************

 

·       مواقف الألف: شعر: أديب كمال الدين – الدار العربية للعلوم ناشرون– بيروت، لبنان 2012

·       نُشرت في ملحق – أوراق – صحيفة المدى البغدادية 20 – 5 - 2012

 

 

الصفحة الرئيسية