قراءة في كتاب الباحثة حياة الخياري:

أضفْ نوناً: قراءة في "نون" أديب كمال الدين

 تقنية التلاقح والتناص بين الشعري والصوفي والقرآني

 

 عدنان حسين أحمد - لندن

 

 

صدر عن “الدار العربية للعلوم ناشرون” ببيروت كتاب نقدي يحمل عنوان “أضِف نُونًا: قراءة في “نُون” أديب كمال الدين” للباحثة التونسية حياة الخياري. وهذا الكتاب هو أربعة فصول مُستلّة من أطروحة الدكتوراة التي تقدمت بها الباحثة إلى جامعة سوسة عام 2011 ونالت بها شهادة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى. وقد انضوت الأطروحة الأساسية تحت عنوان “الرموز الحرفية في الشعر العربي المعاصر: دراسة في أعمال أدونيس، وأديب كمال الدين، وأحمد الشهاوي”.


يتألف الكتاب النقدي بصيغته الحالية من مقدمة وأربعة أبواب وخاتمة. وقد بذلت الباحثة قصارى جهدها في تحليل المنحى الحروفي للشاعر أديب كمال الدين بشكل عام، والتركيز على نُونياته بشكل خاص

.تناولت الباحثة في مقدمتها لهذا الكتاب كلمتي “الرّمز” و “الحَرْفُ” والأسس الصوفية التي تعزز رأيها في هذا الصدد تحديداً. وقد اعتمدت على تعريف محي الدين بن عربي للرمز بأنه “معنىً باطن مخزون تحت كلام ظاهر لا يظفر به إلاّ أهله”، وهذا يعني أن هناك كناية خفيّة للمعنى الباطن تحتاج لمن يستجليها ويُمسك بها لكي يلامس المعنى، ويعرف كُنه الرمز ودلالته، وما ينطوي عليه من إشارات عصيّة وإيماءات مراوغة. وذهبت الخياري أبعد من ذلك حين قالت بأن “الرمز انبثاق من الذات الإلهية وارتداد إليها”.
أكدّت الباحثة بأن السمة البارزة في منظومة الرمز الحَرْفي للشاعر كمال الدين أنه لم يتبيّن الملمح الصوفي الحَرْفي بمعزل عن رافده القرآني، كما لفتت الانتباه إلى أنّ ثنائية الحرف والرمز “تتضمن ثنائية الظاهر والباطن، أو التصريف والتكثيف التي كثيراً ما استبطنها الشاعر واعتمدها ركيزة للدلالة الرمزية في قصائده الحروفية”، لكن السؤال المهم الذي ينبري أمام المتلقي هو: هل يمكن فعلاً قراءة قصائد أديب كمال الدين على وفق هذه الثنائية التي تترجّح بين المنحيين الظاهري والباطني، أو الحقيقي والمجازي في آنٍ معاً؟


لابد من الإشارة إلى الملاحظة الذكية التي أوردتها الباحثة في توطئتها لهذا البحث “بأن الشعراء الحروفيين يجترحون تعريفاً للحرف من أعماق ذواتهم”، وقد وصفت هذا الاجتراج بـ “الذوْتنة”، أي أنّ كل شاعر حروفي يبتدع أو يخلق تعريفاته الخاصة التي تتناسب مع طبيعة تجربته الشعرية التي تُنسب إليه، ولا تُحيل إلى شاعر آخر.


نُون الزمن قاب قوسي الفَلَك والفُلْك

لاشك في أنّ القارئ الكريم يفرِّق بين الفَلَك الذي يعني “المدار الذي يسبح فيه الجُرم السماوي”، والفُلْك الذي يعني “السفينة”، ولابد من الأخذ بعين الاعتبار هذين المعنيين من جهة، ودائرة النون وما ظهر منها وما بطن من جهة أخرى. فالرؤية الصوفية تجسّم هذه الدائرة إلى شرق ظاهر وغرب مستتر، أما النقطة فتصفها بنقطة الوجود. وعلى وفق هذا التصوِّر تعتقد الباحثة بأن التصنيف الفَلَكي لمنازل الفَلَك يقدِّم تراتباً عرفانياً موازياً لمراتب العِشق بين مقام “المكاشفة” ومقام “المشاهدة”، أي بين الرؤية والرؤيا، وثمة فرق كبير بين الرؤية التي تعني “إدراك الأشياء بحاسة البصر”، والرؤيا التي تعني “الحُلُم” أو ما يراه الإنسان في النوم. ومن هذين المعنيين، على وجه التحديد، يتوجب علينا أن نستشف فيما إذا كانت قصائد الشاعر أديب كمال الدين ظاهرية أم باطنية، حقيقية أم مجازية، وهل يمكن إدراكها بالبصر أم بالبصيرة


تتناول الباحثة في الباب الأول من هذا الكتاب شطري دائرة الفَلَك والفُلْك بالتفكيك والتركيب “متخذة من شكل حرف النون وعاءً حاضناً لسائر حروف الوجود الزمني ومنها واو الوقت، ودال الديمومة، وسين الساعة وحاء الحياة”. ثم تنزاح هذه الذات، بحسب الباحثة، عن نُون الفَلَك لتركب نون الفُلْك بقصد السباحة في بحر الزمن الخارقي مع “ذوي النونات” مثل نون الحوت والفُلْك والرحم وما إلى ذلك.
يشتمل هذا الباب أيضاً على فكرة التّناص ”Intertextuality” التي تقوم عليها غالبية قصائد الشاعر أديب كمال الدين التي تنبثق غالباً من نصوص قرآنية وصوفية لتتحول بواسطة بواسطة مخيّلته المتأججة، وبراعته اللغوية إلى نصوص شعرية متفرّدة. وقد أوضحت الباحثة بأن “التداخل النصيّ” يضرب أطنابه في المستويين الاجتماعي والتاريخي وهو موجود منذ الأزل ولم يفلت منه سوى أبو البشرية “آدم” الذي كان يقارب عالماً عذرياً لم يُنتهك فيه الخطاب الأول. أما الخطابات التي تلت خطابات آدم فقد تعرّضت إلى “الامتصاص، أو الاجترار، أو التماثل، أو التعارض”، فلا غرابة إذاً حينما يمتزج الآني بالتاريخي، والحاضر بالماضي، والجديد بالقديم ليكوّن نصاً جديداً يحمل قدراً كبيراً من معطيات الذاكرة الإبداعية الجمعية


نون نوح ونون يونس


ترى الباحثة أن جنوح الشعراء نحو نون الأنبياء إنما يكشف عن رغبتهم الجدية في كسر رتابة الزمن المعياري بواسطة اقتحام زمن خارقي لا مألوف. كما يعبِّر هذا النزوع إلى توقهم الشديد للقيام بمغامرة التيه في بحر اللغة المتلاطم، والتبعثر بين مفاصل الحروف المتحررة من ضوابط “الأينيّة” و “الكيفيّة” و “الكميّة”.
تعتقد الخياري أن الشاعر كمال الدين يقصي النون المعيارية ليستعيض عنها بـ “نون الأنوار” الغارقة في بحر “ذي النون” حيث يدخل الحروفي مكاشفة الذات بعبور معاريج نقطة النون. وربما تكون قصيدة “التباس نوني” هي خير مثال لما نذهب إليه حيث يقول فيها: “هذه قصيدة غريبة / تشبه جزيرة تغرق في البحر / بحر ذي النون”. المهم في هذه القصيدة، كما ترى الباحثة، هو مكان الضياع وزمانه، وليس فكرة الضياع التي يعالجها الشاعر فهي غارقة في نقطة اللا أين واللا متى، ومتأرجحة بين “هلال البحر وهلال السماء”.
تركز الباحثة على التقنية المهمة التي استعملها الشاعر في هذا النص وتم بواسطتها تحوّل الخطاب الشعري من السرد الذي اكتنف عملية الابحار إلى المناجاة التي تستبطن شحناً عاطفياً مكثّفاً يعبِّر عن مدى كفاءة ألف الذات في تحمّل وزر الانحسار داخل بطن النون في سبيل اقتناص نقطة معرفة. كما تلفت الباحثةُ الانتباهَ إلى اقتحام الشاعر ليّم الأنبياء، فالشاعر يستأنس بالشقاء المشترك الذي يمكن تلّمسه بين النبوّة والشعر.
يستثمر أديب كمال الدين التقاطع بين حقلين دلاليين يتيحهما المعجم الرمزي ذو الاستمدادات الصوفية حيث يمتد أحدهما إلى بحار الأنبياء، والآخر إلى بحار الشعراء، لكنهما يلتقيان في أمواج المحبة، محبة الأنبياء للسفينة الخلاص، ومحبة الشعراء للأنثى المتاهة. وتستنتج الباحثة أنّ نون كمال الدين هي أقرب إلى نون القارب منها إلى نون الرحم أو الحوت، لذلك فإنها توضع في مهبّ الأعاصير حتى تختبر مدى كفاءة حروف الشاعر في التجديف ضدّ التيّار. تضعنا النون “القرآ_شعرية” أمام صوتين مباشرين لا يقلّ أحدهما حدّة عن الثاني: صوت الشاعر المستغاث له، وصوت الله المشتغاث به، وهنا على وجه التحديد تسقط واسطة النبوة ليهرع الشاعر صوب حروفه المحتجة.




حينما يربط شاعرنا كمال الدين الصوفية بـ “قلب الإنسان الكامل” فهذا يعني، من وجهة نظره، أنّ بحر القلب هو أعمق البحار، وأن نقطة نون النفس هي أبعد النقاط غوراً. إذا كان الحرف هو السفينة / الحوت / النون فإنّ النبوة هي النقطة، غير أنّ خواء الحرف وحكمة النقطة ينذران بانشقاق الفلُلْك وطوفان الحرف مقابل غرق النقطة بثقلها المحمّل بالإجابات في قيعان بحار قد لا يطال الشعر أغوارها. ثمة سؤال مهم تثيره الباحثة في هذا الصدد مفاده: هل تتوقف مهمة الشعر عند إذكاء جذوة السؤال، أم أنها تذهب أبعد من ذلك؟
ينطوي هذا الفصل على حشد كبير من الأفكار، سواء تلك التي تثيرها قصائد الشاعر كمال الدين أم تلك التي تتناسل جرّاء قوّة الرصد ورزانة التحليل، ولعلي هنا أشير إلى قصيدة “محاولة في أنا النقطة” التي يخلص فيها إلى القول بأنه هو نفسه هذه “النقطة” التي تعمي الحقيقة كما قال الحلّاج:”الدائرة لا باب لها، والنقطة التي في وسط الدائرة هي الحقيقة”.
تستنتج الباحثة صعوبة الفصل بين التجربة المعرفية الصوفية والتجريب الشعري في القصيدة الحروفية كلما اتصل الأمر برمزية نقطة المعرفة المطلقة. وتنتقد الباحثة في هذا الصدد بعض النقاد الذين جردوا الحرف الشعري الصوفي من حمولته الروحية، كما ذهب الناقد ناظم عودة الذي فرّق بين طبيعة النقطة ووظيفتها عند كل من الحلّاج وأديب كمال الدين، ذلك لأنّ الأول يُدخلها في حيّزه اللساني والحدسي لتكون علامة وموضوعاً في آنٍ واحد، أما الثاني فقد أدخلها في حيّزه اللساني فقط. ومع تحفظي الشديد على هذا الرأي فأنا قراءات ناظم عودة تتوفر على قدر كبير من الدقة والرهافة والموضوعية.
ترى الباحثة أن توتر الخطاب الشعري نابع أساساً من وعي الشاعر بالعجز عن بلوغ نقطة المعجزة على الرغم من خوضه في غمار بحار التيه والغرق، ذلك أن نون الأمان قد احتكرها الأنبياء واستأثروا بها دون سواهم، أما الشاعر فهو سندباد محكوم بالأهوال، تماماً كما استأثرت الآلهة بالخلود، وقدّرت الموت على الكائن البشري الذي يتخبط في بحار القلق والضياع والتيه.


********************************************************

* نُشرت في صحيفة المدى - ملحق أوراق العدد  2572   التاريخ  26 - 8 - 2012
    

 

الصفحة الرئيسية

Home