أديب كمال الدين: النخلة ورحيل الزمن الأصيل

 

 

غزلان هاشمي

 

 

وأنا أحاور نص الشاعر المبدع العراقي الأستاذ أديب كمال الدين الموسوم بـ"النخلة" من ديوانه" أقول الحرف وأعني أصابعي" تلمست ذلك الحنين المنساب من الذاكرة والاحتفاء بلحظة غيبها التزييف ليعكس النص أزمة مثقف يعيش راهنه المبعثر ويقابله بهمس الاسترجاع  بحثا عن لحظة الفقد عله يعثر عليها إبداعيا. فماذا يقول نصه؟

العنوان: يتشكل العنوان من ملفوظ واحد "النخلة" التي تحمل دلالة الشموخ والارتفاع والسمو والأصالة والنقاء والصمود. كما تحمل دلالة التحدي من خلال وجودها الذي تحافظ عليه باستمرار وسط بيئة تفتقر إلى كل الإمكانات الطبيعية. وترد النخلة معرفة حيث تهرب من صفة الإنكار متحدية هذا الزمن الذي يحاول طرد صورتها وكينونتها بكل أبعادها الرمزية التاريخية ناحية المجهول حتى تؤكد هويتها المعلومة والموجودة في حكم المعرف به، كما توضع في شكل مبتدأ يغيب خبره، وكأنها تدعو القارئ بإلحاح لمتابعة هذا الخبر المجهول والبحث عنه في ثنايا النص. إذن يكلم النص موجودا حاضرا أصيلا يعيش راهنا مغايرا لا يعترف بلحظته الحقيقية وينكر تمثلاته، وكأن باللغة هنا تعيش وجودا مزيفا أو وعيا مختلفا يعلن عن ارتباكات في الزمن الآني من خلال التصادم بين كينونة تستمد خصائصها من الزمن الماضي وعناصر زمنية دخيلة تسيجها وتحاول إبعادها عن صورتها الأصيلة، ومن ثمة فهي تعلن عن أزمة اللغة وارتباكات الهوية.

لم نكنْ أذكياء بما ينبغي

لنقدّم ولاءنا المطلق

إلى النخلة.

انشغلنا بأدويةِ ضغطِ الدم

ومُسكّناتِ الألم.

 

يكلم النص اعتباراته في حكم الموجود الآني والمقابل نافيا فعله الناقص، وكأنه يعبر عن كينونته الناقصة التي تضفي إليها حالة الفقد، باحثا عن اكتماله في لحظة المستقبل، كما أنه يقيم تعارضا بين ما يجب أن يكون أو ما كان في حكم المفترض آنيا وماهو كائن أو في حكم الموجود الفعلي. حيث يعترف أنه لم يستثمر إمكاناته خدمة للنخلة/اللغة الأصيلة في لحظة ، إذ يؤكد تأزمه حال تأرجحه بين التاريخ المسيج بالعطاء وبين هذا الزمن الآني الذي تبعثرت مكوناته ليتعثر بحقيقة الفقدان "ينبغي ـ نقدم"، ومن هنا يعترف النص أنه أخطأ حينما اعتمد على خصائص نوعية مستعارة ومصطنعة من أجل تضميد جراحاته المختلفة، وأسلم اعتباراته لهذا الزمن الدخيل، في حين أنه لم يلتفت إلى الزمن الأصيل أو الحقيقي "النخلة"، وتعبيرا عن هذا التأزم يربط الشاعر النخلة بزمن المستقبل وكأنه لا يسلم بحقيقة الغياب والانقضاء في حين يموضع العناصر المعبرة عن الزمن الدخيل "أدوية ـ مسكنات.." في الزمن المنقضي رغبة في طردها ناحية الماضي وتهميشها.

لم نكنْ أذكياء، إذن،

 

رغم أننا نعرفُ بهدوءٍ لا يسبقُ العاصفة

أنّ النخلةَ رمز الله

بل هي فاتحة قصيدته الغامضة.

وهي صورة حرفه

وبوّابة نقطته

وبيت نبيّه

وسكينة مريمه.

ويبقى النص نافيا زمنه الناقص باحثا عن إجاباته المكتملة في زمن التحقق الآني "نعرف ـ يسبق"، حيث يعترف بتعدد احتمالات النخلة/اللغة المأمولة آنيا والتي تلف صمت القصيد بهالة من القداسة حال التعثر بالذاكرة ومقابلتها موضوعيا بالحاضر. إذ يكتشف أنها تستعير خصائصها القبلية من النقاء وتلتبس بهوية تشيع هيبة وارتقاء "النخلة رمز الله ـ هي فاتحة قصيدته الغامضة ـ هي صورة حرفه ـ بوابة نقطته ـ سكينة مريمه"، ومن هنا يتوقف الزمن أثناء وضع هذه المقابلات الدينية ، وكأنه يتشبث بلحظة الثبات والسكون رفضا لكل متغير تحمله اللحظة القادمة.

انشغلنا بأخبارِ الفيضان

وأسماءِ مدنِ الزلازل والنكبات

وأسعارِ العملاتِ وعُري النساء العجيب.

وحدّقنا كثيراً في تيجان الملوكِ الظَلَمة

وقصورِ شعرائهم السَفَلة.

 

وفي حين يموضع الشاعر حقيقة النخلة/اللغة في إطار مستقبلي احتفاظا بزمنها ورفضا لتغييبها في المقطع السابق ،فإنه يحدث مقابلة وينزاح بالاحتمالات الواقعة آنيا ناحية التغييب رفضا للتسليم بها "انشغلنا ـ حدقنا"، فكل الممكنات الحاصلة والتي تعبر عن الاهتمامات المستعارة أو المصطنعة "أخبار الفيضان ـ أسماء مدن الزلازل ـ أسعار العملات ـ عري النساء ـ تيجان الملوك الظالمة ـ قصور شعرائهم السفلة"، قد عوضت ذلك الوجود الأصيل أو التاريخ الحقيقي ، ومن ثمة أفسحت المجال لراهن يعيش ارتباكاته لذلك يحاول النص طرده ناحية الفائت.

كنّا أرضيين تماماً،

واأسفاه,

ولم نرفعْ الرأس

لنرى النخلة

ببهائها السحريّ

ولطفِها الإلهيّ

وبركتِها الأموميّة

وحنانها الأخضر

ورطبِها الذهبيّ

إلا في آخر لحظة!

 

 

 

 

ويبقى النص في بوحه محافظا على ذلك التقابل بين الوجود الآني المزيف والوجود القبلي الأصيل، والمتمثل أساسا في النخلة/اللغة، إذ يعترف بتموقعه داخل حدود منخفضة أو حضور تحتي هزيل، مما أخر لحظة الاكتشاف أو زمن العثور على الحقيقة الذي يعلن عن دهشة الحصول على إمكانات النخلة الأصيلة "بهائها السحري ـ لطفها الالهي ـ بركتها الأمومية ـ حنانها الأخضر ـ رطبها الذهبي" حينما تجاهل تموضعها المتعالي والمتسامي بقيمياته الموروثة.

 

*************************************************

 

* النخلة: شعر: أديب كمال الدين- مجموعة (أقول الحرف وأعني قصائدي) – الدار العربية للعلوم ناشرون- بيروت، لبنان 2011 ص 40

* نُشرت المقالة في موقع النور بتاريخ 28 – 11 – 2011

 

النخلة - شعر: أديب كمال الدين

 

لم نكنْ أذكياء بما ينبغي

لنقدّم ولاءنا المطلق

إلى النخلة.

انشغلنا بأدويةِ ضغطِ الدم

ومُسكّناتِ الألم.

لم نكنْ أذكياء، إذن،

رغم أننا نعرفُ بهدوءٍ لا يسبقُ العاصفة

أنّ النخلةَ رمز الله

بل هي فاتحة قصيدته الغامضة.

وهي صورة حرفه

وبوّابة نقطته

وبيت نبيّه

وسكينة مريمه.

انشغلنا بأخبارِ الفيضان

وأسماءِ مدنِ الزلازل والنكبات

وأسعارِ العملاتِ وعُري النساء العجيب.

وحدّقنا كثيراً في تيجان الملوكِ الظَلَمة

وقصورِ شعرائهم السَفَلة.

كنّا أرضيين تماماً،

واأسفاه,

ولم نرفعْ الرأس

لنرى النخلة

ببهائها السحريّ

ولطفِها الإلهيّ

وبركتِها الأموميّة

وحنانها الأخضر

ورطبِها الذهبيّ

إلا في آخر لحظة!

 

 

 

الصفحة الرئيسية