التشاكلات السميولوجية في ديوان: "أقول الحرف وأعني أصابعي"

للشاعر أديب كمال الدين

محمد يوب - المغرب

    عندما يضيق الصدر يتسع الحرف ليعبر عما بداخل الإنسان من أحاسيس ومشاعر ينقشها الحرف على صفحات الذاكرة، وتنقلها قسمات الوجه متباينة بين فرحة اللحظة الجميلة وحزن المشاعر المصدومة بنوائب الزمن ومصائب الدهر.

   تلك هي الحروف التي نشرها الشاعر العربي أديب كمال الدين في ديوانه الجديد: "أقول الحرف وأعني أصابعي" حيث أثث فضاءها بأصابعه التي طرّزتْ جملاً ومقاطع شعرية مزجت بين بساطة اللغة وعمق المعنى، بين عذوبة اللفظة وما تحمله من حمولة فكرية مشحونة برؤية الشاعر إلى العالم.

1: البنية والبناء الفني

عندما نقرأ ديوان "أقول الحرف وأعني أصابعي" يصادفنا العنوان الذي لا يمكن الاستغناء عنه لأنه نص مواز، وعتبة للإطلال على عالم النص، والملاحظ أن العنوان جاء جملة فعلية الغرض منها إثارة الاهتمام لأهمية الحرف في تطريز المقاطع والجمل الشعرية، التي تتخذ معنى استعارياً يحول اللفظة "الحرف" إلى علامة أو إشارة ترمز إلى الأصابع التي تخطّ وتشكّل هذا الحرف بأساليب مختلفة، بل تضحّي بنفسها لتحترق لتضئ شمعة للقارئ المتعّطش للحرف المعبّر.

 والعنوان هنا مثير للمتلقي إلى درجة الصدمة والدهشة، له أكثر من قراءة تركيببية تجعلنا نتساءل عن السرّ في الاستهلال بالجملة الفعلية، وقد تمّ تفسيرها بجملة أخرى فعلية لكن ليست هي معناها الحقيقي، وإنما استخدمت لأغراض أخرى بلاغية، وهذا هو سرّ غموض العنوان وتعدد معانيه ودلالاته، لأنّ لغة الشاعر لغة انفجارية: يكتب بلغة معينة ويقصد من ورائها معاني أخرى.

 وعندما نتعمق أكثر في الديوان نجد أنفسنا أمام مجموعة من القصائد الشعرية التي تدخل في إطار شعر التفعيلة أو الشعر الحر، الذي يكسر سيمترية القصيدة التقليدية ويؤسس لنفسه سيمترية من نوع خاص، سيمترية تحترم مقاييس ومعايير الكتابة الشعرية، فلا يفهم من الحرية الوقوع في الكتابة المبتذلة، ولكن يفهم منها إعطاء الحرية للصور والأخيلة للتحرك داخل فضاء القصيدة للتعبير عن صدق المشاعر وعمق التفكير،عن آمال الحياة وآلام الظروف والنوائب:

(أيّتها المرآة

تذكّرتُك الآن.

تذكّرتُ اسمَكِ وكان مزيجاً من الضحكِ والبكاء

وتذكّرتُ قُبْلَتَكِ وكانتْ مضيئةً بالوهم

وتذكّرتُ موتكِ أيضاً.) ص54

    إن اللغة الشعرية في ديوان: (أقول الحرف وأعني أصابعي) لغة تتكئ على المفردة التي تنهض وتتحرك في مسار عمودي/أفقي من مرحلة اللفظة إلى التركيب، ثم تنهض أخيراً من مرحلة التركيب إلى التعبير، في إطار حركية من السيرورة/الصيرورة الجدلية، التي تحرك مشاعر المتلقي وتورطه في تأمل المشهد وتدفعه لملء الفراغات التي يتركها الشاعر لكي يصبح القارئ عنصراً مشاركاً في عملية بناء القصيدة، على مستوى البنية الفنية وعلى مستوى الدلالة والأبعاد الفكرية.

    فأسلوب النداء له أهمية في هذه القصيدة والغاية منه إثارة الانتباه ولفت اهتمام القارئ لمتابعة ما يجري، وخاصة أن المنادى هو المرآة التي تعتبر عنصراً جامداً في قصيدة متحركة، لكن الشاعر يؤنسنها ويجعلها متحركة بدورها كما يتحرك الإنسان، وتتجاوب كما يتجاوب الإنسان، وتحس بالفرحة فتضحك وتشعر بالحزن فتبكي.

 كما أن اشتغال الشاعر على الثنائيات الضدية (الضحك/البكاء) يزيد من توثر القصيدة واتساع مجال الخيال فيها، وتحرك مستويات التلقي والتأويل عند القارئ، ويصل التوتر مداه عندما ينتقل من مرحلة اللفظة كصفة إلى مرحلة الموصوف، حيث يصبح للفظة دلالات متعددة تتعدد بتعدد القراءات.

   عند تصفحنا للديوان نلاحظ نوعاً من الامتداد المكثف، بخلاف ما تبديه القراءة البصرية، فإذا كان الديوان يتكون من أربعين قصيدة ، فإنه يوحي كميّاً بأقل من ذلك، وهو ما يمكن أن نرجعه إلى عاملين:

- التوازي الحاصل بين مختلف مكونات اللغة والدلالة، ونضيف هنا الإيقاع بمستوييه الداخلي والخارجي.

- خاصية التكثيف الشعوري الذي يمكن التعبير عنه في شكل وحدة متناسقة ومتماهية، أي في شكل علامات سميائية في كثير من القصائد الشعرية المشكّلة للديوان.

 2: تحديدات لابد منها

يحيلنا مفهوم التشاكلات على الجوانب الشكلية التي تتفاعل في إطارها المقومات النسقية داخل الخطاب، ونميزفيها بين مبدأين متساندين:

1: المبدأ التراكمي: (وهو مبدأ جوهري يشتغل في أي نص، وعلى كل المستويات الصوتية والمعجمية والتركيبية والدلالية والتداولية) 1

2: المبدأ الكيفي: وهو مبدأ غائي يروم تأثيث المبدأ الأول وتوزيعه وفق نسق معين يحد ويخفف من طغيانه على حساب المعنى.

ولهذين المبدأين أهمية كبيرة في هارمونية القصيدة وانسجامها على مستوى البنية الفنية والبنية الخارجية. كما أنهما يساهمان في تحديد التشاكلات بمختلف أنواعها وهنا سنركز على التشاكلات المعجمية والتشاكلات التركيبية/الصرفية.

 أ: التشاكلات المعجمية

ونقصد بالتشاكلات المعجمية، جماع الوحدات السميولوجية والدلالية التي تنخرط في سياق نسقي يضفي على النص مقومات الانسجام والتماسك والتفاعل بما يضمن تميزه وتجاوبه مع مختلف المتلقين المفترضين، من خلال مستويات دالة تعمل على استجلاء مضامينه المحتملة، وأهم هذه الوحدات المهيمنة والمتمكنة داخل نسيج الحقول المعجمية ما يلي:

 1: الذات: إنها ذات واحدة لكنها متعددة الأصوات، ذات تعبر عن حال كل المغتربين حول العالم، كل المحبين للوطن، للأرض للحياة بكل تحولاتها عبر الزمن والمكان:

(كلّ شئ مضى

سأحتاجُ إلى كلمةٍ لأصفَ غربتي

وسأخترعها إنْ لم أجدها

........

غربتي هي غربةُ العارفين

..........

غربتي هي غربةُ اليد

وهي ترتجفُ من الجوعِ أو الارتباك،

وغربةُ النقطة

وهي تبحثُ عن حرفها الضائع،

وغربةُ الحرف

وهو يسقطُ من فمِ السكير

أو فمِ الطاغية). ص75/76

 2: العلاقات: في الديوان هناك علاقات متوترة بين الذات والآخر، فيما يشبه نوعاً من الخلاف الناتج عن تصارع وجهات النظر حول طرق وأساليب معالجة القضايا العربية والقومية، وحول الرؤية إلى العالم ككل، ويبدو أن ذات الشاعر لها أسلوبها الخاص في تبني خيارات وقناعات تخصّه ولا يلزم بها غيره:

(أيّها الألف

سيشتمُ همزتكَ شاعرُ الملوكِ الظَلَمة،

وسيحاولُ أنْ يعضّها

الكلبُ المغربيّ،

وسيحاولُ أن ينالَ من أبجديتك

كاتبُ التقاريرِ العراقيّ

وسيحاولُ أن يسرقَ جوازَ سفرك

اللصُّ المصريّ). ص62

 3: المواجهة والتحدي: وتعكسها مجموعة من العبارات المتواشجة عبر إيحاءات دلالية واحدة، تعود على فكرة الصمود ضد نوائب الدهر ومشاكل الحياة، وكانت الكلمة وسيلته في هذه المواجهة العنيفة:

(وفتحتُ يدَ النقطة

فوجدتُ نفسي

أكتبُ قصيدتي التي لا تكفّ

عن الاحتفاءِ بالبحرِ والحبِّ والشمس

رغم العواصفِ والصواعق

وأشلاءِ السفنِ التي سدّتْ عليَّ الأفق

من السرّةِ حتّى العنق.) ص33

    إن القارئ لهذه القصائد يشعر بالذات التي تحترق كالفينيق ليبعث من جديد من وسط رماد الحياة، وهذه الذاتية ليست أنانية وإنما تعبر عن الآخر في شكل تكاملي، يجعل الشاعر متميزاً ومتقدماً عن الآخر، وما يعطيه صفة التميز هو اللغة والشعرية التي تجعل من الحرف رصاصة مخترقة لصخرة الواقع المرير.

كما أن هذه الذات الجماعية تستوي فيها ذات الشاعر بالأرض وبالشجر:

(قالت الشجرةُ الوحيدة،

الشجرة التي أزورها كلّ يوم

عند عشّ الطائر ونهاية النهر،

قالتْ: لأنني خرافةٌ مقدّسة

وأنتَ خرافةٌ نُزِعَ منها التاجُ والصولجان

لذا فالحوارُ معكَ لا يجوز

وإنْ جازَ فهو لا ينفع بشيء!)  ص52

   إن الشاعر في هذه القصيدة يشرك ما ومن حوله من مكونات المحيط الخارجي، الذي يساعد على تأثيث فضاء القصيدة ويحرك الحروف لتنخرط في النسيج اللغوي والدلالي للقصيدة، فالشجرة لا تنطق ألفاظا ولا عبارات، وإنما تشير بطريقة إيحائية وعلاماتية، يدخل معها الشاعر في حوار من نوع خاص، حوار روحي عرفاني من خلال شطحات صوفية، يعبر عنها بلغة المشاعر الحساسة التي يمتاز بها الشاعر دون غيره من البشر، فهو الذي يفهم الشجرة عندما تتكلم، بل هو الذي يعرف موقف الشجرة التي اعتلى موقفها موقف الإنسان الذي اعتبرته خرافة لا يجوز معه الحوار.

 ب: التشاكلات التركيبية/الصرفية

إن ما يحكم مستوى التنظيم التركيبي/الصرفي داخل الديوان، هو ما يمكن نعته ب(معالم الحداثة الشعرية العربية) حيث أصبح لهذا المستوى حضورا في تأثيث النص، وتوزيع وحداته الصرفية والتركيبية والايقاعية، لما له من غائية تلتصق بالمعنى وسياقه، ذلك أن القصائد الشعرية تعتمد على خاصيتين أساسيتين:

- خاصية التوزيع المقطعي للأسطر والتفاعيل المرسلة.

- خاصية التوزيع الصرفي والتركيبي والإيقاعي في علاقتها بنظام علامات الترقيم والوقف.

علامات استفهام- نقط الحذف والوقف– الفواصل.....

(ما اسمك؟

قلتُ للحرفِ في مساءٍ شديد الظلام.

قالَ: بعد هذي السنين الطوال

والانتقال العجيب

من منفى إلى آخر

ومن شظيّةٍ إلى أخرى

بل من زلزلةٍ إلى أخرى،

وأنتَ لا تعرفني؟

قلتُ، كَمَن يتصنّعُ الهدوء،

لا.

قال: كيف؟

ألم تكتب المئات من القصائد

لتصف الحرفَ وعرشه

وأساطيره وشموسه وفراته؟) ص111

   هكذا تتوزع علامات الترقيم على صفحات القصائد لتزيد من توتر المعنى وتعميق الدلالة كما أن استقلالية بعض الوحدات والجمل يغير من شكل القصائد عكس القصيدة الكلاسيكية التي تحرص على النهاية الطبيعية للمعنى.

   إن الشاعر في ديوان: (أقول الحرف وأعني أصابعي) يترك هذه الفراغات في  نصوصه الإبداعية لاستفزاز القارئ وتوريطه في تصور المعنى، باستخدام البعد البصري الذي يتحرك داخل فضاء النصوص الشعرية.

 --------------------------

ثبت المراجع

1: محمد مفتاح..............دينامية النص ص72

2: أديب كمال الدين..... أقول الحرف وأعني أصابعي- الدار العربية للعلوم ناشرون– بيروت، لبنان 2011

***************************

محمد يوب - المغرب

03/03/11

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home