الشاعر أديب کمال الدين:

 

الشعر هو اکتشاف الحياة في ومضة نادرة!

 

حاوره: نزار جاف

 

 

 

 

هناك حالات غريبة وملفتة للنظر ينتبه إليها الإنسان خلال لحظات تأمله وقد يکون الترادف بين الأشياء من تلك الحالات. کأن تجد، مثلاً، کلما ضحك شخص اشتهر بعبوسه فإن الدنيا تمطر، أو عندما ولد الطفل الفلاني اجتاح حديقة منزلهم سرب من الفراشات!

الترادف وجدته في شخصية أديب وفي شعره  فکلاهما يمتاز بالشفافية والوضوح الظاهري، هما مثل بحيرة ساکنة تثير الفضول في هدوئها المشرئب بالصفاء. لکن ما أن تقترب منها وتضع قدمك في ضفافها، حتى تجد نفسك غائصاً في قاع بلا قرار. ذلکم هو أديب کمال الدين، وشعره، وقد عاشرت الکثير من الأدباء والشعراء و وجدت "المفارقات" المثيرة في شخصياتهم الحقيقية ونتاجاتهم الفکرية والإبداعية، لکن هذا الرجل يتميز وشعره، بترابط فسلجي وروحي إستثنائي. فهناك الکثير الذي يجمعهما وليس هناك من أي شيء مهما کان ضئيلاً ليفرقهما عن بعضهما البعض.

أديب کمال الدين، الذي تجد في شعره موسوعةً معرفيةً مترامية الأبعاد، تشعر أنك أمام حالة أخرى هي غير تلك الحالات المألوفـة التي تصطف هنا و هناك تحت خيمة الشعر. إنه حالة نادرة في بحثه المستمر وغير المألوف عن ماهية الإنسان وصراعه مع دنيا الوجود ومع ذاته قبل کل ذلك، هذا الهادئ في ظاهره والممتلئ صخباً و ضجيجا في أغواره، طرحنا عليه بعض الاسئلة، فأجابنا وکان هذا الحوار:

 

 * هناك العديد من الباحثين والنقاد العالميين الذين يرون أن مهمة الشعر قد إنتهت، ما هو السبب الأساسي الذي يکمن بنظركم خلف رؤية كهذه؟

 

- لا الشعر انتهى ولا مهمة الشعر انتهت. الشعر كما أراه هو اكتشاف الحياة في ومضة نادرة وبأقل عدد من الكلمات. كيف ينتهي إذن؟ كيف تنتهي مهمة اكتشاف الحياة، والحياة نفسها، منذ قدمها السحيق، تتجدد كل يوم؟ ربما يكون مبعث سؤال كهذا هو ندرة الشعر الحقيقي. وهذه مسألة غير جديدة. الشعر الحقيقي والعميق نادرعلى الدوام. والغلبة في الظهور، على الأكثر، للنماذج غير الأصيلة، للنماذج التي تعوزها الومضة النادرة في اكتشاف الحياة أو تعوزها قدرة الشاعرعلى تجسيد هذه الومضة بشكل عميق ومبتكر دونما تعقيد أو تغميض. وبالتغميض أعني الغموض المفتعل وليس الأصيل.

نعم، إنّ معادلة الإبداع في الشعر صعبة حقاً، وتتطلب من الشاعر خبرة حياتية وثقافية ولغوية وشعرية، مع مران مستم ، وإيمان حقيقي بالشعر ودوره الإنساني الخلاق، مع الحرص الصادق على عدم ابتذال الشعر بأي شكل من الأشكال.

 

*  کما تعلمون هناك أزمة تعصف بکل النشاطات والمجالات الثقافية والأدبية، ومنها بالطبع الشعر، ما شکل ومحتوى هذه الأزمة في الشعر العراقي تحديداً؟

 

- يمر العراق الآن بمرحلة الخروج من القمقم، حيث وجد الكل نفسه فجأة في بيئة غير معهودة بعد سقوط (الصنم). هكذا استيقظت كلّ انواع الشهوات عند الجميع بعد عهود من تكميم الأفواه، وأولها شهوة الكرسي ثم شهوة السلب والنهب ثم شهوة التخريب وأخيراً الشهوة الأخطر: شهوة الدم. ترى: هل يستطيع العراقيون، بمختلف قومياتهم وأديانهم وطوائفهم، الانتباه إلى ان هذه الفرصة التي بين أيديهم الآن لبناء حياة جديدة ربما لن تتكرر مستقبلاً؟ هل سيسعون إلى الإستفادة منها لتأسيس حياة القانون والحرية والديمقراطية أم ان حديث الشهوات سيستمر ليخرب الحياة والثقافة معا ويقضي على البلاد والعباد؟

 ثم أين هم المثقفون العراقيون ليضطلعوا بدورهم الخطير بدلاً من ترك كل شيء بيد قادة الأحزاب والميليشيات الذين تهمهم مصالحهم قبل مصلحة المجتمع وتهمهم "ثقافتهم" قبل ثقافة الإبداع الحقيقي؟ إن أغلب ما أقرأه لمثقفينا في الصحف والمواقع الإلكترونية هو مقالات تشتم وتهجو وتتنابز بالألقاب بدلاً من المساعدة والبحث عن حلول واقعية للتراجيديا العراقية ووضع بصيص من النور في ظلمة الفوضى والدم. إنني أقول: رغم كل ماحدث من مآسٍ في العراق فينبغي التأكيد على خلق ثقافة المحبة والتسامح والحوار مع الآخر ونبذ ثقافة الكراهية والثأر وتكفير الآخر أو تحقيره أو تهميشه أو نبذه. ليس من خيار غير هذا. والشعوب التي مرّت بما مرّ به العراق من كوارث وحروب لم تجد نفسها من جديد الاّ عبر ثقافة المحبة والتسامح والحوار مع الآخر. ليس من خيار غير هذا! أكرر قولي للمرّة الألف!

 

* هل کان الشعر العراقي في فترة الديکتاتورية مسجلاً ومؤرخاً وشاهداً وناقداً، أم إنه کان مصطفاً في زاوية الخوف والرعب، وما هو مدى الدور الذي اظطلع به الشعر العراقي وفق هذا السياق؟

 

- هذا السؤال لكبره واتساعه يحتاج إلى كتب كاملة للإجابة عليه وهو كما أرى من اختصاص الناقد أو المؤرخ الادبي أكثر من الشاعر . والجواب باختصار شديد : نعم . لقد قدّم الشعر العراقي عبر العديد من الاسماء قصائد تنادي بالحرية وترفض القمع ولكن كان القسم الغالب من ذلك يتم عبر استخدام الرموز والأقنعة التأريخية. وبالنسبة لي فلقد كنتُ من القلة القليلة من الأدباء والشعراء التي ارتضت بهذا الصراع السريّ الخفيّ الخطر: أن تبقى في الداخل ولا تتماهى مع شروط إعلام و" ابداع " الداخل بل تؤسس بأظافرها المدماة لكلمة الحق . هكذا كتبت مجاميعي "جيم" و"أخبار المعنى" و"النقطة" و"حاء". وهكذا واجهت المدّ الإعلامي فاتخذت من قناع الحرف أولاً ومن قناع النقطة ثانياً وسيلة للكشف عما يحدث من تزييف لحقيقة الشعر وجماله ومعناه وتزييف للحياة قبل ذلك . لستُ بطلاً يا صديقي لكنني كنت من القلة التي اختارت صفاء الكلمة وشظف العيش وارتياب الآخر المؤسساتي وتشكيكه وتهميشه لها.

 

* کتب الکثير عن شعرکم سواء أكان ذلك عراقياً أو عربياً ، وتناول الکثير من النقاد والباحثين قصائدکم من زوايا مختلفة ، لو وضعناك کناقد لشعر أديب کمال الدين، ما الجانب أو الجوانب التي ترى إنها لم تحظَ بتسليط الضوء عليها، وهل أنت راض عن کل ماکتب عن شعرکم؟

 

- اجتهد أغلب النقاد الذين كتبوا عني – كل حسب علمه وفنه – في انارة زاوية من زوايا شعري من حيث اللغة والقاموس والبناء والرموز والمواضيع والعناوين، واستطاعوا، بالتأكيد، من إنارة الكثير من هذه الزوايا الشعرية بشكل قادني إلى المزيد من الكتابة والإبداع . لهؤلاء النقاد أقدم كلمة الشكر من الأعماق، فهم حين كتبوا عني لم يحلموا بالحصول على مكسب مادي أو منفعة ما الا مكسب الإبداع الخالص. وأنتَ ياصديقي تعرف " سوق " الثقافة العراقية – وحتى العربية – وما فيها من النفعيات والأخوانيات . وأكثر من ذلك فلقد تعرض بعض هؤلاء النقاد – كما أسرّ إليّ – إلى مساءلة لئيمة من قبيل : لماذا تكتب عن أديب كمال الدين  مثل هذه الدراسة الطويلة الجادة؟ لماذا لا تحوّل جهدك النقدي وتكتب عن فلان أو سواه من الشعراء المسؤولين والمتنفذين في الإعلام والدولة فتفيد وتستفيد؟

وكان بعضهم يعاني في نشر مايكتبه عني! وسأذكر لك مثالاً واحداً على ما أقول: لقد قدمت إحدى الناقدات العراقيات البارزات دراسة نقدية أكاديمية قيمة عن مجموعتي (نون) إلى عدد من المجلات العراقية إلى أن استطاعت بعد سبع سنوات من البحث والمتابعة والصبر في نقل الدراسة من مجلة إلى أخرى، إلى ان استطاعت من نشرها في مجلة (آفاق عربية)! فتصور!

نعم فلقد كان الجهد النقدي مكرساً للكتابة عن الأسماء المتنفذة في الاعلام والدولة لا الأسماء التي تريد الكتابة بأساليب شعرية مبتكرة وجديدة من أمثالي. ولا تنسَ يا صديقي ان شعري الإنساني النزعة والصوفي المحتوى كان خارج الخطاب الشعري والإعلامي المطلوب. فلم أكتب الشعر الايديولوجي في السبعينات ولا الشعر الحربي في الثمانينيات ولا الشعر التمجيدي في التسعينيات . كان شعري ولم يزل معنياً بخطاب الإنسان وهو يحاول أن يفهم أسرار العالم وأن يكشف عن النفس البشرية في وحشتها ووحدتها وحبها ومحنتها وغربتها وبحثها عن النور وسط الظلام والأمل وسط الحطام . وكان شعري يبحث في المسكوت عنه ليعبر، بالرمز الحروفي ، وبخاصة في الحرف والنقطة ، عن التراجيديا التي سيطرت على الحياة العراقية لسنوات طوال .

 

* مامدى إطلاعکم على الشعر الکردي؟ وکيف ترونه و تقيمونه وفقا لذلك؟

 

-  اطلعت على قصائد العديد من الشعراء الأكراد، ورأيت في بعضهم – وبخاصة عند شيركو بي كس مثلاً – تميزاً من نوع خاص، من العمق في تناول الموضوع الشعري، والتفرد في معالجته. ولاشك ان للبيئة الفاتنة الجمال في كوردستان الأثر الواضح  على الشعراء الأكراد، فهي بيئة تدعو إلى التأمل والتفكير العميقين في الحياة وأسرارها. وكنتُ كلما أزور كردستان أنتبه بعمق إلى جمال البيئة وأثرها الشعري الساحر على النفس. إنها بيئة كلما هو جميل وصافٍ وغامض في الحياة! هذا جانب والجانب الآخر هو حجم المعاناة العميقة التي عانى منها الأكراد والتي لابد أن تنسكب في نهر الشعر الكردي بهيئة قصائد متميزة.

 أعتقد جازماً ان عملية الترجمة بين الأدبين العربي والكردي مطلوبة حقاً الآن، وأكثر من أي وقت مضى، لتعميق الأواصر بين العرب والأكراد، ولإثراء الأدبين العربي والكردي بمنجز الآخر. وكذلك الأمر فيما يخص تعليم اللغتين العربية والكردية وبخاصة إلى الأجيال الجديدة بشكل يسهل تعايشهما ضمن آصرة متينة. ومادمنا نتحدث عن الشعر والأدب الكرديين فلا يفوتني ان أذكر قيام بعض الادباء الأكراد مشكوراً بترجمة شعري إلى اللغة الكردية وكتابة نبذة فنية عنه إلى القارىء الكردي وكان ذلك مبعث سرور خاص لديّ.

 

* هل مثلت المعاناة الکردية من الظلم عبر مرحلة الحکم السابق شيئا في شعرکم؟ هل کان للشعب الکوردي والحالة الکوردية حضورا في قصائدکم؟ في حالتي السلب والايجاب، ماالسبب؟

 

-  تعرضّ الأكراد إلى ظلم لامثيل له من قبل النظام السابق. وقد أتيح لي بالصدفة أن أرى في منتصف السبعينيات كيف وضع مئات وربما ألوف الأكراد في معتقلات جماعية في منطقة "جبلة" القريبة من مدينة الصويرة، فنبهتني هذه الصورة المرعبة مبكراً إلى معنى التعسف وظلاميته. وقد كانت هذه الصورة المرعبة واحدة من الصور الإنسانية التي جعلتني أنحاز إلى الحرية منذ أولى كتاباتي، وكذلك أنحاز إلى الحب والحق والنور لا القسوة والأكاذيب وتمجيد الطغاة. وهكذا صار الإنسان في معناه الأوسع: الإنسان العربي أو الكردي، المسلم أو المسيحي أو الصابئي هو محتوى شعري. نعم، فالشاعر الحق هو الذي ينضوي في روحه العالمُ الأكبرُ ليصبح – أي الشاعر – مركز الكون كله والحياة بكليّتها وتفاصيلها.

 

********************************************

نُشر الحوار في صحيفة كوردستان ريبورت بتأريخ 11 أيلول - سبتمبر 2006 بعد ترجمته إلى اللغة الكردية

 

الصفحة الرئيسية